يستبين الكاتب في نصه النقدي كثافة الأداء الشعري والبناء النصي المتحرر من الشكلانية اللغوية في تجربة وديع سعادة. ويتناول جماليات الشخصي والإنساني والمعيشي فيها، والنبرة الاستبطانية الخافتة، ومحايثة الطبيعة، وحضور الذكريات، وتجربة الفقد، والسردية الشعرية.

كثافةُ الحضورِ الإنساني في تجربةِ وديع سَعادة

شريف رزق

في سبعينيات القرْن الماضي، حيْثُ كانتْ تجْربةُ مجلة (شعر) اللبنانية قدْ بلغتْ أقصى تحقُّقاتها الشعرية، عبْر تجارب أدونيس، وأنسي الحاج، وزُملائهمْ، كان جيلٌ شعريٌّ جديدٌ، يتشكلُ، ويُمثلُ انعطافةً شعريةً جديدةً، عنْ المسار الشعري المُتجسد للْقصيد النثري، في مشهد الشعر العربي، وبرز في هذا الجيل عباس بيضون، وبُول شاوول، وشرْبل داغر، وآخرون، وعلى الرغم منْ ظهور مسارٍ جديدٍ للْقصيد النثري على أيديهم، بمرجعياتٍ أخْرى في حقيقة الأمر، إلا أن النّزوع الثقافي ظل، كالحلْقة السابقة المؤسسة، يعلو على النّزوع الشعري، وبدا أن هاجس التجريب لدى هذه الحلْقة، كما كان في الحلْقة السابقة، كان يعلو على التجربة الإنْسانية، وظل الحُضورُ اللغويُّ أعْلى منْ الحُضور الإنْساني، في المُنْجز الشعري الطليعي، غيْر أن صوتيْن شعريين كانا يُؤسسان -على مقْرُبةٍ منْ هذا الحدث الشعري- لشعرية الشخصي والإنْساني والمعيشي والحياتي، على نحْوٍ بارزٍ، ويُشددان على بساطة الأداء الشعري، وكثافة الحُضور الإنساني فيْه، كان هذان الصوتان هُما صوْتُ وديع سعادة (1948 - )، وصوْتُ بسام حجار (1955-2009)، وكان وديع أسْبق منْ بسام.

ومُنذُ البداية برز صوْتُ وديع سعادة كثيف الإنسانية، شخصيًّا، عميقًا، خافت النبرة، اسْتبْطانيًّا، يجْنحُ -أحْيانًا- إلى التواشُج مع عناصر الطبيعة وتفاصيل الواقع المعيْش المُحيط بالذات الإنْسانية الشاعرة الوحيدة، وثمة حُضُورٌ واضحٌ للذكريات، وتتجاورُ الهواجسُ والشطحاتُ التصورية مع مرائي الواقع المعيش، وثمة حُضُورٌ لتجربة الفقْد على نحْوٍ كثيفٍ، وعلى محْور الشكل ثمة حُضُورٌ وافرٌ لجماليات الحكاية، وتركيْزٌ واضحٌ على كثافة الأداء الشعري، وتكثيف البناء النصي.

ثمة حضُورٌ إنْسانيٌّ وافرٌ، لذاتٍ شاعرةٍ وحيْدةٍ تنْثُرُ تاريخها الشخصي، ونبضاتها، ومُشاهداتها، وهواجسها، في أعْطاف الخطاب الشعري، مُجسدةً شخْصنة الخطاب الشعري وأنْسنتهُ.

ويتبدى الحُضُورُ الإنسانيُّ، حتى في تواريْه خلْف الأشياء، عبْر حُضُور حالاتٍ إنسانيةٍ خالصةٍ، وثمة حُضُورٌ إنسانيٌّ، يتجاوزُ، دائمًا، الغياب الفيزيقي:

"يوم غادر ظلتْ على قُفل الباب أصابعُ يديْه

على الرصيف قدماهُ

فوْق الإسْفلت طبقةٌ منْ جلده".

ثمة حُضُورٌ دائمٌ للرُّوحي، وتركيْزٌ على النبرة الباطنية العميقة، وثمة ظلالٌ ميتافيزيقيةٌ تُظللُ المشْهد في تجْربة وديع:

"كان ميتًا لكنهُ كان

يُحسُّ أناملهُم على جبْهته

أسْبلوهُ وسط الدار

على فراشٍ استأجرُوهُ وكان

يُحبُّ أنْ يشتري مثلهُ،

أسْبلوهُ وألبسُوهُ ثيابًا

رأى مثلها في واجهات المدينة

وحيْن حملُوهُ

ترك وهُو يُغادرُ البيْت

شيئًا غريبًا على العتبة

وكانُوا كُلما دخلُوا

يرْتجفُون ولا يعْرفُون السبب".

وتكشفُ التجربةُ، في مُجْملها، عنْ كمٍّ باهظٍ منْ الوحْدة والغُرْبة والفقْد والألم الإنساني العميْق، ووعْيٍ عميْقٍ بالشخصي والمعيْشي، وتُتيحُ حالاتُ العُزْلة قدْرًا كبيرًا منْ التواصُل بيْن حالات الرُّوح والأشياء المُحيطة بها، ودائمًا ثمة مُخالطةٌ وتواصُلٌ وتواشُجٌ وصداقةٌ بيْن الإنسان والعالم المُحيط به، هكذا يُصورُ رحيل الأم:

"وضعتْ آخر نُقْطة ماءٍ في دلْوها على الحبقة

ونامتْ قُرْبها

عبر القمرُ وجاءتْ الشمسُ

وظلتْ نائمةً

الذين كانُوا يسْمعُون صوْتها كُل صباحٍ

لفنْجان قهْوةٍ

لمْ يسْمعُوا صوْتها

نادوْها منْ سُطيْحاتهمْ، نادوْها منْ الحُقول

لمْ يسْمعُوا صوْتها

وحين جاءُوا

كانتْ نُقطةُ ماءٍ لا تزالُ

ترْشحُ من يدها وتزْحفُ

إلى الحبقة".

ثمة اتصالٌ رُوحيٌّ عميْقٌ بيْن الإنساني، وما يُحيطُهُ منْ أشياء، منْظُورة أوْ غيْر مرْئيةٍ:

"نسْمتُهُ الأخيْرةُ

جرتْ وراءهُ على الدرج

ونامتْ معهُ قُرْب عُشْبةٍ

بيْن حجريْن

وغيْمةٌ عابرةٌ

تركتْ ظلاً خفيفًا

على وجْهه".

وتتخذُ علاقة الذات الإنسانية الشاعرة بأشيائها وعناصر مشْهدها، مساريْن أساسيين، يُجسدان اسْتبدال الأشياء بالبشر، ويعْكسان حالة الوحْشة وطُغْيان العُزْلة، هُما:

أنسنة الأشياء:

وفيْها تمتلكُ الأشياءُ حالاتٍ إنسانيةً عميقةً، على الرغم منْ تواري الحُضُورٍ الإنساني الفيزيقي، كما في قوله:

"ذاك النهارُ

تحْت سنديانة الساحة

ظل فقط مقْعدان حجريان فارغيْن،

كانا صامتيْن

ينْظُران إلى بعْضهما

ويدْمعان".

تشيُّؤ الإنسان:

وفيْها يتحولُ الإنسانُ إلى شيءٍ، ويتوارى حُضُورُهُ، في ظل حُضُور الأشياء:

"الذين ألفناهُمْ شجرًا باسقاً

صارُوا قشًّا حيْن حزنُوا

ونزلتْ العصافيرُ ورفعتْهُمْ

بمناقيْرها".

وأحْيانًا تتخذُ الذاتُ الشاعرةُ موقع الرصد، فتُتابعُ تحوُّل الأشياء واتصالها العميق بالحُضُور الإنساني المُجاور لها في المشْهد المعيش:

لمس باب البيْت وخرج

تاركًا على القفْل بعْض أنفاسه

رآهُما ينظران إليْه:

القفْلُ الذي كان يحْبسُ خلفهُ عُواء الليْل

والبابُ الذي كان الصباحُ

يطْلعُ منْ شقوقه،

رآهُما يتحللان ويعُودان

يباسًا على الطريْق وكتلةً صدئةً

ورأى الحيطان ترْجعُ إلى الجبال

أحْجارًا وحيْدةً وحزينةً

والمحْدلة على السطح تعودُ

صخْرةً في غابةٍ بعيدةٍ

والسقف الذي يدْمعُ دمْعتيْن في الشتاء

يهْطلُ مثل جُرْفٍ يائسٍ.

لمس باب البيْت ورحل

تاركًا زهْرةً في فتْحة القفْل

وفوْق السطح غيْمةً منْ نظراته".

ويُوازى الشاعرُ بيْن الحُضُور الخارجي والحُضُور الداخلي، مُتنقلاُ بيْن التبئيْر الخارجي والتبئير الداخلي، مُحطمًا شتى المسافات بيْن ما سُمي بـ(الشعر) وما سُمي بـ(النثر)، عبْر شخْصنة الخطاب الشعري وسيْرنته، على نحْوٍ رهيْفٍ وكثيفٍ، كما في قوله:

"ماذا سأفعلُ اليوْم؟ ليْس في نيتي فعْلُ شيءٍ ولسْتُ مُضطرًّا لفعْل شيءٍ. يُمكنُني على الأرْجح أنْ أعْقد صداقةً، منْ هُنا منْ وراء الزُّجاج، مع هؤلاء الناس في الشارع. لا يزالُ النهارُ في أوله وبضْعُ دقائق منْ الصداقة تكفي اليوْم. بعْد ذلك يجبُ أنْ أخْرُج إلى الشُّرفة وأسْقي الزُّهور، ويجبُ، رُبما، أنْ أتمشى قليلاً في المدينة وأجْلب قنينة عرقٍ.

النافذةُ مُقْفلةٌ وأنا رجُلٌ قصيرٌ وراءها، طُولُهُ 165 سنتيمترًا ويعْقدُ صداقةً مع شارعٍ طويْلٍ. يُمررُ يدهُ بيْن وقْتٍ وآخر على شعْره، وما يسْقُطُ منْهُ يحْملُهُ ببُطءٍ ويرْميْه في القمامة. رجُلٌ هادئٌ، حتى إنهُ بيْن غُرْفة النوم والمطْبخ يتوقفُ مرارًا ليسْهُو أوْ ليسْتريح. يلفُّ سيكارتهُ على مهلٍ، يشيلُ التبغ الزائد منْ طرفيْها، ينْظُرُ إلى الولاعة لحْظةً، ثُم يُخْفضُ رأسهُ ويُشْعلُها".

إن تجْربة وديع سعادة الشعرية، تكشفُ عنْ حُضُورٍ غامرٍ للإنساني، والرُّوحي، والشخصي، والمعيشي، وتكشفُ عنْ درامية الوجُود الإنساني، وهي في طليعة التجارب الشعرية التي خلصتْ الشعرية العربية منْ الشكلانية اللغوية، وكشفتْ عنْ فضاءٍ جديدٍ، لشعرٍ جديدٍ، أكثر إنسانية وحميمية.