من معين الطفولة وشغف المعرفة والتواصل الحميم يغترف القاص العراقي أحد محرري الكلمة هذه اللحظة التي لاتزال محفورة في ثؤر الروح، وقد استحالت إلى رمز واستعارة تمثلها هذه الوردة التي لاتزال في جيبه بعد ثلاثين عاما. أهي وردة التوق لفض أسرار العالم أم الحنين الملتاع للتواصل؟

أزقة الروح

سلام إبراهيم

غالباً ما يتركني في الدكان وحيداً، فأبقى طوال الصباح، أسير دكته العالية، أراقب بعيني ابن الثامنة الشارع العام، الذي يحفل بالقادمين من الريف، والمتصل بمداخل الأزقة الضيقة المؤدية إلى الجامع، فعلاوي الحنطة المفضية بدورها إلى السوق المسقوف. الشارع يغلي، مزاد لبيع الحمير. قرويون يترجلون من لوريات خشبية مصطحبين نسوة هزيلات، صفراوات. رجال ينعلون حوافر الخيل. باعة متجولون. حدادون. مقاه. عربات. أقفاص عصافير، وشمس صيف لاهبة.

أتلاشى في الضجة، مبحراً عن سجني بين أكداس الخشب، المتراصة إلى جوانب الدكان لاعناً اللحظة التي قادتني فيها، ورمتني إلى هذا الضجيج قائلة لخالي:

- مَرْمُرهْ ... دعهُ يعِ لزمانه!!.

لم أدرك ما جنيته من ذنب، سوى ارتباكي من سؤالها الصعب كلما عدت متأخراً للبيت.

- أين كنت؟.

أصاب بالبله، فأنطوي في صمتي خائفاً، إذ لم أكن مع أحد، ولم أتعود أعذاراً كاذبة، وإذا صدقتها الإجابة فسوف تكذبني .. فغالباً ما تأسرني أشياء غريبة، تنسيني نفسي والبيت والوقت.. يشغلني مصير طائر يحلق في السماء، أو نملة تلج ثقباً في الأرض، أو اهتزاز سعف نخلة. فأرحل مع الطائر إلى البعيد، وأدخل مع النملة إلى ثقب الأرض، ويخدرني اهتزاز السعف وأفياء البساتين.

- أين كنت؟ أجب!.

- .....

- ما بك أخرس!...

أخرس ... أخرس.. تخرسني شبابيك البيوت، وما تزخر به من دفء وأسرار، فأخلد إزاءها ساعات، أتخيلها تجنبني كف أبي السكير، ونواح أمي على حظها العاثر، وزحمة غرفتنا الطينية الوحيدة، المكتظة بإحدى عشرة نفساً. أيأس في صمت فأبدد قنوطي بالتيهان في برار شاسعة تحيط بالمدينة. ألاحق عصافير برية تدور حولي، أجول بين سواقي الحقول، أجمع أعشاب الريحان والخباز، وأسكن مسحوراً بزرقة السماء، إلى أن يوقظني الجوع وغياب الشمس، فأهرع فزعاً إلى المدينة. مرة أخرى.. أكون قد نسيت نفسي عن موعد العشاء، أو قضاء حاجة أرسلوني من أجلها. أتسلل خلسة إلى باحة الدار ميت الأطراف، لتستقبلني أمي بوجهها العاصف وسؤالها المريع:

- أين كنت؟.

المحنة اليومية نفسها، وإيغالي بصمتي الذي يزيد غضبها، ويجعلها تنقض علي بصفعات تصيرني أكثر عناداً، وأشد تعلقاً بأحلامي، فألوذ لصق جدار الطين، باكياً بخفوت من يشعر بأنه مظلوم والآخرين مذنبون بحقه.

* * *

حدث ذلك صدفة شأن الكثير من الأشياء، فأخذتني أحلام من نوع آخر .. أكثر حلاوة وجنوناً. أوحشني صمت الخشب. خنقتني نشارته، ووحدتي وسط ضجيج الشارع، فانسللتُ تائقاً لمعرفة ما يدور حولي في الأزقة القريبة. احتوتني رطوبتها وبيوتها القديمة المتعانقة الشرفات، وأفياؤها الباردة. توغلتُ متأملاً جدراناً شائخة، وأبواباً خشبية مقوسة، وسلالم حجرية تصعد إلى عتبات عالية وأخرى تنزل إلى باحات فسيحة. في ظلال تزهر بصبية حفاة يلعبون، تنفستُ بعمق هواء خالياً من رائحة الخشب، وفي قاع زقاق لا مخرج له، حدثت تلك الصدفة. رمتني صبية بيضاء فأسرتني. رمتني من بين أهداب سوداء مقوسة إلى أعلى وأسفل قليلاً، بنظرة ناعسة من عينين بنيتين كأنهما تهمان بالبكاء. انجذبتُ نحوهما، قرفصتُ أمامهما مفتوناً مستكيناً، يفصل بيننا قدر باقلاء وحفنة صمت. ثغرها البالغ الصغر انفرج عن صف أسنان منضودة بدقة. انهمكتْ كفاها الناعمتان بكيل حبوب الباقلاء. تدلتْ خصلة بحلكة أدكن ليل، وتأرجحت حاجبة عينيها. ردتها بنفضة أفزعتني. مدتْ ذراعها العارية اللدنة، ووضعت الصحن المليء أمامي. تاهت عيناي، واختفت أصابعي في التراب، وهي تفتش عن صحن الباقلاء. شملتني بنظرة ماكرة، كانت تكبرني قليلاً. رأيت في التماعة عينيها الصافيتين بوضوح .. بلل الأزقة، ولعب الصبيان، والجدران القديمة، والفيء وذهول وجهي.

- يا... يا.. ما بكَ؟.

انبعث من صوتها الهامس باضطراب، طيب غريب الرائحة، أشبع نفسي بخلاصة أعشاب برية. رافقني ذلك الطيب الذي يذويني عطره إلى هذه اللحظة. أكلتُ صحناً وثانياً وثالثاً حتى نَفَدَ ما لدي من نقود، ورابطت حولها، ألعب مع الصبية، وعيناي مشدوهتان بين اللعب وبلل سماوات عينيها الموشكتين على البكاء. نسيتُ الدكان وخالي والدنيا، ولم ينتزعني من استغراقي إلا صوت "الله أكبر" يؤذن لصلاة الظهر، فزلزل بي الأرض. تجمدتُ لحظة ملتصقاً بالجدار، قبل أن أنطلق راكضاً بجنون، وعيناها المتسائلتان تغيبان في خوفي .. ويا لتلك المسافة بين قاع أحلامي ودكان خالي، وما ينتابني فيها من أحاسيس فظيعة، لم أشعر بمثيل لها إلا حينما تولهتُ بقطف الورد من بستان روحي. بلغتُ الدكان لاهث الأنفاس، فطالعني خالي مكفهراً، وألقى السؤال المخيف ذاته:

- أين كنت؟.

أيـ...ن .... أيـــــ..ن .. كـ.. نـــ.. تـــ.. أ... يـــ... أطفأت ضجيج الشارع في روحي، وجعلت رأسي يصفر بفراغ الصمت، الذي يسبق الصفعة العاصفة. لذتُ خلف خزانة خشبية. انتحبُ بخفوت، وأحلم بالاختباء خلف حوائط قديمة تستدير بقيعان سماوات بنية، وبين أصابعي وردة.

* * *

في الصبيحة التالية كانت وردة تعطر طيات جيبي. غادرني خالي مكفهراً، مكرراً تهديدات باقتلاع أذني إذا تركت الدكان. لم يكد يختفي في الضجيج حتى حوصرتُ بصمت الخشب الميت، وسكون الجدران، ونداءات الباعة، ووقع حوافر الخيل، ووجوه القرويات الشاحبة المترجلات، الصاعدات، من وإلى لوريات خشبية تذهب وتجيء. ضاقت أنفاسي، فانسللتُ إلى قعر زقاقي، ناوياً رؤيتها وإعطاءها وردة. "دقائق وأعود" قلت لنفسي، وأنا أقترب من أحشاء ذلك الجدار العتيق، وعندما انزلقتُ إلى قاعه المسحور، انزويتُ في أفياء عينيها الموشكتين على البكاء.

- يا... يا... ماذا بك؟.

قالتها بغنج صبية، أدركت معنى الصمت في عيني الحالمتين، المختلفتين، الضائعتين بين خشب الأبواب المتداعية، وأكراتها الحديدية الصدئة، وأقواس الشبابيك المتقابلة، الغارقة في قعرها البعيد. اقتربتُ وابتعدتُ، عزمتُ وترددتُ، وأصابعي تلتفُ حول عنق الوردة النائمة في جيبي. تلكأتُ محتدماً بهواجسي. عزمتُ .. دنوت .. حتى كدت ألاصقها .. خدرني عطرها الخفي فاستخرجتُ بعناء كفي المنتفضة، ورميت الوردة إلى حضنها. أسرعتُ خافق القلب مبتعداً، التفتُ .. كانت تشم وردتي وعيناها تفيضان بدفق هادئ ... أغرقني، فبقيت راقداً بالوداد المائج في نهر بشرتها البيضاء، ولم أصحو إلا و"الله أكبر" تصب نيران جهنم على رأسي، لتحيل هناءاتي فحماً. هببتُ مرتعداً من انخساف العالم بي. جريتُ مذعوراً. استقبلني خالي على الرصيف ممسكاً عصا غليظة، أربد وأرعد زافراً حريق السؤال:

- أين كنت؟.

المحنة ذاتها، لعثمة وصمت، ثم أضلاعي المتورمة، وخلف الخشب أنشج، وتتراءى لي في غشاوة الدمع الرقيقة، ذات العينين البنيتين تشم وردتي، وترش فيض رذاذها الناعم على ثيابي.

لم أكف عن الانسلال الهادئ وفي جيبي وردة ... وعودتي اللاهثة وفي روحي هول.

في آخر مرة قابل اضطرابي ولهاثي دون اكتراث. انتظرتُ ريثما أتم نشر قطعة الخشب، أسندها إلى الحائط. التفتَ إليّ. تأملني طويلاً، ثم أقفل الدكان، وقادني بصمت متوتر إلى أمي، رماني نحوها قائلاً بصوت أسفٍ:

- خذيه ... إنه لا يصلح لشيء!

واستدار بقامته الفارعة المشدودة ليغيب في أفق الشارع. رمتني طويلاً بعينين شارفتا على البكاء، وتحسرت بألم. كنتُ مغتبطاً لتحرري من القيد، وحزيناً لأجل عيني أمي.

***

بعد ثلاثين عاماً... ما زلت أنسلُ غفلة ممن حولي وفي جيبي وردة.