يرى الناقد المصري ان هذه المجوعة القصصية تقدم رؤية إبداعية مصرية منحوتة من عمق التاريخ وعمق الجغرافيا، حيث أن الموت، الفعلي والمعنوي الغالب على القصص، يحيل إلي تصور المصري القديم، والذي يتجسد في مدينة الأقصر. وحيث الصور النابعة من طين القرية، الناطقة بهموم ناسها الكاشفة عن طبائعهم وحياتهم.

الإبداع الريفي علي «الوجه الآخر للنهر»

شوقي عبدالحميد يحيى

الكتاب الأول، هو كارت التعارف الذي يتقدم به الكاتب إلي قارئه، فإما أن يترك بصمة في قارئه، ويكون علامة فارقة في مستقبل ما يكتبه الكاتب، والذي فيه يتمهل الكاتب ليتخير من بين كثير ما كتب، ما يثق بأنه البداية القوية التي تجعل له اسما في عالم الإبداع، مثل "أرخص ليالي" ليوسف إدريس، أو "الخطوبة" لبهاء طاهر. وهناك من الشباب من يتعجل النشر ويلح عليه، دون أن تكون قد ترسخت خبرته الكتابية، فتكون النتيجة بالطبع ليست في صالحه، وهو ما قد يؤثر علي تقبل القارئ له فيما يقدمه بعده من أعمال. أي ان (الانطباع) الأول، هو البصمة التي قد تؤثر علي ما بعدها. غير أن كتاب "سلوي محسن" "الوجه الآخر للنهر" قد اختلف عن تلك القواع التي كانت شبه مؤكدة ، ليخرق القاعة، ويصنع خليطا من كل ذلك. حيث يبدأ بثلاث قصص قصيرة تدرس كنماذج للقصة القصيرة، ثم مجموعة القصص، الأقرب إلي تلخيص رواية منها إلي القصة القصيرة، ثم روايتان "الوجه الآخر للنهر" التي منحت الكتاب عنوانه، والذي أرادت به معني كليا، يحتوي القصص بين طياته، وهو ما يعني أيضا أنها مهمومة بهم عام علينا أن نبحث عنه في المجموعة. وحيث أن الموت، الفعلي والمعنوي، هو ما يغلب علي القصص، الأمر الذي يحيلنا إلي تصور المصري القديم، والذي يتجسد في مدينة الأقصر، من جعل الجانب الشرقي للنيل، هو جانب الحياة والمعيشة، بينما الجانب الغربي هو مكان الدفن والقبور. وحيث الصور النابعة من طين القرية، الناطق بهموم ناسها الكاشف عن طبائعهم وحياتهم. منبثقا من هموم المرأة ومعاناتها، حيث تمثل المرأة الريفية وتجسد الهم الأنثوي، أكثر مما تمثله المرأة في المدينة. فنحن إذن أمام رؤية إبداعية مصرية منحوتة من عمق التاريخ وعمق الجغرافيا.

 وكذلك "بستان النار" التي يمكن تناولها علي أساس العمل الروائي، لا من حيث المساحة الكتابية، ولكن لاشتمالها علي عناصر الرواية، وابتعادها عن فنية القصة القصيرة، وعموما ليست موضوع تناولنا، لذا سنقتصر علي الحديث عن القصص الثلاث الأولي، وبعض نماذج من القصص الأخرى. والتي نفضل البداية بها، لتصورنا بتاريخ الكتابة، رغم أن الكاتبة لم تحدد تواريخ كتابة كل عمل، إلا أن فنية الكتابة وطريقة التناول، توحي بأن هذه القصص أسبق في الكتابة، الأمر الذي يعني أن تقدما ملحوظا حدث في تناول الكاتبة وأسلوبها الذي تميزت خصوصيته في القصص الثلاث الأولي.

تواصل الكاتبة معالجة مشكلة المرأة، بصورة جديدة،  بعدما تناولتها بإبداع كبير في القصص الأولي، وكأنها تقول (بضدها تتميز الأشياء) فتتعرض لموقف الأب ودوره في الأسرة، مؤكدة أن فساد الآباء يفسد الأبناء، في قصتي "أصل وصورة" و "بيوت الحزن" حيث نتعرف علي الأب المخادع، يظهر علي الناس بوجه التقوى والورع، بينما هو في حقيقة الأمر غير ذلك. فيعاني الابن من فورة الشباب، وتطير أعماله في البلدة من كثرة معاكسته البنات والسيدات، فيعافه الجميع. وفي المدينة يسقط علي ساقطة، تمتص جسده، فيهزل بدنه، وتتبدل أحواله، ولا يعود صالحا لاللدراسة ولا لغيرها.

أما في قصة "بيت الحزن" فتتلصص الساردة علي اثنين في الشارع، نتعرف فيما بعد أنهما من أولاد الشوارع، حيث ناما أسفل السيارة. وتتعرف الساردة منهما علي مآسي الأباء، الذين تركوا أبناءهم، من جراء شرب (السبرتو).

ويبدو أن القاصة استغرقتها الفكرة، فغفلت بها عن فنية القصة القصيرة. حيث نري في الأولي وقد امتد زمن الفعل فيها لأعوام، الأمر الذي جعلها أقرب إلي الرواية –رغم صغر المساحة الكتابية – منها إلي القصة القصيرة. وفي الثانية وقد اعتمدت علي الحوار فيها –إلا قليلا- . الأمر الذي أفقد القصة تكثيف اللحظة، وغياب السرد بجمالياته التي برعت فيها في القصص الثلاث الأولي.

وتستمر الرؤية الخارجية، أو العقلانية، في قصة "عش علي الماء" التي يحمل العنوان فيها رائحة المودة والحب، لنتعرف علي أسرة بسيطة الحال، يتعاون الجميع فيها علي المعيشة، حتي الصغيران، يكمل بعضهما بعضا، فهذا يمشط شعر ذاك، وذاك يمسح حذاء أخيه، يسيران بين العربات، لا يغضبان ممن يشيح بوجهه عنهما، يقابلانه بابتسامة، يعطف الجيران عليهما، ويحاولان رد الجميل إلي الجيران. دون أن نلمس تلكك المتعة في الصور، أو بساطة التعبير النابعة من عمق وكيان الشخصية، فنتوقف عن الصورة الكلية التي يغلب عليها الحكمة.

ونعود إلي القصص الأولي، ولتي نراها آخر ما كتبته سلوى محسن.

        في أولي قصص المجموعة "لعبة التابوت" التي ما نبدأ فيها حتى نقع في شباك الصور المنحوتة من طين أرض القرية، نتنقل بينها في سلاسة وانسيابية، وكأنها تنطق القرية. فنجد في البدايات، وفي جملة واحدة:

{ يستقبل الأطفال الصباح الباكر بعيون مغمضة، وقلوب تسبق الغزلان إلي حيث الرحابة الخضراء، والحرية الوليدة، والأسرار المكنونة} تلك الصورة التي تفصح عن أبعاد البراءة الطفولية، المنطلقة بعيونها التي لم يغادرها النعاس بعد، وكأنها تنطلق

 من قيد النوم الحابس للحركة والانطلاق، إلي رحابة واتساع الزراعات الخضراء الباعثة علي الجري والانطلاق إلي رحابة الكون الواسع. والأطفال بهذه الصورة، فيما يفكرون، وبما يحلمون؟. لتفاجئنا الكاتبة بمخالفة أفق توقع القارئ، وبما لا يخطر علي مخيلته. إنهم يفكرون في حمل التابوت. ذلك الذي ينام فيه الميت، يحلمون بحمل الميت. ينام الأطفال تحت التابوت، رافعين سيقانهم، فتتشابك السيقان، التي لا يلتفت إليها الإنسان العادي، إلا أنه { لا يلتفت أحد إلا من يلبس الفضيلة كما يلبس طاقيته عند مغادرة الدار، فيشعل الحدث، وينحته في ذاكرة القرية} وكم توحي العبارة بالكثير من تدفقات المعاني والصور والإيحاءات. ففضلا عن الإشارة لعادة من عادات الفلاح المصري، وهي وضع الطاقية علي رأسه، إذا ما غادر الدار، تلك الحركة الظاهرية الخارجية، التي لات}ثر في داخله، يلبسها ويخلعها وفق الحاجة، تطلق الكاتبة علي من (يلبس) الفضيلة ذات الحركة، فالفضيلة ليست جوهرا في حياته، وإنما هي وفق الحاجة. فيشعل الحدث، وكأنه يشعل النار التي تسري في القرية، لتحفرها في ذاكرة القرية. الحدث طفولي ساذج، إلا أن من في نفسه مرض، يجعل منها نارا موقدة، تنحت في جسد القرية فيصيب بها تلك الطفلة التي تظل تعاني من أثرها ما بقي لها من العمر. يطير من يلبس الفضيلة الخبر إلي أم الطفلة، تترك الأم الفرن المتقد وتحمل الطفلة كما تحمل الأرنب المسلوخ. وتوشمعها عند مركز العفة، وكأنها تختمها بختم لا يفضه إلي رجل المستقبل. تجلس الأم الباكية علي طفلتها، تبثها همومها، ÷ي، هموم المرأة التي لا تري في الرجال غير رجلها، انتظارا لرجل (قد) يأتي أو لا يأتي:

{اختزني أنوثتك لرجل، قد يأتيك لما تصلحين للزواج، قد لا يشبه أباك، قد يملأ

صندوقك عطر اً ونقود اً، قد يذهب إلى السوق ويعود محملاً باللحم والحلوى، قد يبذر دارك عيالاً؛ يركضون خلفك أينما ذهبت، و قد تجلسين أمام الفرن تنضجين خبزهم، في الليل قد يمد ذراعيه، ويجمعك في صدره، قد تدفئك أنفاسه، وتخضعين له، ثم

تسكبين الماء كل صباح أمام الدار. لأجل ذلك؛ حافظي على نفسك؛ فهي حق له لا لصبية القرية}.تستدعي الأم ذكريات عبث الطفلة، أي طفلة في القرية، وكأنها تري صورة طفلتها فيهن، طفلة تلهو، تلوكها الألسن، ويعافها الرجال، وتنسج من حولها الصور، {يتساوي في ذلك الحق بالباطل}. وتنطلق الأم في ذكريات القرية الظالمة التي تنح الولد كل الحق الذي تمنعه علي البنت {  ذاكرة تهب البنين حق الوجود، وحرية الطفولة؛ يمرحون ويلعبون، يحتكون بالإناث؛ عفواً أو عن عمد؛ فكلها خبرات تخدم فحولة الفتى وقدرته لما يكبر؛ ليطرد المرأة حين لا يرغب؛ وقتما وكيفما شاء، ينفي جماعة الإناث لتبقى جماعة من الذكور}.

وفي صورة من الصور العديدة الموحية التي تنحتها "سلوي محسن" تصور الأم التي تأسي علي ابنتها، في حين أنها تأسي علي نفسها، علي المرأة المقهورة، في قرية الرجل. ففي الوقت الذي تمسح بكفها علي وجه ابنتها لتزيل عنها الوسخ، نجد الوجه يزداد اتساخا { وكلما مسحت وجه ابنتها بيدها، زادته اتساخاً. رشت قليلاً من الماء على وجهها، فاستفاقت، وفتحت عينين، أغمضتهما، لما سقطتا في عين أمها، وراحت تحلم بالحرية؛ بالتابوت.}. لتضعنا بهذه الصورة المبدعة في وجه عنوان القصة مرة أخري. أمام تلك اللعبة المؤدية للموت، وكأن الأم التي تحلم بالحفاظ علي ابنتها، تقودها إلي الموت، الموت المعنوي، الموت في الحبس، وفقدان الحرية، مثلما الطفلة تفرح بحرية الخروج في الصباح لتلعب في براح القرية، لكنها، لعبة الموت، لعبة التابوت.

ونجد نفس الروح. روح القرية، وروح المرأة في القرية، التي تبث همومها عبر طفلها، وكأنها، المرأة، تلجأ للطفولة في حلم للعودة إلي البداية، إلي الحلم، إلي الحرية، في

 ثالث قصص المجموعة " لحمة وكحك" ، والتي تكشف فيها عن المزيد من بعض العادات في القرية، وإن كانت قد بدأت فيها استخدام الرمز والموحي، فلم يأت الرمز مجردا، وإنما هي إشارة موحية، تفتح نوافذ التأويل، وتوسع من مساحة الرؤيا، وتزيد القصة أبعادا تنغرس في عمق الإنسان الريفي.

ففي نهاية رمضان، وتسمي "ليلة العجين" ونقرأ كلمات الكاتبة التي تعطي الإحساس بالمعايشة، والصدق الجاذب للقراءة:

{هي ليلة العجين. الماء والدقيق والضحكات. تعجنها وتكورها في حجم البيضة الصغيرة. تملأ الأدعية وصوت المؤذن قلوبهم بهجة ورهبة. وصوت المسحراتي – في آخر أيام رمضان – يحمل لهم السحر كله. يجرون خلفه – في الليل البارد}ص25.

ونبدأ في مواجه الطفل، وتساؤلاته الطفولية الباحثة عن المعرفة، في تصوير صادق لأحاسيس ومشاعر الطفل، عن سبب العجين في هذه الليلة بالذات. ويعلم الطفل أن الليلة ليلة دعاء، فيسألأ الله أن يرزقهم (الكحك)و (اللحمة) الكحك لهم، واللحمة لأبيه. ليكشف لنا عن ندرة اللحمة، ولابد أن أباه اشتهاها، وبفطرته الطفلية، يسأل الله عن يهب أباه اللحم.

 وفي هذه اللية من المفترض أن يسأل الطفل عن جلابية العيد، أو المصروف الذي سيؤجر به العجلة أو يركب المرجيحة، غير أننا  نجد الطفل يسأل عن السنة القادمة، وهل سيكون لديهم مثل ما لديهم هذا العام؟ ويأتي الطفل بحركة طفولية مألوفة، علي المستوي الواقعي، إلا أنها علي المستوي الرمزي تأخذنا إلي ما هو أبعد من الواقع. يدخل الطفل تحت ملابس أمه، لنتبين أن الطفل قد اختفي في أمه وكأن الأم هي التي تتحدث بلسان الطفل، وتسأل عن المستقبل، الذي يمثله الطفل، هل في السنة القادمة، سيكون لديهم مثل هذه الخير هذا العام؟ .

وما أن يسمع الطفل صوت أبيه، حتي يهرع إليه ويسابقه إلي المسجد، وكأن الأم أيضا هي التي تهرع إلي المسجد، تهرع إلي الله، لترمي عليه همومها، في إشارة إلي طبيعة الإنسان الريفي المصري، عندما تضيق به الحياة، أو يخاف الغد، فلا ملجأ له إلي إلي الله.وكأن يلوس محسن لا تعبر عن الإنسان الفرد، وإنما تعبر عن الإنسان المصري، بطريقة قصصية ممتعة.

القصة الثانية في المجموعة "زرع الموتي"، لم تغادر الموت، ولم تغادر القرية، إلا أن الظرف الراهن، الثورة المصرية، فرضت وجودها، غير أنها لا تكتب المباشر، أومأت لها من بعيد {كانت شوارع المدينة تموج بمظاهرات. هتفوا لما يشتاقون إليه، هتف للحرية و الكرامة، هتف للعدل والخبز} وغاصت لأبعد من اللحظة، عقت الثورة لتبدأ من ثورة العمال التي كان الوالد أحد قاتها، ليأتي الإبن من بعده، وكأنه يدفع ثمن ثورية أبيه.

الإبن، الذي يعول الأم والأخوة، يعود من عمله صباح، يصل التحرير، المتظاهرون يحملون لافتات، كتلك التي كان يحملها أبوه، سار خلف والده، في صورة مجازية، لفظته الجموع للخارج، تلقفته الشرطة، لتطشف لنا الكاتبة عن الدولة البوليسية، وممارسات الشرطة التي كانت أحد أسباب الثورة المصرية في يناير 2011، أوسعوه رجلا وشتما ، تركوه يذهب للبيت، ليتقصدوه في بيته، ينهال الرصاص علي البيت، لتحمل الأم وحيدها باكية فيه الأبن والزوج والعائل. وتحولت فرحة العام الجديد بالبيت المغلف بالحوي والزينات، إلي الحزن والسواد.

ورغم متعة الوصف، وتجسيد الصور في بداية القصة، إلا أن النهاية جاءت خطابية تعلو فوق مستوي الشخصية. فنري اأم، أم العامل وزوجة العامل تتحدث لغة ليست لغتها:

{هل يعرف الطغاة التسامح؟ هل يتركون الناس في حالهم؟ حتى لو صاروا صم اًّو بكما  وعميان اً؟. لا يرتوي الطغاة؛ إلا بعدما ينهشون الإرادة، يتركونها تنزف وتشرب دمها، لا يكفيهم قتل الحواس الطبيعية التي خلقها الله، لكنهم يصوبون أيضا نحو الحواس الجماعية}.

فإذا ما عدنا إلي العنوان اللافت والجديد "زرع الموتي" نجده في نسيج القصة، فإذا كان هذا العنوان هو المبتدأ، فالثورة هي الخبر، أو إذا كان القتل هو المقدمة، فالثورة هي النتيجة، لتؤكد لنا الكاتبة أنها تعي تقنية القصة القصيرة، وألا شئ تكتبه مجانيا {وهن يفررن من أمامه} ،  { منهن من جاهرن بسبابه}   ص 32