في دراسته يرى الباحث أن الكتاب تأمل فكري نقدي متخصص ومرتبط بالواقع الاجتماعي، يواشج فيه يقطين بين ممارسة الأدب والهوية التاريخية، والانفتاح على الآخر والاعتراف بالموروث، وعلمية الممارسة الأدبية وأخلاقيتها، وكيفية التعاطي مع المؤسسة، كما يعقد الصلة بين الأدب والسياسة باعتباره موقف من والعالم.

الأدب وسؤال الإصلاح

من تشخيص الأزمة إلى ثوابت تجاوزها: قراءة في كتاب «الأدب والمؤسسة والسلطة»

عبد الفضيل ادراوي

سيـاق الكتاب
يمكن إدراج كتاب "الأدب والمؤسسة والسلطة"(1) لسعيد يقطين في سياق مشروع الإصلاح الثقافي في العالم العربي، فسعيد يقطين، هو أحد المساهمين، من منظور نقدي تحليلي تطبيقي، ومن منظور تنظيري تأملي، في محاولة تحسين الوضع الثقافي بالمغرب، وأحد المنظرين الحداثيين الطامحين إلى النهوض بالشأن الثقافي في العالم العربي نحو الأفضل.

ويعد كتابه هذا، الكتاب الأشهر من بين سلسلة كتبه المنشورة، الذي تناول فيه بشكل مباشر الوضعين الثقافي والأدبي بالمغرب. حيث تأمل فيه وضعية الإبداع والنقد بالساحة المغربية، في علاقتها بالعالمين العربي والغربي. وقد حاول استنطاق المستوى المتردي الذي آل إليه شأن الثقافة والأدب بسبب عقود تعاقبت من التخلف والضعف.

إن تقرير دافوس لسنة 1996م، رتب خمسين دولة استنادا إلى قراراتها التنافسية، ولم يدرج ضمنها دول العالم العربي. بسبب التأخر الحاصل في المعرفة باللغات الحية، ونوعية التعليم، وطبيعة الفضاء، وبسبب تفشي الرشوة، وثقل البيروقراطية وانعدام الديمقراطية. ما يشير إلى "أن العالم العربي ما يزال خارج العصر"(2).

ولذلك فالنهوض بهذه الدول، وإن كان يتطلب عناية بما هو اقتصادي وسياسي واجتماعي، فإن ذلك لا ينفي ولا يعفي المهتمين بالشأن العام، من الانكباب على الشأن الثقافي بوصفه جزءا شديد الارتباط بالشأن الكلي العام، ويشكل قطب الرحى فيه. فوجب "انتهاج سياسة ثقافية جديدة ومتطورة ومغايرة عما مورس خلال ردح طويل من الزمن"(3).

محورية الأدب في عملية الإصلاح
ولعل المطلب الأكثر إلحاحا في مجال الإصلاح الثقافي، هو العناية بالإنسان بوصفه قيمة ثقافية، يتطلب الارتقاء بذهنيته وروحه. حتى يسهم في الارتقاء بالجوانب الأخرى. ولا يمكن أن ينهض المجتمع أو الوطن ما لم ننهض بالإنسان. لذلك كان الشأن الثقافي من أولى مهمات الإصلاح عند يقطين.

ويعد الأدب أبرز مسألة في الشأن الثقافي، إذ لا يمكن لأية نهضة منشودة أن تتحقق مع إغفال للمسألة الأدبية، أو ضرب الصفح عنها. يقول في هذا الشأن: "وقصارى ما نسعى إليه هو العمل من خلال مناقشة وتشخيص واقع الحال على بلورة رؤية جديدة ووعي جديد بالأدب وبالمسألة الثقافية بوجه عام. حتى يصبح للأدب دوره المتميز في الحياة اليومية ويرقى إلى احتلال دوره الوازن في خلق رؤيات جديدة للذات والمجتمع ويغدو للعمل الثقافي إشعاعه وحضوره المتميز في الحياة العامة"(4).

ا- الأدب وسؤال المَأْسسة
تعد علاقة الأدب بالمؤسسة إشكالية حقيقية، وقضية محورية في أية عملية إصلاح. إذ لا يمكن النهوض بالشأن الثقافي في أي بلد، ما لم تناقش هذه الإشكالية بعمق. نظرا لأن الأدب له ارتباطات بجهات عديدة لها تأثيرها البين فيه سلبا أو إيجابا، وتحدد مستواه وقيمته في المجتمع.

ومن القضايا ذات الصلة بهذا الأمر، كون سؤال المؤسسة الأدبية بقي مغيبا في الأدبيات المغربية، بشكل يجعل منها معضلة حقيقية؛ إذ لا يمكننا أن نحكم على الأدب بالتطور أو التخلف، ولا بالإبداع أو بالإتباع، ما لم تكن هناك مؤسسة ذات تقاليد ومعايير تحتكم إليها وننطلق منها.

يقول سعيد يقطين: "إن المشكلة الجوهرية التي يعاني منها الأدب المغربي تكمن في عدم إسناده إلى مؤسسة"(5). وهو وإن لم يخرج عن مشروع المؤسسة، إلا أنها كانت كما يسميها يقطين (برّانية)؛ إذ كان المثل الأعلى للأدباء والمبدعين المغاربة يوجد دائما خارج المغرب في المشرق أو في الأندلس. فالنموذج بالنسبة إلى المبدع المغربي أو الناقد المغربي أو المثقف المغربي عموما، كان دائما هو المشرق أو الغرب.

ومعلوم أن هذه المؤسسة (البرانية) نشأت وفق شروط وسياقات اجتماعية وثقافية وسياسية مختلفة. ولا يمكن بتاتا أن تكون معيارا للأدب المغربي. وإن كان طبيعيا أنه سيلتقي معها في بعض نقاط الاشتراك التي تهم الإنسانية عموما. وثمة ثوابت يمكن اعتبارها عناصر أو ركائز لبناء المؤسسة الأدبية المطلوبة:

- معيار العلاقة بين الراوي والشاعر؛ أي العلاقة بين المبدع وناقل الإبداع الذي يحتل مكانة الشيخ أو المورد. أي أن الإبداع لابد له من نموذج مقدس دو سلطة رمزية يصدر عنها المبدع ويستلهم منها أصول الصنعة. فهو بمثابة الشيخ الذي تحدث عنه الموروث الشعبي:(الشّيخ بْلا شِيخ مَاشي شِيخ).

- معيار الرواية؛ أي نقل الإبداع عبر محيط قريب يروج له، اتخذ قديما شكل البيوتات الأدبية والعائلات الأدبية بوصفها شكلا من أشكال المذاهب الفكرية التي تجمع أفراد يوحد بينهم همّ مشترك، ويشكل عنصرَ جمع وقوة لديهم. فهو معيار تجميعي ومعيار (قومي) يؤسس للخصوصية وللهوية المطلوبة في المؤسسة.

- معيار المجالس الأدبية: بما هو تقليد عرفه الأدب العربي القديم في شكل مجالس وجلسات أدبية، تجمع مبدعين ومتلقين كما هو الشأن مع المقامة وأدب النقائض، ساهمت في تطويرها الجهات الحاكمة من الخلفاء والأمراء والولاة. وهو معيار يساهم في الترويج للبضاعة الأدبية، ويساهم في تقريب وجهات النظر، التي تحتك بالإبداع بشكل مباشر وتساهم في تطويره. لأنه يلقي بالمبدع وسط جمهور مباشر الشيء الذي من شأنه أن يساهم في الدفع بالمبدع إلى تطوير نفسه وتجديد آليات إبداعه. بدل أن يختبئ ويكتفي بنشر إنتاجه.

- معيار الوراقة ومعيار النسخ والطبع، بدل الاكتفاء بالإلقاء الشفهي. وهي عملية تحقق الوجود الفعلي للإبداع والإنتاج الأدبي، فيصبح مادة ملموسة ومتحققة.

والملاحظ بحسب الباحث أنها لم توجد ولم تتحقق كما يجب في المغرب، ما يؤكد أن الأدب المغربي افتقد لمفهوم المؤسسة، مما كان له آثار سلبية على الأدب في المغرب، يقول: "إن غياب المؤسسة بالصورة المثلى التي نتحدث عنها في المغرب جعل تواصل الأجيال شبه منعدم أو منقطع تماما ولا سيما في العصر الحديث..إن كل مبدع يرى نفسه بلا شيخ بطريقة أو أخرى. كما أننا على الصعيد النقدي لا نجد تواصلا بين النقاد. إذ كل واحد يرى نفسه امتدادا لتجربة نقدية أو لناقد في المشرق أو الغرب .. ونجد المسألة نفسها لدى القارئ المغربي لا يجد في الأدب المغربي ما يشده أو يثير انتباهه"(6). هذا الوضع السلبي كما يبدو، نتج عن غياب المؤسسة بتقاليدها المحددة.

إن الإصلاح يقتضي إذن الاهتمام بالممارسة الأدبية في مستواها المؤسسي، لأن "المؤسسة والسلطة ليستا عبءاً على الأدب، وتاريخ الآداب العالمية شاهد على ذلك .. لابد من وجود تقاليد أدبية محددة تستند إليها في فهم الأدب وتقويمه. قد تختلف في تعيين هذه التقاليد لكننا لا يمكن إلا أن نتفق حول جملة من المعايير التي بمقتضاها يتم التمييز بين (الإبداع الحقيقي)، واللاإبداع"(7).

ولعل هذه الدعوة أن تساهم في التأصيل لما يسميه الباحث(الرأي العام الثقافي أو الأدبي). فهو لا يمكن أن يتحقق في غياب مؤسسة ذات معايير وتقاليد واضحة. هذا الأمر لا يمكن أن يتحقق ما لم يوجد وعي تام بالتاريخ، وما لم يتحقق تواصل حقيقي وفعال بين الأجيال الأدبية اللاحقة والأجيال السابقة. وتلك مسألة منوطة حسب الكاتب بالمؤسسة الإعلامية، التي لا ينبغي أن ترتهن إلى ما هو سياسي، ولا إلى الطائفية الحزبية الضيقة، بقدر ما يجب أن تكون حرة ومسؤولة، وشاملة لكل التوجهات والأفراد.

2- المأسسة الأدبية والسياق الثقافي
في إطار بحثه في مجال الأدب وإشكالية المأسسة يلتفت سعيد يقطين إلى المسألة الثقافية باعتبارها الإطار العام الذي يجب أن يأخذ حظه من البحث والاهتمام لدى المسؤول والمثقف تخصيصا. فيرى أنه لا مجال لترسيخ ممارسة أدبية حقة وفاعلة ما لم ينصب الاهتمام على الشروط الثقافية العامة، وعلى مختلف التحولات والظروف التي تسود أو سادت في أي مجتمع يراد ترسيخ الممارسة الأدبية فيه.

 وبالنظر إلى الواقع المغربي، تطرح مسألة الأدب في علاقته بالتحولات الكبرى التي مست العالم عموما. فقد حصل تحول جذري خلخل الموازين كلها وزعزعت ثقة المثقف بها. إذ إن مختلف القيم والمبادئ والقناعات التي كانت بمثابة مسلمات وعناصر موجهة للمثقف خلال النصف الأول من القرن الماضي انفرط عقدها وتخرمت ليصاب المثقف بالذهول والصدمة، ف"كل القيم والمبادئ و الرؤيات التي نذرت أجيال بكاملها لها شبابها وقوة مطامحها تنهار أمام الأعين بل إنها صارت موضع سؤال واستفسار واستنكار"(8). وهو ما نتج عنه نظر وموقف متشائم وكأن إحباطا ما قد مس الكيان العام للمثقف.

لذلك كان من الواجب حسب يقطين أخذ مبدأ التحول بعين الاعتبار في أي ممارسة ثقافية تريد التأسيس لعهد جديد في البلد. فلم يعد هناك مجال للعمل الثقافي ذي النزوع اليساري البحت. ولم يعد هناك مجال للهيمنة والاستعلاء ووحدة الرؤية، بقدر ما أصبح الوضع يتطلب انفتاحا ونسبية ومرونة أقوى، وتعاونا أوضح، وصدرا أكثر انشراحا، يتحقق فيه التنازل من طرف الجميع.

ويرصد الكاتب مجموعة ملامح المرحلة الجديدة الواجب أخذها بعين الاعتبار للتأسيس للعهد الجديد في المجال الثقافي والأدب ومنها:

- ظهور الخطاب الديني مستفيدا من المستجدات المساعدة كازدهار الطباعة وسهولة عملية النشر وتوسع دائرة السمعي البصري.

- ظهور الخطاب الشعبي من خلال ازدهار صحافة الكاريكاتير وأدب الفضح والفلكلور المنظم.

- ظهور الخطاب الإقليمي الذي أصبح معه كل قطر يحاول التأسيس لهوية ثقافية خاصة تركز على المحلي من خلال أنشطة كالندوات والاحتفالات المحلية.

- ظهور الخطاب الفرنسي من خلال عودة جيل يحمل قيما فرانكفونية يعمل من أجلها من خلال كتابات وأنشطة مدعومة من جهات خارجية.

- ظهور الخطاب النسائي من خلال ظهور جمعيات مدنية وكتابات واتحادات نسائية يجمع بينها النهوض بواقع المرأة وجعله يماشي المستجدات العالمية خاصة بعد مؤتمر بكين.

هذه الملامح يرى سعيد يقطين أنها كفيلة يطرح السؤال الإشكالي الكبير: من هو المثقف حاليا؟ ويبادر إلى الإجابة إنه ليس ذلك المثقف المنخرط في العمل السياسي النضالي البحث، أي: الحامل للهم الوطني الديمقراطي وإنما (المثقف الحالي هو نقيض السابق. يطرح أسئلة كبرى وغير قادرة على مواكبة كل الإنتجات والفعاليات، يميل أكثر إلى أن يكون له موقع داخل أجهزة الدولة والمجتمع ويسعى إلى تأطير نفسه بعيدا عن المؤسسات الحزبية والرسمية.

مثل هذه الأمور تدعو بلا شك إلى التفكير الجدي في البحث عن إطار عام منظم وجامع لمفهوم الثقافة وذلك هو نفسه المؤسسة أي "خلق التصور والأداة المناسبة للعمل أو الاشتغال بمشروعات محددة للبحث كشكل من أشكال الممارسة التي تمكن المثقف من لعب دور ما بحسب إمكاناته واجتهاداته في انتظار ما يمكن أن يتبلور من ركائز للتطوير والعمل"(9).

هذا التصور يشكل جوهر عملية المأسسة، أي وضع تقاليد عامة تكون منطلقا يوجه الثقافة ويحفظ المثقف. هذا المنطلق قوامه أسئلة جزئية من قبيل: ماذا نريد؟ ولماذا؟ وبأي منظور؟

3- ثوابت ممارسة أدبية جديدة
ينبه سعيد يقطين إلى أهمية طرح السؤال المهتم بمأسسة الثقافة، ويقترح، بوصفه مثقفا مهتما وباحثا في المسألة الثقافية عربيا وعالميا(10)، ما يسميه ممارسة ثقافية جديدة ويقصد بالجدة التطابق مع التحولات الجوهرية التي مست السياق العام. فلا بد في هذه الممارسة من تجديد الرؤية وتجاوز التقليد السابق الذي لم يعد له مبرر للاستمرار وهنا يوضح الكاتب وجهة نظره مركزا على:

        1- التفكير الجماعي في مجمل القضايا الثقافية الاجتماعية ضرورة قصوى.

        2- دعم التفكير في ممارسة جماعية منظمة من مستلزمات الحقبة الجديد، ف"التعامل مع واقع متحول وبخطاب له مميزاته وإشكالياته من الأولويات، بعيدا عن أي مصلحة ضيقة...ولابد من مراعاة الثوابت والقيم العامة والمكتسبات التي تحققت في صيرورة تطور المجتمع المغربي"(11). وثمة ثلاثة ثوابت لهذه الممارسة الجديدة المقترحة للنهوض بالشأن الثقافي المغربي:

        أ- الانفتاح سواء على العالم أو على مختلف وجهات النظر داخل المغرب، فالانفتاح شرط النهوض ما لم يكن تبعية أو ارتهانا للآخر، بما في ذلك الانفتاح على الثقافة الأجنبية فرانكفونية كانت أو أنكلوسكسونية.

        ب- التنوع بأن تكون الثقافة مؤمنة بروافدها المتعددة، ما لم تمس بالهوية الثقافية ذات البعد الإسلامي النابغ، حيث يبدو هذا التنوع عنصرا مضافا إلى الانفتاح، وكلاهما يقصي مبدأ (الإلغاء) الذي كثيرا ما يعرقل النهوض الثقافي.

        ج- الحوار بأن تتشكل ثقافة مغربية ثابتها الناظم المكون الديني الإسلامي، لكنها مستعدة للتواصل المطلق مع الآخر، تواصل يؤمن بحق الآخر في الاختلاف، لكن يؤمن أيضا بضرورة التعامل معه تأثيرا وتأثرا.

وبهذا فإن الأدب بوصفه جزءا محوريا في الثقافة، يغدو موضوعا في إطار التقاليد العامة، ويغدو ورؤية وتصورا شاملا ومنظما، يراعي السابق لكنه لا يتغافل عن اللاحق، فيتاح للممارسة الأدبية على هذا النحو أن تستفيد من التحولات الكبرى المحلية والعالمية، وتعيد صياغة نفسها بهدف التطور والتجدد.

4- المأسسة الأدبية والسياق السياسي
لا يغفل سعيد يقطين دور السياسة الحاسم في المجال الثقافي، فهو يخضع هذه الإشكالية للسؤال والبحث، كغيره من المثقفين سواء داخل المغرب كمحمد عابد الجابري، الذي خصص حيزا كبيرا من كتاباته لمناقشة هذه المسألة. فجعلها مسألة ذات ارتباط بالديمقراطية وبالقومية، معتبرا أن "لا نهوض ولا إمكانية لممارسة ثقافية في غياب الديمقراطية"(12).

أو في العالم العربي كعبد الرحمان منيف الذي تحدث عن العلاقة الوطيدة بين ما هو سياسي وما هو ثقافي، وربط بين الثقافة والسياسة بما هما عنصران متلازمان مترابطان لا يجوز أن يستأثر أحدهما بالآخر"فلا يمكن أن يكون المثقف بديلا عن المنظمة السياسية، كما أن العمل السياسي الذي لا يستند إلى الثقافة غير قادر على مواجهة المشاكل التي تعاني منها الجماهير أو حلها ومن هنا لابد من الوصول إلى معادلة جديدة غير التي حكمت العالم في السابق بحيث تكون الثقافة ركيزة أساسية في العمل السياسي وجزءا منه"(13).

ا) تبعية ممقوتة
وفي السياق نفسه يعالج سعيد يقطين مسألة الأدب باعتباره جزءا من الثقافة في علاقته بالسياسة. فيسجل نقطة سلبية مفادها أن تاريخ العمل الأدبي الثقافي في المغرب ظل إلى عهد طويل مرهونا إلى العمل السياسي، لقد ظل المشروع الثقافي وعيا وممارسة تابعا للشأن السياسي، فرغم التسليم الواعي بضرورة ارتهان أي عمل سياسي إلى أرضية ثقافية، إلا أن العكس هو الذي تحقق. فقد ارتهن الشأن الثقافي لما هو سياسي في صورة (تبعية) مكشوفة بغيضة مكشوفة تتجلى صورها "في قيام العمل الثقافي على خلفية سياسية بحيث تصبح هذه الخلفية مبرزة وموضوعة في المستوى الأول على صعيد الممارسة وموجهة لكل أنماط السلوك والتفكير، وبمقتضاها تتحدد مختلف أشكال العلاقات بين الفاعلين الثقافيين من جهة بينهم وبين مختلف القضايا التي تنصب عليها جهودهم أو ينصرف إليها تفكيرهم"(14).

إلا أن الراهن المغربي، ومن خلال التحولات المرصودة، يفرض أن تتوقف هذه التبعية، وتتأسس علاقة جديدة بين الطرفين، تقوم على رؤية جديدة تؤمن بالارتباط بين السياسي والثقافي الأدبي. وفرق كبير بين (التبعية) وبين (الارتباط)؛ لأن التبعية تعني الارتهان والخضوع للإملاءات، وهي مصداق للعبودية. أما الارتباط فيعني التعاون والتشارك والتواصل الإيجابي والفاعل. وبهذا يكون مبدأ الارتباط مبدأ من مبادئ المؤسسة الأدبية المطلوبة.

ومن تجليات التبعية السلبية في التجربة الثقافية المغربية، أنه منذ صدور ظهير الحريات العامة 1958م، تأسست مجموعة من الفعاليات الثقافية والرياضية، إلا أنها كانت دائما محكومة بخلفية سياسية توجهها، وظلت تتحكم في جل أو كل أنشطتها، بشكل بدا معه ما هو ثقافي أدبي تابعا وخادما لما هو سياسي.

والأمر نفسه ينطبق على تجربة اتحاد كتاب المغرب الذي لم يسلم في يوم من الأيام من الهاجس السياسي من خلال تحزب أعضائه، وتحكم الخلفية السياسية أو أولويتها في انتخابهم. يقول سعيد يقطين: "ما كان مغيبا في هذه الصيرورة هو الصراع الثقافي الحقيقي، والاختلاف الأدبي بين مكونات الاتحاد، فلم تبرز القضايا الحقيقية للأدب وللثقافة. لأنها لم تكن الموضوع الأساس الذي في نطاقه ينتظم كل الأعضاء"(15).

ب) نحو ارتباط إيجابي:
ولا يخفى أن المطلوب سيادة علاقة حسن النوايا ووحدة الهم والهدف المشترك الذي هو خدمة الإنسان باعتباره الجوهر ومحور النشاطين السياسي والثقافي. ففيهما ينبغي ضرورة "التشديد على البعد المتصل بالإنسان في أعمق تجلياته وأبعاده"(16). وهذا يستوجب أن يكون العمل الثقافي الأدبي عملا مقصودا لذاته، لا طريقا أو وسيلة لأشياء أخرى تحددها السياسة. ي بما يعوق تطور الفكر والأدب، وبما يقوي حساسيات تضر الإبداع والثقافة عموما.

ومن هنا دعوة الكاتب إلى آلية الإجماع والفعل الجماعي من أجل خدمة القضايا الفكرية الوطنية. وكأنه يدعو الجميع للانخراط في خدمة الشأن الثقافي الأدبي الوطني. وهي عملية من شأنها أن تحيد الأولوية السياسية لصالح الأولوية الثقافية الأدبية.

5- المأسسة الأدبية والهوية:
إن الناظر إلى الأنواع الأدبية أو ما يعرف بنظرية الأجناس الأدبية، التي تبلورت في الغرب، وفق ظروف وسياقات متعددة. يتبين أن هناك منطلقا لابد منه للنقاش من شأن حقيقة الأدب؛ ومفادها أن القيم الفنية الجمالية التي تشكل محور البحث في المسألة الأدبية ظلت عموما محيدة وهامشية، مع أن غياب هذه القيم أو التفريط فيها أو إهمالها يعني أن المجتمع عموما "مقبل على تحولات تمس وجوده ووجدانه، وتستدعي أن نفكر فيها بتمعن وتأمل"(17).

هكذا افتقد الأدب، حسب سعيد يقطين، عبر مسيرته الحديثة في المغرب خصوصيته الجمالية، ومعها خصوصيته النوعية. حتى أصبح ينعت باللمز والتنقيص والتشكيك.

يقول يقطين: "فهناك من المغاربة أنفسهم من يشكك في قيمته أو في خصوصيته بالقياس إلى الأدب العربي في باقي الأقطار العربية"(18). وهذا الموقف السلبي من الأدب المغربي راجع إلى كونه تحول إلى رهينة لتصنيفات خارجة عن الحقل الأدبي لا تمت إلى نظريات الأجناس أو الأنواع بصلة. فقد تعاقبت على الأدب المغربي تصنيفات قيمية إيديولوجية بحثة:

- فهناك صفة الوطنية التي لازمت الأدب طيلة فترة الاستعمار، منظورا إلى الأدب جزءا من المعركة السياسة، عليه أن يخوض ويواجه الاستعمار ليكون وطنيا.

- صفة التقدمي أو الرجعي أو الملتزم أو مناضل.. الخ

باعتبارها تصنيفات أعقبت الاستقلال فوجب على الأدب أن يتحيز للانتماء الإيديولوجي للكاتب أو الأديب، وهويته تتحقق من تحيزه.

- صفة نوعية اللغة المعتمدة فكان التمييز بين الأدب المكتوب بالعربية والأدب المكتوب بالفرنسية،خاصة مع ظهور زمرة من الكتاب ذوي التكوين الفرنسي الخالص.

هذه كلها تصنيفات اعتمدت معيار المحتوى والمضمون ولم تلتفت إطلاقا إلى المعيار الجمالي، باعتباره جوهر الممارسة الأدبية. وهو أمر يرى الدارس أنه شكل جناية حقيقية على الأدب:

"ما حصل من جراء عدم الاهتمام بالجانب الفني هو خلو فكرنا الأدبي من تراث أو أدبيات في هذا المضمار لذلك نجد البحث أو الاهتمام بالجمالي شبه منعدم أو مفقود...فكيف يمكن تصور قيام ممارسة أدبية أو فنية سليمة أو مناسبة في غياب فكر أدبي يرتكز على الأسس الحقيقية للأدب والفن الكامنة في الجمالي والشكلي؟!!"(19). ومثل هذا التساؤل يحمل في طياته تشكيكا في قيمة هذا النتاج الأدبي، الذي ارتهنه المحتوى والمضمون، الذي حوكم من زاوية ما يقول ولم يهتم إطلاقا بكيف يقول.

ويسجل الدارس أن مشكلة الأنواع الأدبية في المغرب، رغم تطور الزمن ورغم التحولات المعاصرة، لم تزدد سوى سوءٍ. بالنظر إلى أن السنين الأخيرة أفرزت تنويعات جديدة ارتكزت على معيار المضمون، أو معيار الجهة المنتجة، فأصبحنا أمام أنواع من قبيل:

        - أدب الشباب

        - الأدب النسائي

        - الأدب الإسلامي

        - الأدب الأمازيغي(...)

        وغيرها من التصنيفات التي اهتم بها أصحابها، وصفق لها دارسون ومهتمون. فكان أن تعصب هذا الطرف لهذا النوع، وآخر لذلك النوع. وأقاموا له المهرجانات والندوات ونشطت حركة بعض التنظيرات النقدية، وخصصت جوائز للمتفوق في هذا النوع أو ذاك.

مع أن المسألة في أساسها لم تمت إلى معيار النوع أو الجنس الأدبي بصلة، فهي معايير خارجية عن الأدب، أساس التصنيف فيها مرتهن إلى معيار قد يكون السن أو الجنس أو العقيدة أو اللغة...إلخ. وحضر كل شيء إلا الأدبية. ولا يخفى أنها معايير -كما يقول يقطين- "لا علاقة" لها بالأدب ولا بالقيم الفنية والجمالية المعروفة أو المتداولة. هذه التصنيفات تكشف عن أزمة النقد أولا، بالنظر إلى غياب النقاش الجمالي والأدبي حقيقي في المجتمع، ولكونه يعد أمرا ثانويا وتابعا أو إضافيا، لا أكثر.

وعندما يبادر ناقد إلى معالجة مسألة الأنواع، تراه ينطلق من الحكم والتمييز والدفاع عن الكتّاب، بحسب قربهم من هذا التوجه أو ذاك، أو بحسب الجنس أو العمر أو الدين أو اللغة. فكان إشكال النقد، بل أزمته، نتيجة مباشرة وحتمية، ترتبت عن التصنيفات القيمية المضمونية الخارجية، التي حكمت الممارسة الأدبية بالمغرب. التي ظلت ممارسة محكومة "بالعوامل الخارجية في التقييم والحكم والتعاطف مع التجارب الإبداعية، ولذلك تأجل البحث وغاب النقاش بصدد كل ما يمث إلى الإبداعية من حيث خصائصها ومميزاتها"(20).

وغير خاف أن الممارسة الأدبية الحقة مطالبة بإيلاء البعد الإبداعي الجمالي الفني الأهمية القصوى والمركزية، فعندما يصبح الحكم على الأدب، وتقييمه "يستند إلى الجمال والجودة والعمق فتلك بداية دخولنا عصر الإبداع الحقيق الذي يحقق للأدب خصوصيته وفرادته ويضمن له الاعتراف"(21).

أ) نحو علاقة تصالحية بين العلم والأدب:
مما يرتبط بمشكلة النهوض بالشأن الثقافي الأدبي بشكل مباشر وفعال قضية العلاقة بين العلم والأدب، فكثيرا ما ظل ينظر إلى العلم من لدن المهتمين بالأدب نظرة سلبية قائمة على الغمز واللمز، وربما التهكم أحيانا. بالنظر إلى أن الأدب يرتبط بالعاطفة وبالجمال وبالفن، وبالتالي لا مجال للصرامة العلمية التي قد تجعل منه حقلا جافا وميتا وجسدا بلا روح.

غير أن الأمر بخلاف ذلك، فالأدب يستأنس بالعلوم الإنسانية وفروعها المختلفة. ولذلك يقترح يقطين ثنائية (الخطاب) و(الفن) طريقا إلى مصالحة ممكنة بين العلم والأدب. حيث يتم تناول الأدب من وجهين؛ الأول وجه خطابي يتم التركيز فيه على دراسة الخطاب وعلى خصوصياته ومميزاته البنيوية، فيبحث ضمنه عن الأدبية والفنية المحايثة أو المعيارية. والثاني وجه نصي ننفتح فيه على مختلف النصوص والإنتاجات الأدبية في التاريخ والمجتمع والفلسفة والنفس. ما قد يضمن علاقة ائتلاف بين مختلف فروع الأدب، وبين فروع العلوم الإنسانية، وتصبح العلاقة تكاملية، فيها كثير من الغنى والخصب.

ومن شأن هذا أن يزيل التوجس الموجود بقوة لدى جمهرة من النقاد والأكاديميين، ممن يعلنون على منابر الجامعات وصفحات المجلات، وأحيانا الكتب، إيمانهم بالعلم وترحيبهم به. لكنهم في تحليلاتهم النقدية وتطبيقاتهم يتنكرون للعلم إطلاقا. فتنطبق عليهم صفة الحذلقة الأدبية، التي يرى الكاتب أنها نتاج وعي قائم منذ قرون طويلة. وأن أهم عناوينها "عدم الإلمام بالبحث العلمي بذريعة ممارسة التكامل المنهجي بين المناهج مادامت كل المناهج عاجزة عن الإحاطة بخصوصيات النص الأدبي وانفتاحاته المتنوعة وغناه اللامحدود"(22).

وليس الحل في مثل هذا الموقف سوى الهروب من كلفة عناء الاطلاع على المناهج العلمية وإتقانها. التي هي في نهاية المطاف إفراز إنساني يلتقي في جوهره بحقيقة الإبداع والأدب القائمة على الإنسانية.

هذا التقليد ترتبت عنه آثار سلبية مست الواقع الأدبي المغربي بشكل بيِّن. وقد تمثلت في نشوء جيل لا يعرف من علم الأدب شيئا. ولا يستطيع اقتحام عالم الإبداع بعلمية أومنهجية مقنعة. فيكتفي الطلاب مثلا، بما يقال لهم عن النصوص، وبما يلخصه لهم الأساتذة أو المدرسون أو المحللون للأدب. من دون جرأة أو قدرة على الاحتكاك الفعلي بالنصوص الإبداعية.

مثل هذا الجيل يظل يعيش على نتائج تأملات الآخرين: ف"التلميذ والطالب والقارئ عموما وفق هذا الوعي القائم على الحذلقة الأدبية، لا يقرأ النص ولا يقدر عليه، لأننا لم نعوده على القراءة والتحليل. فهو يكتفي بما يقال عن النص وصاحبه، لذلك تكثر عنده المعلومات عن الشخص (الكاتب)، لكن لا فكرة لديه عن النص باستثناء ما تقدمه له الكتابات النقدية الإنشائية"(23).

هذا الواقع السلبي يتحكم في الدرس الأدبي أو النقدي المغربي، ويستوجب المعالجة والتدارك الآنيين، ويفرض المطالبة الملحة بضرورة تحقيق وترهين الوعي الأدبي الجديد، الذي يؤمن بتدقيق العلاقات بين مختلف الأطراف، ويجعل من أولوياته تغيير النظر إلى الأدب، وتركيز الجهد على فهم ظواهره فهما علميا، وإيجاد إنسان/ قارئ/ طالب/ ناقد/ دارس، ذي رؤية مستقلة وخاصة، وذي تكوين شخصي قادر على التمييز بين الاشياء بناءً على قناعاته الشخصية و"رؤيته التي يشكلها بمجهوداته وإراداته"(24).

وفي هذا الإطار يبَيِّن الدارس أن الممارسة الأدبية التي لا تستند إلى العلم هي ممارسة ذات طابع إنشائي. تنتج الناقد، لا العالم بالأدب، والفرق بينهما كبير، بالنظر إلى أن الأول يعتمد ذوقه الشخصي وانطباعاته الخاصة، ورفض أو يهمش العلم والتحليل العلمي. عكس العالم بالأدب، فهو الدارس الذي يكلف نفسه عناء الاطلاع الدقيق على النظريات والمناهج الأدبية العالمية. ويدفع بالمتلقي إلى أن يسلك المنهج نفسه.

وهذا ما يجعل المسؤولية كبيرة على المؤسسة التعليمية (ثانوية أو جامعة أو حقل نقدي)؛ مسؤولية كبرى تعيد للنص قيمته وللقراء ثقتهم في أنفسهم. فيكونون مستقلين في مواجهة النصوص. ويمتلكون من الجرأة الأدبية النقدية، لا مجرد ناقلين، يرددون نتائج احتكاك الآخرين بالنصوص. وإلا لكنا أمام نموذج بشري يرفضه وينعته بأنه "متلق كسول لا يهمه تحصيل معرفة ذاتية، كما لا تهمه القراءة أو المطالعة، يتأفف من تحليل النص أو قراءته"(25). أي أن المطلوب توفر الكفاءة القرائية، المشروطة بالكفاءة العلمية، قبل ادعاء أي عمل نقدي أو تحليلي مزعوم.

ويغدو هذا الأمر عمودا آخر من أعمدة مؤسسة النقد والقراءة، بما هو تصور أساسه التعامل التحليلي مع النص، حيث السيادة أولا وآخرا ل"قيم وممارسة أدبية جديدة قوامها خلق المتلقي الجديد، الذي يُكَوِّن رأيه من خلال احتكاكه المباشر مع الظواهر والنصوص، وفق تصور خاص به ومؤسس على قيم علمية محددة، ويؤمن بإبداع المتلقي وبمساهمته في تشكيل رؤيته، بعيدا عن أي توجيه مسبق"(26).

ب) نحو صحافة أدبية حقة:
من المشكلات التي ساهمت في تأزم وضع الممارسة الأدبية بالمغرب، ما يتعلق بالصحافة. فهي لا تختلف عن الوضع النقدي المتأزم. إنها صحافة يفقد معها الأدب قيمته وحقيقته واستقلاليته ومكانته المطلوبة. ذلك أن الإعلام الأدبي إعلام غير متخصص، لأن المهتمين بالركن الأدبي الثقافي في الصحافة المغربية، هم في الغالب أناس يفتقدون إلى التخصص وإلى التكوين العلمي المطلوب.

وقبل ذلك، فالمؤسسة الإعلامية عموما تربطها بالأدب علاقة ازدراء، لأنها تهتم بكل شيء وتقدم كل شيء، إلا ما تعلق بالشأن الأدبي، فذلك أمر مهمش وثانوي في العمل الصحافي. يقول يقطين:

"إن العمل الثقافي والأدبي ما يزال في تقدير المسؤولين عن المؤسسة (الإعلامية) في واقعنا العربي من اهتمام فئة معزولة عن المجتمع والعالم. وهو بالتالي لا يرقى لأن يحتل مكانا ما في أعين أو مسامع الجمهور. وهذا التصور كاف لإبراز الذهنية المتحكمة والتي لا تؤمن بدَمَقْرطة الثقافة والعلم والأدب"(27).

وما يزيد الطين بَلَّة، ويعمق المأساة أكثر، أن المؤسسات العلمية والتعليمية، من جامعات ومدارس ومعاهد، لا علاقة لها بما هو إعلامي، سمعيا كان أو بصريا أو مكتوبا. ما يجعل الأزمة أزمات، ويجعل الوعي الأدبي محتاجا إلى جدة ورؤية تأخذ هذه الأزمة متعددة الأوجه بعين الاعتبار.

ج) نحو ترجمة وتحقيق أدبين:
يطرح سعيد يقطين مسألتي الترجمة و التحقيق في علاقتهما بالوضع الأدبي. ومعه نسجل أنهما مسألتان تكرسان في ما تعيشانه من وضع مزري الإشكالية السلبية نفسها.

ففي مجال التحقيق الذي يعتبره سعيد يقطين عملية بالغة الأهمية، بالنظر إلى أن عليهما تتوقف عملية إيجاد النص؛ أي نقله من المخطوط إلى المطبوع، وجعله في متناول المتلقي. إلا أن العملية لا تزال في المغرب ساذجة ومحكومة بالانطباعية والاحتشام. فالمغرب يقع في مرتبة جد متأخرة، مقارنة مع مجهودات المستشرقين وبعض العرب الذين لعبوا دورا مهما وطلائعيا في عملية التحقيق. بحسب الكاتب فمرد ذلك إلى عاملين:

1- هيمنة التمييز بين القديم والحديث، وتفضيل ما يرتبط بالحداثة الذي تصبح معه مجهودات المحققين الذين ينكبون على إيجاد النصوص القديمة، انشغالات بعيدة عن روح العصر، وينظر إليهم باحتقار وازدراء، لأنهم تقليديون وربما "متخلفون" أو " رجعيون".

2- غياب إستراتيجية محددة لدى المؤسسات والكليات والجهات الثقافية المسؤولة.

وهما عاملان جعلا النصوص القديمة، أو الأدب القديم، أدبا مهمشا بعيدا عن ما يعرف بالثقافة العالمة. ولا يخفى كيف أن ذخائر الأدب العربي والتراث الإسلامي بأنواعه الغنية لا يزال حبيس الرفوف، تأكله الأرضة، ورهين المكتبات والخزانات الغربية. وعلى الدارس العربي أن يقصدها إن أراد دراستها. وتكفي الإشارة إلى أن في إسبانيا مثلا، معهدا خاصا بالتراث الأندلسي، يصدر سنويا منشورات وتحقيقات للنصوص العربية الأندلسية. في حين يفتقد المغرب إلى مثل هذا المعهد. مع ما يربطه بهذا التراث من روابط لا تنكر.

وتتميز عملية التحقيق في المغرب بكونها في الغالب نتاج جهود فردية براغماتية، مرتبطة بغاية نفعية عنوانها تحصيل الشهادة العلمية، دون الانخراط في رؤية تحقيقية شاملة تسهر عليها المؤسسات الجامعية والمتخصصة.

ويحدد سعيد يقطين ثلاثة مطالب لتحسين وضع التحقيق بالمغرب:

1- عدم التمييز بين النص القديم والنص الحديث بطريقة معيارية ترتهن إلى أن أحدهما أفضل وأهم من الآخر.

2- التسليم أن ما نعرفه بصدد التراث العربي الإسلامي وما نعرفه عن التراث الشفهي لبلدنا ناقص جدا، وأن علاقة الأجيال به وصلتهم بتراثهم تكاد تكون منعدمة.

3- التخلي عن التمييز بين الإيجاب والسلب من التراث إذ من الواجب التحلي بقدر كبير من الديمقراطية الأدبية التي تسمح لكل النتاج الأدبي الموروث أن يكون في متناول الناس، من دون تفضيل أو أحكام مسبقة.

ويدعو المؤلف إلى ضرورة إخضاع عملية التحقيق لإعداد علمي دقيق، حتى تتم العملية بشكل يراعي المقاييس المتفق عليها عالميا. هذه المسألة تستوجب إيجاد لجان جماعية متخصصة، ذات برامج وجداول أعمال محددة، تناط بها مهمة التحقيق. إن الوضع الأدبي يمكنه أن يتحسن، "عندما يتحقق هذا، وهو ليس مستبعدا ولا بعيدا، يمكن آنذاك أن نقول، إننا على بوابة التعرف على الذات العربية الإسلامية، في مختلف جوانبها وتجلياتها. لأننا حينئذ سنكون قادرين على فهمها واستيعابها وهذا الفهم الضروري، هو الذي يمكننا بعد ذلك من الانتقال إلى دراستها الدراسة العلمية الملائمة"(28).

وما قيل عن التحقيق ينسحب عن الترجمة أيضا. فهي بدورها خاضعة لمبدأ المزاجية الفردية، رغم أن قيمة الترجمة لا تقل عن قيمة التحقيق. بالنظر إلى أنها عملية تساهم في تقريب النص الأجنبي من المتلقي المغربي.

إلا أن ما يؤسف له هو أنه الترجمة لا تزال "هواية مشتغلين بالأدب وليس متخصصين في مجالات محددة، ويترجمون بناء على خطة محكمة، تنطلق من تحديد القيمة التاريخية للنص المترجم، ومن ريادته في مجال اختصاص محدد تنطلق من تعاطف المترجم مع النص وتقديره الشخصي له"(29).

وقد ترتبت عن ذلك نتائج سلبية، انسحبت على الواقع الأدبي بشكل عام. ومن تجلياتها حصول تسيب في المصطلح، بسبب غياب التواصل بين المترجمين. الشيء الذي أفرز سوء تفاهم على الساحتين الأدبية والنقدية، وغدا كل واحد يغني بليلاه. كما صدرت ترجمات متعددة لأعمال مترجمة منذ وقت طويل، وترجمت نصوص لا قيمة لها في سياق الراهنين الاجتماعي التاريخي للمجتمع. كما أن أعمالا ذات قيمة في أصلها، قدمت تقديما سيئا، في صورة ترجمة رديئة تفتقد إلى الأسس العلمية الصارمة، المعمول بها في الترجمة. لأنها كانت محكومة بالهاجس التجاري لدى أصحابها.

إن الترجمة والتحقيق عمليتان أساسيتان في مجال العمل الأدبي. ولا نهوض للشأن الأدبي بالبلد ما لم تعط لهما أهميتهما المطلوبة. لأن لهما أبعادا تواصلية معرفية علمية، تقود إلى إمكانية "تجسيد التواصل المطلوب مع التراث والآخر"(30).

د) نحو صناعة الأدب:
المقصود بالصنعة الأدبية تلك الخطوة التابعة لعملية التحقيق والترجمة، وكذا النشر والتأليف والإبداع، إنها عملية تجميع وتصنيف لروائع الأدب والثقافة وتخريجها بشكل مبسط لتكون في متناول أجيال القراء. فالقائم بهذه العملية حسب يقطين يمكن القول عنه" إنه غالبا ما يضطلع بجنس أدبي معين أو بموضوعة محددة، ولو شئنا تقريب صورته إلى الأذهان بما هو معروف في التقاليد الأدبية العربية القديمة أو الأجنبية، لقلنا إنه صانع (المختارات) أو (المنتخبات)"(31).

فصناعة الأدب تذكرنا بذخائر صنعها رواد أقدمون مثل: (الأصمعيات) و(المفضليات) و(الحماسة) إذ قدموا لنا روائع شعرية من خلال اختيار نماذج من النصوص رأوا أنها تمثل (النص النموذج).

ويمكن أن تنسحب هذه العملية على مختلف جوانب الإنتاج البشري قديمه وحديثه، فتشمل السرد القديم والخطابة القديمة والمجالسات والرواية الحديثة وموضوعات محددة كالفضاء وصورة الإنسان وقضايا كالحب والخوف والثورة...الخ.

ويمثل سعيد يقطين لنماذج من الصنعة الأدبية أو صناعة الأدب بعمل أدونيس (ديوان الشعر العربي) الذي يقدم نموذجا لصناعة النص الشعري ذي المواصفات الخاصة، الذي يقدم للقارئ العادي والباحث المتخصص، نماذج بروائع شعرية قد تختلف في جوانب، لكنها تشترك في قيم جمالية عديدة. ومثلها (سلسلة الروائع اللبنانية) وسلسلة (المختار من التراث العربي) السورية. فتكون عملية صنعة الأدب أو صناعة النص "ضرب مهم من التأليف يصلنا بالتراث بطريقة عصرية وعلمية في آن واحد"(32).

وهي بحق مسألة تقع على عاتق الكليات والمؤسسات والمثقفين العرب، والمغاربة تخصيصا، من أجل النهوض بالوضع الأدبي، ومواكبة التحولات والاستجابة للإكراهات الثقافية المستجدة.

6- الأدب في تجاذب الجامعة والمجتمع
تعد المؤسسة الجامعية مركز الاهتمام في فكر سعيد يقطين، وفي تنظيراته النقدية وانشغالاته الثقافية. لأنه يرى أن الجامعة تستحق الأولوية في الاهتمام والتفكير داخل أي مجتمع كان. وإلا فهو مجتمع يعيش خارج العصر. وبالنظر إلى دور الجامعة وعلاقتها بالأدب في المجتمع المغربي يسجل الكاتب أنها علاقة تأزم وسلب. تكرس أزمة الأدب وأزمة الثقافة: لأن "علاقة الجامعة بالأدب علاقة تلق وبحث لا علاقة إنتاج"(33).

ومعنى ذلك أن الجامعة المغربية تعيش عالة على الإبداع؛ أي أنها تكتفي بدارسته بعد أن يوجد، ومن بعد تكونه وخلال صيرورته وتطوره. أو من خلال ما يسميه صاحب الكتاب "بالمعرفة الأدبية". الجامعة لم تنهض في يوم من الأيام، بحسب الدارس، بمهمة إنتاج الأديب، إنتاج الشاعر أو الكاتب أو الروائي أو المسرحي أو القصاص. مع أنها من أولى واجباتها. لكنها تكتفي فقط بالتعامل مع ما ينتجه الآخرون. ولا يخفى أن هذه من سمات الأزمة في علاقة الجامعة بالأدب.

ويمكن التمييز معاينة إشكالية علاقة المؤسسة الجامعية بالأدب بين مرحلتين أو حقبتين مختلفتين في تاريخ صيرورة الجامعة المغربية:

- مرحلة ما قبل منتصف الثمانينات: وهي التي يطلق عليها مصطلح حداثة الجامعة وهي مرحلة موسومة بالتقليد. إذ ظل الاهتمام فيها منصبا على "إنتاج وإعادة إنتاج المثقف التقليدي"(34). تكتفي الجامعة بتأهيل الطالب ليواجه حياته العملية مدنية أو دينية، بما يمتلك من معارف، وهي في الغالب مركزة على المحتوى وملتفتة إلى الماضي.

وقد تميزت الجامعة في بداية عهدها بسمة التلقين والإنشاء. وبالنظر إلى الأدب فقد ارتبط بالقديم بشكل لافت وافتقد إلى التخصص. إذ كان المعيار (الأخذ من كل شيء بطرف). ما أنتج مناخا ثقافيا مغربيا وأدبيا، لا علاقة له بالجامعي. إذ ظل التطور والتحول الاجتماعي الثقافي الأدبي، وما يستجد من مناهج ونظريات، في طلاق تام مع اهتمام الجامعة. هذه الأخيرة انشغلت بكل ما هو قديم في التصورات والرؤيات والنصوص.

- مرحلة ما بعد الثمانينات، أو مرحلة حداثة الجامعة، وتستوعبها الصيرورة الثانية في مصار نشوء الجامعة المغربية. وتؤشر عليها مؤشرات من قبيل تعدد الكليات، وتغطيتها مساحة لابأس بها من المغرب، تعدد المجلات والمنشورات والندوات التابعة لهذه الكليات. بصورة أنشطة متعددة التمركز والتوقيت والاهتمام. ثم تواتر الرسائل الجامعية وتعدد الموضوعات والأنشطة الأكاديمية، بحثا ومناقشة وطبعا ونشرا. في هذه المرحلة "صرنا أمام ظاهرة لم تكن موجودة فيما مضى، وتتمثل في انخراط الجامعة في المناخ الثقافي المغربي"(35)، وصرنا فعلا "أمام تحول هام؛ فالجامعة صارت تلعب دورا نشيطا في الفعل الأدبي والثقافي العام، ونوع الندوات التي تحتضنها كليات الآداب، وشعبة اللغة العربية صارت تميل أكثر نحو موضوعات ترتبط بصورة أو بأخرى بمجمل التحولات التي يعرفها المجتمع أو العالم من حولنا، أو التنقيب في الذاكرة الجماعية والتاريخية للمغرب"(36).

غير أن هذه الصورة المشرقة، أو البادية كذلك، والداعية إلى التفاؤل الحذر، ووجهت بمعيقات وإكراهات حالت دون استمرارها واكتمالها. ويتمثل ذلك في عجز الجامعة عن ضمان العيش الكريم للمتخرجين منها. وفي عدم قدرتها على مساعدة الباحث، أستاذا كان أو طالبا، وعدم قدرتها على ضمان استمرارية ارتباطهما وإكمالهما مهمة البحث والانخراط في المناخ الثقافي السائد. وهو ما انعكس على البحث العلمي ذي الارتباط الوثيق بالجامعة، الذي سرعان ما بدأ "يشحب ويضعف ولا سيما أمام توالي الإحباطات، وتفشي مسبباتها"(37). فأصبحت المعرفة الأدبية تواجه أسئلة مصيرية تنذر باحتمال التوقف عن التطور والتراجع البين. خاصة في ظل سياقين موضوعي وذاتي غير ملائمين.

 ومن صور العوائق التي غذت هذا التراجع، وبررت انحصار دور الجامعة عن الانخراط في إنتاج المعرفة العلمية نذكر:

- التعدد المفرد: حيث سادت ثقافة التقليد بين مختلف الجامعات وما يصدر عنها من مجلات ومنشورات وأنشطة بحيث افتقد مبدأ الخصوصية أو التكامل أو احتمال التطوير.

- غياب التواصل سواء داخل حرم الجامعة الواحدة بين شعبها وتخصصاتها والفاعلين فيها، أو بين الجامعات المغربية فيما بينها. وإذا تحقق من تواصل فإنه لا يعدو أن يكون إخبارا أو تلاقيا سطحيا. في حين يتطلب التواصل الحق" أن يتحقق وفق خطة بحث وتخطيط قصيرة المدى أو متوسطة بين مختلق المشتغلين في تخصصات محددة أو تخصصات تتكامل وتتجاوز"(38). ولعل هذا النوع من التواصل هو وحده الكفيل بتطوير الدرس الأدبي، وإعطاء الإنتاج الأدبي خصوصيته وفرادته وجديته.

ويدعو الدارس إلى ضرورة أن تبادر الجامعة إلى تحمل مسؤوليتها في مجال إنتاج المعرفة الأدبية، بدءا من التفكير الجدي في إيجاد الحلول الكفيلة بتخطي المشاكل المشار إليها. لأن الجامعة قد تبدو تبعا للسابق مؤسسة بلا جدوى.

ويدعو الدارس إلى خاصية الإيمان بالبحث العلمي الحقيقي، التي يجب أن تكون قناعة لدى المسؤولين، كي يتحقق المطلوب من إدماج الجامعة في المجتمع، بدلا عن الاستهانة بالبحث العلمي وبالباحث كما هو ملحوظ حاليا.

أ- الأدب والإعلام الجامعي:
الإعلام الجامعي هو الآخر من عناوين أزمة الواقع الأدبي المغربي. الذي يقيده بحالات الثبات وصور الجمود. الشيء الذي يعوق الممارسة الأدبية الجامعية ويحاصرها. فهو وضع عام فيه العديد من المؤشرات الدالة على الانحسار الفكري والثقافي، "والكل عازف عن الانخراط في أي عمل يقوم على تقديم أي بديل يمكن أن يخترق هذا الثبات"(39).

ومن صور هذه القتامة في مجال الإعلام الجامعي؛ قلة المجلات أو المنابر الأدبية ذات الصلة بالجامعة. وما يوجد منها يبقى محكوما بالبساطة وافتقاد روح الجدية. فهي محاولات غير متخصصة لا تجد لها تسويقا على الساحة الثقافية، ولا مقبولية لدى القارئ العام. بل وحتى الخاص (الطالب) و(الأستاذ). فكيف بها أن تسهم في تنوير الرأي العام، والنهوض بالشأن الثقافي وتطوير الوعي الأدبي بالمغرب ؟؟ على عكس الإعلام الجامعي الأجنبي الذي لا مجال لمقارنته بما يسود عندنا إطلاقا.

ب- الأدب والبحث الجامعي:
كان حظ الأدب من عملية البحث في الجامعة حظا لا يحسد عليه، يدعو بدوره إلى التحسر والقلق. فباستثمار المعطيات والإحصاءات الواردة في دليل عمر آفا مثلا، الصادر عن منشورات كلية الآداب بالرباط (1996-1994)، سواء في مجال دكتوراه الدولة أو دبلوم الدراسات العليا، من حيث موضوعاتها أو اهتماماتها أو مناهجها...إلخ. يتبين للدارس أنها في غالبيتها، جاءت محكومة برؤية تقليدية، حيث اعتماد الكم وغياب التحليل الجزئي الدقيق، وعدم الانطلاق من أي تصور علمي محدد، يتصل بأحد العلوم الأدبية الأخرى. ناهيك عن كونه يكاد ينفي الإبداع الشفهي وينظر إليه نظرة تحقير وازدراء.

أما من حيث المنهج فالغالب هو المنهج التكاملي الذي لا يعني، حسب الدارس، سوى غياب المنهج. لأنه يكتفي بقشور وسطوح تفتقد إلى الدقة العلمية الصارمة.

غير أن الدارس لا يفوته أن يسجل أن البحث في الجامعة المغربية خلال السنوات الأخيرة قد أخذ يسير تدريجيا نحو الانفتاح على الأدب الحديث، في صورته العربية أحيانا، وفي صورته الغربية الأجنبية أحيانا أخرى. كما أن هيمنة الشعر بدأت تتراجع نسبيا لصالح الاعتراف بالأنواع الأدبية النثرية المتعددة.

ولعل هذه الصورة السلبية للبحث في الجامعة المغربية مردها، حسب الكاتب، إلى عاملين اثنين:

- يتحدد الأول منهما في غياب ما يسميه "بالشيخ" ويقصد به الشخص المتخصص في المجال العلمي الذي يتقنه. فلا يمكن أن يشرف على البحث من لا إلمام له بموضوع البحث وتفاصيله النظرية والمنهجية.

- أما العامل الآخر فهو غياب التوجيه، لأن أغلب البحوث يكون الإشراف عليها إداريا فحسب، في حين يبقى الطالب يواجه مصيره وحيدا في بحثه. وهي بلا شك عوامل ترتبط بما هو ذاتي وبما هو موضوعي. وتجعل من البحث العلمي في الجامعة المغربية، بحثا لا قيمة له ولا يرقى إلى مستوى الرهانات. فتكون الحاجة ماسة إذن ضرورة "تطور الجامعة بتطور الوعي بوظيفتها في تقديم البحث العلمي في مختلف الظواهر والأشكال"(40).

7- من الأدب إلى الفكر الأدبي
يدعو الكاتب إلى ضرورة أن تكون للأدب مؤسسة. فكما أن الأدب وثيق الصلة والارتباط بالمؤسسات سالفة الذكر، من تاريخ ومجتمع، وهوية، وجامعة وإعلام وبحث علمي، فإن الأدب وثيق الصلة أيضا بنفسه. لذا يقترح الكاتب مصطلح "الفكر الأدبي" بديلا عن مصطلحات أخرى مشابهة، لكنها على قدر كبير من الضبابية مثل (الدراسة الأدبية)، (البحث الأدبي) (الآداب)...الخ. لأنها تعد مصطلحات أو مفهومات فضفاضة وعامة، لا تفي بحقيقة الاشتغال بالأدب.

 ويقترح مصطلح (الفكر الأدبي) نفسه مفهوما جامعا يوازي مصطلحات الحقول المعرفية الأخرى مثل (الفكر الفلسفي) و(الفكر العلمي). وهو مصلح شامل لكل ما يتعلق بالإبداع الأدبي أو الإنتاج الأدبي. ويصبح عبارة عن مؤسسة جامعة، تستقطب كل ماله علاقة بالأدب وتصبح إطارا شاملا، تنضوي تحته اختصاصات متنوعة أو انشغالات جزئية نوعية لكل منها مقوماتها ومحدداتها.

إن ضرورة الوعي بمسألة الفكر الأدبي يعني "وضع حدود كل ممارسة لتراكم إنجازاتها طبقا لخصوصياتها ومقتضياتها، إذ كلما تطورت هذه الممارسات المختلفة أمكن للتفكير الأدبي العربي، وهو يستوعب مختلف هذه الممارسات أن يتدفق ويتطور من منظور حيوي ودينامي. كما أن هذا التدقيق يسمح بوضع الحدود والمعايير التي تمكننا من النظر إلى كل ممارسة على حدة، وفي ضوء المتطلبات والتبعات التي تستلزمها"(41). وفي غياب هذا التأطير للتفكير الأدبي، يظل كل مجهود فضفاضا وغير علمي.

إن الحاجة ماسة إذن، إلى ضرورة وضع "تصور عام يحدد أشكال هذه الممارسات ومميزات بعضها عن بعض، ولعل دراسة توفيق الزيدي المعنونة بـ(تعليمية النقد)(42)، وتؤكد ما يذهب إليه الدارس، لأنها دراسة تحدثت عن ضرورة علمية النقد. وميزت بين ما هو عام وما هو خاص. ودعت إلى ضرورة الانطلاق من المفهوم الجامع في مجال الأدب، وإلى تنظيم وتأطير الممارسات الأدبية. خاصة حينما يميز بين العلم الأدبي باعتباره بحثا في الكليات وكبريات القضايا المتصلة بالأدب، وبين النقد الأدبي باعتباره اهتماما بالتجليات الملموسة للنصوص.

هذا التمييز يقيم جسور تواصل بين مختلف مجالات العلم، بالنظر إلى أنه لا يمكن أن يتأسس نقد إلا بناء على إنجازات البحث العلمي. بحيث يتكامل الصنفان ويستدعي كل منهما الآخر، وتبقى لكل واحد خصوصيته؛ "فالعالم ليس هو الناقد"(43)، وبينهما تعالقات لا يمكن نكرانها.

إن التمييز بين العلم الأدبي والنقد الأدبي من أهم مسؤوليات الدارس للأدب. ولعل الهفوات المسجلة من طرف الكاتب، على انشغالات الباحثين في مجال الأدب، راجعة إلى هذا الأمر، يقول: "وما ينقص بحثنا وتفكيرنا في الخطاب الأدبي نجده كامنا في انعدام هذا التمييز سواء على صعيد الوعي أو الممارسة"(44). وهو أول مؤشر من مؤشرات الممارسة الأدبية الجديدة والجدية، وإلا راوحت مجهوداتنا الأدبية مكانها.

8- الأدب ومؤسسة المؤسسات:
يتحدث سعيد يقطين عن ما يسميه بمؤسسة المؤسسات، محاولا بذلك التأسيس لممارسة أدبية وثقافية جديدة بالمغرب، تتجاوز تجليات الأزمة التي رصدها عبر طول الكتاب. فإذا كان الأدب بقي زمن طويلا محكوما بعلاقة تبعية ووصاية، فرضتها عليه ومارستها بحقه مختلف المؤسسات، من إعلام ومؤسسات تربوية وسياسية واجتماعية، ألغي معها مفهوم الأدب الحق، وأقصى معه الدور الإيجابي والفعال المنوط بالأدب في أي مجتمع من المجتمعات، ونظر إليه نظرة مصلحية وحزبية ضيقة، كان معيارها (مع) أو (ضد).

ويقترح يقطين ما يسميه ب"مؤسسة المؤسسات"، وهي سلطة عليا ومعنوية تستمد قوتها من الأخلاق، باعتبارها وازعا داخليا مرتبطا بالضمير وبالمسؤولية. إذ على كل مهتم أن يتقيد بمقتضياتها، "إنها ببساطة ليست موجودة في فضاء ما، وليس لها عنوان في شارع أو ساحة عمومية على غرار الجريدة أو مبنى الإذاعة والتلفزة أو الكلية أو مقر الحزب أو الجمعية.. إلخ.

فهي موجودة في ذات كل المشتغلين والفاعلين في المجالات الثقافية والاجتماعية والسياسية، وهم ينتمون إلى المؤسسات التي يتعاملون معها بحكم أعمالهم المختلفة. إنها بكلمة جامعة واحدة توجد في "الأخلاق"(45).

هذه المؤسسة، تبدو جديدة، يقترحها الدارس لتمارس سلطة ورقابة على كل المؤسسات سالفة الذكر، وتتحكم أو تراقب في كيفية اشتغالها. فهي تحدد قواعد السلوك والعمل، وتنظم التعامل بين الأفراد والجماعات. بل هي بعبارة أخرى "الميثاق غير المعلن أو الدستور الذي لم يستفتَ فيه أحد، والمُجمَع عليه في تحديد كل القواعد التي بها تتحرك الأشياء"(46).

تصبح مؤسسة المؤسسات إذن، بمثابة الضامن الوحيد والكفيل بإصلاح الممارسة الثقافية بالمغرب. والتي راكمت سنوات، بل وعقودا، من الانتهازية والوصولية، وتعاطي الرشوة والفساد وتزييف الحقائق، ومهادنة السلطة، والنفاق والتملق وغيرها من الممارسات المنافية للأخلاق.

وتشكل الأخلاق قاعدة هذه المؤسسة الجديدة، التي يقترحها الدارس. ولا يخفى أن من شأن هذه المؤسسة أن تدفع بالممارسة الأدبية الفكرية نحو الأفضل. فهي تفرض الاحتكام، في التعامل مع الإبداع الفني والفكري، إلى حقيقته الإبداعية وإلى مدى العمق الفكري والمعرفي في الإنتاج، وتوجب محاكمة نوعية العطاء ومستواه، وتقييم وخصوصيته، بعيدا عن أية معايير خارجية. ويكون تقدير الأشياء من منظور لا يتصل بالعلاقات الخاصة، ذات الصلة بجسم أو مضمون مؤسسة تقليدية ما. فنحن داخل هذه المؤسسة نحترم الإبداع في مختلف الفنون، وفي مختلف مجالات الملفوظ البشري الوطني، لأنه يثبت أنه إبداع حقيقي ليس إلا، ونقدر الفكر (البحث الأدبي والفلسفي والتاريخي والديني)، لأن فيه إبداعا وأصالة وعمقا، ولأنه يشكل في حد ذاته إضافة إلى الثقافة الوطنية.

إن قيمة مؤسسة المؤسسات تكمن إذن، في كونها مرجعية لا يمتلكها أحد، وتتعالى على الجميع. وفي الوقت نفسه تُعدّل من سلوكات الانحراف التي تمس بحقيقة الأدب والفكر عموما. وهي تشكل دعامة رئيسية في تخليص المجتمع من ممارسات، أدت إلى تولد قيم سلبية في المجتمع. من جملتها انعدام الروح الوطنية، وعدم الإيمان بالديمقراطية، ودعم الإنتاجات الهزيلة غير الجادة، وقلة روح المبادرة، وهيمنة روح الكسل الفكري والابداعي، وغياب التنافس الشريف، والاستسلام للاتكالية واعتماد العلاقات الشخصية.

ولعل غياب الأخلاقيات من ممارستنا الفكرية، عبر فترات طويلة سابقا وإلى وقتنا الراهن، يرجع إلى خوف المؤسسات السائدة على نفسها. هذه الأخيرة ترتكز في ضمان استمرارها وبقائها على هذه القيم السلبية المنافية للأخلاق. وهو ما يفسر حسب الكاتب، النظرة السلبية لدى الرأي العام. حتى غدت بمثابة عدو حقيقي يهدد استمرارها، لذلك وجبت محاربتها والقضاء عليها.

لا تطور إذن ولا ازدهار للممارسة الأدبية، ولا تحول في الشأن الثقافي ما لم نعر الأخلاق قيمتها، قبل أي شيء آخر، يقول يقطين مشددا على الرأي: "يبدو لي أن الأخلاق السامية ضرورية في هذا المجال، وأن تغيبيها لزمان طويل، يبين فعلا أن "الأمم الأخلاق" وبدونها لا يمكن التطور أو التقدم، أو تحقيق العيش الكريم"(47).

على سبيل الختام
يمكننا أن نخلص إلى جملة من القضايا ذات الصلة بمسألة الأدب في المجتمع المغربي ومنها في العالم العربي.

- إن الكتاب تأملات فكرية، من إنسان مهتم وناقد متخصص، مطلع على مختلف النظريات والمناهج والتوجهات المرتبطة بالشأن الثقافي، وتخصيصا ما يتعلق منها بالشأن الأدبي. فنحن أمام طبيب يحاول أن يجد التجليات الحقيقية للمرض المستفحل في جسم الثقافة الأدبية بالمغرب، فيجتهد في تشخيصها وتعيينها بدقة، من أجل اقتراح العلاجات الضرورية التي لا يمكن أن تكون سطحية ولا جزئية أو ترقيعية (متحذلقة)، بقدر ما يهدف إلى اقتراح علاجات جذرية، تقف على أصول العلة ومسبباتها وامتداداتها القريبة والبعيدة.

- من هذا المنظور الرحب والمهموم، يصبح مفهوم الأدب، في الكتاب مفهوما واسعا وشاملا، له ارتباطات بعيدة عميقة، تمتد لتمس المجتمع والإنسان المغربي. فالأدب ليس تخمة فكرية، ولا عنصرا فنيا جزئيا تكميليا في حياة بعض الهواة من ذوي العواطف الرقيقة. بقدر ما هو واقع في صلب الثقافة الإنسانية، والوجود الانساني عموما. ولا اكتمال للإنسان ولا تحقيق لشخصيته أو هويته ما لم يكن على صلة بالأدب وعلى معرفة به. ولا يمكن أن يستغني كائن بشري عن روح الأدب، بوصفه تنمية للروح والجمال والإحساس والفكر لدى هذا الكائن البشري. وحيث إنه لا إنسان بدون روح، فلا إنسان من دون أدب.

- تأسيسا على ما سبق يغدو الأدب ركيزة المجتمع. فلا يمكن لهذا المجتمع أن يتقدم، أو أن يكون في مصاف الدول النامية المهتمة بالكرامة الإنسانية وبالتطلعات الخاصة لدى الكائن البشري. ما لم يُولِ الأدب مكانته المطلوبة في حياة الناس. إن الأدب جزء من الثقافة، وشطر مهم فيها. ولا يمكن أن تقوم للمجتمع قائمة، من دون ثقافة وفكر أدبيين، وكثيرا ما يقال: "قل لي كم عدد المبدعين عندك أقل لك من أي بلد أنت". لذا فالكاتب يبوّئ الأدب قيمته المستحقة في المجتمع. ويجعله من أهم العناصر المحددة لهويته بين الأمم والحضارات.

- الأدب ذو مفهوم تاريخي، وهويته تتحدد بارتباطه بالتاريخ. فلا يمكن أن تنهض ممارسة أدبية حقة ما لم تتأسس على معرفة اللاحق بالسابق، وعلى الإحاطة الشاملة والدقيقة بالهوية التاريخية للبلد.إن التاريخ بمثابة جنس أدبي عام، له قواعده ومعاييره ومميزاته وخصائصه، التي تشكل ظلالا لا يمكن للأدب أن ينهض، ما لم يفئ إليها. ومن يدعي الإبداع هنا والآن، بغض النظر عن ما سبق، يكن كغصن مقطوع من شجرته، مآله الموت والتلاشي.

- الأدب وثيق الصلة بالمجتمع. فهو ليس مجرد صورة عن المجتمع، كما هو سائد. بل إنه عنصر بناء للمجتمع، وهو أحد أبرز مكوناته و لبناته الرئيسة. فلا إبداع من دون انفتاح على البيئة الاجتماعية، ومن دون الإنصات لهواجس الناس وتطلعاتهم وهمومهم ومعتقداتهم، ومعرفة ومستوى عيشهم وأجناسهم وتقاليدهم وعاداتهم. فالأدب إذن وجه المجتمع وصورة عنه وكون له. وأكثر من ذلك فالمجتمع مؤسسة لها سلطتها الرمزية التي لا يمكن أن يتنكر لها الأدب. لذلك وجب أن يكون الأديب، مبدعا كان أو دارسا ومنظرا، مدركا لجوهر عمله، ومتسما بسمات الإنسان الاجتماعي؛ من انفتاح وتواصل وحوار وتواضع وصدق وخدمة وتعاون وحسن إنصات واستعداد لقبول الآخر.

- وفي علاقة هذا الأدب بالمجتمع، تتحقق الهوية الحقيقية للأدب، من خلال الاعتراف بكل الموروث الاجتماعي. فلا مجال لإنكار منتج من المنتجات أوجده المجتمع، من دون تمييز بين الثقافة العالمة و الثقافة الشعبية، بين المركز والهامش. لأن الثقافة الشعبية، أو ما يسميه يقطين ب:"اللانص"تعد كنزا ثمينا غنيا وثريا. على المبدع والدارس الانفتاح عليها. فالأدب من هذا المنظور، لا يميز بين ثقافة المركز وثقافة الهامش، ولا يؤمن بالعداء للشطارية أو الثقافة غير المتعالمة. لأن الأدب بحر روافده جميع ما ينتجه الإنسان.

- الأدب ذو مظهر سياسي، فلا سياسة بدون أدب والعكس صحيح. لأنهما من أساسيات الإنسان. إلا أن الممارسة الأدبية الحقة تفرض أن تكون السياسة تابعة للأدب، لا العكس. فعلى السياسة أن تشجع الأدب وتدعمه وتنصت إليه وإلا تحول الأدب إلى لقيط، وإلى لعبة في يد السياسة القذرة. وحتما سوف يفتقد جوهره الإبداعي وقيمته وحقيقته. ولعل مأساة الأدب أنه سيس أكثر من السياسة، وألحق بغيره بدل أن يلتحق غيره به. وهو سر إعراض الناس عنه، لفترات طويلة، لأنه لم يعد يعني الإنسان في شيء.

- الأدب ذو بعد شمولي، يمتد امتداد نظرية الأجناس الأدبية، وبالتالي فهو مؤسسة كبرى، لها قواعدها ومعاييرها التي تضمن حقوق عديد من الأنواع الخاصة. فالأدب إطار عام وشامل تندرج ضمنه تصنيفات صغرى، تفرض وعيا نوعيا وتخصصا في المنطلق والرؤية لدى المبدع، كما لدى الدارس (عالم الأدب).

إن مفهوم الجنس لا علاقة له، في مجال الأدب الحق، بما هو خارجي ذي صلة بالعمر أو العقيدة أو اللغة أو الجنسية. بقدر ما هو مؤسسة لها دستورها وقوانينها التي تتحدد وفق الصيرورة الزمنية، وتغير نفسها بنفسها تبعا لقانون النواميس الكونية في التطور. فالأدب له قواعده ومعاييره الخاصة التي لا يمكن أن يحاكم من خارجها. وكل نظر إلى الأدب من منظورات لا تراعي خصوصيته هو منظور ناقص، مصيره إلى الإهمال والتجاوز.

- الأدب وثيق الصلة بالعلم، ولا معنى لتلك الإطلاقات التي ترى الفصل بينهما. فكلاهما يرتبطان بالإنسان ويعبران عن حاجاته واهتماماته. كما أن الممارسة الأدبية الحقة، لا يمكنها أن تنهض على العشوائية والاعتباطية والارتجالية. وكل أمة نهض جانبها الأدبي فهي بالضرورة حكمت في ذلك الرؤية العلمية الدقيقة.

ولعل تمييز الدارس بين مفهومي الخطاب والنص كان أكثر إجرائية لأنه فصل بين الخطاب الذي يتم التركيز فيه على الجانب الداخلي البنيوي الجمالي للأدب. وبين النص الذي يفسخ المجال للارتباط بكل المعارف والعلوم الإنسانية ويسمح بتوظيفها في فهم هذا النص وتقييمه.

إن الأدب مع سعيد يقطين، مطالب بعلمنة نفسه، لا بمعنى أن يتخلى عن أدبيته، ولكن بمعنى أن ينظم أدبيته ويمنهجها ويجعلها قابلة لأن يقتنع بها المتلقي ويطلع عليها ويتعلمها. والأدب بهذا يكون صناعة وحرفة لها أصولها مثلما لها قواعدها المضبوطة والصارمة. ولا يمكن أن تتحقق نهضة أدبية ما لم يتحقق الإيمان بالعلم وبالتخصص. وما لم يكن هناك تجرد مطلق للذات، بعيدا عن كل مصلحة شخصية أو خاصة وضيقة لصالح الممارسة الأدبية، وقبلها الممارسة الثقافية. ولا خوف على الأدب من العلم، وما حصل من قطيعة ظالمة، اعتبرت الأدب رهينا بالروح والعواطف، وأن العلم بتقنياته وقوانينه وصرامته يمكن أن يمس جوهر الأدب بسوء، إنما هو افتراض يقود إلى سوقية الأدب وعبثيته وارتجاليته.

- الأدب ذو بعد أكاديمي؛ أي إن مراكز القرار الثقافي، من معاهد وجامعات ومدارس وغيرها من المؤسسات، مطالبة بأن تعنى بالأدب عنايتها بأشياء أخرى لا يقل عنا الأدب قيمة وشأنا. وإلا فإن الدرس الأدبي والإنتاج الأدبي آيلان للزوال وللضحالة. إن الأدب في المغرب لقد وصل الأدب في المغرب إلى ما وصل إليه، بسبب أن المؤسسات المذكورة استقالت عن مهمتها تجاه الأدب، و دفعت به نحو عتاقة غير مدروسة، وابتعدت به عن الدراسة العلمية وربطته بالمصالح الخاصة للمهتمين والمشرفين. فكان مصيره أن هوى إلى حضيض الاحتقار، يستدعي الرثاء من أهله وذويه، قبل الشماتة عدوه وخصمه.

- الأدب ذو بعد إعلامي، فلا يمكن أن تنهض ممارسته أدبية ما لم تجد لها الترويج الإعلامي الكافي. ولا يمكن للإعلام مكتوبا كان أو مسموعا أو مقروءا أو مرئيا، أن يحقق نهضة تذكر في مجال خدمة الأدب، ما لم توجد سياسة واسعة ورؤية تنطلق من استراتجية واضحة، تتأسس على النظر التخصصي للشأن الأدبي.

وما دامت السياسة الإعلامية ترى في الأدب ترويحا إضافيا واستراحة وهوايةـ وتقدم للجمهور أدبا، من دون التفات إلى نوعيته أو شكله. فإنها تساهم حتما في تراجع هذا الأدب، وتساهم في توسيع الهوة بينه وبين الجمهور.

- الأدب ذو بعد أخلاقي، ومن جانب آخر يبقى الأدب محكوما بالأخلاق من زاوية أن التعامل معه يجب أن يكون مستندا إلى أخلاقيات سامية؛ كالاعتراف والإيمان بالجميل، وحسن الإصغاء للآخر، ولو كان خصما، وإيلاء المنتج الجيد والأصيل قيمته بعيدا عن أي تعصب أو موقف مسبق أو حكم على الكاتب قبل إنتاجه. فكل شيء كانت له قيمة أدبية وجمالية مقنعة، وجب على المؤسسة الثقافية أن تتعامل معه وأن ترحب به، بغض النظر عن تدين صاحبه أو تحزبه أو مواقفه أو إيديولوجيته. إن المطلوب هو الانتصار للفن أو الأدب في ذاته لا في علاقته بأشياء أخرى.

والحاصل إن ثلاثية الأدب – المؤسسة- السلطة، تبقى مسألة واحدة في عرف الدارس. ذلك أن الأدب في صورته الإيجابية أو السلبية، إنما هو انعكاس مباشر وحرفي لطبيعة المؤسسة التي تثوي خلفه وتتحكم فيه، من خلال ما تمارسه من سلطة لصالح الأدب أو ضده. فالأدب صورة عن المؤسسة المتحكمة كما أن المؤسسة سلطة قاهرة وضاغطة، يمكن أن تفيد وتنفع في تطوير الأدب، كما يمكن أن تعوق و تعرقل مسيرته، وتهدد وجوده في الأصل.

-والمؤسسة مفهوم واسع عند سعيد يقطين. تشمل التاريخ والمجتمع والسياسة، بما هي مرجعيات، لها إكراهاتها الضاغطة على الممارسة الأدبية. فالتوجه الحزبي والاصطفاف الإيديولوجي مظهر مؤسساتي. بل إن الماضي، السحيق منه أو القريب، يعد بدوره مظهرا مؤسساتيا، ناهيك عن المؤسسة ذات البعد المادي، كالجامعة والوزارة، المكتبة ودور النشر.. الخ.

- للمؤسسة الأدبية فعلان متناقضان لكنهما لصيقان بها، فمن جانب قد تلعب المؤسسة دورا إيجابيا فتحرك الممارسة الأدبية وتشجعها وتدفع بها نحو التطور، وتجعلها في مستوى رهانات العصر. وفي الوقت نفسه يمكن للمؤسسة أن تؤثر سلبا على الممارسة الأدبية، فتضيق عملها وتحاصرها وتفرض عليها من الإكراهات ما ينافي الحقيقة الأدبية. هذا الأمر يساهم حتما في عرقلة تطورها وتراجعها. وهذا الأخير هو أبرز ملمح للمؤسسة في العالم العربي والمغرب تخصيصا، ويدعو حقا إلى الأسف والحسرة.

- يرتقي سعيد يقطين بالأخلاق إلى مستوى المؤسسة، بل إنه يجعلها فوق المؤسسة، باعتبارها مواثيق لسلطة معنوية يجب أن تتحكم في كل المؤسسات ذات الصلة بالأدب. وهي وحدها ما يضمن حفظ وترشيد الممارسة الأدبية. ولعل المقولة المأثورة "أدبني ربي فأحسن تأديبي" أن تنطبق على نوعية القيم الأخلاقية المطلوبة في التعاطي للأدب من لدن الآخرين. فلا وجود ولا تطور ولا استمرارية للممارسة الأدبية ما لم نتأدب في التعامل معها. وما لم تحكمنا قيم أخلاقية تبعدنا عن كل صفات الإنية السلبية والذاتية الضيقة المستحكمة في الواقع.

(باحث بكلية الآداب، تطوان)

 

الهوامش

(1) سعيد يقطين، الأدب والمؤسسة والسلطة، المركز الثقافي العربي، ط1، 2002.

(2) سعيد يقطين، الأدب والمؤسسة والسلطة، ص6

(3) نفسه، ص7.

(4) نفسه، ص10.

(5) نفسه، ص16.

(6) نفسه، ص21.

(7) نفسه، ص23.

(8) نفسه،ص30.

(9) نفسه،ص35.

(10) يمكن الرجوع إلى النافذة الإلكترونية:

http://www.yaktine-said.com/

للتعرف انشغالات الدارس الثقافية والأدبية النقدية:

من مواليد الدار البيضاء: 8، 5، 1955. دكتوراه دولة في الآداب من جامعة محمد الخامس، الرباط، المغرب.

أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. رئيس قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط (من 1997 إلى 2004).

أستاذ زائر بجامعة جان مولان، ليون، كلية اللغات، فرنسا، خلال الموسمين الجامعيين (2002-2003) و(2003-2004).

عضو اللجنة العلمية (كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط). عضو المكتب المركزي لاتحاد كتاب المغرب ( ثلاث دورات). الكاتب العام لـ" رابطة أدباء المغرب". الكاتب العام لـ"المركز الجامعي للأبحاث السردية". عضو الهيئة الاستشارية لشبكة الذاكرة الثقافية www.althakerah.net. عضو مستشار في مجلات مغربية وجزائرية. عضو اتحاد كتاب الأنترنت العرب.

جائزة المغرب الكبرى للكتاب برسم سنة1989 وسنة 1997، وجائزة عبد الحميد شومان (الأردن) للعلماء العرب الشبان سنة1992.

عضو في لجان تقويم طلبات اعتماد الماستر ووحدات السلك الثالث والدكتوراه على الصعيد الوطني (المغرب). عضو محكم في جائزة المغرب للكتاب، (عدة دورات).

(11) نفسه، ص37.

(12) محمد عابد الجابري، وجهة نظر نحو إعادة بناء الفكر العربي المعاصر، المركز الثقافي العربي الطبيعة.I 1992 ص109-134"

(13) عبد الرحمان منيف، بين الثقافة والسياسة، المركز الثقافي العربي، ط1، 1998، ص37.

(14) سعيد يقطين، الأدب والمؤسسة والسلطة، مرجع سابق، ص40.

(15) نفسه، ص47.

(16) نفسه، ص7.

(17) نفسه، ص50.

(18) نفسه، ص52.

(19) نفسه، ص54.

(20) نفسه، ص59.

(21) نفسه، ص60.

(22) نفسه، ص67.

(23) نفسه، ص71.

(24) نفسه، ص72.

(25) نفسه، ص76.

(26) نفسه، ص77.

(27) نفسه، ص79.

(28) نفسه، ص87.

(29) نفسه، ص87.

(30) نفسه، ص88.

(31) نفسه، ص89.

(32) نفسه، ص92.

(33) نفسه،ص98.

(34) نفسه، ص99.

(35) نفسه، ص103.

(36) نفسه، ص104.

(37) نفسه، ص105.

(38) نفسه، ص108.

(39) نفسه، ص110.

(40) نفسه، ص138.

(41) نفسه، ص142.

(42) نفسه، الإحالة رقم7، ص143.

(43) نفسه، ص151.

(44) نفسه، ص151.

(45) نفسه، ص155.

(46) نفسه، ص155-157.

(47) نفسه، ص162.