من بين سطور الكاتبة الفلسطينية تنداح ذكريات الفخار مشتبكة بالذات المفردة، والطفولة، والأم، والأغنية الشعبية، والثقافة العربية، وتراكب الحضارات البشرية. يلفح توّقد كلماتها جماليات تكوين الصلصال، ويشير لوشمٍ يترك علامته الفارقة وهو يكتب التاريخ على آنية ذاكرةٍ لا يطمسها النسيان.

الفخار علاقة عتيقة تمزج الطين بالنار بروح خلاقة

أمل جمعه

في ظلّ أمي وتعاليمها الأولى
كنت حينها طفلة هشة وصعبة المراس، عندما صرخت بينما شقيقتي تأكل التراب الأبيض أثناء انشغالنا بعجن التراب بالماء (لعبة طفولة نقلد بها أمي التي تعجن كل صباح في لجنٍ كبير من الألمنيوم خبزنا اللذيذ).

احتارت أمي بعادة شقيقتي الغريبة بأكل التراب الأبيض، والذي يسمى (الحُّور)، وصرنا نلاحقها موبخين، ونضبطّها وهي تختلي في ركن قصي ّتأكل التراب. من ثم استبدلت  شقيقتي عادتها قسراً بِسف القهوة المحمصة الطازجة. لم نصل لتفسير طبي أو علمي لهذه الحاجة الغريبة لسف التراب (أكله)، حتى رأيت سيدة في حقل أمي تسف السَمكة، وهو تراب أحمر متكتل رطب قليلاً، ببشّر خاص وسعادة تفيض من وجهها، بينما فمها يمضغ التراب. قلت لأمي المرأة المجنونة تأكل التراب؟

ضحكت أمي، وقالت لي هامسة وهي تخلع الأعشاب النامية بتطفل بين عروق البازيلاء الخضراء الفتية:

"المرأة تتوحّم، بعض النساء تسفُ التراب أثناء الحَبَل"(1).

بقي المشهد عالقاً في ذهني، وطفولتي تسأل كيف يأكل الناس التراب؟

أما المرأة التي أطلقت عليها لقب المجنونة، فردت على دهشتي بعبارة أكثر لُبساً:

"نشتاقُ لطينتنا يا حبيبتي"

أمر ربما بدأت بفهمه وأنا أزور عمتي في أريحا أوائل السبعينيات، والنساء يجبّلن الطين بالماء ويخلطنه بالقش، تم يقمن بصبه في قوالب خشبية مدهشة وبحركة شديدة الإتقان، تدلق النسوة محتوى القالب على الأرض ليكون بشكل علبة مستطيلة (20 × 10 سم مربع)، تسمى اللّبن وتستخدم بعد أن تجف لبناء البيوت الطينية.

بالطبع، بقيت أنتظر في شمس أريحا الحارقة جفاف القطعة، التي أهدتني إياها سيدة تضع حلقاً في أنفها، وشكلتها لي دمية صغيرة. ولأنني طفلة لا تتمتع بالصبر حملتها لاعتقادي بجفافها فسقطت من يدي وتكسرت وسط ضحكة بدوياّت قرية العوجه المميزة، ولهجتهن الحارة:

"يا بنيّة" ـ "قالت لي إحداهن ـ الطين لازم ينشف قلبه من جوا، يمسّي ويصبّح".

أن أكون على مهل، درس تعلمته بالكثير من الجهد وأسئلة طفولتي تفوق بطأ دوران الصباح والمساء، كنت أحس النهار طويلاً وأريد أن أكبر على عجل، وأكثر مصطلح رددته بصغري لماذا؟؟

مساءلة أغاظت من حولي، ولم تصبر عليها إلا أمي الرائقة مثل جدول ماء صغير جارٍ. أتذكر أمي تقول، وتغني بصوت متهدج:

"لا تطلعي على الجبل يا عليبة السكر، لا تأمِني للعزب (العازب) ترى العزب يسْكرّ ولا تطلعي على الجبل يا والهوى غربة، ما يجرح القلب غير الموت والفرقة"(2).

بينما لم ينوقف سيل أسئلتي:

ـ لماذا تبكين حين تحمصين القهوة؟
ـ....!
ـ لماذا لا تعجنين بماء بارد؟

تجيب أمي:

ـ الخمائر تريد الدفء.
ـ لماذا يخمر عجين الخبيز، ولا يخمر الطين المجبول، ما دامت نفس القاعدة تتبع؟

درس تعلمته لاحقاً في حصة الكيمياء، وعرفت أن الخبز الذي نأكله تنضجه كائنات حية تتلفها الحرارة الشديدة وينعشها الدفء وتقاوم برد "الفريزر" وهي تنكمش في حالة كمون احتيالي، لتعود للحياة مع أول شعاع دفء.. كائنات فائقة الجودة والتحمل عصية على الفناء.

الفرن الطيني هو أكثر مراحل الخبيز المحببة إلي، كانت أمي تجْلب تراباً أبيضاً من منطقة تسّمى "جوره الذهب" في مخيم جنين، أو تذهب لمنطقة محددة في التل المشرف على مرج ابن عامر في منطقة واد برقين وتحضر تراباً نزقاً كثير التطاير بلون ضارب للصفرة وما أن ترشه بالماء حتى تخمد ثورته ويصبح كالعجين، لين الحركة، سريع الجفاف. وتضيف إليه التبن، وهو بقايا القمح الناعمة، وتتركه عائماً بمائة ليل ُكامل. وحين تضع الدور الأول في فرنها تبسمل، وتتركه لزمنٍ، حيرتني قدرتها الفطرية على تحديده. وبعد ذلك تضيف إليه دوراً ثانياً وثالثاً.. وهكذا حتى تنتهي بعد أيام لتبدأ في بناء فرحي الطفولي الخاص، فأنا على موعد مع مرحلة إشعال النار، طقسي الفاتن.

أعجب من قدرة هذا الطين المبلول على التحول لصلابته الدائمة تلك. وتناديني أمي فرحة لأكتب عليه قبل أن يجف يوم وتاريخ وسنة إنشائه.

أمي فرحة ببنائها المتماسك، الذي لا يتشقق ولا يُهرب دفء فرنها، وبالطبع ترى متعتّها وتشاركنا بها مع الجارات، وسط رائحة فواحة ترافق أول تماس الطين بالنار.

لم أدرك حينها أن فعل أمي التلقائي هو تاريخ البشرية جمعاء منذ أن خلط الرّب الطين بالماء، ونفخ فيه من روحه كائناً بشرياً.

وتلك الوضعية التي جلست بها أمي لصنع فرنها، وهي تفرد ساقيها ووسط الدائرة الناتجة من تشكيل الساقين، تلم ترابها ومائها وتروح وتجيء في حركة منتظمة تعجن، هي الوضعية التي أنتجت حضارة البشرية وحملتها في الأواني الفخارية، صنيعة النساء الأولى، ومزج البشرية الأول، في حركة تحاكي حركة الخلق صلصله الطين (أي مزجه بالماء)، هسيس صوت لا زلت أسمعه حتى اليوم يخش في أذني مثل تماس أساور ذهبية وأصابع أمي تغوص في العجين الطيني ولونه يتحول للبني الفاتح وتقول بصوت خبير:

ـ "لا زال حيله جامد".

وتتابع العجن، حتى يهدأ الصوت، وتتكور العجينة وتصبح كتلة واحدة متماسكة بخاصية جديدة بعيدة عن التشقق أو الإنفلاش وهي تماماً تصنع الفخار بمهارات بدائية تعيها بفطرتها.

الفخار يُورث الحضارات صلابته
الفخار(3): "هو أي شيء صنع من الصلصال (الطين) ثم أحرق في النار بعد جفافه، يكتسب صفات جديدة طبيعية وكيميائية، ويتغير لونه ويتحول إلى جسم صلب مسامي له رنين و لا يمكن إرجاعه إلى الحالة الطينية اللازبة(4)، (لملتصقة) مرة أخرى لفقدانه ماء الاتحاد بسبب الحريق".

يورد المؤرخون قصصاً طريفة حول اكتشاف صناعة الفخار منها أن إنسانا كان يعدو في أرض مُوحلة وراء حيوان فغارت قدماه، ثم صادف أن هطلت بعض الأمطار ومرّ على نفس المكان شخص آخر فلاحظ أن الحفرة الناتجة من أقدام الأول الذي سبقه قد امتلأت بالماء وهنا تبادر إلى ذهنه عمل حفرة في الأرض صنعها بنفسه خصيصاً للاحتفاظ ببعض الماء عندما تهطل أمطار أخرى.

وقال آخر أن الإنسان عرف صنع الأشكال المجوفة من الطين عندما لجأ إلى الأماكن التي يوجد بها برك ومستنقعات أو أنهار ليعيش فيها سعياً وراء الماء، و قيل أن هذا الإنسان كان يشرب بفمه من مجرى المياه مباشرة وتطورت هذه الطريقة عندما احتاجت أم من الأمهات لريّ طفلها فحملت الماء بكفيها وروته. وبطبيعة شكلت هذه الأم من كفيها شكلاً مجوفاً لحمل المياه إلي طفلها، ومن هنا بدأ التفكير بالشكل المجوف لحمل السوائل.

وهناك من قال أن الإنسان قد شاهد سقوط بعض الثمار من فوق ألأشجار أعلى النخيل (جوز الهند) على أرض طينية فتركت الثمار تجويفها غائرة على سطح التربة الطينية على شكل حفرة. أعقبه امتلاء الحفرة (التجويف) بالماء مما لفت نظر الإنسان إلى أن الشكل المجوف يمكنه الاحتفاظ بالسوائل. وكان هذا الإلهام والاستدلال أول خطوة في صناعة الأشكال المجوفة.

والقول "فرفط العجين، إذا زادت خميرته عن الحدّ ففسد"، يصلح كذلك للطين، فإذا كثر ماءه وزاد عن الحد، فإنه يتحول لوحل لا يتشكل. ولذا تميزت البشرية بتلك المهارة العالية بتشكيل التراب بقدر محسوب من الماء، وقدر محسوس بالخبرة من النار، ليتأكسد الطين ويتخذ صلابته.

"الفخار هو أنا. عندما أمسك بقطعة الطين يصيبني الخوف، لأنني في تلك اللحظة أكون في طريقي لمحاولة الفهم، وعندما أحرك الماء مع الطين تتحرك روحي هي الأخرى، وعندما أقوم بتحريك الدولاب بقدمي ومعه اليدان الممسكتان بقطعة الطين على القرص، فإن روحي هي الأخرى تهتز مع وقع (الريتم) وعادة ما أكون متوتراً، عصبياً، شاعراً بالضعف ثم تتسق الروح في داخلي وأرتفع إلى الانتظام وأبدأ في الشعور بالتحكم فيما هو مرن ويعمل الحوار بقوة بيني وبين المادة وقد أنتشي وأصل لحالة غياب عن الوعي ولأنني في تلك اللحظة أعبر إلى الماوراء وهذا هو الفن".

هذا الكلام ينقله العلامة المصري نسيم حنين(5)، على لسان الفنان المصري أيضاً أحمد أبو زيد(6).

يقول العلامة المصري نسيم حنين في موقع آخر من دراسته، والتي بدأها في العام 1979:

"الإناء والقدرة هما وحدة الأثاث الأولى لدى الإنسان المصري، فالعلاقة الحميمة قد ولدت بينهما منذ اللحظة الأولى. بل أن المحتوى يمتزج بالآنية في علاقة حميمة هي الأخرى. إذا أردنا إيضاحاً أكثر. فالعدس أو اللحم الذي يطبخ داخل الآنية يعطى رائحة متميزة للآنية تزداد توثقًا والتصاقًا مع كل مرة تتم فيها عملية الطبخ". ويكمل:

"أنظر للمرأة وعلاقتها بالبلاص. هي علاقة حميمة، منها التعبير عن الأنوثة. فعندما تضع المرأة البلاص على رأسها وتتمايل به وترفع باليد الأخرى جلبابها كاشفة عن ساقها، فهي تلفت أنظار الرجال لفتنتها. ومن ناحية أخرى فهي تستعرض كفاءتها في الحفاظ على البلاص ممتلئًا بالماء وهى تسير به دون أن تسقط منه قطرة واحدة. وقد لا يعرف الكثيرون أن «البلاص» عند المرأة المصرية له وظيفة أخرى. فهو ملاذها عند الأحزان(6).

على كل، إن كون البلاص هو "ملاذ الأحزان" عبارة شديدة الفتنة، تجعلك تلهث خلفها وتبحث عن مشهد في طفولتك غابت به الوالدة لتجدها في الفرن تخبز وتبكي (مشهدان متناقضان البكاء ودفء الفرن) ولكن بالعادة الدف يشد الناس للحنين والتذكر ويجرهم بلا وعي إلى الاختلاء بأنفسهم.وهو تماماً ما تفعله النساء وهنّ يطحن القمح أو العدس على الرحى الحجرية يبدأن بالحكايات وفي منتصف عملهن ينطلقن بالغناء ويختمن بالبكاء.

شدني هذا المقطع بشكل خاص فالبلاص يشابه الزير الفخاري في لهجتنا الفلسطينية الدارجة ولكنه أصغر حجماً ويختلف في فتحته حيث تكون أقل اتساعاً وعادة ما تغلق بقطعة خيش مبلولة، أو تدس في فوهتها أوراق ليمون خضراء أو عرق زيتون حتى لا تشرشر على رأس الملاية (حاملة الماء) لم أشهد في طفولتي نساءً يحملن البلاص ولكن روت لي أمي كيف استبدلت اللاجئات قسراً البلاص بتنكه من الصفيح، وقد شهدت مخيمات اللجوء في بدء فجيعتها حياة مرّة بدلت السائد والجميل في العادات، ولا زلت أتذكر بقايا صفائح الزنك تلك والنساء يقومنها من المنتصف بقطعة خشبية حتى لا تفقد توازنها على رأس المرأة حاملة الماء، ولكن السيدات كبيرات السّن كل يقلن لها لبلاص تجاوزاً للحقائق المرة للجوء فقير وعارِ من الجمال.

سمعت كلمة بلاص للمرة الأولى على حنفيات الوكالة العامة، بعد عراكٍ شديد بين سيدتين، أتذكر المشهد بوضوح.

سيدة شابة تلقي بحملها المائي على الأرض لتستعد لعراك بالأيدي عندما صرخت العجوز: "يا ويلي كسرت البنت البلاص" كانت كلمة جديدة تضاف لمفرداتتي وأحسست ـ من درجة الفزع في صوتها ـ أن في الأمر سوءً ما.

هشاشة الحكاية تلتقطها أغاني النساء وتبقى
وكانت تردد حكاية في ليل مخيمنا الطويل عن عائلة غنية تحفظ الزيت بالجرار لشدة ترفها، لا في الأواني البلاستيكية وصفائح الزينكو (التنك باللفظة الدارجة) وكيف أن الزيت يعتق في تلك الجرار ولا يحمض أبداً بل أن الأغاني الشعبية حوت كلمات في وداع العروس تصفهن بالجرار:

"يا جرار الزيت يا فلانة تطلعي من البيت يا خسارة.. ويا جرار حليب يا (فلانة) يوخذك غريب يا خسارة..."

ومن المحال أن تكون هي العبارة خالية من المضمون أو سيقت بشكل عرضي في أغنية شعبية، بل على العكس ففيها تأكيد لالتصاق المرأة بالجرة شكلاً وحاجة ومحتوى، فالنساء يقمن بالتخزين ويحفظن حصص العائلة من زيت وقمح وجبن وعسل وعدس.

لاحقاً، عرفت أن كسر البلاص أو الجرة لا يكون إلا للقطيعة، أو التعبير عن الجفاء "وكسروا ورائه جرة.."

فأن تُكسر جرة يعني عكس ما تعنيه من الاحتواء والجمع والتخزين، وتذهب الأغنية والسلوك الشعبي إلى أبعد من ذلك في استعارة آنية الفخار للتعبير عن الحياة، فالرجل هو الزير الحاوي الجامع الأكبر حجماً، والمرأة هي الجرة الأقل حجماً والأكثر رشاقة. إضافة إلى أن المثل الشعبي يقول: "طب الجرة على ثمها بتطلع البنت لأمها"، وهو مثل يشير إلى تسمية المرأة بالجرة، ومن هنا جاء وصف الزير سالم أبو ليلى المهلهل بالزير "زير النساء أي جليسهن"، فعادة ما يكون للبيت الواحد زير ضخم وجِرار عدة وهو شكل مبسط لوضع المرأة والرجال في الأسرة. حيث الرجل تحت قيادته، أمه وأخواته وزوجته وبنات العم.

الجرة هي مجمع الدمع في الحكاية، تقول الأغنية:

"وكنك غريبة هيلي من الدمع جرة،من العيد للعيد تايطلّوا عليك مّرة".

إن المراقب لأسماء الأواني الفخارية سيجد هذه المفارقة بين الذكورة والأنوثة تبعاً للوظيفة والمكانة. ويقول أستاذ التاريخ والآثار في الجامعة الإسلامية بغزة زكريا السنوار(7):

"يطلق أهل غزة على الأواني الفخارية أسماء خاصة منها (بلبل) للإبريق الصغير، و (كراز) للإبريق الكبير، و (سكرجة) للصحن الصغير، و (زبدية) للصحن المتوسط، و (كشكوله) للصحن الكبير، و (لجانه) لإناء الماء الصغير، أو (عسلية) و (جرة) للأكبر، و (زير) لإناء الماء الكبير".

ببساطة نستطيع ملاحظة أن الصغير يميل لغةً أو معنىً للتأنيث، بينما تقل المفردات المذكرة في وصف أواني الفخار رغم أن في مناطق الشمال تضاف لهذه الكلمات، القدرة، العسلية، الإبريق، الطابون، الموقده، الخابية. والشربة.

قد تبدو علاقتي بالطين شديدة الخصوصية ذات صبغة استكشافية تميز عالم الصغار وتنطوي على مفارقات الدهشة التي يتحلون بها، وأجدني أستعير من الفنان التشكيلي عصمت أسعد(8)، هذه العبارة:

"هناك تلك العلاقة اللصيقة والعتيقة بين شكل آنية الفخار والجسد البشري وشراكتهما في ذات المصدر (الطين) كأساس للخلق، وأن المخرج النهائي لكل آنية فخار هو حركة يقوم بها الجسد بوعي لدى الصانع، أو بلا وعي، فنحن أولاً وأخيراً مهجوسون بأجسادنا، وكل ما ينتج عنها من تفاعلات هذا الجسد بما حوله، فالجسد هو الأساس".

حينها كان الفنان يعرض بشغف وافتنان قطعاً لأواني فخارية أثرية تعود لفجر التاريخ، ويربط بين الشكل النهائي للآنية وحركة جسد الصانع، وهو ما أثار مجموعة الفنانين المتحلقة حوله في الورشة الفنية المفتوحة في قرية كوبر، وهم يحاولون الربط بين ما يعرضه وما يشاهدونه من تسلسل واضح وعميق، ولكنه أيضاً عرضة لشكهم وانتقادهم، فهل يَعي صانع الآنية الفخارية ـ غير الفنان ـ هذه الصلة؟

وهل هي إسقاط من وجهة نظر ناقدي الفن، أم أن ما ينتج هو بالنهاية تعبير فردي تشترك به الجماعة المنطوية تحت ذات الثقافة بامتلاكها نفس خواص الجسد وطباعه؟

تقول أسطورة الخلق السومرية أن الإلهة نمو (المياه البدئية) طلبت من ابنها الإله (أنكي) أن يقوم بهذه المهمة جاء على لسانها:

"أي بني، انهض من مضجعك، واصنع أمراً حكيماً اجعل للآلهة خدماً يصنعون لهم معاشهم، وقال أنكي: إن الكائنات التي ارتأيت خلقها ستظهر للوجود ولسوف نعلق عليها صورة الآلهة، امزجي حفنة طين، من فوق مياه الأعماق وسيقوم الصناع الإلهيون المهرة بتكثيف الطين وعجنه، ثم كوّني أنت له أعضاءه، ولسوف تقدرين للمولود الجديد يا أماه مصيره، وتعلق ننماخ عليه صور الآلهة في هيئة الإنسان"(9).

تكاد تتشابه كل الأساطير التي لحقتها باعتبار أن الإنسان خلق من طين بأمر من الربة الأنثى على اعتبار الأسطورة السومرية الأكثر قدماً: السومريين يرون أن الإله "مردوخ" خلق الإنسان من طين والبابليين الإله "خنوم" خلق الإنسان من طين وكذا عند المصريين الإله "بروميثيوس" خلق الإنسان من طين عند الإغريق الإله "يهوه" أو "ألوهيم" خلق الإنسان من طين عند اليهود والمسيحيين، المسلمين الإله "الله" خلق الإنسان من طين(10).

الحياة خليط تراب وماء ونار وهواء وذاكرة

الحكايات على طرافتها تبدو قريبة للمنطق وأيضا تؤكد أن صناعة الفخار نتاج تفاعل الإنسان مع بيئته (سقوط الثمرة، السكن بجانب مجرى المياه)، أو حركات جسده (القدم الغائرة بالطين، وكفي الأم المضمومة). الأقوال في ذلك عديدة أيضاً فبعض الباحثين أسند ذلك إلى طريق الصدفة. ذهبوا للتخيل، فقال أحدهم:

"حدث حريق في بعض الأكواخ وكان داخل هذه أكواخ أواني مصنوعة من الطين الجاف وبها بعض الأطعمة المختلفة والفواكه. ولمّا خمدت النار عاد أصحاب الأكواخ لتفقد ما تبقى لهم من أشياء، فعثروا على القطع الطينية في حالة صلابة لا عهد لهم بها من قبل. ومن هنا عرف الإنسان أن تعريض الأشكال المجوفة للنار والحرارة معناه جعل الأشكال أصلب مما إذا جففت بتعريضها للجو فقط"

إذا آمنا بصدفة اكتشاف التجويف الطيني ستروق لنا حكاية صدفة حرق الأكواخ واكتشاف طريقة تصليب الطين. ومهما كانت الحكاية، فقد استطاع الفخار أن يتخذ له وضعية تاريخية مهمة. وتعود صناعة الفخار إلى عصور غارقة في القدم، يحددها البعض بالعصر الحجري الثاني وتحديداً إلى نحو 10 آلاف سنة قبل الميلاد، ففي الأناضول عثر على أوان فخارية تعود إلى 6500 قبل الميلاد، وفي بعض المتاحف بأميركا اللاتينية هناك فخار يعود إلى 3200 سنة قبل الميلاد، وفي مصر إلى 2000 قبل الميلاد وفي بلاد الرافدين إلى 1500 قبل الميلاد وفي اليونان إلى 1000 قبل الميلاد وفي منطقة المتوسط ولاسيما المغرب العربي إلى 323 قبل الميلاد، ثم شمال المتوسط وخاصة فرنسا في القرن الأول الميلادي(11).

كنت في الصف السادس الابتدائي عندما أضافوا مساق الفنون الجميلة، لمدرسة العلوم الفذة سهيلة جرار(12)، لتدرسنا مادة الرسم في مدارس وكالة الغوث الإعدادية أواخر السبعينيات. أتذكرها وهي تشرح لنا الدرس الأول في مساق الفن:

"لست معلمة فن ولكنني ذواقة للجمال أراه في كل ما تصنعه جداتنا وأمهاتنا، لن نرسم (أسقط من يدي)، ولكننا سنحول كل المواد الخام حولنا لأشكال جميلة فأنا لا أستطيع تعليمكنّ الرسم، أريد من يعلمني".

صراحة المدرسة، والتي أدارت المدرسة بعدها لسنوات، جعلتني أحتفظ لها باحترام حتى الآن، خبرتها العلمية، مع ذائقتها الفنية الجميلة، جعلتنا نبدع خلال عام وكانت صناعة الأواني الفخارية الصغيرة من أجمل ما حفظته ذاكرتي ونحن نبحث بلا توقف عن التراب الأبيض الطائش وحفنات التبن الناعمة. ولكن أهم ما قامت به ست سهليه كما كنا نسميها هو استقاء خبرتنا من الأمهات والجدات، فكنا نعود للصف وقد حملت كل منا حكاية عن صناعة ما (السلال، التطريز على الخيش، ملابس منطقة جنين الشعبية، مصغرة أشكال فنية غاية في الروعة من عجين الجرائد، دمى من قماش الكتان، المغزل الخشبي، الطوابين والأفران الصغيرة من الطين... الخ).

أتذكر حتى الآن فرني الصغير الذي صنعته بمساعدة أمي، والزيّ البدوي الكامل لرجل الذي صنعته بمرافقة جدتي، والذي بقي لسنوات في متحف المدرسة، والمغزل الخشبي وحبك صوف الأغنام الذي مد لي أبي يد المساعدة لصناعته.

كل هذه الأشياء، جعلتنا نتلفت حولنا، ونذهب في جولات لجمع مواد خام ضاق بها الأهل، ولكنهم استمتعوا معنا ونحن ننجز ذاكرتهم على نحو مصغر، ويأخذون دور المعلم داخل البيت، وعندما ذهبت للمدرسة الثانوية ضج أهلي وضاقوا من درس الفنون لتكلفته الباهظة وبعده الشديد عنهم.

الإبداع حولنا، قريب جداً تحت أقدامنا في التراب الذي ندوسه وندوس معه حضارات.

amalwehda@yahoo.com
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ أمي نعمة هي مصدر حكايتي الأولى، هُجرِت من قضاء حيفا عام 1948 ولها من العمر عشر سنوات
(2) ـ مقطع من أغنية شعبية تقال في ليلة الحناء، يقال لها "الترويد"، أما "عليبة" فهي تصغير لكلمة "علبة"، ربما تكون "لعيبة" بمعنى اللعبة أو الدمية. وبرأي كلاهما يعطي المعنى المقصود.
(3) ـ اللازبة "الملتصقة" و "طِينٌ لازِبُّ" أي لازِقٌ. قال اللّه تعالى: "إنا خلقناهُم من طين لازب" (القرآن الكريم).
(4) ـ الفخار مصادر مختلفة من مواقع الالكترونية
(5) ـ نسيم حنين هو علامة مصري، أوكلت له إدارة متحف «دوفين» بفرنسا عام 1979 إقامة معرض عن الفخار الشعبي المصري، وأصدر كتاب بعنوان "أوعية الحكمة.. الفخار في حياة المصريين".
(6) ـ أحمد أبو زيد فنان مصري يعمل بالطين والفخار.
(7) ـ زكريا السنوار، أستاذ المساعد بقسم التاريخ والآثار بالجامعة الإسلامية بغزة.
(8) ـ عصمت أسعد فنان تشكيلي يحاضر في جامعة النجاح الوطنية. من محاضرة خاصة بعنوان "تلك العلاقة العتيقة".
(9) ـ فراس السواح: "مغامرة العقل الأولى"، طبعة 9، دار المنارة، سورية، ص 45.
(10) ـ نفس المرجع السابق.
(11) ـ عد ة مصادر.
(12) ـ سهلية جرار مديرة الإعدادية التابعة لوكالة الغوث، وتعيش حالياً في جنين.