وداعا نجم الشعر العربي .. وداعا شاعر الشعب

فجأة تهجم السبعينيات من القرن المنصرم، وتحضر محتدمة بالألق والفتوة والحماس، كما تحضر مدلهمة تقطر دما، وتنزف ألما، وفي المابين، تشرق اللحظات كأبهى ما يكون، ناضحة بالوعد الكبير، والبشرى البديعة. لم يكن الفضاء الوسيـع- العريض والطويـل، سوى المغـرب، ولم يكن المكـان المتوهج  المفعم بالأمل والحلم في غد سني، غد مغسول من أدران الجشع والأوليغارشية والبيروقراطية، غير الكلية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، وهي، يومئذ، ملتهبة علما وبحثا وشعرا،  وشعارا وانتفاضا، وحلقات نقاش إيديولوجي ساخن، واحتدام سياسي وفكري بين الأطراف والأطياف. تحيا الماركسية، يحيا لينين، يحيا ماوتسي تونع، يحيا هوشي مين، يحيا غيفارا، وروزا لكسبمبورغ، وتروتسكي في الثورة الدائمة، والبولشفيك، وفرق "البتلز" و"ناس الغيوان" و"جيل جيلالة" و"رولينغ ستون" و"جيمي هندريكس" وبوب مارلي، و"الرّيكي" و"سيدار سنغور" و"سيزير" و"أنجيلا ديفيس" ومارتن لوثركنع، يحيا "المهدي" و"عبد الكريم الخطابي" تحيا "سعيدة لمنبهي" و"عبد اللطيف زروال" وجون بَايْزْ، و"البوب ميزك" و"الجاز" بأنواعه، ويحيا الشعر المغربي السبعيني، وأحمد فؤاد نجم والشيخ إمام عيسى.

 

موت يستدرج الذكرى، فإذا الماضي أمامي، ويستشير أشجانا وأحزانا، أفراحا وأتراحا، فإذا الحلم وثاب، والشتات منمنم منسلك في خيط يصل الأيام بالأيام، والشهور بالشهور، والعقود بالعقود. فكأننا لم نبرح لحظة فضاءا ماتعا عشقناه وَتَشَرَّبْنَاهُ، وَسَمَّيْنَاهُ : فهذي الساحة الحمراء، وهذي ساحة هوشي منه، وتلك ساحة فلسطين.. وهذا رواق فيروز.. و"المقصف" أنغام وألحان، وشاي، وأحلام تُنْتَسَجُ وتُحَاك على الموائد، وفي الحلقات والدوائر.. وفي غرف الحي الجامعي.. تلك الغرف / العلب، ولكنها وسِعَتْ الرهان والعنفوان، والتوثب إلى  غد ليس كمثله غد.

موت شاعر، يقودني إلى حياة ملأى بأقواس قزح، ويردني إلى هاتيك الأيام الملفعات بالنضال والسجال والنزال، والمدثرات بحرير الشعر، وشوك الأفكار. موت لا كالمَيْتَات والمَوْتَاتِ، موت يكرس حياة ممتدة ومديدة تربو على العقود الثمانية التي عاشها أحمد فؤاد نجم، وتتنامى إلى ما لا نهاية.. إلى أن يقبض الله روح الأرض. وهو الموت الذي يجعلني أقيم في طيلسان الذكرى، ونزيف الوطن آنذاك. إذ كان شعر "الفاجومي" نجما ملتمعا يومض في دياجينا، نجما يهدي كمثل البوصلة إلى ترتيب الأفكار، وتحميس النقاش، وإلهاب النشيد، وترصيع المعارك والمنازلات الطلابية في أبهاء الكلية، وصحون المدرجات، وفِنَاء الساحات. كان أحمد فؤاد نجم المصري الناصع، الأسمر القمحي من غير سوء، الصعيدي الصلب، ذو الشعر المجعد، والصوت العميق الغميس الأجش، وذو المواقف – الحديد، المواقف التي حيرت وأقلقت الأنظمة التي حكمت مصر بدءا من جمال عبد الناصر، وأنور السدات، وحسني مبارك، وانتهاء ب "الإخوان المسلمين".

في أثناء هذا السلطان، وتوالي هذه السلطات، لم يهدأ الشاعر، ولم يهادن، ولم يُسَاوِمْ، ولم يبع ضميره ولا عنفوانه لقاء مال زائل، وجاه ذابل، وَنِعَمٍ راحلة، ونياشين تصدأ، وَتَخْضَرُّ من فرط البرد والعزلة والنسيان.

شاعر مصر الكبير، شاعر العامية الأكبر.. تلك العامية التي يشهق المنصت إليها خفة وانتشاء، ويتلبسه الحزن والأسى وهو يقرأ سْفِرًا شعريا يؤرخ فنيا وجماليا، لمسير  متعثر، و"آداب سلطانية" ليس فيها من الأدب شِرْوى نقير، بل فيها الكذب الصراح، والافتراء الفاضح، والقمع المتواصل، والاستبداد الطاغي، والفساد المعمم، والإثراء اللامشروع. ثمة ما يجعلنا نقول مطمئنين، أن العامية وهي فرع سَلِسٌ ومنساب للفصحى، في طَوْقها أن تغوص عميقا في المشاعر المنكسرة، وتسبر بنجاح باهر نفسية"الغلابة" والمقهورين، معذبي الأرض بتعبير فْرَانْزْ فَاُنونْ. في طوقها ذلك وأكثر إذا رَادَهَا وَرَوَادَهَا شاعر في قامة أحمد فؤاد نجم إذ يستخرج منها العجب العجاب، وَيُرَقِّيها، ويجعلها شاهدا أثيرا على ماجاريات الأمور، مرآة غير مشروخة لما يَعْتَمِلُ في دواخل الإنسان من آمال وآلام، وهو ما يضفي عليها الجمالية والقابلية والسيولة الرقراقة، وبالتالي، يكسبها الاستقبال والتلقي، والتداول الجماهيري، لأنها بنت المطروق، القريب المأتى، والمطواع.

هكذا حلق نجم عاليا بعاميته الرفيعة التي تهز الكيان، وتخترق الوجدان. ومثله مواطناه الشاعران صلاح جاهين، وعبد الرحمن الأبنودي،وغيرهما كثير، وفي الخلفية يثوي العظيم بيرم التونسي . وإذا انعطفنا سريعا إلى بلادنا، تسامى، في نظرنا، شعراء العامية كـ: الطيب لعلج،  وفتح الله المغاري، وحسن المفتي، وعلي الحداني، ومصطفى بغداد، وأحمد لمسيح، ومراد القادري، ومحمد الراشق، ونهاد بنعيكدة، وفاطمة شبشوب وآخرين.

نجاح النص الشعري العامي مُتَأَتٍّ من كيفيات تشذيب اللغة الدارجة، وتنقيتها من الزعانف الزنحة، والألفاظ الموطوءة التي تُبْتَدَعُ بلَيْل داخل الأزقة الخلفية، والأمكنة العطنة، ومن كيفيات الصعود والنزول إلى الوسط.. فلا سموق وعلو في الأجواز، ولا هبوط إلى الأدراج المتربة المطحلبة الرطبة، أو إلى الحضيض. وفي هذا ما يشي بمعاناة هؤلاء الشعراء، وعراكهم مع اللغة العليا، والثقافة الرفيعة العالمة، ومع سفاسف الكلام، ودارج الأمثال، وأحاسيس القاع الشعبي، في نفس الآن. ألم يقل الفاجومي أحمد فؤاد نجم إن العامية أهم شعر عند المصريين لأنهم: "شعب متكلم فصيح، وأن العامية المصرية أكبر من أن تكون لهجة. وأكبر من أن تكون لغة، فهي روح، وهي من وجهة نظري، أهم إنجاز حضاري للشعب المصري".

في ظل هذا الكلام، ووفق هذه القناعة الفنية، حلق أحمد فؤاد نجم إذ نجح في تجسير الهوة، وَرَأْبِ الصَّدْعِ، وتقريب الضفتين، ما يفضي إلى القول باقتداره وهو يَعْجن المكتوب والملفوظ فإذا هما واحد مولود ولادة جديدة قشيبة وبديعة، عليها من وعثاء البحث ريشا كثيرا، ومن السهر والتبغ الغزير رائحة نفاذة تقول المواجع، وتعري جشع "الأنتيكاتْ" وظلم "الإقطاع، وسرقة المال العام، وكسر رقبة مصر، رقبة البلاد.

لم يُثْنِهِ السجنُ الطويل والمتكرر عن القول وعن الصدع بالحق، ومواصلة المسير فاضحا كاشفا سوءة النظام عندما يصبح عدوا لشعبه مُنْبَتاً عن مصيره وجذوره، بعيدا عن ماضيه وحاضره، متهالكا ومتكالبا على دمه بالمص والتعليب، والبيع والشراء. إنه البعد أو الأبعاد التي ربطتنا بالشاعر، حيث اعتبرناه لساننا، ومترجم إخفاقنا وَطُوبَانَا، ومغذي آمالنا وأحلامنا في أن نرى غدا، وطنا معافى، ديمقراطيا، عادلا لا تعيش فيه الكواسج وأسماك القرش الدامية، والخنازير الطليقة السائبة.

أذكر الزمن كأنني أَتَقَرَّاهُ بلمس، والمكان والفضاء العام أُمَرِّرُهُمَا أمام عيني كأنني ما برحت الكلية، وما كبرت، وما طوحت بي الأزمنة الرديئة إلى منعرجات الشقاء والندم، مخلفا أحلاما كباقي صحابي وصاحباتي – ورائي مِزقًا وخِرقا تدوسها الكلاب، وتبول عليه الثعالب، وأبناء آوى.

وها  أنذا مع عبد الهادي خيرات وأنور المرتجي ورشيدة بنمسعود وحنون مبارك وعبد الكريم لمراني، وسعيد بنغراد، وآخرين كثر، وأخريات كثيرات، أحباب وأعزاء لَمْلَمَنَا وَهَجٌ واحد، وَقَمَّطَنا ثوب ملون مُقَصَّب، واحتوتنا خيمة دافئة على رغم الرياح التي كانت تَنْسَرِبُ من ثقوبها وفروجها. جمعنا جميعا عنفوان ولهيب السبعينيات، وألحمنا فكر غني، وثقافة تقدمية حداثية نهلت من تراث النضالات الإنسانية، ومن حركات التحرير السائدة فترتئذ، ومن ريبرتوار اليسار بشقيه "المهادن" و"الجذري". وَهَدْهَدَنَا نَجْمُ أحمد فؤاد، أَرْجَحَنا صوته الشجي المشروخ العذب، القادم من سيرة العذاب، المنبثق من جرح غائر.. جرح مصر، وهي تتقلب تحت مخلب وحش فاجر، وحش بألف رأس، وألف ذراع، وألف مخلب.

 

هي الذكريات تتزاحم على بابي، فيها ما يُشْفي وفيها ما يُجْدي، وفيها ما يوجع ويُؤَسّي. لكنها قوت خَضِلٌ للقلب، وَبَلْسَمٌ شافٍ للروح، وترياق ضد سم الجور، وبرد التنائي، ووهدة النسيان. فما أكثر ما غنينا في سمع الليالي والأيام، أغاني فيروز المنيفة، وأغاني مارسيل خليفة الحاذقة، ورددنا في أبهاء الجامعه وأنحائها، ودربها الطويل كلسان آدم، الموصل إلى "الليدو" فالشارع العام، أناشيد فلسيطينية، وألحانا باذخة لفرق "إنجليزية"، و"لكبار فرنسا": "جاك بريل" و"بْرَاسنْزْ" و"ليو فيري" ، وكبار أمريكا : "جون بَايْزْ" و"بوب ديلان" و"باري وايت" و"كات ستيفنز" قبل أن "يدخل الإسلام". ثم هِمْنَا بأشعار مظفر النواب وأمل دنقل والمجاطي لأنها أولجتنا  موالج صدق، وَوَضَعَتْنَا وجها لوجه مع الغول بكل تجلياته وأقنعته، ما رقق مشاعرنا وأشعل وجداناتنا، وفَتَّحَ بصائرنا قبل أبصارنا على "الخطايا" وهي تفترس أَجِنَّةَ الأمل، وتدوس نبات العشق والغرام.

لكن أحمد فؤاد نجم ظل واسطة عقد، ولؤلؤة لها بريق لا ينطفيء ولا يتلاشى في زحمة الأيام، وحمأة التكرار والضرام.

شقت أغنية "جيفارا مات" حيطان الحي الجامعي في الليالي الباردات والأيام الدافئات: "ما رأيكم دام عزكم يا أنتيكات يا غرقانبن في المأكولات والمشروبات". كما قهقهنا عريضا، وبأصوات دَوَّتْ حتى وصلت أسماع المندسين وزوار الفجر:

"شَيِّدْ قصورك على المزارع

من كدنا وعرق أيدينا

والخمارات قرب المصانع

والسجن مطرح الجنينا ..

وركبنا الأسى، وتلبسنا إعجاب ما فوقه إعجاب ونحن نقرأ كيف استطاع الشاعر نجم أن يجمع باقتدار مخصوص بين مصر وحبيبته "عزة بلبع":

-وانْطَلَقْ في الجو فجأةْ

صُوتْ يا حَبِيبْتي مُفَاجْأَةْ

خَلَّى الدمْ في الجسم يَجْمَدْ

اِصْحَ يا احمدْ

اصْح يا أحمدْ

 

إلى أن يقول :

مصر في العين اليمين

وأنت في العين الشمال

أيوا .. أنتِ

ومين سواك .. يا حياتي .. يا ملاكي

يا نسيم الحب لما هَبّْ

هَزَّ القلب هُزَّهْ

يا هوى الأحلام يا عزة ..

 

-ولا تسألني عن : "شَرّْفْت يا نيكسون بابا

يا بْتَاعْ الواترغيت .. Water gate

ولا عن "بقرة حاحا النطاحة" التي تحلب قنطار لكن مسلوبة من أهل الدار، وهي صورة مكنية ومِرْآة مجلوة، وكاريكاتور مُرٌّ عن البلدان العربية المسروقة.. وليس ببدع أن نرى من خلالها المغرب، وكان العهد عهد جمر ورصاص.

هذه البدائع الروائع، والنصوص الفصوص، التي أنشأها شاعر الشعب الملهم، تشكل لوحات قاتمة عن مراحل تاريخية قُضِمَتْ فيها مصر، ولا تزال تُقْضَمُ. شاعر انتصر للفن والتراب، والنيل، وبسطاء مصر من العمال والفلاحين والطلبة، وملايين "الغَلاَبة".

ثم انتصر للفن بوصفه نورا وَضَوْءًا وغَضَبًا متصاعدا ساطعا يشير إلى مصاصي الدماء، ويسعى إلى طرد الظلام أيا يكن مأتى هذا الظلام، ولو كان من "إخوان" ركبوا الإرشاد والورع الإسلاميين أدلوجة ليحققوا مآرب وأوهاما ظنوها طوع اليد، في إزهاق " الباطل" الذي هو الفن والرقص والأدب والفكر والفلسفة، وقطع الرؤوس، وليكن "رأس طه حسين الأديب الفذ المستنير، وَلْيَكُنْ وجه أم كلثوم سيدة الطرب التي لا يجود الزمن بأمثالها إلا على رأس مئة عام، هذا إذ جاد. وَليْكُن ْ–أيضا- وهو ما فكروا فيه، أو بعض حمقاهم، اقتلاع أبي الهول، وتخريب الأهرام.. مهادا لإقامة خلافه إسلامية ما أبعدها وأشد سرابيتها !

أقول ذلك وقد سمعت الراحل في بحر الأشهر الفائتة، يعبر عن رأيه في إحدى القنوات المصرية بعد سقوط "الإخوان"، وخلع محمد مرسي. لقد قالها بالفم المليان: أخيرا تنفس الفن، وانزاحت غمة، وانجاب ظلام.

موت شاعرنا الكبير، حياة ثانية، وتجدد آخر لفنه، لمتنه المكتوب والملفوظ والمحفوظ، والمُغَنَّى يَصْدَحُ به الشيخ إمام عيسى كأروع ما يكون الصُّدَاح، وأحلى ما يتدفق من زُلاَلِ صوت، ورخامة حنجرة، وعذوبة بحة، وعمق شجو، وتطريب ينوس بين التجويد والتعذيب إذ فيما هو يفضح واقع الحال، يُبْكِي.

سَيُغَيِّبُ الرَّمْسُ جسدا منذورا- منذ أن فتق المشيمة – للفناء والعدم، لتتحرر الأغنية من الأغلال، وَتَنْفَلِتَ من الصلصال، ثم تتحول إلى وَرْقَاءَ سابحة في الملكوت الأعظم، اللاَّيُحَدُّ، وَرْقَاءَ هي روح سَنِيَّةٌ من نور تحفها الملائكة، والحوريات، وألهات الجمال والفتنة اليونانيات، ونساء عبقر العربيات، وتحضنها، كالأم الرؤوم، تلقيات القراء والمستمعين، والأجيال الآتية، لأنها روح كتبت دنياها بأصدق ما تكون الكتابة، وناضلت من أجل الإنسان المغلوب لترفع عنه الظلم والضيم والطغيان الممارس عليه.. وقد نجحت، وَصَدَقَتْ وَعْدَها، فطوبى لصاحبها، الذي تزوج كما تشير إلى ذلك حالته المدنية، نساء فنانات ومثقفات: عزة بلبع وصافيناز كاظم من بينهن، لكن ما ننساه هو أنه تزوج مصر.