يتناول الباحث الجزائري هنا أهمية التواصل الثقافي عامة، والتواصل بين الشمال والجنوب خاصة، متناول آليات التواصل بين المجتمعات والأفراد، ودور اللغة والثقافة في عملية التواصل وما تنطوي عليه من مثاقفة، متوصلا إلى مجموعة من شروط التواصل وفعالياته وفوائده التي تمكننا من التواصل المثمر مع الشمال.

التواصل الثقافي بين الشمال والجنوب

سـالم بن لباد

تمهيد:
التواصل الثقافي هو تبادل الثقافات بين مجتمعين عن طريق التحاور والتعارف وقد يكون التواصل بين ثقافات متزامنة أو بين أقاليم متباينة وقد يكون بين الأجيال المتعاقبة لثقافة ما، والإنسان لا يمكن أن يعيش بمعزل عن الآخر، كما لا يمكن أن تتطابق ثقافته مع الآخر فالعلاقة بين الذات والآخر هي علاقة اختلاف دائم، لكن طبعه المدني يجعله يتعايش باستمرار مع الناس الذين يمثلون الآخر، حيث لا طعم ولا مذاق بمعزل عن هذا الآخر والتفاعل معه ضروري وهو الضامن للتكامل الحضاري الذي يعطي للحياة طعمها ومذاقها.

نهدف من خلال هذا البحث إلى معالجة موضوع التواصل الثقافي بغية إرساء معالم التواصل بين الشمال والجنوب ومحاولة فهم العلاقة بينهما، والبحث في الوسيلة التي تقرب هذين القطبين رغم بعد المسافة الزمنية وبعد التطور الاجتماعي وبعد التطور الفكري المعلوماتي، أما الإشكالية المطروحة في هذه المداخلة تتمثل في كيفية التواصل مع الشمال رغم التباين الحضاري العقائدي؟ وما هي اللغة التي تسهل عملية التواصل مع الآخر؟ وهل عملية التواصل بين الشمال والجنوب مبنية على الصراع أم على التحاور، على المثاقفة أم الانصهار في الآخر؟

آليات التواصل:
قد يصادف الباحث عدة مفاهيم لمصطلح التواصل، ومنها مفهوم المصطفى حدية في  قوله: «التواصل ظاهرة مركبة وضرورية تشير إلى مجموعة أصناف التواصل الإنساني فهو يتغير تبع للآليات المستخدمة لبلورته وتبعا للمواضيع المتتالية »(1)

ويعد الحوار آلية من آليات التواصل المستخدمة على حسب الغاية لأنها الوسيلة المثلى والأداة الضرورية في عملية التواصل الذي يعتبر طريقة من طرق التواصل هدفه تبادل الكلام/ الأفكار للوصول إلى نتيجة بالاعتماد على الحجة والدليل، فهو نقاش بين طرفين يريد كل طرف الوصول إلى هدف عادة ما يكون إقناعيا، فالحوار بطبيعته جدلي صدامي يسعى كل طرف فيه إلى دحض وتفنيد فكرة الآخر وإثبات فكرته الخاصة، والحوار الذي ليس له هذه الأهداف هو حوار من أجل الحوار، رغم أنه قد يكون في بادئ الأمر بداية لاستكشاف واستطلاع ساحة التواصل وتوضيح غموض المشاكل لكن مصيره التلاشي والاضمحلال، لهذا لابد أن تكون غاية الحوار الأولى هي الإقناع وهو أساسي في عملية التواصل.(2)

وقد نجد هذا الحوار عن طريق التواصل الإعلامي الذي أصبح ضرورة ملحة للتواصل مع الآخر ومعرفته، ومن فوائد التواصل في هذه المرحلة من التاريخ هو المساعدة على فهم التاريخ التي لم تستطع لغة الاتصالات أن تمحوه من الذاكرة. يعتبر الحوار الحضاري الروحي بين الشمال والجنوب من بين مواضيع التواصل  والذي يكون فيه الإسلام موضوعا لهذا الحوار لأنه القوة المميزة  بين أوربا وإفريقيا . فالإسلام في نظر الغرب هو العدو الأكبر الذي يجب القضاء عليه بكل السبل، سواء كانت عسكرية أو ثقافية. وسبب هذه النظرة السلبية للإسلام بدأت باقتطاع جنوب المتوسط عن الإمبراطورية الرومانية والإستلاء على الأندلس. وبدأ الغرب في إعدادا لعدة ضد الإسلام بعد تراجع الجيش التركي عن أسوار فيينا حيث أُنشئت الدولة الإسرائيلية في قلب العالم العربي.

أننا عندما نتحدث عن الحوار كوسيلة للتواصل الثقافي والحضاري قد نجد مجموعة من المفاهيم والمصطلحات مثل «حوار الحضارات، وحوار الأديان، وحوار الثقافات ، وحوار الإسلام والغرب ، وحوار الشمال والجنوب»(3) ، وكل هده المصطلحات توحي إلي التواصل وتبادل الثقافات بين المجتمعات الحضارية المختلفة. كما قد نجد مصطلحات أخرى، كالتواصل العلمي والروحي ويقصد بها التلاقي المستمر والتزاور المتواصل بين ثقافة الشمال وثقافة الجنوب للأخذ والعطاء والإفادة والاستفادة، باستعمال الخطاب الأدبي لأنه خطاب لغوي تواصلي، فمكانة الخطاب هي أنه: «أداة ذات أهمية في تكوين أفعال الجماعة وصناعة سلوكات في ممارساتهم الاجتماعية، لكنها تظل في الوقت نفسه عبارة عن مجرات متعددة الاستعمال متفرقة»(4)  .

وقد يرتبط التواصل بالثقافة،  فيكون مجموعة من الأفعال التي تحرك المؤسسة الاجتماعية، أي ثقافة المجتمع، ولكي يسهل على الباحث التواصل، لابد إن يستعمل أساسيات التواصل اللغوي، كتنمية المهارات اللغوية والمتمثلة في التحدث والسؤال والمناقشة والتعليق والإجابة والتصحيح والسماع، متابعة ما يجري الحديث عنه بتركيز متواصل القراءة.

اللغة ودورها في عملية التواصل:
إن للغة دور كبير في عملية التواصل، فاللغة الحية مثلا وسيلة تواصل في الساحة الثقافية والعلمية: «والواقع إن مسألة التواصل تتضح في إطار التركيب الثلاثي، ربما يكون أنجح الوسائل لوصف هذا التواصل هي اللغة»(5)  ،لأنها تستطيع إيصال وتوضيح مدلولات ثقافية وعلمية وأحاسيس ورموز خاصة للمجتمعات ، سعيا للتواصل مع المجتمعات الأخرى ، لأن العلاقة بين الجماعة و اللغة علاقة ثنائية الاتجاه ...فلغة الجماعة تفرض نفسها عليها ،مهما ضعفت صلتها بتلك اللغة»(6).

فالتواصل يكون بتفاعل بين مجتمعين فتتكون صلة مادية أو معنوية، لأن التفاعل بين الثقافات والحضارات يولد ذلك الصراع الحتمي، ولذلك لا بديل عن الحوار للمحافظة على التنوع الثقافي والتعددية الثقافية، وهنا تحتم على المجتمع البشري باختلاف معتقداتهم، أن يعتادوا العيش مجتمعين.

ومن هنا لابد علينا التمسك بذاتيتنا الثقافية وهويتنا الحضارية والدفاع عنها، وتحسين أسس النظرة إلى الآخر. فالحوار يتطلب منا مراجعة النفس دون التنكر للهوية الدينية والثقافية ... لكن ينبغي للغة المستعملة أن تكون أداة تواصل تكشف الأفكار وتنقل المعارف بشكل واضح و قابل للإدراك والوعي،كما يمكننا أن تكون أداة تصريح أو أداة إخفاء في إطار وجود مجموعة من المحرمات المحيطة بالإنسان ،فالثبات على القيم يمكننا فهم قيم الآخر وثقافته بشكل صحيح، وبالسماح والاحترام المتبادل، يوجب ذلك الحوار بين الثقافات والديانات .

ومن البديهي القول بأن اللغة هي أداة للتواصل لأننا عندما ننظر أو نعرف اللغة باعتبارها نسق من الرموز أو مؤسسة أو ظاهرة اجتماعية، «فإن التواصل معطى حاضر بالضرورة في كل رمزي ،كلامي أو لغوي بل إنه من الصعب تصور تعريف مقنع للغة بدون  أن يحيل ،بشكل من أشكال إلى مقولة التواصل».(7)

فالتواصل إذن هو في أصله الاشتقاقي يعني تعميم رمز أو علامة أو شيء ما، أي جعله عاملا مشتركا بين مجموعة من الأفراد، وبالتالي فالتواصل في مبدئه يفيد الانتقال من الفردي إلى الجماعي.

فاللغة سواء تم التعبير عنها بروزا في عمليات التواصل، فأن التواصل يقوم بعملية نقل المعلومات والأخبار من ذات مرسلة إلى ذوات مرسل إليها أو مستقلة، لأن «قدرة الإنسان على التواصل عبر أداة هي اللغة langue  التي تصبح أداة للتواصل ،عندما تتحول إلى كلام parole ».(8) فكلما كانت المساهمة الحضارية كبيرة كلما فرضت اللغة حضورها عالميا، فاللغة هي وسيلة لنقل ثقافة بشرية، وتساهم في تطور الحضارة الإنسانية، فقد نجد مجتمعات تستهلك المعرفة ولا تنتجها، فتكون هذه المجتمعات عاجزة على إثبات حضورها بين المجتمعات البشرية الأخرى. كذلك فإن اللغة ليست مجرد وسيلة للحوار بل هي وسيلة تحمل الكنوز الحضارية الإنسانية، فاللغة هي تصورات ترمز إلى العالم المادي، فعن طريق اللغة يمكننا التواصل مع المجتمعات الشمالية ويمكن عن طريق اللغة أن تعلن المجتمعات رصيدها المعرفي، المتمثل في طقوسها، دياناتها و أحاسيسها و سلوكياتها وأنماط معيشتها.

شروط التواصل:
ومن شروط التواصل الاعتراف باختلاف الثقافي والحضاري الذي يعني وجود جوامع بين الحضارات، أي أن تكون هناك نقطة البداية، حتى يكون الطرفان مستعدان استعدادا نفسي لاستيعاب الاختلاف، وتحديد أسباب الصراع. إن الاختلاف يكون في القيم والرؤى والأعراف  الثقافات، أما الاختلاف في الفكر الإسلامي، والحضارة الغربية في الاعتراف،  يعد من أهم المواضيع إثارة، التي تثير نوعا من الحوار الثقافي و الحضاري.

ولكي نتواصل مع الآخر يجب أن يكون هناك إطلاع على ثقافته ومنطقاته الفكرية والتعقيدية، فالإطلاع على الأساس الديني للطرف الآخر قد يسهل مهمة الحوار الديني، وعندما لا تتواصل مع الآخر قد يؤدي إلى انعدام السلوكي الإنساني. فالتواصل يتمثل بصفة عامة، في تبادل البلاغات المحملة بالدلالة، فهو إذن تبادل بين رموز و علامات وأشياء يدخل ضمن عملية التنشئة الاجتماعية، ويلعب بذلك دورا أساسيا في تكوين الفرد وتشكيل إدراكه ووعيه بذاته وبالعالم المحيط به. فمن خلال التواصل يكسب الفرد وعيه و ذاته في سياق استنباطه لعلامات وتجارب الآخرين والاستفادة من سلوكيات ودروس الأفراد الذين يحتك بهم ويتفاعل معهم.(9)

إن عملية التواصل باعتبارها عملية تبادلية تلعب اللغة دورا أساسيا، «غير أن اللغة باعتبارها ظاهرة اجتماعية ذات طبيعة اتفاقية فإنها تشكل نظاما مشتركا بين الجميع، أما الخطاب فأنه يحمل بلاغا معينا ويكون في نفس الآن أداة للعمل.»(10)

فوائد التواصل:
وقد تعتبر اللغة أداة أساسية في التواصل الثقافي، كغيرها من وسائل التواصل الإنساني، كالرموز والإشارات والصور والرسوم...كما قد تفيد في تنمية التواصل الثقافي، فهي وسيلة للتبادل الفكري وتمثل الأداة الأساسية لتواصل البشر، سواء في المجتمع الواحد أو في المجتمعات المختلفة. وقد يعود على المجتمع من خلال التواصل مع ثقافة أخرى بالفائدة، حيث يعزز المشترك الثقافي بين الثقافات، وهو ما يساهم في تماسك المجتمع ووحدته وتقارب المجتمعات المتواصلة ثقافيا وتعايشها.

كما يعزز التواصل الثقافي البعد التواصلي في الثقافات المعينة، لأن ما دام يوجد تواصل ثقافي إلا وشجعت المجتمع على التواصل في جوانب غير ثقافية، كالتواصل السياحي أو الاجتماعي.

إن للتواصل الثقافي والحضاري المتنوع سبيل إلى توسيع الأرضية المشتركة، ودعم فرص التوافق والتلاقي وتقليل الفوارق وحل النزاعات بالطرق السلمية.

فعالية التواصل:
لنسهل عملية التواصل لابد من توفير وسائل ومخططات تدخل في عملية تسهيل التواصل، وقد نذكر منها ما يلي:

أ - يمكن أن ننشأ وسائل التواصل على مستوى الجماعات و المراكز، كتنظيم دورات فكرية وعلمية متخصصة في معالجة مواضيع مختلفة، تهدف للوصول إلى نتيجة معينة.

ب - عقد الندوات المشتركة بين فرق أو فرقاء ينتمون إلى ثقافات مختلفة،حيث يشترط أن تكون هذه الندوات، مصغرة ويستحسن تقديم مجموعة من البحوث من كلا الطرفين.

ج - إنشاء جمعيات مشتركة مختصة في تبادل الأفكار والتشاور حول القضايا الغامضة، والتي تتعلق بالفكر والحضارة، كما أنها تزرع نوعا من التواصل وتنشأ مجموعة من المؤتمرات والندوات.

د ـ بناء مراكز خاصة في مناطق معينة ، مهمتها القيام بعملية التواصل، وقد تكون هذه المراكز خاصة كالصحافة والإذاعة.

ه - كما يمكن التواصل عن طريق السفارات بين البلدين، حيث توظف السفارة كل الإمكانيات لتسهيل عملية التواصل.

خاتمة:
إن موضوع التواصل الذي نعالجه اليوم هو التواصل مع الشمال والذي يشمل التفاعل والتعاون الفكري والثقافي والتربوي التعليمي، ولا يتوقف هذا التواصل على المجتمعات والدول، بل يشمل الأفراد، وكما يكون هناك تواصل بين الفرد والآخر قد نجد ذلك التواصل بين المجتمع والمجتمع الآخر.

ويمكننا من خلال هذه المداخلة أن نصل إلى مجموعة من النتائج المهمة حول التواصل الثقافي بين الشمال والجنوب، وتتمثل هذه النتائج في الدور الذي يمكن للحوار والتواصل أن يقوما به كمنفعة للأمة، هذه النتائج هي كالآتي:

1 - يمكن للتواصل أن ينقذ الحضارة البشرية من التلاشي والاضمحلال، فبالإيصال الثقافي مع الآخر، يكبر الاهتمام بالثقافة وتغرس في ثقافة الآخر.

2 - يعتبر الحوار من أهم وسائل التواصل الثقافي والحضاري وأنجعها في عملية التواصل، فبالحوار يتبادل الخطاب بين الشمال والجنوب، سواء كان هذا الخطاب ثقافيا أو دينيا أو اقتصاديا أو سياسيا. فإن الفائدة المتوصل إليها ستكون حتما إيجاد أرضية مشتركة، مؤسسة على قناعة الرأي مع الرأي الآخر.

3 - يمكن للحوار أن لا ينتهي على شيء متفق عليه، لكن قد يوجد الحل لهذه الصراعات والتصادمات من خلال إيجاد صيغة أخرى لمحو هذه الصراعات والتصادمات.

4 - إن موضوع التواصل الثقافي قد أقره القرآن الكريم وأرسى قواعده، فهو يحث على التواصل الإيجابي مع الآخر، وهدفه من هذا التواصل تحسين صورة المسلم وتبيين احترامه للمعتقدات والأديان الأخرى.

5 - ما دام أن التواصل يجعل الحوار أساسا في بنائه، فكذلك للغة دور هام في عملية التواصل، فهي توضح المدلولات الثقافية، وأحاسيس الرموز الخاصة بالمجتمعات الثقافية وتسهل عملية التواصل بين القطبين.

 

الهوامش:
1 - المصطفى حدية، الشباب ومشكلات الاندماج، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، سنة1995، ص21.

2 - أنظر، محمد نور الدين أفاية، المتخيل والتواصل-مفارقات العرب والغرب، دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط 1، سنة 1993، ص 168.

3 - ناصر الدين الأسد، صراع وحوار، المؤسسة الوطنية للدراسات والنشر، ط 1، سنة 1997، ص69.

4 - حسن مصدق، النظرية النقدية التواصلية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-المغرب، ط 1، سنة 2005، ص 79.

5 - د.مصطفى ناصف، اللغة والتفسير والتواصل، مطابع السياسة، سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والأدب، الكويت، ط 1، سنة 1997، ص 69.

6 - د.سمير شريف، ثلاثية اللسانية التواصلية، عالم الفكر، مجلة دورية محكمة تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والأدب، الكويت، المجلد 34، تاريخ 03/01/2006، ص 10.

7 - محمد نور الدين أفاية، المتخيل والتواصل، ص 136.

8 - د.رضوان القضماني، مدخل إلى اللسانيات، منشورات جامعة البعث، د.ط، د.ت، ص 41.

9 - انظر، محمد نور الدين أفاية، المتخيل والتواصل، ص 164.

10 - المرجع نفسه، ص 168.