ترتكز هذه المجموعة القصصية حسب تناول الناقد المغربي على الاستعارة التي تتجاوز عند أحمد بوزفور السياق الأصغر والسياق النصي نحو السياق الأكبر حيث نكتشف كيف أن هذه المجموعة شيدت أفقها الجمالي على أسس معرفية غنية بمدلولاتها الإنسانية المفتوحة على آفاق وتأويلات متعددة.

مستويات الاستعارة في «نافذة على الداخل»

عماد الورداني

ظلت الاستعارة في بعدها التداولي لصيقة بجنس الشعر، حيث حاولت المصنفات البلاغية القديمة ضبط المفهوم من جهة تكونه وتفريعاته ومدى مطابقتها للواقع، ولأن الشعر هو اختزال للدلالة واقتصاد لجهدها فقد تكلفت الاستعارة بترجمة هذه الوظيفة. لهذا كان يصعب في الثقافة العربية الحديث عن الاستعارة خارج مدار الشعر إلا على نحو إعجازي في علاقتها بالقرآن الكريم، أما الاستعارة في الأجناس الأدبية النثرية فلم تكن مطروحة باعتبارها صورة جمالية لها قيمتها وحظها في التداول والتأثير، بل إن الاستعارة التي تجاوزت مدار الشعر ظلت مغيبة ومقصية. ولأن الإبداع هو لغة جوانية تترجم ما يعتمل في نفسية المبدع في علاقته برؤيته للعالم، فإن الاستعارة ستظل أحد الوسائل التعبيرية التي لاذ بها المبدع من أجل التخفيف من ثقل ذاكرته وتعويض نقصها بالاستعارة.

تنتهض مجموعة نافذة على الداخل لأحمد بوزفور على الاستعارة، فصاحب المجوعة فنان محترف، رسم حكاياه باللون والضوء والصورة، وعبر هذه الوسائط وغيرها حرر الاستعارة من قداستها وطهارتها بانتهاك أعرافها وتقاليدها الموروثة. إن الاستعارة عند أحمد بوزفور تتجاوز السياق الأصغر والسياق النصي نحو السياق الأكبر، وهي المحاور التي سنعمل على مقاربتها في هذه الورقة.

ـ1 الاستعارة والسياق الأصغر:
تكتنز الاستعارة عند أحمد بوزفور دلالات لامتناهية، فهي تحتاج إلى فعل التأويل لاستيعاب عناصرها النووية الكامنة في درجتها الصفر قبل أن تتحول إلى انتهاك للسنن الطبيعي. ويمكن التمثيل لذلك بالنص الجزئي ‘التراب/ص14 المنضوي تحت نص كلي هو ‘شخصيات خاصة جدا/ص10، ففي هذا النص الجزئي يتحول التراب من صورته المادية الجامدة إلى عامل يمارس فعلا حركيا، فهو أي التراب يبكي/ يتكاثر/ يربو/ يبلغ/ ينشج/ يعول/ يتوسل، وهي أفعال تحيل إلى الحواس وتنتمي إلى مجالين هما مجال الجماد ومجال الإنسان، وإن كان مجال الجماد يحتاج إلى قوة فاعلة منتجة للحركة.

إن الأفعال السابقة المرتبطة بالتراب باعتباره عاملا منتجا للفعل، نقلته من الطبيعة إلى الثقافة، وهو انتقال تجلى في البنية النووية للوحدة التلفظية ‘التراب يبكي’ وما جاورها، أي أنسنة التراب وتحويله من صورته الجامدة غير العاقلة إلى صورته العاقلة المتحركة على اعتبار أن المميزات اللاصقة للتراب تتعارض والفعل الذي أنتجته الذات، وهو التعارض الذي ولد الاستعارة، حيث شبه التراب بالإنسان وحذف الإنسان وعوض بما يدل عليه.
إن السياق الأصغر الذي أنتج الاستعارة يمكن فهمه في مستويين المستوى الدلالي الأحادي، والمستوى الدلالي الاحتمالي، ففي المستوى الدلالي الأحادي يمكننا أن نكتفي بالفهم المبسط للاستعارة ‘تشبيه التراب بالإنسان’، أما في المستوى الدلالي الاحتمالي، فنحن أمام دلالات احتمالية لا نهائية شريطة استحضار السياقات النصية وإيجاد القرائن التأويلية. على هذا النحو يمكن تأويل ملفوظ التراب عبر فتحه على نافذة الثقافة لإغنائه، فقصة الخلق ترجع أصل الإنسان إلى التراب، والتراب في الفلسفة الأيروفيدية الهندية تعتبره أحد العناصر المكونة للكون بما فيه جسم الإنسان، وهناك بعض الاجتهادات الفيزيائية التي ترى أن العظام الإنسانية تتشكل من التراب.
إن هذه القرائن الثقافية تجعلنا نستخلص أن التراب يحيل إلى الحياة كما يحيل إلى الموت، فإذا عوضنا ملفوظ التراب بإيحاءاته الاستعارية والموت أحدها، سوف ننتج دلالة تأويلية احتمالية هي أن الموت يبكي/ يتوسل.. إلا أن الذات الساردة تقاوم الموت/ التراب الذي هو جزء منها، بل إنها تقف حاجزا حتى لا يفنى العالم ‘لو فتحت فمي لغطى الترابُ/الموتُ العالمَ’. أما إذا عوضنا ملفوظ التراب بالحياة، سوف ننتج دلالة احتمالية أخرى: الحياة تبكي تتوسل، والذات الساردة تخاف على الحياة/ التراب من النهاية ‘لو فتحت فمي لغطى الترابَ/الحياةَ العالمُ، أي أن العالم يتحول إلى أداة حتف واغتيال للحياة والذات الساردة تمنع حدوث فعل الموت.
إن تأويلنا لملفوظ ‘التراب’ ونقله من دلالته الأحادية إلى دلالته الاحتمالية عن طريق الاستعارة كاد أن يكون مغاليا لولا ورود إشارات دالة على الهواء في نص سولارو، والماء في طفلة الماء، والنار على نحو تأويلي في نص الدودة، وهي النصوص الجزئية المشكلة للنص الكلي ‘شخصيات خاصة جدا’. وهذه العناصر حسب بعض الحضارات القديمة هي المشكلة لولادة الكون، وتبقى هذه العناصر غامضة سحرية، وأحمد بوزفور يستغل غياب المعنى لينتج دلالات استعارية احتمالية.
2
ـ الاستعارة والسياق النصي:
تسرد قصة المكتبة حكاية سارد عاشق للكتب، وعشقه لها سيعرضه للطرد من مكتبة الثانوية بتهمة سرقة الكتب والتحرش بعدما حاول فضح الأعمال المشينة لمحافظ المكتبة.
يبدأ النص بقول مسكوك ينسب لأبي جعفر المنصور: ‘كلكم طالب صيد غير عمرو بن عبيد’، وينتهي بالقول نفسه مع استبدال غير بحتى، ولا يمكن فهم غير’ الدالة على الاستثناء من الكل، ولا فهم ‘حتى’ الدالة على الكلية، إلا بفهم صيرورة التحول التي انبنت عليها المتواليات السردية خصوصا أننا أمام شاهد مأثور له سلطته الحجاجية التي يسترفدها من عتاقته.
إن تقطيعنا لمتواليات النص السردية يضعنا أمام فخ آخر يتعالق مع فخ القول المسكوك، وهو فخ ملفوظ ‘المكتبة’ بمشتاقاته ومرادفاته التي تتكرر بشكل مطرد وتصاعدي وتتخذ دلالات مختلفة، فالقول المسكوك المستشهد به ينتمي إلى كتاب جلبه السارد من مكتبة الثانوية، وكلما قرأ السارد كتاب المكتبة كلما اكتشف حكاية جديدة تختلف عن الحكاية السابقة، فقراءته الأولى تحكي قصة السندباد، وقراءته الثانية تحكي قصص الأنبياء.. هكذا يصبح الكتاب المعنون بالمكتبة مسؤولا عن توليد حكايات لا متناهية، تنتج وفق سياقات المكتبة ووضعياتها، حيث يتحول الكتاب من صورته المتعارف عليها إلى مشاهد حياتية تتجدد باستمرار، فكتاب المكتبة يسير في خطين متوازيين: المكتبة باعتبارها فضاء ماديا له حكاياه الاستعارية، والمكتبة باعتبارها كتابا مفتوحا على دلالات احتمالية واستعارية، لكن هذين الخطين يتداخلان فيما بينها، أي تتداخل المكتبة باعتبارها حيزا فيزيائيا بالمكتبة باعتبارها بعدا نفسيا، وهذا التداخل جعلنا أمام مكتبة متحولة ترصد مشاهد وحكايات متجددة، فحينما طرد السارد من مكتبة الثانوية، أصبحت الحياة مكتبة تضم العديد من المكتبات المشابهة لمكتبة الثانوية، ليقرر السارد وأد كتاب المكتبة الساحر والغريب في صندوق المهملات، مقابل التفرغ لكتابة اليومي عن طريق الجسد. لكن المفارقة التي ستنتشل السارد من كتابة اليومي وإعادته إلى بناء كتاب الذات تتمثل في رؤية الفتاة التي طرد من أجلها يوم عارض بيع جسدها في سوق المكتبة، وهي الرؤية التي دفعته كي ينفض الغبار عن كتاب المكتبة ليجده هذه المرة يتحدث عن السيرة القديمة نفسها.
إن المكتبة تتخذ أبعادا دلالية واستعارية متنوعة وهي كالآتي:
-
المكتبة الفضاء المادي.
-
المكتبة عنوان الكتاب المتجدد.
-
المكتبة الحياة بصراعاتها ومفارقاتها.
-
المكتبة سوق النخاسة.
-
المكتبة الذاكرة.
على هذا النحو تغدو المكتبة حاملة لأبعاد استعارية تختلف باختلاف تمثلاتها ضمن المتواليات السردية، بل إنها أي المكتبة ما هي إلا وسيلة استعارية تخضع للسياق النصي من أجل فهم الذات وإعادة تفسير ماضيها، فالمقول الذي يقع في البداية والنهاية ويبئر عمرو بن عبيد الفقيه الزاهد المعتزلي ما هو إلا استعارة للسارد، فهو حينما وعى حقيقته في علاقته بالفتاة التي طرد من أجلها حتى لا تباع في سوق المكتبة ويحتفظ بها لنفسه، أعاد قراءة مشاهد من حياته/ مكتبته، ليورط نفسه ضمن الكل بعدما كان قد نزع ذاته/عمرو بن عبيد عن الصيد/الحياة. هكذا يحلو لأحمد بوزفور أن يلهو باستعاراته تاركا لنا مساحات فارغة لنعيد فهم النص وفق رؤيتنا له، وهي رؤية تتسع كلما أشرعنا نافذة النص على التأويل.
3
ـ الاستعارة والسياق الأكبر:
إن نصوص ‘نافدة على الداخل’ ترسم عوالمها الحكائية باللون، وكأننا أمام لوحات تشكيلية تحتاج إلى طاقة تأويلية لفك جزء يسير من استعاراتها، حيث نلامس توظيفا محكما لطاقة اللون ضمن المحكي السردي باعتباره أفقا مفتوحا لإنتاج دلالات احتمالية لا نهائية، وهي الطاقة التي تتخذ تمثلات مختلفة ومتنوعة، تتجلى في تعدد اللون وتعدد سياقاته (الأخضر، الأزرق، الأحمر، الأبيض..) وتردد اللون كميا في السياق السردي يتخذ نسبا متقاربة، إذا استثنينا اللون الأخضر الذي يتكرر أكثر من ثلاثين مرة. وهذا التردد الكمي يستند إلى ما هو نوعي من حيث كونه سياقا متحولا، فهو صفة مميزة للإنسان (العين/ الشفتان/ الطفل/ الأحاسيس..)، وهو صفة لصيقة بالطبيعة (الأشجار/ الغابات/ الحدائق/ الماء/ الكون..)، وهو صفة معبرة عن الثقافة ( الإلهة/ الفرعونة/ الكتابة).
إن ارتباط اللون بالعين الخضراء حسب سياقه الأكبر (ونقصد بالسياق الأكبر التعالقات الحاصلة بين نصوص المجموعة)، يكتنز استعارات ذات أبعاد احتمالية، فهو يحيل إلى الجمال والحب الطاهر، بينما ارتباطه بالإحساس يجعله رديفا للذة والفرح، واللون لا يتخذ دلالاته الخاصة إلا حينما يرتبط بمدلوله، فيصبح صفة مميزة له تختزن حمولة استعارية وإذا وسعنا هذه الدلالات المستخلصة وفتحناها على سياقاتها الثقافية والفكرية التي أنتجتها أو أسهمت في إنتاجها قبل أن تتحول إلى تمثل جمالي يستبطن أبعادها، نستخلص أن اللون الأخضر هو لون النباتات والبحار، إنه لون الحياة الذي يستمد وجوده من الكلوروفيل وغيابه يعادل الفناء، وهو لون الإلهة فينوس أو أفروديت اللتين ولدتا في الماء، وهو لون الجنة، ولون القلب حسب تعاليم الطب الأيروفيدي، ولون القداسة في الميثولوجيات الشرقية، إنه لون الأنوثة.
إن ارتباط اللون الأخضر بهذه الدلالات، يجعلنا نحتمل إعادة تمثيلها ضمن المحكي السردي، فملفوظ ‘عيناها خضروان’ الذي يتكرر بشكل لافت وبارز، يختزل داخله بعضا من الدلالات السابقة، وكأن العينين عبارة عن نافذة تطل منهما الرؤية الحالمة بتحرير العالم والذات من الدمار والموت والحزن، إنه اللون الذي تسرب من العينين إلى السماء والبحار والغابات، وأعاد رسم الكون وفق فلسفته كما هو وارد في قصة الكهف.. إن الأخضر شبيه بالعنقاء التي تخرج من رمادها لتولد من جديد.
إذا كان الأخضر لون الماء، والأزرق بتأويلاته يحيل إلى الهواء، ويحيل الأحمر حسب الحضارات القديمة إلى النار (وهي الألوان المركزية في المجموعة)، فإن هذه التعالقات القائمة بين الألوان والعناصر الأربعة بما هي كل متداخل ومتشابك، وبما يحمل هذا الكل من دلالات احتمالية لانهائية بغموضها وسحريتها واستعارتها، يجعلنا نكتشف كيف أن هذه المجموعة شيدت أفقها الجمالي على أسس معرفية غنية بمدلولاتها الإنسانية المفتوحة، هكذا تضعنا استعارات أحمد بوزفور أمام نافذة بقدر ما هي متورطة في الذات بقدر ما هي مشرعة على الخارج.