يسرد القاص المغربي تفاصيل حياة تبدو عادية للوهلة الأولى. تفاصيل عن رجل متعب يستضيفه صديقة في منتجع صيفي لتعرضه لكارثة لا يفصح عنها السارد. بل يركز في النص على المحيطة وإحساس الرجل بطبيعة حياة الطيور والفراشات الجارية والمتناسقة مع المكان والفصول ليفجر النص في سطره الأخير مما يعمق أحساس القارئ بمعاناة الشخصية ومحنتها

الجلسة الخضراء

محمد أنقار

تمطط فوق الكرسي الطويل؛ كذاك الذي يتمطط فوقه المصطافون في الشواطئ. اتكأ برأسه إلى المسند. أرخى ذراعيه ورجليه ومدّهما إلى الأمام. أرخى كل أطرافه، وطمح إلى أن يرخي حتى سويداء أعماقه. قال مناجياً:

- ذاك طموح صعب يتحداني منذ أكثر من ثلاث سنوات...

كان يجلس في ظل شجرة أجاص ورافة. أما الأرضية فمعشوشبة كالبساط الأخضر، تتوسطها نافورة ذات فورة ناعمة، محاطة هي الأخرى بحوض دائري يتلألأ الماء في عمقه كاللجين. وحيثما استقر نظره إلا وصادفتْه الخضرة. خضرة الأشجار، والشجيرات، والعشب المقصوص. خضرة مهيمنة؛ هنا وهناك، تتخللها بعض بياضاتِ جدران الفيلا وحمرةِ آجور السور المحيط بها. هي جلسة بمثابة خلاصة الربيع المنبث في عز الصيف. جلسة الطمأنينة في الداخل، مقابل صخب الخارج وصهده.

كان يَحْيى قد استضافه في مقر إقامته الشاطئية بالرأس الأسود. اتفق في ذلك مع لمياء؛ زوجته، بعد أن علم أن صديق المدرسة والشيخوخة يعاني انهيارا عصبياً حاداً. اقترح عليه أن يهرب أياماً من قهر الدار البيضاء وسجن الشقة، لعله يفلح بذلك في السلو عن فداحة الكارثة..

* * *

 خلال الجلسة الخضراء سرقته في اليوم الأول تلك الطمأنينة ورمت به في متاهات الشرود. أغوته غبطة الاسترخاء فطلبها، لكن جسدهُ المتشنج امتنع عن الاستسلام بسهولة. وتحسر كما لو يتنهد:

- رحماك أيها الجسد المثخن..

ثم ازداد الإغواء إلحاحاً فأردف:

- إن لنفسك عليك حقاً..

 إبّان الجلسة جاء طائر وحط على حافة النافورة الزرقاء. هل حطّ بغتة، أم جاء منساباً مع سائر سمات المكان المنسابة؟. المهم أنه انجذب نحوه وانصرف عن التحديق في الأركان والمنبَسطِ والكثافة. في البداية ظن الطائرَ حمامةً، لكن استرعى نظره رقةُ العنق وطوله الخفيف، فاستخلص أنها يمامة جاءت لتسـرق شربة ما بين العصر والمغرب. أما يَحْيى وزوجته فكانا قد انغمسا في المطبخ لإعداد شاي المساء فاختفيا عن نظره. وبقي في الانتظار وحيداً وسط المتاهـة الجميلة، في حين أخذت اليمامة ترشف رشفات رشيقة وحذرة أيضاً. ولم يدر لماذا استحوذ عليه منظرها بكل هذه القوة حتى انساق معه. فقد جعلته الخلوة والرشاقة يسمـع أصداء نزوات دافئة، فاختلطت عليه الرؤيا وتشابكت الخواطر. خلال هنيهات مترنحة شعر أنه ليس وحيداً، وأن إلفاً حميماً يؤنس خلوته. بل إن السكرات الدافئة أشعرته كأنما يشكل مع اليمامة مخلوقاً وحيداً. غير أن الإحساس الدافئ كان قصير الأمد حيث إن الطائر سرعان ما انتفض وحلّق.

وجاء يَحْيى ولمياء بصينية الشاي وطبق الحلويات. ثم انخرطوا جميعاً في أحاديث عن الخضرة، والزرقة المتبقية في سماء الغروب، ونسيم البحر الذي يُستشعر ولا يُلمس. ولم يشأ يحيى أن يعلّق على ما شاهده من أخبار دموية في "الجزيرة"، ولا عن الرياح الشرقية التي تهب على المنطقة فجأة فتتبعها الغيوم. كان يتحاشى مع لمياء تعكير الصفو، إلى أن جرهم الكلام إلى طيور الحديقة وفراشاتها وحتى حشراتها. وتساءل الضيف:

- لديكم أعشاشُ حمامٍ فوق السطوح؟..

صحّح يَحْيى:

- بل يمام. والأعشاش بين أغصان الشجر وليس في السطوح.

وبعد برهةِ صمتٍ استأنف الضيف:

- قبل قليل حطّت يمامة على حافة النافورة..

قال يحيى:

- ذات اللونِ البني المفتوح؟...

- والعنقِ الرقيقِ الخفيفِ الطول، والجناحين الرماديين.

- هي جارتنا إن لم أقل إنها واحدة منا. عشها في أعالي ذلك السّرْو. تعال وانظر...

وقاده يحيى إلى وسط الحديقـة، ثم أشار بسبابتـه نحو الأعلى إلى حيـث استقرت يمامة. وعلى الرغـم من علوّ قُنّة الشجرة وكثافة الأوراق والأغصان، استطاع الضيف أن يميزها:

- إنها هي.. بنحافتها ولونها القهوي الفاتح..

تم تدخلت لمياء فاستحضرت فجأة شذى حسون، وأخبرتهما بحيرة المطربة العراقية المغربية بين إجراء عملية تجميل على أنفها وعدم إجرائها، فغيرت بذلك مجرى الحديث تغييراً تاماً.

في جلسة مساء اليوم الآتي تكررت نفس الحكاية: الخضرة والطمأنينة، واليمامة والنافورة، مع فارق جديد تمثل في حضور قطة سوداء بغتة، بعد أن حطّت اليمامة على الحافة. كانت القطة قد توارت خلف حافة النافورة بحيث إن اليمامة لم ترها؛ ومع ذلك حدست وجود خطر قريب فحلقت إلى أعلى السّرْو. وتابعها الضيف رافعاً بصره نحوها وهي تحلّق، ثم وهي تستقر على القُنّة. وعلى الرغم من العلو أحس بفائض من الاطمئنان؛ بل وحتى بمشاركة وجدانية. قال:

- هي في الأعلى، فوق رأسي، وأنا جالس تحتها، كما لو نحن في غرفة واحدة..

وحتى بعد أن خفض بصره ظل إحساس المشاركة يلازمه. وتساءل في حسرة:

- آه لو تتكلم..

 ثم عاد من جديد ينظر إلى النافورة.

ثم جاءت فراشة تحوم فاستقرت على إحدى ركبتيه الممدودتين. وكان من اللازم أن يخضعها هي الأخرى لتأملاته. فقد لاحظ، إلى جانب وداعتها، لونها البني الغامق، مع خضرة في حافتي الجناحين. واستشعر غبطة غريبة وهو يقارن ألوان الفراشة واليمامة. قال:

- اليمامة على الأقل تهدهد، أما الفراشة..

 ثم أضاف إلى ذلك صمت الفراشة ورشاقتها التي لا تضاهى. بيد أن غبطة المقارنة لم تستمر طويلاً، حيث إن الفراشة سرعان ما عادت إلى الطيران من جديد، منسابة مع نسائم المساء العليل.

 ثم كاد أن يتمكن منه بغتةً شبـح الوحدة القاتـل لولا أن تذكر وجود اليمامة فوق رأسه. لكن رغم ذلك لم يرفع بصـره إلى الأعلـى مخافة أن يصيبـه دوار في هذه المرة. ولزمـه حينذاك أن يكتفـي بالخضـرة الناطقة حواليه، المنسقة، ولا شك، بيد بستاني ماهر. إلى أن أقبل يحيى ولمياء بصينية الشاي وطبق الحلويات.

وتكرر من جديد كلام يحيى الحذر، بينما انطلقت لمياء على سجيتها المعهودة. حدثتهما عن شميشة صاحبة برنامج الطبخ في التلفزيون، وأضافت إلى ذلك، أن هذه المرأة الجميلة قدمت بروعة القفطان المغربي الأصيل أثناء ظهورها الأخير في اليوتوپ.

* * *

وحلّ اليوم الثالث وأخذت ملامح التنغيص تتراءى في الأفق. من ذلك أن اليمامة لم يظهر لها أثر في تلك الأمسية، مثلما لم تظهر لا القطة ولا الفراشة. وتساءل إن كانت علة ذلك تعود إلى التقلب المفاجئ في الجو. وبدا كأن يَحْيى ولمياء استشعرا بدورهما تلك الملامح فحاولا جاهدين التصدي لها. وسمع الضيف من الكلام الجميل القدر الوافر في يوم ضيافته الأخير، لكن ذاكرته لم تحتفظ بشيء من ذلك. كان يدرك أن من آداب الضيافة ألا تتجاوز ثلاثة أيام. بعدها يلزم أن يعود إلى صخب الدار البيضاء وصهدها. ثم قال ما لم يرد لا يحيى ولا لمياء قوله:

- الظاهر أن غيوم الشرقي بدأت تتجمع..

 في تلك الأمسية هجمت بقوة ذكرى حادثة السير التي فقد فيها زوجته ونجا هو منها قبل ثلاث سنوات. وإزاء الهجوم الجائح للذكرى لزمه أن يوطد النفس من جديد على انتظار السحابة الكئيبة وهو في خضم الخضرة..