يكشف هنا الناقد الفلسطيني عن نزعتين في مجموعة (حرير) للشاعر المصري عماد فؤاد هما: الذهاب إلى غريزة المظهر، والإعلام عن "الخبرة "، كاشفا عما تنطوي عليه من حساسية شعرية مصرية جديدة.

حرير وعقد كثيرة

نصر جميل شعث

 

هناك نزعتان في مجموعة (حرير) التي صدَرتْ، حديثـًا، عن دار النهضة، في بيروت، لصاحبها الشاعر المصري الشاب عماد فؤاد؛ ألا وهما: الذهاب إلى «غريزة المظهر»، والإعلام عن ـ من باب امتداح ـ «الخبرة ». وكان أصدرَ الشاعر ثلاثَ مجموعاتٍ غلبَت صفة الطول على عناوينها ـ وكذا على أغلب قصائدها ـ وهي: (أشباح جرحتها الإضاءة )، و (تقاعد زير نساء عجوز)، و(بكدمة زرقاء من عضة الندم). والمشكلة، أنه لم تستطع التعبيرية الجميلة، في الغالب المشدود لناحية التواضع، أن تخفي النزعتين. وهذا القول يسترعي المجيء على تسمية أغراض عماد فؤاد الشعرية، والتي يمكن حصرها في غرضي: وصف ومديح المظهر. على أن هذا القول لا يرتدّ لطريقة القدامى في معالجة هذين الغرضين، كما سنتحقق من ذلك لاحقـًا. ولكنه، حقيقة، يثير في كل زمان ومكان التساؤل، المختلف بشأنه، حول صنعة الشعر وعفويته. بيد أننا وبالعودة إلى خط الملاحظة التي تقول بظهور الوصف والمديح كغرضين ؛ نؤكد أن الوصف الغالب في مشروع عماد فؤاد يتميّز باحترافية شعرية تسرقها السردية والدراسة. فما يتراءى إلينا في هذه المجموعة المسماة (حرير)، خبرة ذهنية مسبقة، أي معرفة علمية محَضّرَة، عن الحرير وديدان القز، وصناعته ونموه وإنتاجه، أو قد تكون نتاج استلهام خبرة عملية، تم توظيفها في كتابة شعرية. وفي الأمر مدعاة للقول بدئيّا بمراوحة كتابة الوصف بين الاحتراف والصناعة. هذا ما بدا لما نملك من بَصَر وتذوق ؛ إذ ظلّ ينأى وينزاح الحرير عن كونه طبيعيّا، أو بكلمة تخصّ النقد الواصف: عن كونه عفويّا. ولكن بدا الاحتراف، حقيقة، أوّل ما بدا، منذ بداية المجموعة ؛ لاسيما قصيدة " أغنيّة " التي احتوت على إيقاع وفكرة، وبشرّت بمجموعة شعرية تحترف الخلق الشعري .. فلنقرأ:

أنا ابنة صُنَّاع الحرير يا بنات

أرعى دودة القزِّ كي لا تأكلها رطوبة البيت

أجمع أوراق شجرة التُّوت كل نهار

أنظِّفها من شوائب الطَّريق وغباره

بصبر أرملة يا بنات

أغسلها بماء النَّبع كي يرقّ حريرنا وينعم

وكي يغري الرِّجال بشرائه لكُنَّ من عندنا

نهداي صغيران يكبران تحت خيوط ثوبي البالي يا بنات

كلَّما لمست خيط حريرٍ نسجتته أمِّي

تصلَّبت مشمشتاي المدوَّرتان

وكلَّما رأيت مغزل جدِّي مهملا في الرُّكن

انفرجت شفتان ساخنتان تحت سُرَّتي

أنا من أنام جوار شقيقاتي

مهدودة من التَّعب آخر النّهار يا بنات

كلُّ واحدة منَّا تحلم بثوب أبيض من حريرنا

أنا ابنة صُنَّاع الحرير الفقيرة يا بنات

نصنع الحرير

ولا نجرؤ على ارتدائه يا بنات.

لكن ما يجيء، تاليًا، في مقاطع بعنوان: «أن تهرسي خدّي» ليس بحرفية القصيدة السابقة، ولكننا نمرّ على قصائد قصيرة جدّ رائعة كفكرة وكنسيج يسلمنا المعنى بصورة جميلة في آخر قصيدة قصيرة باسم ابنه «آدم» يقول فيها:

شهوره ثلاثة

وواحد وثلاثون عاماً تحْبو خلف موائه

مِنَّا

مَنْ كبر على ترابٍ

ومِنَّا

مَنْ كبر على سجَّادة البيت النَّظيفة

وابني

وأنا ابن التي خبَّأتْ في قلبي دودة القزِّ

لكنّه كلّ يوم

يشدُّ يدي بابتسامته

فأتحسَّس مثل أعمى

معنى الحرير.

وهكذا تتراوح مسارات المجموعة بين احترافية الوصف والخلق، وبين صناعة أميَل إلى السرد منها إلى الشعر. كما سنشعر تارة بحرارة الحرير شعرًا، وتارة بالبرود حتى في أوْج تجليات وصف الشهوة. وذلك، ربما، لاستغراق الوصف إجراءات ضبط الصورة بلغةٍ مناسبةٍ. ولا يظلّ يدمغ هذا القول جلّ قصائد الشاعر؛ غير أنه يظهر في سطور بعض القصائد وفي أجزاء البعض، مُحدثـًا، بذلك، قلقًا جرّاء الاتكاء على المعرفة العلمية المدروسة أو جرّاء اللجوء المسرف للسرد. ففي قصيدة بعنوان «قطوف» من المجموعة الجديدة يقول عماد فؤاد:

وأدع الأهلّة التي خلّفتها أظافري فوق نهديك

كي أرقبها وهي تمّحي في العتمة وتتحول إلى أقمار الإستدارة..

إذ في هذا الشاهد شعور بالبرود حتى في أوج تجليات وصف الشهوة. أما بخصوص الصورة الشعرية التي يلتقطها عماد فؤاد بوصفها صورة حسية جميلة تُصوّر لنا الأظافر أهلّـةً، فوقَ نهديّ الأنثى، تتحول لأقمار الاستدارة ؛ فإنها تبدو في حالة تناص مع الصورة نفسها تلك التي نجدها في قصيدة: «من أحوال حرف الراء» للشاعر المصري محمد عفيفي مطر، في مجموعته «صيد اليمام» ( مسامرة الأولاد كي لا يناموا ) التي أصدرتها في 2005، مجلة (الشعراء) الفلسطينية، التي تصدر عن بيت الشعر هناك. يقول عفيفي مطر:

الراء ليّنة كقلامةِ ظفر الوليد

وممشوقة كهلال الذهب..

وكلاهما الهلال والذهب، إنما هما يذكّرانا، حَصرًا، بـوصف ابن المعتز الرائع للهلال، في هذا البيت الأكثر شهرة عند الحديث عن الصور الشعرية الحسية، وهو:

فانظر إليه كزورقٍ من فضّةٍ.... قد أثقلته حمولة من عنـبر!

ما يلاحظ، إذًا، في هذا المضمار هو أن إنشغال عماد فؤاد بصناعة الحرير ؛ فإما أنه محفوفٌ بتوارد الخواطر أو هو عرضة للإشتغال على التناص، أي تقليد طبيعة الحرير التي نلمسها في قصائد محمد عفيفي مطر المصري الذي يتحدّث في قصيدة بعنوان " الرحلة " عن الحرير والدانتيلا المخرّمة بنزعة عفوية ولبوس طبيعي به حرارة صوفيّة ؛ إذ يقول عفيفي مطر:

من بعيد ترفرف الدانتيلا السوداء

بمخرماتها المنسوجة من أشكال

الفراشات المضيئة وأسراب الطير

وعقود الزهر

وقد بدا الهلال الوليد يَحُلّ عن رأسي

شالَ الجمر بخضرة قرنيه الذهبيين

حتى تبترد الأحلام والرؤوى شيئًا فشيئًا...

وإذًا، هكذا يدع الشاعر عفيفي مطر لحظته لحرارة وصف المعنى وحميمية القصيدة والطبيعة. وأما انتظاره أن تبتردَ الأحلام والرؤى شيئا فشيئًا ؛ فلأجل تجسيد التعاقب بين الجمر والبرد، الشمس والقمر، وبالتالي تداول الذات الشاعرة الطبيعي للمعنى الممّثل في الذهب والفضة، في مشهد طبيعي حميمي، هو صورة عن قلب الشاعر، عامرٍ بحركة الحياة وطقوس الأرض والرحمة. بينما صورة عماد فؤاد تنمّ عن تناص وصناعة باردة تسعى لأن تتّصف بالعفوية وحرارة الطبيعة ودفئها وحميميتها، ولكن لا يتأتى لها ذلك! وفي قصيدة قصيرة جدّا بعنوان «سُـرّة» يصنع عماد فؤاد من الفضة دائرةً فارغةً، هي بمثابة قِرط معلّق، لا قمر، في عقدة سُّرة أنثى المظهر.. فهكذا هو يقول:

كنت أظن يدي حرّة حين تنسل إلى بطنك

لم أكن أعرف أنها ستتوقف مليّا

كي تتفحّص قرطك الفضيّ

المعلّق في عقدة السرّة.

وأما في قصيدته الوجيزة والمكثفة بعنوان «أوبة»، فيقول:

لا تفكّي شعرك الآن

كي لا تعود الطيور سريعًا

إلى أعشاشها.

وهكذا تنتهي القصيدة بهذه الصورة الجميلة التي لا تنجو من "التلاص" الذي أصرّتْ جوليا كريستيفا على استبداله بمصطلح " التناص "! إذًا، يتناصّ (أو يتحاكي) عماد فؤاد، بشكل مقلوب، مع شاعر مصري لا يحبّذ الشهرة وينشر اصداراه بشكل خاص، هو: عماد أبو صالح، نقرأ له قصيدة بعنوان «شَعرك» في إصداره الأخير (جمال كافر) المنشور على الانترنت ضمن إصداراته الأخرى، نجدها على هذا الرابط: http://www.geocities.com/emadabusaleh/.

 يقول أبو صالح في القصيدة:

لماذا تحبسين شَعرك

في هذا القيد

أيتها السجّانة الجميلة؟

من أين شربت يداكِ

كل هذا الحنان القاسي؟

أمك؟

سامح الله أمك.

أنا حزين لهذه الأرملة الصغيرة

التي كانت تربط كل شيء بإحكام

حتى لا يخطفه الموت منها

مرة ثانية.

كانت فاهمة خطأ

أمك هذه.

على العكس.

بأي شيء يمكن أن نقتل الموت

سوى بطلقة من رشّاش ضحكاتك

بأي شيء سنهزمه

سوى أن نترك شعرك

هذه الخيول السوداء

تفرّ منه على راحتها؟

في يوم وأمك نائمة تخنق الأحلام

سأصعد شجرة إلى شرفة بيتك

وأفكّه لكِ

بأصابعي النحيلة.

والشاهد، أنه في سؤال عماد أبو صالح دعوة لأنثى من أجل الفكّ يقابلها رجاء من عماد فؤاد من الأنثى بأن لا تفكّ شعرها كي لا تعود الطيور سريعًـا إلى أعشاشها. وتختلف أنثى المعنى لدى أبو صالح في مشروعه الشعري عن أنثى المظهر لدى عماد فؤاد. وأما فيما يتعلق بالتناص بين الشاعرين، فهو ما يعرف عند كريستفا بـ "النفي الكلي" ؛ حيث يكون المقطع الدخيل منفياً ومعنى النصّ المرجعي مقلوبا ً. وقد مثلت كريستيفا لهذا النوع من أنواع "التناص" باستشهادها بالتقابل بين مقاطع لشاعرين هما باسكال و لوتريامون. فالمقطع الأوّل هو بمثابة " نص مَرجعي "، والمقطع الثاني هو بمثابة نفي المرجع بقلبه، كالتالي:

هناك هذا المقطع لباسكالPascal:

«وأنا أكتب خواطري، تنفلت مني أحياناً ؛ إلا أنّ هذا يذكرني بضعفي الذي أسهو عنه طوال الوقت، والشيء الذي يلقنني درسا بالقدر الذي يلقنني إياه ضعفي المنسي، ذلك أنني لا أتوق سوى إلى معرفة عدمي».

وهو ما يصبح عند لوتريامون:

«حين أكتب خواطري فإنها لا تنفلت مني. هذا الفعل يذكرني بقوتي التي أسهو عنها طوال الوقت. فأنا أتعلم بمقدار ما يتيحه لي فكري المقيد، ولا أتوق إلا إلى معرفة تناقض روحي مع العدم».

( أنظر: جوليا كريستيفا، علم النصّ، ترجمة: فريد زاهي، دار توبقال للنشر- المغرب، 1997، ص79

على أننا نعثر على تشابهٍ في نَفَس العبارة الشعرية والوصفية وفي الثيمة (الفكرة+ الموضوع) بين عماد أبو صالح وعماد فؤاد. ويذكر أن " جمال كافر " صَدَر للأول، سنة 2005، وها نحن الآن نحتفي بإصدار عماد فؤاد الجديد بعنوان " حرير " في سنة 2007. إذ يظهر تأثّر الثاني بالأول إلى درجة ( التقليد المظهري ). على سبيل المثال، لا الحصر، في ثيمة " العجوز ". إذ كان أصدر أبو صالح إصداره الثالث الخاص، في سنة 1997، بعنوان: (عجوز تؤلمه الضحكات)! غير أن فؤاد سيتخذ العجوز رمزًا للخبرة الجنسية، مثلما هو عنوان مجموعته الثانية الصادرة، عن دار شرقيات، في سنة 2002: (تقاعد زير نساء عجوز).

أنثى الغرفة والمظهر:

على أيه حال، يعمل الوصف داخل المجموعة، الجديدة، كمنافس لصورة الأنثى الخارجية في عالم الأزياء النسائية في المجتمع الغربي أو في الميديا. وهو وصف داخليّ موضوعاته أشياء أنثى الغرفة. فثمة ارتقاب لامتداح أناقة المظهر إلى أن تطغي الأنثى المظهر خلال مديح أشيائها، محتفظة لخارجها بالفرادة والتفوق على شبيهاتها في صور العالم الخارجي. ومن هنا منشأ نقد العلاقة البادية بين الملابس والمظاهر كغاية، على حساب حضور الأنثى الجوهر. لا وصف يلامس العمق، بقدر ما يظلّ الوصف ضربًا من ضروب الجري لعبادة ما يظهر. ولذا، نقبض، غير مرة، على العلاقة بين الملابس بوصفها مظاهر لدى الشاعر ؛ مثلا في قصيدة " غيرة "، ويقول فيها:

تنورتك القصيرة

التي طالما رفضتِ ارتداءَها

تنورتك الحرير البيضاء ذات الزهور

تمشي معي في عز مايو تحت أعين العابرين

كنت أضع كفي على ردفك الأيمن

وأصابعك الخمسة تنسلّ إلى جيبي الخلفيّ

فيما بنطالي

الذي طالما رفضتُ ارتداءَه

يموت غيرة فوق رفّ الخزانة.

وهكذا نحن نلحظ شغف العلاقة بين المظاهر كالنتورة والبنطال. وأيضا من وصايا الشاعر في قصيدة قصيرة جدا وجميلة بعنوان " وصية " ؛ نرى برهان العلاقة ذاتها بين الملابس بوصفها مظاهر، فتقول الوصية:

حين تعلقين ملابسنا على حبال شرفتنا

لا تباعدي كثيرًا

بين بيجامتي وقميص نومك الذي أحبّ.

 ومن طريق ذلك تجيء بعض الألوان المسماة في المجموعة بوصفها مظاهر سائدة أكثر من سيادتها كمعان، أللهم إلا قصيدة " تركواز " التي يقول فيها:

كلّهم شاهدوه

بزيه الأسود

بابتسامته الرَّاضية

بأظفاره المقضومة بالأسنان في اللَّيالي الطَّويلة من الوحدة

بوجعه الذي يجرجره خلفه كابنٍ

كان يعبرُ الشَّارع

ويمدّ يدَهُ الفارغةَ إلى النَّاسِ

ويُتَمْتِمُ: أريدُ لوناً

كي أراهُ في عتمتي

أبيضَ

كي لا يغلبني الليلُ

أحمرَ

كي لا أبردَ في الشِّتاءِ

أخضرَ

كي أجدَ ما أُلهي به جوعَ أطفالي

أزرقَ

كي أروي عَطَشي

أسودَ

كي أشعرَ بوجع جاري الضَّرير.

ومن خلال وصف ومديح الأنثى كمظهر، كما بيّنا سابقًا، يظلّ التعبير عن الحب والأنثى منوطـًًا بالقشرة أو الكسوة الخارجية ؛ تعبيرًا استهلاكيّا سرعان ما ينجلي عن نزوع الشاب للمظاهر. وهذا الانجلاء، بدوره، يحتاج منا الإنصات لدعوة أو جهرة الشاعر بإشارة " الشهرة "، كما في قصيدته " حرير محرّم ". إذ أصرّ على كسب الوجاهة بطريق إشارته للمواجهة التي انتهت بمنع نشر القصيدة في وقت مضى ؛ وقد ترجم إصرارَه بهذه العبارة الإعلامية الواردة في الحاشية، أسفل القصيدة، والقائلة: (مُنعت هذه القصيدة من النَّشر في مجموعة الشَّاعر الثَّالثة: "بكدمة زرقاء من عضَّة النَّدم" - القاهرة 2005). وهكذا إخبار لا يعلو صوته كإحتجاج، بقدر ما في الصوت من رغبة بحدوث الجلبة والشهرة! والحق، أجدى لو منع الشاعر نفسه عن نشر " حرير محرّم "، ضمن المجموعة الجديدة، لهبوط جمالي يعتريها، و لإنحياز متحقّق للسرد القصصي، فضلا عن أن النصّ دخيل على أسلوب وتقنية مجموعة " حرير " الجديدة التي تمتاز بقصائد قصيرة وسريعة ومكثفة. وقد لاحظنا بداية التحوّل إلى القصر والسرعة في المجموعة الثالثة التي بدأها بقصائد قصيرة.. وجعل في نهايتها القصائد الطويلة كعناوينها، والتي تسود مجموعته الثانية " تقاعد زير نساء عجوز ". أما لماذا كانت القصيدة محرّمة؟ فلأنها تسجيل لما تفكر فيه أو تفعله العانس في خلوتها، و تسجيل لما قامت به مع جارها عندما تركت نفسها كجثة هامدة تحت يديه.. فبدوره انتهز الجار فرصة انقطاع الكهرباء وهرسها على بسطة السلّم. ما نلحظ، في " حرير "، وجود مساحة كبيرة من الاهتمام بقضية (العانس). ففي إحدى القصائد القصيرة بعنوان "عذراء " يقول عماد فؤاد:

تهمس العذراء لأبيها

حين ترى قطوفا دانية من العنب: انظر..

لمّا امتلأت عروقها بالرحيق

انفلقت حباتها

عن عصيرها المكتنز!.

وتذكرنا هذه الحكاية بما أورده الأمام جلال الدين السيوطي في: " نزهة الجلساء في أشعار النساء"، عن شاعرة من شاعرات الأندلس تدعى قسمونة بنت اسماعيل بن بغدالة اليهودي ؛ إذ كان أبوها قد اعتنى بتأديبها، وذات يوم نظرت في المرآة، فرأت جمالها، وقد بلغت أوان التزويج، ولم تتزوج فأنشدت هذين البيتين:

 أرى روضة قد حان منها قطافها  ولستُ أرى الجاني يمـدّ لها يدَا

 فواأسفي يمضي الشباب مضيعا  ويبقى الذي (ما إن أسمه ) مفردَا

فسمعها أبوها، فنظر في تزويجها.

الشاب وخبرة الكهل:

ولا تنفك تتجلى النزعة المظهرية في نصوص عماد فؤاد المكتوبة أبّان إقامته في بلجيكا. لو عدنا قليلا إلى قصيدة: " لاعب الشطرنج.. ذو الابتسامة " في مجموعته الثالثة، نجدها اهتمت بوصف المظهر الخارجي لبحّار أجنبي في الستين من عمره ربعة ذي ظهر محني، وذي خبرات متعددة في الحياة، لاسيما وأنه عاصر الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأسر من عساكر هتلر الذين سحبوه عنوة لخرائب ألمانيا ؛ فضلا عن مغامراته وغزواته العاطفية. إذ نرى من خلال تركيز الشاب على وصف ذلك الكهل، أنه يبحث فيه عن أب يعلمه الحياة، للوهلة الأولى، نظرًا لحداثة عهده بالمجتمع الغربي. وفجأة يسأل الكهل الشاب عن عمره، وحين يرد عليه، يتنهد بحرقة: " آه.. يا ابن الذي لم يأت يعد "!. ولم يتعلم الشاب من الكهل شيئا يفيده في حياته كمغترب، إلا الإعجاب بمغامراته الجنسية والرغبة باكتساب خبرة مماثلة في هذا الشأن! وقد راح عماد فؤاد يصف وينقل مظهر الكهل البطل.. إلى لدرجة اقترابه من الوصف السردي ؛ حيث بدا الراوي في القصيدة قليلَ الخبرة بالبطل، لأجل ذلك جاء وصف الكهل وصفًا خارجيا ونقلا عن لسانه وكفى! هذه الخبرة المنظورة في شخص الكهل ما كانت إلا اجتلابًا وادعاءً وتباهيًا من لدن شاب عَرفَ لتوه طريق النساء، كما في مجموعة: " تقاعد زير نساء عجوز " ؛ فبتأمل البورتريه هناك على الغلاف نرى عجوزًا في جسد شاب وشابًا في جسد عجوز ؛ إذ العينان مفتوحتان والندم مختلط بالقلق، كما هو واضح من وضع العجوز أو الشاب يده على خده. ولا تفارق عقدة " الخبرة " الشاعر حتى في مجموعة " حرير ". لاسيما قصيدة عريضة ومتوسطة بعنوان " تطواف " مكتوبة بنبرة "دنجوانية" و" خبراتية " فيها:

تقول أُمِّي إنَّ جارتنا الجميلة تحوم حولي

وتقول أختي إنَّ رفيقات صباها يتحجَّجن بالمجيء إلينا كي يريْنني

وتقول جارتنا إنَّني مغرورٌ أمشي وأنفي يضرب في السَّماء

ويقول ابن عمي إنَّه يقصُّ قصائدي ويرسلها إلى العذراوات كي يُميل رؤوسهنَّ بحبل المحبَّةِ

ويقول أبي إننَّي لا أملك قيراطاً واحداً في أرض النِّساء..

وتقول أمّكِ إننَّي عرفتُ من النِّساء قبلكِ ما يزيد كي لا أخون...

ويقول أبوكِ إنَّني جلفٌ جاء من أقصى الأرض كي يخترق بحربته الفروج.

ولكنه في قصيدة من مجموعته الثالثة بعنوان " على أطراف أناملنا " يستبدل العجوزَ ذا الخبرة ؛ يستبدله بعاشقات (مومساتٍ) ذوات خبرة. كما يستبدل أناه بأنا جماعة شباب ؛ كي تصبح لغة الاعتراف بلسان جماعة الشباب أو الرفقة هي السائدة في القصيدة التي تقوم على اعترافات أنا جماعة من الشباب يمزجون الندم بالحنين إلى العاشقات اللواتي اقترنّ بالأمكنة الحميمة البعيدة. وهذا ما يشير، بدوره، إلى عِظم حالة الإغتراب التي يعيشها المغترب كأنا مفردة، وكذات شاعرة. فكلما عاد، على جناح الذاكرة إلى المكان، كلما أقام المعنى على المظهر، ودعاه ذلك للقول صراحة في قصيدة من قصائد الحنين في مجموعة "حرير"، بعنوان " شالان لأمي "، وفيها يقول:

أفسدتني الأجنبيَّة يا أمُّ

قلبي الذي فوَّضُّتُ أمره لحجارة النِّسيان

صار يذوب في ماء صوتكِ البعيد

كقطعة السُّكر

يؤلمني كلَّما رأيتُ عينيكِ خلف زجاجة الكادر

وكلَّما مسحتُ الغبار الخفيف عن سمَّاعة الهاتف

كي تصفو لي ندهتك

وكلَّما شمَّست قمصاني البيضاء خارج البيت

الملعون

صرت أجده واقفاً يحار بين نصلين

كلاما سوأة للغياب

أفسدتني الأجنبية

يا أمُّ.

وبالعودة لقصيدة " على أطراف أناملنا " تقابل أناه – ولا تصطدم مع، بل تصبح ضمن – أنا جماعة الشباب الذين يتذكرون عاشقات من وطنهم، ولسان حالهم يقول عنهن: يكبرننا ولنا معهن تجارب حيث علمننا، وكن يريننا تلامذة خجولين، وبحاجة إلى الدربة، بينما كنا معهن نعيد العلاقة بين طفولتنا والأمومة، باحثين عنها فيهن هنّ اللواتي عرفننا طعم طفولتنا التي نسيناها على حلمات الأمهات وجعلن منا رجالا ندوس على قلوبهن بأحذيتنا دون رفة ندم ". وللمفارقة، فإن صور الأنثى الأجنبية الشقراء ذات التسريحة والبلاهة الأخاذة، المرسومة - على نحو ما نجده على أغلفة بعض الروايات العاطفية – هي على غلاف مجموعته الثالثة، " بكدمة زرقاء من عضة الندم "، تبدو مغمضة العينين ؛ فضلا عن النزعة التزويقية التي أجراها الشاعر على كلمة " زرقاء " المميّزة باللون الأزرق. وهكذا إجراء ينطوي على شرح وعدم ثقة بقدرة المتلقي على التفاعل مع كلمة " زرقاء " كإشارة لا تحتاج شرحًا. ومن هذه الأمور الشكلية نقرأ أولوية المظهر في اغتراب عماد فؤاد على المعنى. فضلا عن مصاحبة عدم الثقة بقدرة المتلقي لحالة الحرص والعناية المترجمة بشكل إجرائي في كلمات مثل: " بحرص "، بعناية " يكررها الشاعر في بعض جمل نصوصه مثل: " وجثة خضراء مدفونة بحرص تحت أقدامنا "، أردية الصوف المجلوبة من حرص أمهاتهم العجوزات "، " أرسلن لنا بباقات زهر ملفوفة بعناية ".. على أن الكلمات ترد في سياقات مختلفة وجمالية وجد رائعة، غير أنها تظلّ مناسبة للربط، في حالة نصوص أخرى، بين حرص ويقظة الشاعر ذي العينين " المفنجلتين "، وبين المتنبي في بيته الشهير: " أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر القوم جرّاها ويختصم ". وبين الفنجلة والنوم أسئلة كثيرة بشأن الشعر الاحتراف والصنعة، الوصف الحذق الصائد للشعر، والعفوية والخفة السماوية.

وعلى خلاف ما بدا من الراوي في قصيدة: " لاعب الشطرنج.. ذو الابتسامة "، المكتوبة في مدينة " غنت " البلجيكية في أبريل 2004 ؛ يظهر الراوي في قصيدة بعنوان: " كنبع وحيد في الرمال "، التي كتبت في القاهرة في اغسطس 2002 ؛ يظهر متساويَ المعرفة مع الشخصيات، فهو يقول ما يعرفه، في إطار خبرته المصرية المعاشة، عن الفقراء الذين جاءوا من الريف والمدن الساحلية ومن أقصى الجنوب، صعيديون، وفلاحون بالوراثة، وأصحاب المسؤوليات وأولاد.. رومانسيون بالسليقة، وحزانى بالفطرة.. إذ تتحمل مجموعاته السابقة، على مجموعة " حرير"، بأحمال المجتمع المصري والتجربة المعاشة فيه، لذلك ربما كان هذا سبب طول العناوين والقصائد التي اتصفت بها قصائده. ولئن كان النقد يولي اهتمامه الدائم بتراكيب العناوين كدلالات، من دون إعطاء كبير اهتمام بطول وقصر العناوين ؛ فإننا نرى أن لعناوين مجموعات الشاعر الثلاثة التي تسبق هذه المجموعة الجديدة، وكذا لطول عناوين القصائد ونصوصها ؛ أهمية كونها شكلا لا ينفصل في بنيته عن معاني ومضامين خاصة بالمجتمع والذاكرة والغنائية الفردية والاجتماعية للشاعر المصري. فليس الدلالة في تركيبة العنوان وحسب، ولكنها في صفات طول وقصر التركيبة. ويختلف الحال في المجموعة الحديثة التي اختصرت العنوان في كلمة واحدة هي " حرير "، التي كتبت كل قصائدها في مختلف مدن بلجيكا في الفترة ما بين 2003 -2007، وامتازت بالقصر والسرعة والمراوحة بين الاحتراف والصناعة، مع غلبة المظهر. فيما توزعت قصائد مجموعة: " بكدمة زرقاء من عضة الندم" من حيث مكان كتابتها على القاهرة وبلجيكا، ومن حيث طول وقصر العناوين والقصائد على قصائد قصيرة وقصيرة جدّا. ومن حيث القيم على المعنى والمظهر. وجاء غلاف" حرير" الخارجي خاليًا من المظاهر (وهي سياسة دار النهضة!) التي لمسناها في داخل قصائد مجموعة (حرير).

شاعر وناقد من فلسطين