يسرد الكاتب تفاصيل تجوله في "سوق البراغيث" في مرسيليا، وعثوره على كتاب سطرت عليه عبارة دالة وكافية لتداعي أفكاره حول الثورات المضادة التي تعصف بـ"الربيع الحقيقي". ليخلص للقول بأن الكتاب/ اللُّقية جعله يفهم أنّ العوائق يمكن أن تزول فالشك منطقي ومشروع والحلم أكثر من ضروري.

"ربيعٌ عربيّ" في سوق البراغيث!

حمّودان عبدالواحد

كنت أمشي وحدي متجولا في سوق براغيث "لَمَدْراك" La Madrague في مرسيليا الذي يُنظَّمُ عادة في نهاية الأسبوع. إنّها سوقٌ مفتوحة في الهواء الطلق لِعرض الأشياء والبضائع التي لم يَعُد أصحابُها بحاجة إليها، صادرة عموما عن إفراغ الأقبية والمخازن في المنازل، أغلبها بالٍ وقديم تسكن فيه مبدئيا البراغيثُ، ومنها ما ظل محافظا على جودة مادته وكمال شكله وبريق ألوانه ويبدو كما لو كان جديداً خرج لتوّه من محلّ إنتاجه.

وأنا، بمفردي، أتنقّل من عرض تجاري إلى عرض آخر، ومن بضاعة قديمة إلى بضاعة أخرى أكل الدهر عليها وشرب كما يُقال، إذ انبثق في ذهني صوتُ أندريه بروطون André Breton، مؤسس الاتجاه السريالي في الأدب الفرنسي. كان هذا الشاعر والمفكّر الفريد من نوعه يحبّ التردّد إلى سوق براغيث "سانط وين" Saint-Ouen  في باريس. وكان مما سجّله بصدد أهداف توجّهه إلى هذا السوق قولُه في سيرته الذاتية السريالية المشهورة "ندجة"Nedja: "كنت أذهب إلى سوق سانط وين باحثاً عن هذه الأشياء التي لا توجد في مكان آخر، أشياء مرّ عليها الزمن، وقِطع لم تعد صالحة للاستعمال ويصعب فهمها في الغالب، ومنحرفة وفاسدة لكن بالمعنى الذي أعنيه وأحبّه".

أنا من الذين يذهبون إلى سوق البراغيث كما لو كانوا يقصدون مكاناً عجيباً طامعين في العثور على كنز فريد، آملين أن يعثروا على أثاث مفقود أو حذاء بالٍ لكن أصيل أو قميص غريب، أو آلة خاصة مندثرة كمذياع أو مُصَوِّرة أو مُسَجِّلة قديمة أو ساعة، أو كتاب نادر وطريف أو خرائط أو مجوهرات أو قطع نقدية تاريخية أو أشياء أخرى لم تكن في الحسبان أو غير عادية تثير الفضول من تُحَفٍ وآثار فنية. إنّه فضاءُ الاستكشافات والمفاجآت واللُّقية الواحدة والعثور على النادر قليل الوجود!

نسيت أن أرفع إلى علمكم "حقائق" أو عناصر لا يستقرّ حالُ حكايتي "الواقعية" دون الاعتبار بها والنظر فيها. كنت أتجول بمفردي والسوق أوشكت على نهايتها. وكان اليومُ يومَ أحد وهو في ثقافتي العربية اليوم الأول من الأسبوع في حين أنه اليوم الأخير من "نهاية" الأسبوع في الثقافة الغربية حيث لا شغل ولا عمل. وكانت الرياح المذوية في جنبات السوق المتأهّبة للفراغ تنشد أغاني الخريف الحزينة الشفافة. كانت رياحا شاكية قصرَ النهار وقِلّة الضياء واقترابَ الليل وطولَه.

وأنا أتقدم نحو مخرج سوق البراغيث استرعى انتباهي كتابٌ كان طريحا على الأرض، لا يهتم به أحد، تلعب الريح بأوراقه وتسحله بقوّة، عفسته بعضُ أقدام المارة تاركة آثارَها على غلافه. ورأيت كلبا يقترب منه ويشمشم ريحَه فهمّ برفع ساقه للتبوّل عليه. لم أتمالك نفسي ولا أعرف كيف وجدتُني مندفعا أنهر الكلب الصغير من فصيلة "بت بول" حتى ابتعد عن الكتاب. وقلت في صوت منخفض: "أين صاحب هذا الكلب؟"

اِقتربتُ من الكتاب المُذَلّ، وشرعتُ في تفحّص المكان المُهان فيه فعرفتُ بحدس التجربة أنّه فضاءٌ لبيع الكتب غادره صاحبُه تاركاً وراءه بعضًا ممّا لم يستطع بيعه. انحنيتُ لانتشال الكتاب المهجور من حالته الرثة، كانت الرياحُ تلعب "عابثة" بأوراقه الأولى، ومُصِرّة على تعريّته وتمزيق أحد صفحاته (ص 36). ولا أعرف ما الذي حدث وكيف توجّهَ بصري نحو جملةٍ فيه تقول حرفيًا (أترجم من الفرنسية): "إذا رأيتَ السماء ملبّدة بالغيوم فلا تعتقد أن النجوم ماتت".

هل تعرف، أيها القارىء العربي، لمن يُنْسَبُ هذا الكلام؟ إنّه -حسب الكتاب المرمي في زاويةٍ من السوق وكأنه اِبن غير شرعي، منبوذ من المجتمع، لا يريده أحد ولم يفكّر إنسان في التقاطه أو تبنّيه والاعتناء به- حكمة من حِكم العرب التي تُفْصِح، على ما يبدو، عن خاصيةٍ تطبع شخصيةَ الانسان العربي ونظرتَه للمستقبل تكمن، على ما يبدو، في الشعور بالتفاؤل رغم المحن الجمّة التي تُلْغِمُ حياتَه اليومية والعقبات المتتالية المنتصبة أمامه !بعد هذا حصل حدثٌ عجيب آخر، اِنفلتتِ الصفحة من يدي تحت تأثير الريح القوية فأسندتُ أصبعي على الصفحة التي حلّتْ محلّها (ص31). ماذا أرى أو ماذا أقرأ؟ "المشارقة واقعيّون ولا تُهِمُّهم إلا النتائج"!

ما هذا؟ ما حدث لي حينئذ كان أكثر من مفاجأة، كنت على وشك أن أتلفظ وأنا في خضم دهشتي بجملة عادية جاهزة للاستعمال في مثل هذه اللحظات "يالها من صدفة"، لكني عَدَلْتُ عنها لأني لا أرى في هذه الوضعية شيئا يحدث بفعل الصدفة، اللهم إذا كانت الصدفة نفسُها ظاهرة خاضعة لمنطق خفي لا تتوصل الرؤيةُ المباشرة بوسائلها الفكرية والمادية الملموسة إلى معرفة قوانينها الفاعلة والمؤثرة في الأحداث.

هنا وجدتُ نفسي مشدوداً بفعل حركةِ تداعياتٍ فكرية شبه تلقائية إلى عبارتَيْ "الصدفة الموضوعية" و"الاعتباطية الذاتية" في لغة الفيلسوف الألماني هيغل الذي حاول عن طريقهما تفسيرَ بعض أوجه ظاهرة التدخل اللاعقلاني في صيرورة التاريخ والكثيرِ من وقائع الحياة الإنسانية العادية!

حاولتُ، رغبةً منّي في البقاء قريباً من نضارة اللحظة ووهج نبضها التلقائي، طردَ هذا الشعور بالحضور الجدلي من دماغي واستنجدتُ بالكتاب اليتيم الوحيد. أخذتُه وبدأت في نفض الغبار المنقضّ على أوراقه المكشوفة الباهتة ، نفختُ -واضعا في الحال يدي على فمي حتى لا يتسرب الغبارُ إلى جوفي- على الحشائش الصغيرة اللاصقة بطيّات هوامشها الداخلية. انتبهتُ بعد هذا إلى شيء لا يخلو من غرابة: كانت آثارُ سائلٍ ما (ماء، قطرات المطر، دموع قارىْ، بُقعة قهوة .. لا أدري) مرسومة بطريقة غير مقصودة -لا شك فيها- على شكل قلب، تماما على هيئته، في الجنبات الهامشية السفلى للصفحات التي أحاول تنظيفها. اِبتسمتُ في حزن شفّاف، وهمستُ في خاطري أستعجب من صفحاتٍ يأبى روحُها الغامض إلا أن يشكرني على عنايتي بجسده الموسّخ. هكذا سمعتُ القلبَ المرسوم المكلومَ يتكلّم أي يرفض أن تُفهَمَ إشاراتُه على أنها أنّات وآهات تلخّص وجودَه في الشكوى من الجراح والضجر من شروط حياته القاسية. هكذا خُيّل إليّ أن قلب هذا الكتاب ما زال ينبض بالحياة لأن صفحاته، على حالتها المأساوية ، لها إرادة .. إرادة الصمود والتحدّي في وجه العدوان الخارجي .. وهذا ما فهمتُه بقلبي.

بعد وقوفي مشدوها أمام اكتشافي لصفحاتٍ تنطق بالحكمة العربية وترسل علامات الامتنان والحبّ والإرادة ، قرّرتُ قلبَ الكتاب بين يدي حتى أرى وجهَه أي غلافه.

يالها من مفاجأة! ياله من سحرٍ هذا الذي تمارسه عليّ "واقعيّةُ" لقائي بهذا الكتاب المرمي على الطريق! يالَعجبي من لون وجهه، إنه غلاف أخضر تشعّ منه الحياة وينبثق منه نور الأمل! ويالَغرابة عنوانه! لن تصدقني أيها القارىْ العربيّ إذا أخبرتك به .. أنا لا أُخَلّق شيئا من خيالي، أنا لا أكذب عليك، هذا العنوان له علاقة بـ"ظرفٍ واقعي سحري" وعليك أن تقرأه بعيون مفتوحة أكثر من اللازم، وتردّده على نفسك أكثر من مرة ، وتتأمّل في مفرداته و"تركيبته" بهدوء وتعقّل ونفاذ لأنّه يتكلم عن تاريخك وعن حاضرك وعن مستقبلك في اختصار بليغ وثاقب. هل تصدّقني إذا قلت لك، أيها القارىء، إنّ عنوان هذا الكتاب هو "ربيعٌ عربيّ"؟! (مؤلف الكتاب هو الفرنسي بونواسط مِشان، نشرته دار ألبان ميشيل سنة 1959 ، ويحتوي على 596 صفحة)

شيء ما يدفعني إلى الاعتقاد بأنّ العالم الذي نعيش فيه هو عبارة عن "غابة من العلامات" حسب ألفاظ أندريه بروطون في أثره المشهور "الحب المجنون"، ويُحتمَلُ أن تكون حياةُ الانسان على وجه الأرض "طلسماً يحتاج إلى فكّ رموزه" كما قال هذا الشاعر والمفكر الفرنسي في كتابه "ندجة".

ويبقى السؤال الذي لا بد منه: أيهما أهمّ في حالة العثور الذي يستحيل تفسير تحقيقه عقليّاً، أهو الشيء المعثور عليه دون سابق نيّةِ البحث عنه أم اللّقية المفاجِئة في حدّ ذاتها؟ يقول دومينيك بِرْطِ Dominique Berthet في هذا الصدد: "اللقية هي جوابٌ عن رغبةٍ مدفونة في أعماق النفس". (أنظر: اللقاء أو فن الحياة ، بالفرنسية، موقع remue.net)

إذا انطلقتُ من هذا التأويل، هل هذا يعني أنّ عثوري بطريقة شبه سحرية وغريبة للغاية على كتاب غير منتظَر ومفاجىء "ربيعٌ عربيٌّ" في سوق البراغيث يلعب دورَ الحلم؟ لعلّ هذا العثور أو اللقاء الفريد بكائن كتابي، في ظروف موضوعية (عربية ضبابية قاتمة)، يكون قد حرّرني نوعا ما في ظروفٍ ذاتية (أنا عربيٌّ يوشك الواقفون وراء الثورة المضادة أن يُحبطوا آمالَه) من تردّداتي العاطفية المُعطِّلة للإرادة، ومن شكوكي في صحة وفائدة وقدرة انتفاضة الشعوب العربية على وضع حدٍّ لِلَيْلِها الطويل وكوابيسه المستمرة. لعلّ هذه اللُّقية النادرة تكون قد جعلتني أفهم أنّ العوائق التي كنت أعتقد أنها غير مُتَجاوَزة قد بدأت تسقط وتزول بالرغم من الضربات الموجِعة التي تَعَرّضَ وما زال يتعرّض لها "الربيعُ" الحقيقي الذي تحلم به الشعوبُ العربية!

ويبقى التمنّي إنسانيا وأكثرَ من ضروري، والشك منطقيا ومشروعا، والسؤال المفتوح الحامل للمفاجآت والإمكانيات غير المنتظرَة حصانَ المستقبل، ما دام الحلمُ بوّابةً متجذّرة في الواقع لابد من المرور بها لكلّ من يبحث عن إجاباتٍ لاستفهامات التغيير والخَلْق والإبداع!

 

(كاتب عربي يقطن بفرنسا)