يكشف الباحث العراقي هنا بالاستعانة بحفريات فوكو المعرفية، ودراسات عالم الاجتماع الفرنسي الكبير بيير بورديو عن رأس المال الرمزي وآليات العنف الرمزي في المجتمع العراقي، وعن حركية فاعليته التي تتطلب تخفيه وتغلغله في الواقع وفي البشر على السواء، باعتباره أهم آليات السلطة في المجتمع العراقي.

تمظهرات السلطة وعنفها الرمزي

في المجتمع العراقي

محمد علي النصراوي

المقدمة :-

إنَّ العنف وبكل أنواعه يرتبط ارتباطا كليا بمفهوم السلطة كمفهوم ثقافي وعملي، حيث أن هذا المفهوم كان سائدا ومهيمنا بشكله التقليدي بأنه مرتبط بكل ما هو اقتصادي وإداري وسياسي، إلاّ ان الدراسات الحداثية غيرت من هذا الطرح السائد للمفهوم، وذلك باتخاذ المنحى المنهجي والمعرفي لمفهوم السلطة. وجعله متعشقا في جسد المجتمع، كبنية متماسكة، تخفي تحت طياتها سلاحها الخطير هي كونها مخفية داخل  الجسد الاجتماعي بشكل رمزي، وهي  من هذه الناحية تصبح أكثر خطراً وهيمنة  من وجهها المادي المسلح أو الظاهري . وهذا ما نلاحظه لمفهوم السلطة عند فوكو خاصة في الطب العيادي وتاريخ الجنون، إلى جانب مفكرين كبار من أمثال ماكس فيبر وبيير بوروديو اللذين غيرا من هذا المفهوم وذلك بربط دراساتهما وبحوثهما في مجال الحقل الاجتماعي وعلم الاجتماع الانعكاسي . مما أثارا في طروحاتهما سؤال المنهاج الشامل وذلك باجتراح ادوات تحليل الظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية في آن واحد . من هنا راح انشغالهما يتركز على العوامل الخفية وغير المباشرة التي تبث على شكل منظومة رمزية تكون أكثر تأثيرا وفعالية في أي مجتمع .

فإذا ما وقفنا عند التحليل السيوسيولوجي عند بيير بورديو نراه كان حريصا على ربط مفهوم السلطة كركن أجرائي جوهري في عملية التحليل بمفاهيم أخرى لا تقل اهمية كمفهوم النسق والحقل واللعب باستراتيجية ممنهجة كونية بشكل شامل، التي هيئها في صياغة نظريته لمفهوم السلطة الرمزية . ودراساته القيمة في هذا المجال تؤكد أن السلطة الرمزية تستند إلى اسلوب التورية والاختفاء، وإذا ما كانت هذه السلطة كذلك نلاحظ أنها لم تحقق غايتها وتأثيرها وتنفيذها بشكل فعال إلاّ بالتعاون الذي يجب ان تلقاه من طرف أغلبية الناس المعنيين بها، وهي كما يبدو للجميع أنها وهمية وليس لها اي تأثير .

يقول بيير بورديو: (أنَّ السلطة الرمزية هي سلطة لا مرئية، ولا يمكن ان تمارس، إلاّ بتواطؤ أولئك الذين يأبون الأعتراف بأنهم يخضعون لها، بل ويمارسونها)(1). من هذا المنطلق يكون تأثيرها اعمق واخطر لأنها تستهدف البنية النفسية والذهنية للمتلقين لها، كل هذا يكون وراء الخطابات التي تبث من وسائل الإعلام أو من المؤسسات الايديولوجية تحت غطاء الخفاء والاختفاء وراء حجاب أقنعة المألوف العادي أو ما يسمى بشرعنة القانون، وعلى وفق هذه المقدمة نرى أن مفهوم السلطة قد تشعب وأخذ مديات متعددة .

مفهوم السلطة :-

ففي المعجم الفلسفي لجميل صليبا أنَّ (السلطة في اللغة، القدرة والقوة على الشيء، والسلطان الذي يكون للإنسان على غيره، وهي بمثابة الأجهزة الاجتماعية التي تمارس من خلالها السلطة كالسلطات السياسية والتربوية والقضائية وغيرها)(2) . وأما في المعجم الفلسفي السوفياتيى فيعرّفها على أنها (إحدى الوظائف الأساسية للتنظيم الاجتماعي للمجتمع، أنها القوة الآمرة التي في حوزتها الإمكانية الفعلية لتسيير أنشطة الناس بتنسيق المصالح المتعارضة للأفراد أو الجماعات وبألحاق تلك المصالح بإدارة واحدة عن طريق الأقناع أو القسر)(3). وكما هو الحال عندما عرفها ج . بيتي : (من أنَّ السلطة هي القدرة على التأثير في الأشخاص ومجريات الأحداث باللجوء إلى مجموعة من الوسائل تتراوح بين الإقناع والإكراه)(4)

بينما نجد العالم الاجتماعي ماكس فيبر يعدُّ العنف هو الوسيلة الطبيعية للسلطة من حيث احتكارها وشرعنتها  للسلطة، معطيا ثلاث نماذج للسلطة وهي :

1 - نموذج تقليدي يستند إلى نفوذ الامس الأزلي، ويتمثل في سلطة الأعراف وقداسة الاعتقاد في السلف .وفي اعتقادنا أن هذا النوع من السلطة يقيم علاقة حميمية مع جسد المجتمع باعتبار المجتمع يعدُّ هنا الحاضنة الرئيسة أو الملاذ الثقافي لكل العادات والممارسات والسلوك والتقاليد والطقوس الدينية، وكل هذه الأنواع تمارس نوعاً من سلطة متخفية على أفراد المجتمع، تضع أمامه الحواجز من التاوبوات المحرمة، وأن أي خروج عنها يعد خرقا لها .

2 - نموذج السلطة الخارزماتية أو اللدنية المبنية على الاعتقاد الانفعالي في قدرات شخص استثنائي بسبب قداسته أو بطولته أو ميزاته المثالية .

وفي ضوء هذا النموذج المبني على الاعتقاد الانفعالي نجد المجتمع العراقي بعد سقوط العراق عام 2004 م، راح يبحث عن رموز استثنائية، رموزاً لبست ثوب القداسة، لها القدرة والنفوذ والصيت والمرتبة الدينية التي أهلتها لأن تتكلم باسم الإله، وبهذا الاعتبار راحت هذه الرموز تحتكر السلطة وتشرعنها بقوانين إلهية أو لاهوتية . شعارهم الوحيد هو (لا أحد يأمر ولكن الجميع يطيعون، علينا أن نتعلم الخضوع والطاعة وكلنا عبيداً لله سبحانه وتعالى)، وهذا ما يؤكده عالم الاجتماع جان وليم لابيار : فبقدر ما ينعزل مالك السلطة بحكم التميّز والتفرد يكون مجبرا على أنْ يكون قريباً من الآخرين حتى يلتحموا به ويجدوا أنفسهم فيه ولعل مجال السلطة من هذه الوجهة أقرب ما يكون من مجال السحر .

3 - السلطة القانونية المستمدة من الاعتراف بمعقولية التشريعات والقوانين(5) . إذ ان السياسة وبصورة عامة تمارس فعلاً خفيا في ممارسة سلطتها الرمزية المنظمة، وعليه فأن فواعلها الاجتماعية هم من يمثلون الأشخاص المحتلين في بث خطابها الإيديولوجي المنظم على شكل شعارات رمزية تمثل الأحزاب أو المكونات السياسية التي تتصارع فيما بينها في فرض سلطتها.  والأحزاب السياسية على العموم تمارس فعل الهيمنة على عقول بيضاء، تعدُّ بالنسبة للحزب مواد خاماً، حيث تنطبع مفردات خطابها بسهولة عليها، وذلك على شكل إشارات يبثها المحتل أو الفاعل الاجتماعي في الأوقات التي تصيب فريسته بالانبهار في تحقيق غايات الحزب، وهو ما يسمى بـ(الكسب الحزبي) والذي يعدُّ أحد النقاط المهمة في كل حزب ثوري ينادي بالاستقلال وبالحرية، والسلام، وجاء لينقذ البشرية من الجهل والفقر، ويرفع من مستوى الفقراء، وكل هذه الإشارات عوامل خفية يتلاعب بها المحتل أو الشخص الذي يمثل الحزب . وفي ضوء ذلك يتشكل لدينا نسقاً بورديوياً (نسبة إلى عالم الإجتماع الفرنسي بيير بوروديو) ينشغل بأهمية العوامل الخفية وراء حجاب من الإقناع، والإمتاع ثم الهيمنة مستغلين في ذلك عواطف الناس الدينية، وهذا النسق على اهميته العظيمة في التحليل السيوسيولوجي الذي يدشن في حقول عامة كالفن والدين والسياسة والاقتصاد والأدب والفلسفة والذوق واللباس، ينشغل بطرح سؤاله المركزي من أين تستمد هذه الحقول مشروعيتها في الهيمنة ..؟ ولماذا تخفي هذه المشروعية نفسها في بادئ الأمر تحت غطاء الخفاء والاختفاء، إلاّ أنَّ النسق البروديوي يفضح هذه اللعبة ويخرجها من ثقوبها السود، ليكشفها تحت النور الساطع، وعليه فأن حقيقة تلك الهيمنة تظل غائبة لأنها أصبحت جزءاً من حياة الناس اليومية، من هنا جاءت الوظيفة الأساسية لعلم الاجتماع لرفع النقاب عن حقيقة الهيمنة السائدة داخل المجتمع وتعرية أسسها الخفية واللينة  ..

الفرضية القمعية وإشكاليات تشكلها :-

يعرّف فوكو القمع (على أنه ليس مجرد منع، بل هو أقصاء وإسكات، وإعدام ما يجب قمعه بمجرد محاولة ظهوره وهو يعمل على وفق آلية ثلاثية من التحريم والتغييب والصمت، حتى أنه بإزاء الموضوع الذي يضربه القمع لا شيء يمكن قوله أو رؤيته أو معرفته)(6) فمن هذا التعريف نستدل على أنَّ القمع يُحرم الموضوع من فكرته والذات من قدرتها، أي أنه يمنع المعرفة كعلاقة إذا ما تجاوزنا مفاهيم الذات والموضوع، وأن دلَّ هذا على شيء فأنه يدل على أنَّ فرضية القمع تتنافى مع المعرفة المتشكلة من تكوينات تاريخية ومن وضعيات ووقائع تلك التي تكون الطبقات الرسوبية المتكونة من الكلمات والأشياء أو من الأبصار والقول أو ما يرى وما يقال، ويعدُّ مفهوم الجنسانية من المفاهيم المهمة التي تتبناها (فرضية القمع) ومبرراتها في ذلك ثلاث: أولها هو الحفاظ على قوة العمل ومنعها من التشتت في ممارسة المُتع باستثناء ما كان منها مقننا ومراقبا ومؤسسا على الأنجاب، وثانيها: هو سهولة تحليل القمع في غياب القدرة على تفكيك أليات الجنس وفاعلياته : وثالثها : هو أنَّ فرضية القمع تشــــــــرّع لخطاب تبـشيري حول الجنس)(7)

من هذا المنطلق نلاحظ هناك تعاضدا وتآزرا بين ملفوظة القمع وصورة التبشير الذي يحملهما (المثقف الشمولي) الذي يتكلم باسم الإنسانية والحقيقة والمستقبل، على اعتباره هو الوحيد مَنْ يحمل راية التبشير بغد مشرق، وذلك بوصفه صاحب الحق في شموليته المعرفية، وهذا ما يؤكده فوكو بأنه الوكيل الشرعي للكلية والمراسل الكفء للمطلق، ذلك الشخص الذي يقوم بتفلسف الأشياء لكي يقوم بالتبشير بمواعظه الخلقية، باعتباره مفكرا شموليا ومتأملاً تأسيسيا، فهو الذي يقول الحق ويمتلك الحقيقة ويجسد الشمول بأفكاره . هو نفسه يمثل وجه رجل القضاء والقانون الذي يواجه السلطة والاستبداد والتجاوزات والغطرسة .وعلى وفق هذه الطروحات الفوكوية نستبين ثمة فضاء يتشكل من ثنائية (الأخلاقي – القضائي) يتحرك فيه المثقف الشمولي يمنحه فرصة عدم التعامل مع السلطة بشكل مباشر، وهو الفضاء نفسه الذي يجعله يتمركز على هامش السلطة، لأن موقعه المتعالي هذا الذي أختاره في أن يكون خارج اللعبة، هو الذي يجعله يحكم عليها، من هنا يمكن القول أن المثقف الواعي والناطق بلسان المعرفة أختار مكانه المفضل هذا ليستقر فيه ليكون خارج السلطة، كي يعطي مواعظه وإرشاداته، والمعرفة التي أمتلكها تشجب الظلم وتبشر بنظام جديد .وهذا ما يسميه فوكو بـ(منفعة المتكلم) حيث تتعشق فيه وتتراكب وتتآزر قول الحقيقة والتبشير بالمتعة، وهذا بالضبط ما تخشاه السلطة على نفسها فتقوم بقمعه ونفيه أو قتله، باعتباره هو من يمتلك الزعم في قول الفصل .

وهذا ما يجعلنا أن نعيد قراءتنا مرة أخرى بشأن مفهوم (المثقف الشمولي) بوصفه صاحب الحق في قول الفصل، والفكرة التي يحملها المفكرون من هذا النوع على أنهم  موجهو الضمائر ومنتجو خطاب الحقيقة وعازفو نشيد الخلود، كالفيلسوف أو مفكر الأيديولوجيا أو الشخص الاستثنائي بسبب قداسته باعتباره رمزا دينيا  أو بطوليا أو مَنْ أمتلك ميزات مثالية الذي ألبسه المجتمع ثوب القداسة والقديسين، ذلك الذي يتمتع على قدرة رمزية مجتمعية على الإرشاد إلى الطريق الصحيح والتوجيه نحو العقائد، بحكم نفوذه الذي يتمتع به في المجتمع، هؤلاء جميعا هم ذاتهم  من الآن يصبحون موضوع السلطة وأداتها . ولكن العالم الإجتماعي بيير بورديو، يعكس المسألة على الوجه الآتي أن هؤلاء لا يستمدون قيمتهم ونفوذهم الطاغي في المجتمع إلاّ من غموض عباراتهم أنهم يستثمرون هذا الرمز الذي أسبغ عليهم المجتمع وجعلهم في مرتبة النموذج القدوة يتجاهلون أنهم كانوا في الماضي معرضين تاريخيا لكل ضروب الأقصاء والعسف والتقتيل . من كل ذلك يستنتج فوكو (إننا في زمن يجب أنْ تعاد فيه صياغة وظيفة المثقف المختص، لا أنْ تهجر رغم حنين البعض إلى كبار المثقفين الكليين القائلين نحن بحاجة إلى فلسفة، وإلى رؤية للعالم)(8)

إن فوكو يستعمل أركيولوجيته المعرفية من أجل تفكيك (فرضية القمع) والتشكيك بها، ويوجه الاهتمام إلى الممارسات الخطابية لاستثمار ملفوظات أعتاد عليها المجتمع، ويدخلنا في هرمونوطقيا تأولية متعددة، ذلك أن حقيقة أي ملفوظ ليس في إخراسه وجعله مغيبا، أو في الكلام الأخرس الذي تستخرجه عملية التعليق، بل أن حقيقة هذا الملفوظ أو ذاك قائمة في موقعها وفي استراتيجية المتحدث بها، بحيث أن السؤال لا يتعلق بما يقوله، بل بالذي قاله ولماذا قاله، ومَنْ الذي يتملك الخطاب، والغاية من استعماله؟ وهذا التشكيك هو ما يجرنا إلى جينيالوجيا الأخلاق عند نيتشه، وذلك في البحث عن ماهية القيم ودلالاتها، عندما تدخل في ممارسات خطابية من نوع معين، ولنأخذ ملفوظ (الزهد) فهو متعدد الدلالة، ولا يتمتع بالقيمة المعرفية نفسها لدى المتلقي ولا يشير إلى شيء معين، لذا فهو يوجه إلى متلقين متعددين، ليأخذ قيمته الدلالية حسب نوع متلقيه، فهو قد يعني شيئا لدى الفنانين، والفلاسفة والعلماء والمفكرين ومن أصحاب الرموز الدينية، ومنهم المفكر الشمولي، فهو أشبه ما يكون بالغريزة الدافعة إلى البحث عما يلائم روحانيته الرفيعة، أما عند النساء فملفوظ (الزهد) يعدُّ فتنة مغرية، أما بالنسبة لذوي الأجساد المنهكة يعدُّ سلاحهم ضد الألم والضجر، أما عند الكهنة والعرافين والسحرة يعدُّ أداة نفوذهم المفضلة، أما عند القديسين ومن أصحاب الشؤون الدينية الرفيعة فهو يعدُّ ذريعة لتحقيق راحتهم في العدم أي (الله) .وهذا يدلُّ أنَّ كل شيء قابل للتأويل، وكل دليل هو تأويل لدلائل أخرى، أي لا شيء يعطي ذاته بسهولة، وهذه التأويلات تنبثق من الإكراهات والإنحرافات في داخل الممارسة الخطابية، والشيء نفسه إذا ما أخذنا ملفوظ (الجنس)، فالجنس عموماً لم ينتظر التحليل النفسي وفرويد تحديداً ليعلن عن هويته، وهو على مدى الأزمان لم يتراجع ليبقى في الظل، وعلى الرغم من أنَّ اللغة تحرص كل الحرص على تطهير ملفوظاتها وتعابيرها ومراقبتها من أنْ تسمي الجنس مباشرة باسمه، نجد الخطابات الحديثة مدفوعة للإعلان عنه وجعل الجنس مقبولاً أخلاقيا وناجعاً ومقننا قانونيا في تنظيم المجتمعات . وفوكو من هذا الجانب يسعى عبر بحوثه في الاركيولوجيا ليرى ممارسة الناس عن قرب، وعلى ما هي عليه واقعياً، أنه لا يتحدث عن شيء آخر غير الذي يتحدث عنه كل مؤرخ، - بمعنى آخر عما يقوم به الناس إلاّ أنه في ممارساته الخطابية وخاصة في الطب العيادي يحزم أمره ليتحدث عنه بدقة، وبهذا فأنه لا يكشف لنا خطابا سريا خاصا بالجنس غير الذي نراه ونسمعه جميعنا .وما تريده منا (الفرضية القمعية) هو التحول من الكلام إلى الصمت لتخلق ممارسات خطابية خاصة معبأة بعبارات التغييب والاحتشام والمنع بلغة الصمت .إذاً لا سر هناك فكل شيء واضح لدى الناس . فرفض فوكو الجازم لهذه الفرضية جعله يقوم بعملية قلب كي يدعم تكاثر الخطابات بشأن الجنس، وحث مؤسسات جديدة للحديث عنه، ويدعوا الناس للإصغاء إليها والهدف هو دفع الجنس للاعتراف وبطرق مشروعة وبمتابعة مدققة للمتع، وعملية القلب هذه لا تتعلق بالتحريم والمنع والأقصاء إلى منطقة مظلمة ومجهولة، بل بالعكس اجتراح طرق أو سبل أخرى تقوم بتوزيع (الجنس) على سطح الأشياء والأجساد، وتجعله يتكلم، تزرعه في الواقع، كي تقول للناس هذه هي الحقيقة، حقيقة الجنس . بهذا المنظور يصبح الجنس كالنصب ينطق بأسمه، بعلاماته، بإيحاءاته، بدلالاته، فكأنه هنا والآن حياً خصباً متلألئاً، لا غائباً أو مغيباً، لا صامتاً أو مقموعاً .. ومع كل الذي ذهبنا إليه فأن قلب الفرضية القمعية من قبل فوكو لا يعني نقيضها، فالمجتمعات المعاصرة أتاحت للجميع وعن طيب خاطر الفرح والمتعة والمعرفة . إلاّ أننا نؤكد أن فوكو بقلبه لهذه الفرضية التي ينقدها، قد جعل من نفسه هو الآخر واحداً من المثقفين الشموليين، يمارس سلطته بعنف رمزي متخف في ممارساته الخطابية اتجاه المجتمع وعلى متلقيه ومريديه.

فرضية الثقافة الأمبريالية :-

لقد جاء مصطلح الثقافة الإمبريالية نتيجة أنتشار وسائل الإعلام الغربية وخاصة الأمريكية منها في أرجاء العالم كافة، وقد بين بعض المفكرين الماركسيين أن أنتشار وسائل الإعلام الجماهيرية للولايات المتحدة لعب دورا هاماً في نشر القيم البرجوازية، كي يتشربها الناس ولاسيما شعوب العالم الثالث التي تتسم بالتخلف والجهل وانتشار الأمية والبطالة وقلة الوعي الجمعي وجعلها بعيدة عما يحدث في مجتمعاتها، لذا كانت وسائل الإعلام تلك تنشر الأفكار الأيديولوجية الرأسمالية في جميع أقطار العالم وبالأخص منها تلك الشعوب، أن هذا الانتشار يسهل من عملية استغلالها وإيقاف مسيرة تلاحمها الطبقي وإعاقة وعيها عما يحدث من حولها من متغيرات على الصعيد العلمي أو التكنولوجي، من هذا المنطلق راح أغلب مبدعي الأعمال الفنية الشعبية في أمريكا لنشر قيمهم ومعتقداتهم، في العروض والبرامج التلفزيونية والأفلام والكوميديا، وأشكال أخرى من الثقافة الشعبية. وعليه نُلحظ أن ثقافات شعوب العالم الثالث سهلة الانضواء، لأنها لم تُدرك لما لهذا السلاح الفتاك من خطر على نسيجها الاجتماعي الذي يقوم على تفكيك الأسرة واستلاب العقول الضعيفة وسلب أموال شعوب العالم الثالث، والسيطرة التامة على ثرواتها الطبيعية، وجعلها سوقاً مستهلكة جيدة لبضاعتها .وفي الوقت نفسه نُلحظ أن الهيمنة الأيديولوجية الرأسمالية تقوض ثقافات تلك الشعوب التي تزعم أنها شعوبا هشة، وهدفها الأساس هو نشر الميوعة بين شبابها وابتعادهم عن الدرس العلمي والتنقيب البحثي، على وفق خطة استراتيجية أساسية لغرق تلك الشعوب في مستنقع من الجهالة، لسهولة السيطرة عليها، وذلك لهيمنة مراكز التسويق التجارية الكونية لتطويع وتشكيل الحياة في كل أرجاء الكوكب الأرضي . ولما لهذه الفرضية من أهمية قصوى على جعل الآخر سوقا مستهلكا لبضائع الدول المتقدمة الكبرى، نراها تعتمد اعتمادا كليا على فكرة أنَّ لوسائل الإعلام الجماهيرية قوة فاعلة ولها تأثير كبير على العقل الجمعي لتلك الشعوب الضعيفة، لأن هذه الشعوب تقوم على فض الرسائل المتضمنة في الأعمال التي تبث في وسائل الأعلام كل المسلسلات التلفزيونية، وأفلام الكابوي ورجل رعاة البقر التي أغرقت بها أنحاء العالم، وذلك لترسيخ مفهوم هيمنة الرجل الأبيض والصعود به إلى نموذج السوبرمان أو رجل الوطواط، أنه باختصار نشر ثقافة العنف وسيطرة القوي على الضعفاء المستلبي الإرادة . وعلى وفق ذلك تعدُّ الهيمنة أكثر انتشارا وأكثر تجريدا، فهي تدخل وتتغلغل في نسيج العلاقات الاجتماعية وتسيطر على حياتنا اليومية وعلى تصوراتنا .

العنف الرمزي الثقافي  :-

ونتيجة لما ذهبنا إليه في فرضية الثقافة الإمبريالية حاولت بعض الدراسات الحديثة الخاصة بالنقد الثقافي أن تكشف عن الأنساق المضمرة ومنها النسق السياسي الذي أصبح الوصي في تفعيل ما يريده من المؤسسة الثقافية، كي تخلق لها سياقاً ثقافيا معيناً وظيفته الأساسية هو استهلاك المتلقي والسيطرة التامة على جميع غرائزه الجسدية والروحية، ومن هذا المنطلق وضعت في حسابها التسويق الثقافي إلى كل شرائح المجتمع حتى تهيمن بشكل فعال على انتاج ثقافة مستهلكة تدر لها أرباحاً اقتصادية عالية، هذا من جهة، ومن جهة ثانية نلاحظ أن هذه السلطة الثقافية راحت تتبنى لنفسها خطاباً ايديولوجيا خاصا بها يمثلها في كل مؤسسات الدولة، ولهذا فهي تحارب أي غزو ثقافي يأتي من الآخر كي يقتحمها ويخلخل بنائها الفكري الثابت، ونتيجة لهذا الخطاب السلطوي المهيمن تولدت أدوات نقدية قائمة على اختراق خطابها الشمولي كالأحزاب التي تتبنى فكرة الإسلام والأسلمة أو بعض الأحزاب التي تتبنى فكرة الاشتراكية أو القومية  التي ضربت حولها سياجاً من التاوباوات المحرمة، والحد من إيقاف كل المتغيرات التي تنفتح على الآخر الذي يمتلك المعرفة، وبهذا المعنى فهي تريد أنتاج ثقافة مجتمعية قائمة باستهلاك المتلقي . أي أنها تضع أمام أعينها ما تريده الجماهير ذلك الذي يتماشى مع متطلبات السوق، وعلى سبيل المثال أنشاء قنوات فضائية تحاول بث خطابها الايديولوجي لتعبئة الجماهير حولها، كما تحاول بالقدر نفسه من بث أغان شبابية وبرامج معينة تحاول من خلالها تحشيش جيش كبير عاطل عن العمل، وذلك للسيطرة على غرائزه الجسدية والإيحائية لبروز ما يسمى بالمودة الجديدة، التي من شأنها أنتاج سلع استهلاكية لهذا الجيش العاطل من الشباب . أو بث المسلسلات الإيرانية والتاريخية لاستدراج عواطف أكبر شريحة من المجتمع وذلك للسيطرة التامة على عقولهم الروحية والعقائدية وبث روح الطائفية في صفوف الجماهير وكسبها لصالح خطابها الايديولوجي . من هذا المنطلق نُلحظ أنَّ المؤسسة الثقافية المهيمنة نريد أن تكون هي صاحبة القرار في تأسيس الجوائز القطرية أو العالمية مثل جائزة البوكر، أو جائزة نوبل للآداب، كي تفرش هيمنتها على السوق الثقافية، وتجعلها خاضعة تحت وصاية السياسي، وغايتها أن تخلق سياقاً ثقافياً معيناً يهيمن على عقول الناس وحجتها في ذلك، أن الجماهير هي التي تريد ذلك، فتأخذ تلك المؤسسات بنظر الحسبان التسويق الثقافي إلى أكبر عدد ممكن من القراء، حتى تهيمن وبشكل فعال على مؤسسات دور النشر العربية التي غايتها الأساس هو الربح الاقتصادي .

وغالباً ما نرى النصوص الأدبية المنتخبة من قبل لجنة التحكيم تكون خاضعة لمعيار فكري أو أيديولوجي معين، أي بمعنى أن هذه المؤسسات تقوم على إبعاد المعيار الفني الذي يتجلى في النص الحداثوي، أو نص ما بعد الحداثة، أو مابعد البنيوية، أو مابعد الكولونيالية، وتحل محله معياراً موضوعياً ينحاز إلى جهتها، ونتيجة هذا المهيمن الفعال تولدت أدوات نقدية قائمة على أستكشاف المضمر الأيديولوجي محولة النص أو الفعل الأدبي إلى خطاب أوسع، بحيث تلك الأدوات تتعدى الأدبية إلى أنتاج ثقافة مجتمعية قائمة على أستهلاك المتلقي .

وقد توصلنا في ورقتنا هذه إلى  الأستنتاجات الآتية :-

1 - أن السلطة أمر، ومن ناحية أخرى أنها تمثل واقعا اجتماعيا وهذا يؤكد قولنا بأن المجتمع يعدُّ الحاضنة لكل أنواع السلطات سياسية كانت أم غيرها وهي تؤدي مفعولها في داخل الجماعة باعتبارها ظاهرة اجتماعية .

2 - إذا كانت الدراسات الحديثة قد أكدت أن العنف الرمزي يعدُّ شكلاً من أشكال السلطة، فأن وجوده في أي مجتمع يكون على شكل بنية متماسكة تخفي تحت طياتها سلاحها الخطير هي كونها مخفية داخل  الجسد الإجتماعي بشكل رمزي، وهي  من هذه الناحية تصبح أكثر خطراً وهيمنة من وجهها المادي المسلح أو الظاهري .

3 - أن السلطة ومن خلال علاقاتها مع الآخرين يكون هدفها الأساس هو الحصول على خدمات الآخرين، أو الظفر بطاعتهم، وأذا ما بحثنا عن مصادرها بدقة نجدها متعددة كالثراء المادي والمركز الاجتماعي الذي يتمتع بهما شخص ما، أو قد يكون هذا المصدر متأتيا من وظيفته الحكومية، وقد نجده عند صاحب العلم والثقافة والفن .

4 - فالسلطة من هذا المنطلق تعدُّ ممارسة نشاطٍ على سلوك الناس، ولم يكن الإكراه أحدى وسائلها فقط فهي تريد تأمين الطاعة وتحقيق الاهداف بواسطة الحظوة أو الصيت أو الموقع الاجتماعي .

5 - هذا النوع من السلطة (والذي نقصد به العنف الرمزي ) موجود في جسد المجتمع العربي ومنه العراقي على وجه التحديد، باعتباره مجتمعا عشائريا، فمن يحظى بصيت طيب ومركز اجتماعي داخل عشيرته يحظى بالسلطة وينتخب نتيجة تأثيره الفعال داخل عشيرته، فتقوم هذه العشيرة برفعه إلى مرتبة النموذج أو القدوة .

6 - وعليه فأن حقيقة العف الرمزي للمجتمع تظل غائبة لأنها أصبحت جزءاً من حياة الناس اليومية، من هنا جاءت الوظيفة الأساسية لعلم الاجتماع لرفع النقاب عن حقيقة الهيمنة السائدة داخل المجتمع وتعرية أسسها الخفية واللينة.

 

مصادر البحث

)1)  الرمز والسلطة – بيير بوروديو ص / 52، نقلاً عن مقال (نظرية السلطة الرمزية عند بيير بوروديو – محمد بقوح) .

)2)  جميل صليبا : المعجم الفلسفي / دار الكتاب اللبناني، 1978 ص / 670  .

(3)   Dictionnaire philosophique. Ed . du  progress. Mouscon . 1985 . p/ 400

(4)  جورج بلاندييه : الأنتروبولوجيا السياسية / ترجمة – جورج أبي صالح – مركز الأنماء القومي، بيروت 1986  ص/ 37

(5)  ماكس فيبر : رجل العلم ورجل السياسة – ترجمة : نادر ذكرى – دار الحقيقة، بيروت – 1982 م ص / 48  .

(6)   M. Foucault. La volonte de savoir. P.10  

(7)   P.14  M. Foucault. La volonte de savoir.

(8)   ميشيل فوكو المعرفة والسلطة – عبد العزيز العيادي – المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع –  بيروت، لبنان / الطبعة الأولى 1994، ص/ 25  .