رسالة باريس

هل مستقبل السينما في الفيلم التسجيلي؟ إطلالة علي بضع أفلام في "كان" الستيني وبقايا صور

رسالة فرنسا

صلاح هاشم

كشف مهرجان " كان " في دورته الستين التي اعتبرها من أفضل الدورات في تاريخ المهرجان الذي اتابع أعماله منذ أكثر من ربع قرن، كشف عن ارتباط السينما بالسياسة، حتي في أكثر أفلامها شعبية او جماهيرية من نوع "البلوكبستر" ـ أفلام الإنتاج الضخم ـ التي تحطم الأرقام القياسية في إيرادات شباك التذاكر،كما في أفلام روكي وسوبرمان وأنياب الخ. ولسنا بالطبع ضد هذه الأفلام الشعبية Popular Films كما يطلق عليها في أمريكا، ولا نطالب بأن تكون كل الأفلام، من نوع "سينما المؤلف" التي يدعمها المهرجان. فالتنوع مطلوب في صناعة السينما. إلا أن الأفلام شعبية وفنية، التي تصنع للجمهور الكبير، أو لقلة من عشاق السينما الذواقة من "النخبة" تكشف دوما عن توجهات ومسارات واختيارات وسياسات معينة. فأي فيلم هو فيلم "سياسي" بالدرجة الأولي، ولا يشترط أن يحكي عن تشي جيفارا أي عن قائد أو بطل أو زعيم أو ثورة، ليكون فيلما سياسيا، مثل فيلم Z لكوستاجافراس، أو فيلم "يحيا زاباتا" للأمريكي اليا كازان، الذي يحكي عن ثورة زاباتا في المكسيك، واضطلع ببطولته مارلون براندو. بل المهم لأن يكون الفيلم سياسيا، أن يحكي عن "تناقضات" في قلب العملية الاجتماعية التي يمر بها المجتمع، والتي تتشكل في لحظة "تاريخية" معينة. ولذلك فان أي فيلم، ومهما كان موضوعه، والنوع الذي ينتمي اليه، حتي لو كان ينتمي الي أفلام الخيال العلمي، يكشف بالتالي عن توجهات او سياسات معينة، تكون بمضي الوقت فاعلة، ومؤثرة في الدماغ، وهي إما أن تضع عينها إنتاجيا علي "جيب" المتفرج، وتعمل علي جذبه بشتي الطرق والمغريات لمشاهدة الفيلم، وأحب أن أطلق علي هذا النوع من الأفلام "سينما الكوكاكولا" للاستهلاك السريع مثل شطائر الهمبورغر، وتكون كما في جل أفلام السينما العربية التجارية التافهة ضد "التفكير" عموما، وتعمل علي ثبات الأوضاع والأنظمة والسياسات، وترفض أو تأبي أن تشارك في الحوار والجدل، وتوحي بأنه ليس في الإمكان أبدع مما هو كائن، وسيكون.

ملصق مهرجان كان الستين

الفيلم أداة للتأمل والتفكير
وإما أفلام تريد من خلال نظرة خاصة كما في فيلم "علي حافة السماء. في الجانب الآخر" لفاتح آكين أن تشارك في الحوار، وتحفز علي التأمل والتفكير، لتكشف عن "رؤية"، وترتبط بقضية، كما في أفلام المخرجين المبدعين المؤلفين المهمين الذين حضروا "كان" هذا العام وبمناسبة عيده الستيني بالعشرات، وهؤلاء وغيرهم، يعتبرون أن السينما كأداة للتفكير والتأمل في مشاكل مجتمعاتنا، لا تقل أهمية أبدا عن رواية لهيمنجواي أو محفوظ،، او قصيدة لطاغور أومحمود درويش، أو لوحة لدافنشي أو الاخوين سيف وأدهم وانلي، أو تمثال لمايكل انجلو أو محمود مختار، اذ تطمح هذه الأعمال الفنية علي تنوعها، إلي أن تكون عملا إبداعيا مغايرا وأصيلا، يتجاوز الفناء والعدم، لكي يصبح ملكا في التو لجيلنا، ولتلك الأجيال القادمة من بعدنا، ولكل العصور. ومن منطلق أن السينما والأعمال الفنية وقبل ان تكون للتسلية وتمضية أوقات الفراغ، والاستمتاع هكذا للاستمتاع علي ألفاضي، هي قضية "إبداع" وفلسفة ورؤية، أي خلق جديد، و"نحت" في الزمن، يريد أن يتواصل مع الأبدية. ولذلك تلتصق هذه الأفلام بوجداننا، كما يقول المفكر والفيلسوف والمخرج السينمائي الفرنسي جودار، وتعجبنا وتؤثر فينا كما في أفلام شارلي شابلن وبستر كيتون وبونويل وستانلي كوبريك وصلاح أبو سيف، لأنها وبمجرد إعجابنا بها، تصبح في التو قطعة منا، بتجاربها وتثرينا، بل أننا عندما نتحمس لها، ونريد أن نكتب عنها، تصبح فجأة وفي التو أيضا ولدهشتنا، تصبح أكبر منا.

بحار زرع حديقة
ومن هنا تتكشف لنا صعوبة الكتابة عن السينما وأفلامها، التي هي أشبه ماتكون ب "نوع" من المرض "الوجودي" اللذيذ، و "الحمي" التيفودية التي تسكنك، حين تشاهد عملا سينمائيا بديعا مثل "روميو وجولييت" للايطالي زيفاريللي مثلا، فيكون أكبر من مسرحية ويليام شكسبير المأخوذ عنها ذاتها، بقدرته علي الوصول الي قلوب كل الناس ـ متعلمين وأميين ـ في العالم بلغة الصورة، ومن دون ترجمة.وربما لم يكن احد يعرف قبلها، أن بريطانيا أنجبت هذا الكاتب العبقري، مؤلف "هاملت" و"عطيل" و"الملك لير" و "روميو وجولييت"، فإذا به يتعرف عليه وللمرة الأولي من خلال السينما، التي يقينا سوف تدفع بذاك الفيلم، باتجاه قراءة أعمال شكسبير من جديد، والإشادة بموهبته وبعبقريته، ويكفي مع هذه الحمي التي تتلبسك، حين تشرع في تقييم عمل ما وتكتب عنه، أن يكون لك فقط، شرف محاولة الكتابة عن تلك "الروائع"، في حديث صوفي هامس عن الكواكب والنجوم، وذلك البحار القرصان، الذي زرع شجرة علي حافة البحر في فيلم "لص بغداد"، فلما أثمرت، أنطلق في بحار الله، وهكذا تعيد الينا السينما مجد الطفولة.

والجميل انه كانت هناك تحية لهذا الفيلم "روميو وجولييت" للايطالي زيفاريللي في المهرجان، من خلال فيلم قصير مفاجأة للمخرج الإيراني عباس كيارستمي في "أيقونة" كان السينمائية في عيده الستيني، ونعني بها فيلم "لكل سينماه"، حيث يكشف المخرج الإيراني الكبير في فيلمه القصير ذاك ـ من ضمن أفلام أكثر من 33 مخرجا من أنحاء العالم من بينهم يوسف شاهين والفلسطيني ايليا سليمان ـ يكشف عن تأثيرات مشاهدة فيلم "روميو وجولييت" لزيفاريللي علي وجوه مجموعة من النساء، داخل صالة العرض وهم يتفرجون علي الفيلم، فإذا بالدموع تنسكب من عيونهن حين يعلن الراوي في خطبة الوداع، عما جلبته تلك "الكراهية" والنزاعات بين البشر من مآس، تنفطر لها قلوبنا وتدمي أعيننا، علنا نتأمل وننظر ونعتبر، وإذا بك تسمع في "كان"، وتحديدا يوم الاحتفال بسينما لبنان، أن الحرب اشتعلت هناك من جديد. ونلاحظ ـ عودة الي فيلم كيارستميـ أنه يركز فقط في الفيلم علي وجوه النساء، في لقطات كلوز آب مقربة، ولا يأتي بأي لقطة من فيلم زيفاريللي ويضعها في فيلمه، بل يكتفي فقط بشريط الصوت وصوت الراوي في الخطبة المذكورة، وبالتالي يحفزنا علي أن نبحث عن صوت الراوي، لكي نعرف متي نطق، وفي أي فيلم، ونتساءل عن سحر السينما الخفي.

ولذلك أعتبر، ومازلت واقعا تحت تأثير وسحر الأفلام "السياسية" المباشرة التي عرضها "كان" الستيني، وبعد انقضاء أسبوع علي المهرجان الذي كنا نلهث خلف أفلامه، ونركض مثل المسعورين مع أربعة الآف صحفي ومصور وناقد من قاعة إلي قاعة، ونقف تحت الشمس الحارقة في طوابير طويلة تمتد من قصر المهرجان الي نهاية شاطئ الكروازيت، وكأنك يا مؤمن من فرط الزحام تشهد يوم الحشر، وننتظر.

ثورة الجزائر في فيلم تسجيلي
أعتبر أن فيلم (محامي الرعب L'Avocat de la Terreur) أو الإرهاب للمخرج الفرنسي القدير باربيه شرودير، وهو من النوع التسجيلي، وقد عرض في تظاهرة "نظرة ما" علي هامش المسابقة الرسمية للدورة الستين، هو أهم فيلم سياسي عرضه المهرجان، و قد كان بمثابة "قنبلة" انفجرت في كان. لا لأن الفيلم يحكي عن المحامي الفرنسي من أصل فيتنامي جاك فرجيس، الذي اشتهر بالدفاع عن المناضلة الجزائرية جميلة بوحريد، (تزوج بها وأنجب منها طفلين)، وثورة الجزائر، ومن يطلق عليهم في الغرب ب"الإرهابيين" مثل كارلوس، أو "المحرفين" مثل الفيلسوف الفرنسي الراحل مكسيم رودنسون، بل لأن فيلم (محامي الإرهاب L'Avocat de la Terreur) الذي أعتبره أهم فيلم فرنسي "عربي" عرضه المهرجان ضمن قائمة الاختيار الرسمي، يطعن هكذا علنا في ماضي فرنسا الاستعماري، ويكشف عن جرائم تلك الحقبة الاستعمارية في تاريخها، التي تتحاشى الأفلام الفرنسية روائية وتسجيلية طرحها ومناقشتها إلا في ما ندر.
كما يجرؤ علي المساس بضمير فرنسا، ليثيره ويهزه ويحركه، في فيلم أشبه ما يكون بسلسلة "اعترافات" يكشف فيها جاك فرجيس اللثام عن وقائع مذهلة، والمذابح وأعمال التعذيب التي ارتكبت، ويأتي لها في فيلمه بمقاطع سينمائية نادرة، من ضمنها لقطة سينمائية بالأبيض والأسود سوبر 8 لمظاهرات صطيف في الجزائر، التي خرجت الي الشارع في يوم عيد تحرير باريس، لتهتف بحياة الجزائر، وتطالب بالاستقلال، في وقت كانت الجزائر تعتبر فيه قطعة من فرنسا، وإذا بالعسكر الفرنسي المحتل يفتح النار علي المتظاهرين الذين راحوا يلوحون بعلم الجزائر، ويحصد بنيران بنادقه أكثر 10 آلاف شهيد وربما أكثر. ومن خلال اعترافات جاك فرجيس يقدم الفيلم بانوراما لرحلته المهنية الشخصية، التي ارتبطت برحلة شعبنا العربي الجزائري علي طريق التحرر والاستقلال، وعلي لسان ابطال وشخصيات ثورته، ومن خلال شهاداتهم التي تحرك فينا مشاعرنا، وتجعل الدموع تنفطر من مآقينا، حين يحكي جاك عن تلك الوقائع وأحداث ثورة الجزائر، ويرفض في المحكمة الفرنسية أن يكون مدافعا عن "الإرهابيين" كما تطلق عليهم، بل عن المناضلين الثوريين الذين يحاربون من أجل استقلال بلادهم، ونيلها حريتها.

ويبكي جاك فرجيس في الفيلم مثل طفل، حين يتذكر لقائه لأول مرة بالمناضلة الجزائرية جميلة بوحريد، وكيف بكي حين شهد أهوال التعذيب الذي مورس عليها، ولم تهتز له شعرة في جسدها، وظلت صامدة وتشمخ بكرامتها. وكان أن وقع في حبها من أول نظرة، وقاد حملة دولية لإطلاق سراحها بعد أن حكمت عليها المحكمة الفرنسية بالإعدام، وجعل شخصيات سياسية دولية كبيرة مثل نهرو تطالب بالعفو عنها، وروج لقضيتها بكتاب من تأليفه، ونجح بالفعل في ان يجعل جميلة بوحريد رمزا للمرأة المناضلة في العالم، وجعل العالم كله يتظاهر بهدف العفو الرئاسي عنها، وحقق انجازا مهما، لعله أهم أنجاز في حياته، عبر مشاركته في ثورة الجزائر، وعلي الرغم من علاقته المتوطدة مع الديكتاتور الكامبودي بول بوت الدموي الجزار.

المحامي الفرنسي جاك فرجيس كما يظهر مقيدا في ملصق فيلم محامي الرعب لباربيه شرويدر

ومرة ثانية يروح فرجيس يبكي في الفيلم، حين يصطحب في مشهد من أكثر مشاهد الفيلم إثارة، وأشدها وقعا في النفوس، يصطحب مجموعة من المناضلات الجزائريات إلي غرف التعذيب والحبس التي اعتقلن فيها، فيتذكرن في حضرته كيف كان أهل مدينة الجزائر يصيحون ويزغردون حين يتم إعدام أحد المناضلين الجزائريين في ساحة السجن، وفجأة تنطلق أصوات الفرح من أحشاء المدينة / من النوافذ والأسطح وكل مكان، لكي تسافر في أنحاء الفضاء، وتعلن أن يوم الخلاص قد بات وشيكا، ويظهر في الفيلم ملصق فيلم جميلة بوحريد الذي أنتجته ومثلته الفنانة المصرية والممثلة القديرة ماجدة وإخراج يوسف شاهين، كما تظهر بعض مقاطع من فيلم المخرج الايطالي بونتوكورفي الشهير "معركة الجزائر" الذي يعد أحد كلاسيكيات السينما السياسية العظيمة.

فيلم "محامي الإرهاب" بشهادة واعترافات جاك فرجيس، وأهله وبعض معارفه و أصدقائه مثل رسام الكاريكاتير الفرنسي الشهير، يقدم رحلة سينمائية مذهلة في التاريخ السياسي لعصرنا خلال السنوات الخمسين الأخيرة، ليكون أداة تفكير "موضوعية" في أيديولوجية الإرهاب ومفاهيمه، حيث يفند فرجيس مقولات وتصورات مغلوطة، ويجعلنا نعيد النظر في تلك المحاكمات، التي تدافع بها الأنظمة السياسية عن مصالحها، ويكشف عن كواليسها وزيفها ونفاقها، ولا يخلو الفيلم بفضل شخصية جاك فرجيس "السري الغامض" من حس فكاهي محبب، يجعلنا أحيانا نضحك ونسعد جدا بالتعرف علي هذه الشخصية الآسرة التي تضم كافة المتناقضات، لكي تنصهر في بوتقة إنسانيتنا، وتصنع من جاك فرجيس شخصية جد تشبهنا، لكن ثمة أسرار تظل غامضة في الفيلم، ولا يكشف عنها جاك فرجيس، لأنه كما يقول لا يتعدي أبدا ذلك الشريط الأبيض الذي وضعه لنفسه، لأن من يكتم حزنه في قلبه، كما يقول المسرحي الانجليزي العظيم أوسكار وايلد يموت مخنوقا به.

فيلم "محامي الإرهاب" يقدم "درسا" في السينما التسجيلية السياسية، التي توظف السينما كشهادة للتاريخ، ومن دون أن تحول الفيلم إلي "محاكمة" لإدانة هذا أو ذاك، بل تتركنا نتفرج ونتأمل ونفكر ومن بعدها نستطيع وحدنا أن نحكم أو لا نحكم بمشيئتنا، وبكامل حريتنا، ولذلك يتحاشى الفيلم أن يكون هناك كما في الأعمال التسجيلية التلفزيونية ذلك "الراوي" الذي يدير دفة الفيلم، ويحركنا في الاتجاه الذي يريد، فنعتنق أفكاره، ونحكم بمعياره، ونصدق كل كلمة ينطق بها.

سيكو مايكل مور: درس في الديمقراطية
كما عرض "كان" أيضا مجموعة من الأفلام التسجيلية الطويلة الرائعة خارج مسابقته الرسمية، مثل فيلم " سيكو " SICKO لمايكل مور ـ وهو من أنضج أفلامه،وأقوي من فيلمه "فهرنهايت" بكثير ـ الذي يعرض فيه لنظام التأمين الصحي في أمريكا. لا لكي يحكي عن الوضع البائس لعلاج المهشمين والصعاليك الغلابة، وهؤلاء لا توجد مؤسسة تعالجهم ببلاش، أي من دون مقابل في أمريكا، بسبب فقرهم وبؤسهم، ولهم رب أسمه الكريم، وعليهم أن يقوموا كما يظهر في أول لقطة من الفيلم بتخييط جراحهم، وعلاج أنفسهم بمعرفتهم، وقد تتكلف خياطة عقلة إصبع معطوبة ومبتورة في حادث، وإعادتها إلي مكانها الأصلي أكثر من 25 ألف دولار في المستشفي! بل لكي يحكي عن هؤلاء القادرين، الذين يدفعون من أموالهم للاشتراك في شركة تأمين تصرف لهم مستحقاتهم بعد العلاج، أو توافق علي الإنفاق علي علاجهم. ويكشف هنا مور ويفضح أساليب نهب وخداع المواطن الأمريكي الميسور، إذ أن هذه الشركات تتحايل وتتهرب من الدفع بشتي الطرق، وتبكي موظفة في احدي هذه الشركات في الفيلم، لأنها رفضت طلبات العلاج للعديد من المرضي، عملا بسياسة شركة التأمين التي تعمل بها، وحصلت علي ترقية. لكنها كانت السبب في وفاة هؤلاء المرضي المساكين. كما يكشف احد العاملين الجزارين عن ميكانيزمات وآليات النهب التي تعتمدها هذه الشركات التي تمارس أيضا سياسة التمييز العنصري، حتي أنها رفضت طلب ممرضة علاج زوجها المريض بالسرطان، لأنه أسود! كما رفضت أيضا طلب فتاة شابة أن تدفع الشركة مصاريف علاجها من السرطان، لأنها صغيرة السن، ولا يجوز في عرف الشركة لمن هو في سنها، أن يصاب بذاك المرض اللعين، وبالتالي لن تدفع نفقات علاجها منه! وتتوالي تلك الحالات والشهادات المفزعة في الفيلم حتي تشعر بالقرف والغثيان، وتحمد الله علي أنك لا تعيش في أمريكا، ويعري هنا مايكل مور الحلم الأميركي وأسلوب الحياة علي الطريقة الأمريكية، ويكشف من خلال ما وقع لصحفية ورئيسة تحرير جريدة أمريكية كيف صرفت حين مرضت كل مدخراتها علي العلاج، بعدما رفضت شركة التأمين دفع نفقاته، وكيف اضطرت المسكينة إلي بيع منزلها، لتصبح في ما بعد عالة علي بناتها، وتكاد تتسول منهن ركنا في البيت لتسكن فيه مع زوجها.

المخرج الامريكي التسجيلي مايكل مور

إن صحة المواطن الأمريكي كما يكشف مور في فيلمه، وليس فقط بالنسبة للمعذبين المهشمين الذين يعيشون علي الرصيف، بل لأفراد الطبقة الوسطي أيضا، تلك التي تشكل الغالبية العظمي من الشعب الأمريكي، هي بالفعل مأساة. ومور لايكتفي بعرض تلك الحالات المأسوية المخيفة فقط في الفيلم، بل يقارن أيضا بين النظام الصحي في أمريكا، القائم علي نهب المواطن وسرقته، وبين أنظمة وأساليب علاج المواطن في كندا وانجلترا وفرنسا، ويتنقل بين هذه الدول، ليكشف كيف تتحايل أمريكية علي العلاج في كندا، من خلال الزواج الأبيض المزيف بمواطن كندي متفاهم يرأف بحالها لكي تستفيد من العلاج المجاني هناك للمواطنين. ويظهر مور في فيلمه كيف يعالج المواطن البريطاني مجانا، بل وتقوم إدارة المستشفي أحيانا بدفع تكاليف انتقاله إليها، وعودته إلي داره بعد العلاج! ويحكي فرنسي في الفيلم كيف هرب من جحيم المستشفيات الأمريكية حيث كان يعمل هناك، ليعالج في بلده من السرطان، حيث لم توافق شركة التأمين علي تحمل نفقات علاجه. ويجتمع مور مع مجموعة من الأمريكيين الذي يعيشون في باريس، فيصورون له فرنسا علي أنها من ناحية العلاج جنة الله في أرضه، إذ يعتبر العلاج حقا مكفولا لكل مواطن.

وفي لندن يستمع إلي محاضرة لأحد رجال السياسة عن تاريخ العمل بنظام التأمين الصحي، يحكي فيها كيف قرر الشعب البريطاني تطبيقه بعد الحرب العالمية الثانية، بعدما صوت الناس مع هذا القانون الذي يقضي بتوفير العلاج لكل فرد، ويكشف في حديثه لمور عن انه لولا العمل بسياسة الديمقراطية التي تتيح للشعب أن يصوت ويختار بنفسه، لعلاجه ورفاهيته ومصلحته، ما كان لذاك النظام أن يطبق، ويضيف أن صحة أي مجتمع لا تقاس إلا بصحة المواطن، وكل ماعدا ذلك فهو هراء. ويكشف مور في فيلمه أن أمريكا تحتل المركز الخامس والثلاثين في قائمة أفضل البلدان التي توفر علاجا جيدا لمواطنيها، وتأتي بعد اندونيسيا وجزر القمر!

فيلم " سيكو " كان أحد أبرز الأفلام التسجيلية التي شاهدناها في المهرجان، وهو يقدم صورة لصانعه وما كنا ننتظره من مور، ولم يخذلنا، بقدرته علي المواجهة والتقييم والتحليل والمقارنة والنقد في عمل مقنع جدا ورزين، وبنفس الحس الفكاهي العالي وخفة الدم اللذان يطبعان دوما مور وأفلامه، وتكاد لا تشبع من الضحك في الفيلم، حين يتهم صراحة بوش بأنه عبد مرتشي، يتقاضي من لوبي شركات الأدوية ثروات طائلة، حتي يسمح لها بأن تحدد أسعار الأدوية بمزاجها، وتنتفخ جيوب أصحابها بالدولارات. وأكد مهرجان "كان" الستين من خلال هذين الفيلمين علي أن السينما التسجيلية هي الأقوى الآن علي ملاحقة أحداث الحاضر وتناقضاته ومشكلاته، وأنها من خلال البحث والتنقيب في تاريخنا وذاكرتنا ـ لا تسلط الضوء علي ماضينا فقط، بل تنير أيضا حاضر زمننا، وتجعلنا أقدر، علي استكشاف ذلك المستقبل الذي ينتظرنا عند حافة الأفق.