وكأنها لم تبرح مكانها منذ أعوام تحت أغصان الشجرة وارفة الظلال, تتربع وتحني جذعها للأمام, أو تمد ساقيها أمامها على جانبٍ من الرصيف الذي كاد يسمى باسمها, تكسوها كومة من الثياب المهلهلة, قد يظن البعض أنها ماتت وهي على ذات جلستها, عندما يختفي صوتها تماماً ويزيد ظهرها من تقوسه, وكأنه يوشك على الانقصام إلى نصفين, فلا يكاد أحدهم يحاول الاطمئنان عليها حتى تعاود الجلجلة بصوتٍ اعتاد بحته الجميع... تنثر دعاءها كرذاذ عطر يلفح عبقه الشباب المارين من أمامها أن يجدوا فرص عمل سريعاً, تمتدح جمال الفتيات, بمختلف الأشكال والمواصفات والأعمار حتى تحمر خدودهنَ خجلاً, ما أن ترى امرأةً تغادر عيادة طبيب الأمراض النسائية القريبة, تعلو وجهها سحابة من اليأس, حتى تستوقفها بابتهالٍ إلى الله أن يكافئ صبرها بالذرية الصالحة, وقد استجاب الله مرةً لدعاء تلك المرأة المباركة, كما قالت لها إحدى النساء, مجزيةً لها العطاء, وقد بشرها الطبيب بنبأ حملها بعد طول انتظار...
سرعان ما تناقلت السخرية من اللقب الجديد الذي ظفرت به العجوز التي خرجت من إحدى الروايات التي يداوم على قراءتها محسن وحدة روائح التوابل المختلفة تهيم برأسه وتكاد تتغلغل في جسده خاصةً بعد تخرجه من كلية الآداب وهو يمضي أغلب الوقت متململاً في محل عطارة والده المسن, شبه الخالي من الزبائن, المواجه لمحل قاسم البزاز, ذي اللحية غير المشذبة, المزدري لركام الراقصة والعاهرة الرخيصة قبل عقود المتهاوي أمامه على الرصيف, بعد أن أنفقت كل ثروتها الدنسة, كما أخبره أحد أصدقائه, على الكحول التي تدمنها, قد تحرم نفسها من الطعام من أجل شراء زجاجة صغيرة من العرق المغشوش... بل يظن أيضاً, ويستغفر الله إن كان في ظنه إثم, أنها هي التي تأتي بالفتيات لحامد نهم النظرات المبحلقة بكل أنثى تمرق من أمام باب معرض الأحذية العائد له، بعد أن يغلق الجميع محالهم...
أما الأستاذ حسين صاحب مكتب الدلالية, قليل التعليقات, نادر الابتسام, فيكاد يتيقن من هويتها كأحد مرشدي المخابرات المتفرقين في كل مكان, يتلصصون على كل حركة وإشارة أو حتى إيماءة, ويتنصتون على كل كلمة وهمسة تصدر عن شخصٍ مثله, خبرَ أكثر معتقلات البلاد على مدى أكثر من عقدين, رغم أن شيئاً غامضاً في ملامحها المتغضنة يذكره برفيقة قديمة تعددت الحكايات بشأن وسائل تعذيبها وصور اغتصابها وما آل إليه مصيرها..
كاتب عراقي مقيم في الأردن.