تقترح (الكلمة) في هذا العدد، ديوانا شعريا أقرب لأنطولوجيا شعرية باختيارات الشاعر والإعلامي التونسي، الذي حاول تجميع مشهد من قصائد الحركة الشعرية الجديدة في بلده، غني برؤاه ونصوصه الشعرية بما تقترحه من تجارب خصبة تتلمس أفق القصيدة الكوني. ويمثل مقدمة لولوج عوالم التجربة الشعرية اليوم في تونس.

الأقدام أدماها الحصى والجبل قُرب الأصابع! (ديوان العدد)

عبد الفتاح بن حمودة

"ظل الشعراء الجدد مفردين «إفراد البعير المعبّد» ولكن بعضهم اختار الخروج عن السائد والمألوف نصا ورؤية وترك الآخرين من كهنة المعابد يسبّحون باسم الواحد الأحد في ليل بارد اسمه «ليل الأرامل والأيتام» على موائد اللئام.

انخرط هؤلاء الفتية المتصعلكون بالنص في شعرية مغايرة سلاحهم اللغة والرؤى والأخيلة المجنحة، فالشعر لديهم رؤيا قبل ان يكون شكلا هاجسهم البحث عن ثقافة بديلة لا يطغى عليها الزيف... التقيت بهم شاعرا وانسانا واقتسمت معهم سجائر بطعم الصنوبر وشايا ساخنًا بأوراق النعناع وأكلت معهم خبزا طريا معجونا بمرق الليل فكانوا عراة الا من كلماتهم الساخنة منذ سنوات وهم يعملون مثل خلية  نحل ويحملون مشاغلهم لوضعها فوق جبل الاولمب.

«ما يبقى يؤثثه الشعراء» هكذا تكلم الشعراء الجدد على لسان الشاعر الالماني هولدرلين من أجل جماليات جديدة تقطع مع الترهل وتنتصر للنور دحضا لوهم الاكتمال ودحرا لقوى الرجعية والظلام. سنحاول في هذا الملف رصد ملامح الحركة الشعرية التونسية الجديدة من خلال نصوص لأبرز أصوات هذه الحركة..."

عبد الفتاح بن حمودة

 

 

يوسف خديم الله

 

بطاقة بريديّة

ماذا سأهديكِ عندئذٍ ؟

القمرُ : درهمٌ مثقوبٌ.

الشّمسُ : أيضا.

 

الأشجارُ : ضلوعٌ أثريّةٌ يحجّ إليها خبراءُ الموتِ.

الرّبيعُ : في الرّزنامةِ.

 

العصافيرُ : ديناصوراتٌ أليفةُ.

ورأسي :

قارّةٌ سادسةٌ

يُطأطِئُها حِذَاء.

 

 

محمد جلاصية

 

برتبة رجل

كان طفلاً

يلعب الغمّيضة مع الملائكة

يلعب الورق مع الشياطين

يلعب الكرة مع الحائط

يلعب عريسا مع العروس الخشبيّة

صار رجُلاً

سيذهب إلى الجنديّة

سيتعلّم حلْقَ دموعِهِ بسرعة

سيتعوّد على رؤية النّجوم في الظهيرة

على أكتاف الجنرالات

سيحرس الجنديَّ المجهولَ من المجهولِ

 سيعود برتبة رجل.

سترى أمّه من الأصلح تزويجه أقربَ فتاة

بينما العروس الخشبيّة مازالت تنتظرعريسًا

ربّما سيكون هذا الطفل!

ربّما سيكون ذلك الرجل!

 

 

عبد الواحد السويح

 

روتين

عاد الربيعُ نفسُهُ بعدَ شتاءٍ قاحل ككلِّ الشّتاءاتِ

تحدّثْنا جميعًا عنِ الزّهورِ

وشاركْنا في المهرجاناتِ

وعادَ الصّيفُ

وعادتْ أحاديثُ الشّواطىءِ واللّيالي القصيرةِ

جاءَ إلى مدينتِنا فنّانُ السّنةِ السّابقةِ

بِنفسِ فرقتِهِ ونفسِ أغانيهِ

عادَ الجمهورُ إلى عربدتِهِ

عادت الفرقُ الرّياضيّةُ بِنفسِ أقمصتِها

وكانَ أبي وفيّاً كالعادةِ لِإحكامِ تسلّطِهِ

عادتْ _ لا أُطيلُ _ كلُّ التّفاصيلِ السّابقةِ

حتَّى حزني عاد!

 

 

ميلاد فايزة

(شاعر تونسي مقيم في أمريكا)

 

على حافة الأرض

على حافة الأرض

نزعت ملابسها:

القميص البنفسجي الخفيف

والبنطلون الدجينز

والسوتيان الوردي

وخيط رقيق من حرير الشجر النابت في سرة الأرض

 

بيدها البيضاء حركت قمرا خفيفا في الصورة

وأطفأت فوانيس النهار

أطفأت بكأس نبيذ آخر حركات الكائنات

وأثارت برأس لسانها عاصفة في المحيط

 

إثنان هما

بين رمل الشاطئ

وأبدية المحيط حول سان فرانسيسكو

 

إثنان يتماوجان

يتداخلان

يتقاطعان

يصرخان حين تنكسر الموجة

 

لا شيء على حافة الأرض

غير ملابس سقط عليها الليل

ورجل غريب يتأمل عريه في عيون امرأة سقطت من السماء. . .

 

فرجينيا . مايو 2010

 

 

رضا العبيدي

(شاعر تونسي مقيم في فرنسا)

 

أمطار التعارف

آناء اللّقاءِ الخاطفِ

تحت أمطار مفاجئة

كانت أسناني تتساقط متكتكة كساعة حائط

فيما كفّي الرّطبة البضّة

تحرقها النّجوم البرّاقة

في سماء المصافحات العابرة

وكان بطّ كثير يسبح في بحيرة التّعارف

مخلّفا الكثير من ريش أسود

تدفعه الرّيح إلى الحافات

وكان بمستطاع عينيّ الصّغيرتين

أن تلمحا عن قرب عبر غشاء النّعاس

مَنَاقير عريضة تنفتح

لتزدرد حبّات مطر

كان يشدّ بخيوطه الرّقيقة

السّماء

إلى الأرض.

 

 

فتحي قمري

 

أنّة بلا أخوات

أنّك قد تموت الآن،

أن يوقف قلبك فجأة عزفه الجنائزيّ الّرتيب،

أن تجتمع ظلال بلهاء كثيرة حول جثمانك المسجّى بلا جمال واضح،

أن تتباكى عيون غيابك النّهائيّ،

وتبكي عيون عيونَها كلّما حدّقت أفكارها فيك،

أن تتعثّر أمّك وهي تلاحق موكبك الأخير،

أن يذرف أب كسير دموعا لن تراها مطلقا..

.............................

.............................

بسيطة جدّا هي الكلمات،

غير أنّ طعم الموت فيها.

 

 

خالد الهداجي :

 

... حين كنت نائما

مثل طريق لا نهاية لها،

حتّى لا يطال البصر سوى السراب،

مثل ضوء ساطع حتّى لا تلمح سوى الظلام،

مثل شمس حارقة في العراء...

مثل ليل شتويّ في مدينة مقفرة،

حتّى لا ترى سوى خيالات باهتة،

مثل ستائر سوداء ونوافذ مطفأة،

مثل ذكريات قاتمة،

مثل ذاكرة جوفاء،

مثل رائحة كريهة،

مثل خيانات صغيرة،

مثل شياطين ملعونة ترقص بجنون،

مثل أشباح عارية تخرج من الخزانة،

مثل قطّ أسود يخرج من الجدار،

شيء مّا مثل كل هذا انتابني في تلك القيلولة،

العقرب الأسود الذي كان يدّب فوق جسدي النائم،

كان مقتولا بفردة حذاء أمّي.

 

 

محمد العربي:

 

لا أحد سيهتم بأمرك

لا أحد يهتم بأمر الكلاب التي أطلقت عليها رصاصة الرحمة

لا أحد يهتم بأمر قاتلها...

(أنت أيضا) لم يعد يهمك الأمر كثيرا..

فأنت كلب آخر قد يطلقون النار عليه في كل لحظة

أو ربما تصيبه سيارة مجنونة في طريق مجهول

أنت كلب آخر...

لا بيت له غير الشوارع يسكنها

لا عمل له غير التغوط والنباح

نهايتك ستكون مثل كل الكلاب في هذه المدينة

جيفة في مزبلة في شارع قذر..

ولا أحد سيهتم بأمرك...

 

 

زياد عبد القادر:

 

النّائمُ وحدهُ ليلةَ الميلادِ

مُزْنة ليل هطلت فوق سطوح الحيّ.

بجعٌ من ورق عُلّق في الساحاتِ. بالوناتٌ وثرياتٌ

في غرف الأولادِ.

أزواجُ المحترماتِ احتملوا شجر الميلادِ وعادوا ثملينَ.

' لِثلاثين من السنواتِ وأنتَ تراقبُ هذا المشهد:

في الرّكن أناجيلُك ملقاة وعصاكَ المسروقة من سوق الخُردِ المستوردةِ.

النائمُ وحدهُ قلّب ألبوم العائلةِ:

' لا خيط يدلّ عليكَ. لا بنتَ ولا ولدَ. لا خالَ ولا عمَّ،

لا أمَّ ولا شُبهة إنس.

من أنتَ إذن؟

من سيصدّق أنك لم تُولد؟

أنتَ كما أنتَ، أحطتَ سريركَ بالأشواكِ وأوقدتَ فتيلكَ،

لم يُوقد.

النّائمُ وحدهُ ظلّ يغمغم في غرفته:

' من سيجيئكَ في العاصفة؟

من سيدقّ عليكَ البابَ، يمرّغ وجهه في تربتك

ويدسّ هدية عيدٍ تحت مخدّتكَ؟ '

 

العالم قاسٍ وغريبٌ'!

اللّيلةَ تقرعُ أجراسٌ وتقامُ الصلواتُ لمولدكَ،

لكنك مازلتَ تنامُ وحيدًا

( لا بنتَ ولا ولــــــــــــــــــدَ).

غريبٌ هذا العالمُ حقّا:

لو أنّ صديقة ليل أو جارة حيّ طرقت بابكَ في العاصفة

لاكتشفت أنّ ابن اللّه ينامُ على مقْربةٍ.

مَن طرق البابَ؟

لا أحــــــــــــــــــــــــــدَ.

 

بمن يحتـــفلون إذن؟

 

 

صلاح بن عياد:

 

جرح تحت القلادة

يا أيّتها القلادة لا تبرُقي/ هو الضّوْء كاذبٌ/ كلّ ما على عُنق امرأة/ كصخب الحانة-كاذبٌ

يا جرحا تحت القلادة ويا كلّ الماء على الرّقبة/ من خان من السّحب الشّاحبة فوق كتفي؟

من خان حتّى يبرد المكان مثل طير لم يهاجرْ؟

أحاول تسوية صورة حائطية في الرّوح، من خان؟

يا قلادة مرميّة فوق الجرْح على عُنقها، من خان؟/ من خان من نمل الظّلمة السّائر؟/ من الصّراصير المتعجّبة لقمر يومض؟/ من السّرد الحاجب للمستقبل؟

من خان؟/ من كلّ الجزئيّات في فراشي الشّتويّ / أظلّ هنا أو هناك في الصّدى :

«من خان»/ في الضّوء عينيّ ولم أفهم بريقك يا القلادة/ أَ جُرْح على الرّقبة هو أم ابتسامة على ثَغْرها؟

يا كلّ الماء/ يا أغنياتِها الراسخةَ في الخشب/ يا كلّ امرأة أمرّ إلى فكرة تؤنّثها/ من خان القصائد التي لم أكتب؟/ من خانها فلا تأتي في زحام الماء/ القصائد التي أكتب/ من خانها في ضوْء قلادة لا يُكتب؟

 

 

عبد الفتاح بن حمودة

 

 شيطان الظّلّ

أقوم صباحًا لأصُبَّ شيئا باردا في جوفي

يقوم في العاشرة وهو يتلمّظ نورَ الشّمس

آكلُ شيئا مدهونا بمرق اللّيل

يأكل بيضًا مسلوقًا وقطعة خبْز

أشربُ مرتجفًا قهوةً سريعةً

يشربُ البرقَ، لا يُلوي على شيء

أمسكُ سيجارةً سابًّا أشجارَ الشّارع

يشعلُ بسعادة أعوادَ الكبريت

يسير معي أحيانًا

أسير وأنا أعدهُ بالحلوى والتّفاح

بعد أن نطير معًا

يهبطُ بمظلّة أحيانا

أهبطُ معه البحر واضعًا يُسراي على عينيّ

يغوصُ في بحبُوحة ماء الصّيف

أغوصُ معهُ ممسكًا بنار الطّحالب

أفعلُ كلّ شيء لطرده من جنّتي

وهو يفعلُ كلّ شيء لإرضاء غروره!

 

 

محمد الناصر المولهي

 

البدء

من أين تبدأ، العالم يبكي هو الآخر

العالم سردين فضيّ

أتُخجلُك الشّوارع الموبوءة أصلاً

أتُخجلك الخطى المغروسة في الرّيح..

لا تخفْ لست ذئبا آخر

أنت لا تعرف خيوط الدّم المرتعشة في الفجر

أنت كذلك تبكي

أعلم أنّك لن تبدأ

لكنّك مثل كلّ شيء تنتهي!

 

 

أمامة الزاير:

 

درج إلى أنامل سلفادور دالي

الإيقاع الاسبانيّ يخفق في الشّاشة.

أصابعُ متشابكة تركض في غابات الثّلج.

الأصابع التّي تنطلي عليها حيلة الإيقاع تطلّ خلف شراشف غيمة سماويّة

وتوغل في رقصة شبقة.

راقصان يلهجان بتراتيل النّساء

اللّواتي أرخين على صدورهنّ حبّات الرّمل والصّدف الأبيض

 مثل أيادي الله البيضاء تماما..

راقصان يكنسان البحر بأصابع سلفادور دالي

مثل منارة لا تخطئ اتّجاهاتها إلاّ في لحظة مارقة..

راقصان يستدرجان الضّوء المتعالي

ويصنعان كمينا لونيّا في حديقة الإيقاع الخلفيّة.

الرّاقصان يرقيان الدّرج إلى أنامل سلفادور دالي

ويسرقان من خطوطها أياد بيضاء..

 

 

أنور اليزيدي:

 

عابر النّهر

كيف أصل إلى الضّفّة الأخرى؟

كيف أعبر هذا النّهر الجارف؟

 

أثبّت عينيّ بتلك الشّجرة هناك، على الضفّة الأخرى وأسبح...

ضاربا مجراه بحوافره، يجرفني النّهر ويقتلع الشّجرة

 

سأكون أكثر واقعيّة (أي خشبيّا أكثر) كي أصنع قاربا.

من أين أجيء بالخشب؟

الرّوح ينهشها السّوس.

أيّامي (حسب جدول أعمال الموت) لا تكفي لصنع مجداف واحد.

ألن أعبر هذا النّهر؟

 

من فرط اليأس تخشّبت أحلامي.

(ما أقسى بسمتك أيّها الحظ... لكن هذا ما أحتاج إليه.)

من أحلامي المتخشّبة أصنع قاربا.

       

ما أقصر بسمتك أيّها الحظ...

لم يكن القارب سوى قلبي المثقوب.

 

الرّغبة في العبور تحرق ما أعددت من الخشب.

أتمرّغ في الرّماد حتى ينبت لي جناحان.

الآن سأعبر إلى الضّفّة الأخرى محلّقا فوق قرنيْ النّهر العاجزين.

سأضحك في الفضاء حتى تمطر قهقهتي.

سأتركها تمطر،

فأنا لست حقودا، أيّها النّهر

 

في الفضاء،

كلّما اقتربت من الوصول،

وكأنّي امرأة تكتشف للتّوّ أنوثتها،

يتحوّل الدّم قشّا.

كلّ رفرفة تضرم فيه النّارَ أكثر...

 

  جناحاي يحترقان.

  يتقيّؤني الهواء في النّهر سمكة.

لكنّي لن أصدّق ابتسامة الحظّ هذه المرّة...

أعرف أنّي لن أعبر هذا النهر.

فالسّمك لا يفكّر في العبور إلى الضّفّة الأخرى.

 

 

سفيان رجب:

 

العاصفة و الأوراق اليابسة

قال الجنديّ :

افسحوا قليلا

حتّى أصوّر الأطفال والنّوافذ

بمنظار بندقيّتي !

 

قال تجّار العاج للفيل :

أنيابك الطّويلة

لا تتناسق جماليّا

مع غليونك يا شيخ !

 

قالت الصّحراء :

من يركبني،

وأمنحه سرابا !؟

 

قال «أبو نواس» :

لا تسقني خمرا !

 

قالت الضّحية في فم التّمساح :

حرام عليك،

فتّتت قلبي

بعبراتك أيّها الحنون !

 

قالت الميثولوجيا الشّعبية وهي

تلاطف الضّبع في مغارته :

مدّ يديك للحنّاء !

 

قالت العاصفة

للأوراق اليابسة :

قاومي قليلا

 

وقال الموت:

من يسبقني

إلى المستقبل !؟

 

 

صابر العبسي

 

لا شيء آخر يحدث

لجأت إلى غابة اللّوز أشكو

برابرة هيّؤوا الخلّ لي

بدل الماء والسّمّ قبل الولادة

أشكو تلامذة يلعنون العروبة والمتنبّي

فأصغيت

أصغيت ملء قشعريرة

إلى طقطقاتٍ كما الفأس

قد خلتها في عظامي التي تمّحي الآن

لا شيء آخر يحدث : لا ...

إنّها الشّجرات تودّع أوراقها.

 

 

وليد التليلي:

 

طلل يبكي نفسه

الشّهيد الذي مرّت جنازته منذ قليل أمام البار،

المرأة التي تبيع دجاجاتِها في السّوق

لتعود بالسّجائر لزوجها،

الفتى الذي ودّع أمّه دون أن تراه

وخرج في أثَرِ البنت...

وحدك رأيت كلّ هذا،

أنت الكاتب الذي لا يقرأ له أحدٌ

تعرف كيف تنتهي القصص،

تعرف أنّ الكلّ بقي هناك، طللاً يبكي نفسه

على ما فات،

الشّهيد يبكي البلاد التي لم تتحرّر

المرأة تبكي شالها الذي نسيته في السّوق

الفتى يبكي ما فاته من حبّ،

وأنت تبكي القصص التي تكتبها في البار

وتتركها هناك...

 

 

نزار الحميدى:

 

 قرار

أتحدّث إلى النّاس الذين لا يجرحون النّاس

وإلى العصفور الذي يسرق القمح من الحقول

وإلى القطّ الذي يخدش الطّفلة الصّغيرة

عندما أقرّر الصّمت

سأنصت إلى العصفور الذي لا يكفّ عن التّغريد

ولا يختار إلاّ القُمَيْحة التي لن تعيش طويلا

سأنصت إلى القط  يخدش الطّفلة الصّغيرة

ويشرب الحليب،

ويقفز فوق الأسرّة،

ويضيع في أرجاء البيت،

وينام تحت الأغطية.

ولن أكلّمك أيها الموت الجشع

سأتحدّث إلى الطيبين فيشيرون بأصابع مرتعشة

إلى القطّ الذي دهسته بسرعة...

 

 

أشرف القرقني:

 

رؤيا

لوحة الحائط ارتعشت قليلا

سال النّبع على أرض الغرفة

ها أنا أمرّر وجهي فوق الماء

كي أسمع ما يهمسه الغصن المائل للقاع...

أتحلّل في اللّوحة

فأرى طفلا يشبهني، مشدوها في العتمة

يرسم نبعا في عينيه

ويصرخ :« آه! أين أضعت الغصن؟ »

 

 

صبري الرحموني:

 

قصيدة «جان دمو» الجديدة

إلى روح « جان دمو»

الرجال الطيبون يقتلون في المعارك

فيم المخنثون يحملون على الأعناق

تحت ضحكات القمر

«ميغيل ارنانديث » - مثلا-

مات مرميا في زنزانة متوحشة

بينما أصحاب المؤخرات المشبوهة يتغوطون

في النزل الفاخرة

..................... تلك هي الحقيقة

 

أنا «جان دمو » كوة باب العار

ضفادع في قاع البئر

«جان دمو » ذو السن الواحدة والقلب المليء بالريح والغبار

أنا «جان دمو » الكلب إبن الكلب

قرة الحانات والمقاهي

....................هذي حقيقة أخرى.

 

إذا أيها الصالحون الرائعون العظماء المحمولون على الأعناق

المتغوطون في النزل الفخمة .........

اغفروا لي كل الذي قلته

أيتها السموات الرحيمة اغفري لي خطواتي الكئيبة

ونومي كالزجاجة الفارغة في الساحات

أيتها الضباع التي تجلس الآن فوق الكراسي

وتبتسم في الشاشات

لا تتركيني جثة تتعفن وانهشي جسدي اللعين

كي أحس ولو مرة بالعدالةَ

 

 

السيـد الـتـوي

 

الغزال الصّغير

يقفز الغزال الصّغير عاليا

أعلى من حلمٍ طائشٍ

يركض بعيدا

أبعد من نظرة راعي غنمٍ آخر المساء    

عينُ الماء تمدّ رموشا فضّيّة لترى الغزال الصّغير مغمَضَ العينين

 أوراق «القْطفْ»* تخلع عنها رداء السَّكِينة

أسمع  صدى جرسها في بندقيّتي

 بندقيتي تنطّ مذعورة بين أصابع باردة

 يدها الحمراء تقرصني بقوّة

رفاقي أخرجوا من حناجرهم صيحات لعْنٍ

رشقوا ريشهم الأسود في عنقي

 شمس الصّباح تلمّع حبات الرّمل بفرشاة  ناعمة

عجلات السّيارة تمحو ملامح وجهها على الأرض.

في حين كان فرح الغزال الصّغير يٌلين قلبي القاسي.

 

البرجوازيّ الصّغير

هناك ....

في تلك الغرفة التي تملؤها رائحة السّجائر الرّخيصة،

في ركن باردٍ رغم ألْفتِهِ،

تحت نافذةٍ تتسلّل منها رياح الشّتاء الباكية.

 

الرّاكنُ في عزْلتِهِ،

يفكّر في امرأة،

وأطفال ينادونهُ: بابا،

ومنزلٍ فسيحٍ: كلّ شجرةٍ فيهِ حديقةٌ بأسرها.

 

الرّاكنُ في عزلتِه،

ها هو يضمُّ ركبتيْه إلى بطنه الخاوي

ويدخّنُ أحلامَهُ الصّغيرةَ

كمْ أخافُ على رأسهِ ذاكَ

أنْ يصبحَ مِنفضَةً.

 

شاعر وإعلامي بجريدة الشعب تونس