يرى الناقد المغربي أن هذا الكتاب الذي يدور حول تجربة الكاتب مع السجن لا يندرج تحت أدب السجون بل هو كتاب يدور حول نقد السجن في قالب يغلب عليه الطابع الساخر، عن طريق التقاط الدال في هذه التجربة، سواء تعلق الأمر بعينات بشرية، أو بمعجم السجن، وسننه الخاص الذي يشكل لغة موازية للغة المتداولة.

تمام يا فندم

عبدالرحيم مؤدن

مرت مدة، ليست بالهينة، على وفاة الكاتب الساخر (محمود السعدني)- وهو شقيق الممثل صلاح السعدني- سجين حكومات الاستعمار وحكومات الاستقلال الوطني-أقول مرت هذه المدة، وابتسامته المتوزعة بين شيطنة الطفل ووقار الشيخ، تزداد نصاعة وإشراقا ودلالة.في كتابه المعنون بالعنوان أعلاه، يحرص الكاتب على تقديم تجربة غنية بأسلوبه المميز، الذي يجمع بين الكلام والكتابة، بين الحوار والنظرة الثاقبة،بين السرد والتحليل.

يدور الكتاب حول تجربة السجن التي عاشها الكاتب في أوقات متباعدة، ومتعددة.

وللتذكير فهو كتاب لا يندرج تحت أدب السجون (الاعتقال)، بل هو كتاب يدور حول نقد السجن في قالب يغلب عليه الطابع الساخر، عن طريق التقاط الدال في هذه التجربة، سواء تعلق الأمر بعينات بشرية، عايشها الكاتب في السجن، ولعبت أدوارا مؤثرة في المسار السياسي واجتماعي للمجتمع، أو تعلق ذلك بمعجم السجن، وسننه الخاص الذي يشكل لغة جفرية موازية للغة المتداولة.

قبل ذلك، ما دلالة ‘التمام’ الواردة في العنوان؟’ التمام هو أهم شيء في السجن، أهم من النزلاء، ومن الإدارة نفسها..، ثم تتوالى اللحظات. وتبدأ الترابية في الانتشار عبر الأشخاص والقيم والمواضعات المتفق عليها داخل السجن.’الصول- رتبة عسكرية – ‘أمام ضابط العنبر، وضابط العنبر أمام البيه الوكيل، والبيه الوكيل أمام البيه المأمور، والبيه المأمور أمام البيه المدير…والكل يصرخ واحدا وراء الآخر ‘تمام يافندم’).ص.5.

الوصف الساخر لهذه التراتبية، ليس بعيدا عن بعض اللقطات العميقة من شريط ‘شارلي شابلن’ المعنون بـ’الأزمنة الحديثة’ الذي يتحول فيها الإنسان إلى كائن آلي، مستبعد من قبل الالة الجهنمية المعاصرة، في حين استبعد كائن ‘محمود السعدني’ من قبل نظام قاهر متوارث، قائم على تركيع الناس، بعد تعطيل حواسهم وعقولهم، وإخضاعهم لهاجس الرعب الدائم من قوة لاتقهر.

‘تمام يافندم’ تعني أن كل شيء على ما يرام، حتى وإن كان الأمر على غير مايرام.!’ الجدران لم يصبها الانهيار، والسقوف ليس بها شقوق، والأبواب في أحسن حال، والأسوار متينة.. وعدد المساجين لم يطرأ عليه أي تغيير..أقول عدد المساجين، لأن حال المساجين لا يهم أحدا على الإطلاق’ص.5.

وعبر ما يزيد على المائتي صفحة، انطلق الكاتب في تقديم شخصيات مختلفة توزعت بين المعلم، تاجر المخدرات، والطبيب المزور، بين الزعيم بالرغم عنه والكاتب الوهمي، بين الشيخ المدعي ولاعب الكرة المسطول، أي المخدر.

حالات تثير الرثاء قبل أن تثير الحقد أو الغضب، خاصة أن القاسم المشترك، الذي يجمع بينها هو انتحال ما ليس فيها- انفصام مقصود وغير مقصود أيضا- مادام المجتمع مبنيا على قواعد التزوير بمختلف مستوياته.

وحجر الزاوية في طبيعة الكتابة، تقوم على المفارقة الساخرة التي تبدأ بالنكتة العادية لتنتهي بالسخرية السوداء أو المرة. والمفارقة الساخرة تتنوع عبر الآتي:

1ـ مفارقة الموضوع: ومثاله الشيخ المزور الذي هو شيخ’ بالملابس فقط، وليس بالعلم، وهو يقرأ القرآن، أحيانا، ويردد التواشيح في المناسبات.’ص.165.

وينسحب هذا النموذج على نماذج أخرى شملت الطبيب المزور وغيره من النماذج.

2ـ مفارقة السلوك: وهو عنصر يتداخل مع العنصر السابق، غير أن مفارقة الموضوعات لا تؤدي، بالضرورة، إلى مفارقة المسلكيات. فالكثير من الموضوعات المتناقضة لم تمنع أصحابها من ممارسة سلوك يعكس اقتناعا بالوضع الجديد. فاللاعب المسطول يعتقد تمام الاعتقاد أن ‘لا شيء يجعل الكورة طوع قدم ‘الكابتن’ إلا والأنفاس المعطرة’ص.167.

إنه اقتناع حقيقي بضرورة استعمال المخدر أثناء ممارسة اللعب، بحكم عدم تناقضه مع السلوك اليومي للشخصية.

أما بالنسبة لمفارقة السلوك، فهي التي يتداخل فيها الموضوع بالسلوك، او الوضع النفسي بالتصرف الجسدي، مما يشكل نسيجا موحدا، أصبحت بواسطته الشخصية مقنعة بقناع ملتبس، يجمع بين ما هو كائن بما يجب أن يكون. فشخصية ‘طباخ الملجأ’ الذي تمنى أحد النزلاء الأطفال قتله لاهم له سوى قضاء (ربع الوقت في الطبخ وثلاثة أرباع الوقت في ضرب النزلاء.. بدون أسباب).ص.172.

3 ـ مفارقة المعجم: يزخر الكتاب بمعجم غني من الكلمات والمفاهيم ذات الدلالات الساخرة. واستعمال محمود السعدني- أو الولد الشقي- للغة خاصة، يمنح الملفوظ الساخر دلالات عديدة. يوضح المعجم التالي بعض عينات هذا المعجم:

الكلمة العادية الصياغة الجديدة

القات ‘نبات مخدر’ ‘برسيم البني آدمين’ ص.71.

والصياغة تجمع بين الحيوان

والإنسان لحظة التخدير.

حي المهندسين دكاكين المهندسين.ص.177.

لاعب بملابس الكرة لاعب بملابس النوم.174

حكام بصفافير وحكام يستخدمون أصابعهم لإطلاق الصفارة.174.

فرق توزع برتقالا فرق توزع سجائر.174.

الحكومة امرأة لعوب. ساعة معاك وساعة ضدك.172.

‘ شرها كبير وهي ضدك، وشرها أكبر وهي معك.’ص.172.

الحرية ‘هي الشارع الذي لا ينطفئ فيه النور ليلا أو نهارا’. ص.173.

ويأخذ هذا المعجم ابعادا مختلفة، عندما يتحول إلى صيغ ذات لبوسات حكمية،مغلفة بسخرية ضاحكة كالبكاء على حد تعبير المتنبي. ولعل هذا ما جعل من السجن ميدانا فسيحا للصعود الاجتماعي، أو للنزول أسفل سافلين. فالكثير من السجناء غادروا السجن بأوضاع اجتماعية ومهنية يحسدون عليها. والكثير منهم- من ناحية أخرى- دمر تدميرا مما دفع بالكاتب إلى تكرار القول: ‘إن أقبلت باض الحمام على الوتد، وإن أدبرت بال الحمار على الأسد’. ص.168.

من هنا مارس الكاتب تحويل البنيات اللغوية، والتعابير السائدة، لتصل أوجها في لحظات درامية مؤثرة. فالسجين لا يتحدد قدره من خلال سلوكات السجناء والسجانين فقط، بل إن وضعه يتجاوز مرحلة وجوده، حيا، داخل السجن، ليصبح ‘بعد ثلاثة أيام داخل المشرحة من نصيب الفئران التي أكلت أصابعه وأنفه وجزءا من لحم وجهه./.

 

كاتب وباحث من المغرب

 

محمود السعدني: )تمام يافندم(. مطبوعات أخبار اليوم