يعرض الكاتب الأردني لكتاب يسرد لنا فيه الضابط المغربي أحمد المرزوقي تجربة سجنه التعسفي طوال 20 عاما في معتقل الموت والهلاك "تزممارت" الذي صار رمزا لكل انتهاك صارخ لآدمية الإنسان، ووصمة عار على جبين الإنسانية.

وصمة العار.. تزممارت

قراءة لكتاب تزممارت (الزنزانة رقم 10) لمؤلفه أحمد المرزوقي

زياد الوهـر

لا شك لدي أبدا من أن هذه الرواية الحقيقية المؤلمة قد كتبت بحروف من دموع ودم. فمنذ الصفحة الأولى وحتى الأخيرة ستشعر بالنار تشتعل في صدرك غيظا وكمدا من الوحوش الآدمية التي انتزعت من صدورها الرحمة؛ فمارست بكل تسلط وجبروت كل أصناف الظلم والقهر والإذلال لبني البشر. فالرحمة حين يفقدها الإنسان حتما سيتحول إلى آلة حصاد للبشر تنزع في طريقها الأخضر واليابس بدون إدراك أو تمييز.

جاء الكتاب فيما يقارب 450 صفحة من القطع المتوسط، يسرد لنا فيه الضابط المغربي أحمد المرزوقي؛ بكل حسرة، تجربته مع السجان في المغرب طوال 20 عاما من السجن التعسفي في معتقل الموت والهلاك "تزممارت"، فيما أصبح هذا الاسم ملازما لكل انتهاك صارخ لآدمية الإنسان، ووصمة عار على جبين الإنسانية وأدعياء الحرية والديموقراطية.

قدم للكتاب الفرنسي إنياس دال والذي قال أنه التقى بالمرزوقي في العام 1993 في مقر الوكالة الفرنسية للأنباء ليتبعها بعده لقاءات عديدة وضعا فيه مسودة الكتاب باللغة الفرنسية، وكان ذلك ليقين المرزوقي بأن الكتاب لن يسمح بنشره داخل المغرب. ولقد تعرض كل من المرزوقي ودال للضغوط لعدم نشر الكتاب وتم احتجاز المرزوقي مرة أخرى في صيف 1995 من أجل استجوابه وتهديده بعدم نشر الكتاب، ويقول إنياس: "ولهذا لم أمتثل للصمت. أصمت عن ماذا؟ ولأي سبب؟ كنت أعتقد أن منتهى الفضيحة والعار هو أن يُحرم إنسان كُوي بالحديد المحمي لإطلاق صرخة ألمه، ولا سيما أن شهادته لم تكن.. تصفية حساب أو تهجما".

ولكن بعد أن تولى الحكم العاهل محمد السادس وإقصائه لإدريس البصري، تغيرت معطيات المشكلة تماما، فسمح لزميل المرزوقي؛ محمد الرايس بنشر شهادته في جريدة الإتحاد الإشتراكي. وفي أكتوبر 2000 عوضت الحكومة المغربية الضحايا وسمحت لفعاليات المجتمع المدني بزيارة مقبرة تزممارت للإطلاع عن كثب على أسوأ  كارثة إنسانية تمس المغرب في العصر الحديث.

كان الملازم الثاني أحمد المرزوقي ضابطا في الجيش المغربي برتبة ملازم، ويمضي فترته التدريبية في مدرسة أهرمومو العسكرية، وكان على رأسها المقدم "امحمد اعبابو"؛ والذي كان بفضل دهائه وصرامته وقدرته على العمل المتواصل الدؤوب، وخصوصا شجاعته الكبيرة وطموحه اللامحدود، أحد أبرز الضباط في الجيش، بدليل أن القيادة العليا كانت تشركه دائما في المناورات الكبيرة للجيش المغربي.

كان اعبابو يدير شؤون المعسكر بحنكة عسكرية وبصرامة قل نظيرها، ومن المؤكد أن الضباط كانوا يخشونه خشية كبيرة ويحسبون له ألف حساب. خطط اعبابو بطريقة ذكية للانقلاب على الحكم الملكي وذلك من أجل قتل أو أسر الملك المغربي الحسن الثاني في قصر الصخيرات. وقد قام هذا الضابط المغامر باستدراج كل الضباط والمجندين في هذه الثكنة وأوهمهم بعد أن اقتربوا من القصر بأنهم أمام مهمة وطنية تتطلب تدخلهم لمنع حدوث انقلاب على الملك..  وفي اليوم العاشر من تموز/ يوليو 1971 وقع المحظور، فاقتحم الجنود القصر الملكي ودارت فيه معركة ضارية مع الحراس وقع على إثرها العديد من القتلى من الطرفين، وتم أسر مجموعة من الأسرة المالكة وحاشيتهم التي صادف وجودها في القصر، وباشر الضابط المتهور البحث عن الملك بدعوى حمايته من الانقلابيين صارخا "عاش الملك! لنهاجم الخونة" من أجل إتمام فصول المسرحية الدرامية، إلى أن سقط جريحا بطلق ناري أصيب به من أحد الضباط المدافعين عن الملك، فانهار على إثرها الهجوم المباغت على القصر، فيما أدرك جنوده وضباطه الكارثة متأخرين جدا.

ومن هنا بدأت المأساة، يقول المرزوقي، حيث قام الجيش بقتل مائة وأحد عشر ضابطا وتلميذا عسكريا في وقت وجيز من الضباط والجنود المستسلمين بكل برود وبدون أي مبرر، ومن بقي منهم تم سوقه للمعتقلات إلى أن تم محاكمتهم بالخيانة العظمى في محكمة عسكرية صورية بالرغم من براءتهم التي كانت واضحة لا ريب فيها. حُكم على بعضهم بالإعدام والبعض بالسجن ما يتراوح بين السنة والمؤبد وفق التهمة التي أعدت لهم سلفا. وليت القصة انتهت فصولها هنا.. ولكنها كانت البداية لرحلة طالت عشرين عاما مظلما!

وبعد أن قضوا جزءا من سجنهم في سجن القنيطرة والذي واجهوا فيه مختلف أنواع التحقيق والتعذيب والإذلال، تم سوق المساجين وبمخالفة صريحة للقانون إلى معتقل تزممارت في أغسطس 1973، والذي يقع في مكان ما من الصحراء المغربية، والذي رغم شيوع اسمه استمرت السلطات المغربية تنفي وجوده لعقود. تم نقل المساجين مع مجموعة من الطيارين الذي حوكموا لاحقا أيضا بسبب محاولة الانقلاب الثانية الفاشلة التي تمت بترتيب من وزير الدفاع حينها؛ الجنرال محمد أوفقير في 15 آب/ أغسطس من العام 1972.

كان سجن تزممارت عبارة عن بنايتان مستطيلتان مسقفتان بالزنك جدرانها رمادية مائلة للسواد طول كل بناية ما يقارب 40 مترا وعرضها 10 أمتار ومحاطة بسور من جميع الجهات في كل زاوية منه برج للمراقبة. كانت كل بناية تحوي 29 زنزانة، وكان نصيب المرزوقي الزنزانة رقم عشرة. كانت الزنزانة عبارة عن علبة ضيقة من الإسمنت طولها 3 أمتار وعرضها مترين ونصف وعلوها 4 أمتار وتسبح في ظلام مطبق ليل نهار. وكان السرير عبارة عن دكة عارية من الإسمنت، ويقول عنها المرزوقي بلسانه: "كانت لنا بمثابة سرير، ولكن أي سرير؟ صقيعي في الشتاء، وحام في الصيف، قضينا عليه 6550 ليلية.. نعم.. 6550 ليلة بطول ساعاتها في البرد القارس وعرضها في الصيف اللافح". وأما المرحاض فحدث عنه ولا حرج فقد كان عبارة عن فتحة صغيرة جدا زادت من عذابهم طوال ال 17 عاما في تزممارت وحدها. ولا بد لي أن أؤكد أن كلمات المرزوقي ستكون أبلغ ألف مرة من كلماتي التي استعملتها لوصف حاله وزملائه في السجن، ولذلك سأحرص على استعمال كلماته قدر الإمكان وبتصرف محدود لتعيشوا معه في الأجواء الجهنمية التي قضاها في تزممارت. يقول المرزوقي: "يجدر بي أن أشير بأننا لم نأخذ ولو مرة واحدة حماما ساخنا طول ما يقرب من عقدين من الزمن". أما بخصوص اللبس، فيقول: "فمعلوم أننا قدمنا إلى تزممارت في فصل الصيف ولم نحضر معنا من معتقل القنيطرة إلا بذلة السجن الصيفية.. وقد مرت علينا ثلاثة أعوام قاومنا فيها البرد الشديد بهذه الثياب التي تمزقت منذ الشهور الأولى فلم يأبه المدير لذلك، وتركنا نظهر للحراس كلما فتحوا علينا الأبواب بعورات مكشوفة". وأما الفراش فكان عبارة عن لحافين باليين ممزقين قذرين تفوح منهما رائحة الخيل والبغال والحمير معا، والتي تقزز منها السجناء في السنوات الأولى حتى وصل بهم الحال إلى أن طغت روائحهم على روائح الفراش.. فيقول: "قد توصلنا بفضل تجربتنا الكبيرة في مجال الروائح الكريهة أن لا أخبث ولا أنتن إطلاقا من رائحة الإنسان حين يرد إلى الحالة البهيمية.." هذا الحرمان من أبسط وسائل النظافة جر علينا أمراضا لا حصر لها كانت كفيلة بأن تشغل جيشا من الأطباء دهرا طويلا". وأما بخصوص الطعام فأستطيع أن أقتبس هذه العبارة من الكتاب والتي تلخص المعاناة بأكملها: "كان النظام الغذائي الذي خضعنا له في تزممارت، ورغم الجوع المفرط الذي نزل بنا إلى أحط المستويات الحيوانية.. فقد كنا نصل أحيانا إلى حد الغثيان ونحن نحشو الطعام في أفواهنا، ماسكين أنوفنا بأصابعنا كمن يرغم على أكل جيفة ينهشها الدود.. كان الطعام لا يخلو من قشر البيض، ومسامير مختلفة الأحجام، وخيوط قنب، وأسنان مشط، وسيور أحذية مع كمية دائمة من الحصى والتي قضت على جل أسنانا قضاء مبرما".

ويستمر المرزوقي في سرد فصول مأساته، بدءا من المرور بالتفصيل على أسماء زملائه المسجونين وموقع كل منهم في عنبر السجن، كان عدد المسجونين 56 مات منهم 23 فيما نجا من هذا الجحيم 28 شخصا خرجوا نصف أحياء. ولقد وصف خلال شهادته نهاية كل ضحية من الذين ماتوا موتا بطيئا بلا رحمة أو أدنى إحساس بآدميتهم، وأسهب أيضا بوصف السجانين والذين صنفهم إلى الحراس الطيبون، والجلادون وبخاصة مدير السجن الجلاد الكبير والمنعدم الإنسانية والذي أعطيت له جميع الصلاحيات ليفعل بهم ما يشاء، بشرط أن تكون نهايتهم نهاية منكرة. ونقل المرزوقي للقاريء بكل ألم ذكرياته مع البرد القارس (جهنم الباردة) في تزممارت وحر الصيف اللاهب، والجيوش الجرارة من الصراصير التي كانوا يلتهمون بعضها في الظلام الدامس ظنا منهم أنها قطعة غضروف نسيها السجان في ما كان يسمى "المرق".

وأما أكثر ما آلمني وأبكاني في هذا الكتاب قصة موت محمد لغالو البطيء والذي أسماه الكاتب (أيوب تزممارت)، ولكني وبكل صراحة لا أستطيع أن أوجز بمفرداتي اللغوية التعابير التي استعملها المرزوقي في كتابه، نظرا لعظمة الخطب وهول المأساة. وأما لحظة لقائه مع والدته .. فتلك حكاية أخرى أترك لكم فيها المجال لاكتشافها من خلال قراءتكم للكتاب.

نعم تجربة إنسانية لا تتمناها لعدو فما بالك بأخ لك في الوطن والدين واللغة. وبالرغم من كل الليالي الحالكة السواد التي قضاها السجناء في هذه الزنازين الصحراوية، إلا أن التجربة لم تخل أيضا من بعض التجارب التي تحمل في طياتها العديد من المعاني الإنسانية السامية ومنها قصة فرخ الحمام والذي أسموه "فرج" وقصة الكلبة هندا، وكلاهما قد أظهر من الرقي والإنسانية في السلوك والمحبة أكثر من بني البشر ذاتهم.

وأشير هنا إلى أن من يرغب في قراءة هذا الكتاب عليه أن يتمتع بقدر كبير من التحمل، ومرونة لا حدود لها في الخيال ليكتشف ما أبدعه العقل العربي الفريد في فنون القهر وتحطيم الإرادة، والذي أصبحنا فيه أساتذة بامتياز تفوقنا فيها على أعتى السجون في ألمانيا الشرقية سابقا. وتجدر الإشارة إلى أن قناة الجزيرة القطرية قد استضافت الضابط أحمد المرزوقي في برنامج "شاهد على العصر" والذي يقدمه المذيع أحمد منصور، ومن الممكن مشاهدة اللقاء على برنامج اليوتيوب وتلمس الكارثة عن قرب من خلال كلمات المرزوقي، والذي قال فيه أن المعتقل قد تم هدمه لاحقا للتخلص من آثاره الدامية. 

كتاب أنصح بدون تردد بقراءته قراءة متأنية ليكون مرجعا لمنظمات حقوق الإنسان.. إن وُجدت في عالمنا العربي، ودليلا تفصيليا لكشف ألاعيب الأنظمة الديكتاتورية القهرية التي لا زالت تظن أن المواطن العربي هو أرخص ما تملك... وحسبي الله ونعم الوكيل.

د. زياد الوهر

z_alweher@hotmail.com