يقدم باب علامات مقالة من عقد الثلاثينات من القرن العشرين، ومنشورة في مجلة "فتاة الشرق" لصاحبتها الرائدة النسوية لبيبة هاشم. من المعروف أن كاتب النص توفيق حبيب كان يمهر مقالاته باسم مستعار هو "الصحافي العجوز". في المقالة المقتبسة يحاول حبيب وضع "الرقص البلدي" في سياقه التاريخي الاجتماعي المصري، وينصر إدراجه في مفهوم جمالي حداثي، ألا وهو "الفنون الجميلة".

الرقص المصري

توفيق حبيب

إعداد أثير محمد علي

 

قال العلامة ويلكنسون المؤرخ الانكليزي في كلام له عن الحضارة المصرية: "إن نساء قدماء المصريين كن يرقصن في الفرح والترح على السواء. وتوجد في المقابر المصرية في بني حسن بمديرية المينا صور عديدة تمثل الراقصات وهن يتمايلن طرباً وسروراً على نغمات الدفوف والعيدان. ولا يختلف رقص بعضهن عن رقص البطن المعروف عند المصريين الآن، وأضيف إلى ذلك أن لباس الرقص عند بعضهن كان عبارة عن نسيج رفيع من القطن مفصل بشكل الجسم، ومنه يرى النحر والبطن والساقان وكان بعضهن يرقصن بهيئة قبيحة وفي أيدهن الدفوف والصاجات".

وروى بعض المؤرخين أن المصريين تعلموا رقص البطن من الفرس عندما أتوا إلى مصر فاتحين، فأتقنته نساؤهم وبرعن في حركاته وسكناته ولبثت الراقصات موضعاً لاحترام العامة والخاصة حتى فتح المسلمون مصر، فدالت دولة الرقص، كما قضي على غيرها من فنون قدماء المصريين وعاداتهم.

ثم دبت روح الحياة في مصر في منتصف القرن الماضي. ووجد من سعى إلى ترقية الآداب والفنون. فنهضت الموسيقى، وارتقى الغناء وترعرع النثر والنظم. أما الرقص فبقي مهملاً، لأن أبناء البلاد منعتهم أحكام الدين والعرف والعادات عن أن يقتبسوا عن الإفرنج الرقص الذي يشترك فيه الجنسان اللطيف والنشيط معاً. بل كانوا يرون أن مجرد النظر إلى راقصة أمر لا تجيزه الآداب. وكاد فن الرقص يصبح نسياً منسياً لولا نسوة من أهالي الصعيد أتقنته بعض الإتقان ولكنهن لم يكن يرقصن جهراً في الأندية أو المراسح خوفاً من الحكومة.

وكان بعض التراجمة والأدلاء يقودون السائحين إلى بعض مواخير في القاهرة، فترقص النسوة أمامهم بتهتك شائن، وحركات معيبة، بل كان بعضهن يرقصن عاريات، فيخرج السائحون ساخطين على مصر ورقصها، ويكتبون عن الرقص المصري قادحين، بناء على ما شاهدوا بعيونهم من الأمور التي لا ترضاها أحط طبقات الأمم المتوحشة، وكانت كتابة هؤلاء السائحين من أكبر البواعث لحمل المصريين على مشاهدة هذا الرقص. فكانوا يبذلون العشرات من الجنيهات للتمتع سراً برؤية راقصة وهي تشتغل بصناعتها الشائنة.

ثم أخذ الرقص المصري ينتشر شيئاً فشيئاً في الموالد التي تقام في الوجه القبلي. وقد تعلمته النسوة هناك من فريق من النسوة المتبذلات اللائي أمرت الحكومة بنفيهن من العاصمة وبعض جهات الوجه البحري إلى مدينة أخميم.

ومنذ نحو 35 سنة كانت راقصة تدعى (بنت أبو شنب) كان يحضر رقصها الألوف. ومتى بدأت في العمل صمت الحاضرون كأنهم في معبد. فإذا انتهت طافت بهم لجمع "النقطة" فلا يقل ما تجمعه في الجلسة عن مئتي جنيه!

ومن الغريب أنه بينما كان الرقص المصري منحطاً في مصر لا ينظر إليه إلا بعين الازدراء، كان بالغاً أعلى درجات الرقي في أكثر بلاد الشرق والمغرب الأقصى. وجرى حديث في هذا المعنى منذ نحو 45 سنة بين المسيو مانولي يوانيدس "صاحب قهوة ألف ليلة وليلة" ورجل من المغاربة فذكر المغربي أنه توجد في تونس نسوة يجدن الرقص المصري بلا تهتك ولا تبذل، فاتفق المسيو يوانيدس مع محدثه على أن يحضر بعض هؤلاء النسوة للرقص في مصر. فلبى الطلب. وفتحت أول قهوة للرقص البلدي في شارع كلوت بك خلف قهوة اللوفر في سنة 1887.

وكانت أجرة الدخول إلى هذه القهوة عشرة غروش صاغ للدرجة الأولى وخمسة قروش للدرجة الثانية. ومع أن المسيو يوانيدس كان يدفع لهذه الجوقة التونسية ستة جنيهات في الليلة، فإن مكاسبه كانت عظيمة لإقبال المصريين على قهوته وإعجابهم برقص أولئك التونسيات.

ورأى جماعة من اليونانيين أن يقتدوا بالمسيو يوانيدس، فأنشأوا في العاصمة والإسكندرية وبعض مدن الأقاليم قهوات عدة للرقص البلدي وتعلمت المصريات الصناعة. وأحكمن الملابس اللازمة لها. ووضع لهن أشهر الملحنين أدوار يرقصن على أنغامها. وساعدنهن على إتقانها فريق من مشهوري الطبالين. ووضع النظام المتبع في القهوات، وهو أن يغني المغنون دورهم، ثم تتبعهم الراقصة، فتخرج إلى المسرح ملتفتة بعباءة، ولا تلبث أن تبدأ بالرقص على نغمات العود والقانون والدربكة. وهي تتمايل في كسائها المعروف، وهو قميص من الشاش، وفوقه صدرة حريرية مزركشة تستر الثديين، وتنورة مفوفة بالأشرطة المذهبة ومتى أتمت دورها يعود المغنون، فالرقص هكذا.

وبلغ عدد قهوات الرقص البلدي في العاصمة منذ عشر سنوات 19 قهوة، ثم فترت حرارة المصريين في الاقبال على القهوات فانحط عددها إلى ست قهوات، منها ثلاث مهددة بالإفلاس.

وكانت هذه القهوات عامرة بعدد يذكر من شهيرات الراقصات بين مصريات وسوريات وفارسيات ومغربيات، ومنهن من حازت ميداليات من أكبر معارض أوربا وأميركا إعجاباً بصناعتهن وبلغت أجور الشهيرات منهن نحو 60 جنيهاً في الشهر.

ولكن هؤلاء البارعات المتفننات قد تعب بعضهن وملّ، وشاخ البعض، واكتفى البعض بما جمعن من مال وعقار. فأهملن الصناعة. ولم يبق في القهوات إلا راقصات مقلدات لا يزيد راتب أكبرهن على عشرين جنيهاً في الشهر. ويكتفي بعضهن بأخذ ثلثي قيمة ما يفتحه لهن الزبائن من زجاجات البيرة ويختلف ثمن الزجاجة من عشرة قروش إلى ثلاثين قرشاً.

وقرن بعضهن الغناء بالرقص، وقد اشتدت المزاحمة يوماً بين اثنين من أصحاب القهوات على غانية مصرية تجيد الفنين فبلغت أجرتها 150 حنيهاً في الشهر.

ولبثت الحكومة زمناً وهي متأثرة بأقوال أعداء الرقص المصري فصادرته وأمرت بإقفال بعض مراسحه. فقاضاها أصحاب هذه المراسح أمام المحاكم المختلطة، فأصدرت محكمة الاستئناف حكماً قالت فيه "إن الرقص المصري فن من الفنون الجميلة، وليس فيه شيئ مخالف للآداب بالمرة".

ولكن هذا الحكم لم يقنع الكثيرين من أدباء مصر، فحمل الأديب الكبير محمد بك المويلحي على الرقص وأنديته حملة شعواء في كتابه "حديث عيسى بن هشام".

وزار المستر رودي الكاتب الانكليزي قهوة "النوفرة" عندما كان يرأس تحرير جريدة الاجبشن ستندرد، أحد ألسنة الحزب الوطني فأعجب بها، وأعلن إعجابه في مقالة نشرها في تلك الجريدة، فقامت قيامة الصحف المصرية عليه، وأتهم صاحب "المؤيد" المرحوم مصطفى كامل منشئ الاجبشن ستندرد بأنه يدعو المصريين إلى الدعارة والفجور.

ثم أخذ بعض الناقدين وأهل الرأي والمدركين حقيقة الفنون الجميلة يخففون من انتقادهم على الرقص البلدي، ولاسيما بعد أن شاهدوا في أوربا وأمريكا ومصر من الرقص الافرنجي المعيب والتهتك الذي لا زيادة بعده لمستزيد.

وهكذا شأن القوم معنا، فمهما تحشمت الراقصة المصرية، عدوا رقصها تهتكاً وابتذالاً. ومهما تهتكت الراقصة الأجنبية ورق الشفوف فأعلن ما استتر وجوباً وجوازاً من أعضائها، عدوا عملها نهاية الرقي العقلي والأدبي. وسبحان مقسم العقول والأرزاق.

 

(فتاة الشرق، س32، ج4، مصر، يناير 1938)