في نصوص شفافة تصور الكاتبة العراقية الطقوس العراقية في المناسبات من خلال عيني طفلة تلامس الأشياء من قمر وظلال وسرداب وبشر ملامسة تشبه أحلام يقظة يعيشها الطفل وتبقى تراود البالغ في لحظات شرده، نصوص تصور تلك التقاليد في لحظة نادرة مستقرة من الزمن العراقي المضطرب.

شجرة النارنج

ديـمة ياسـين

السماء
عباءة مخملية زرقاء مرصعة بالماس،  ممتدة إلى ما لا نهاية.  كأن الله، في كل ليلة يفرشها لنا وحدنا.  يلفنا بها ويحرص على أن تغطي رؤوسنا وأصابعنا وأرواحنا.

 تهدهدنا النجوم.  تنزل الواحدة تلو الأخرى . تقبل الأجفان ، وتتلألأ  بلحن ملائكي عُزف للتو في الجنة.

كنت أتوق طوال غربتي للنوم تحت تلك العباءة مرة أخرى، أتمدد وأنا مغمضة أجفاني.  أفتحهما فجأة،  فتنفتح أمامي سماء عذراء تماماً،  تهيم فيها أرواح البشر النيام، تمر من فوقي، لا تنظر الي، تبقى محلقة في المدى الأزرق الغامق تناجي القمر وتغني له.  كل البشر طيبون عند النوم ، خصوصاً اذا كانت السماء سقفهم وآخر ما رأوه قبل أن يسرقهم النعاس من بين أحضان القمر.

كتب لي صديق زار بغداد : " القمر في بغداد أكثر قرباً،  تشعر به صاعداً إلى السماء خصيصاً لملاقاتك".  بل هي السماء كلها بنجومها وقمرها وبنسمات هواءها تُفرش كل ليلة لتلتقي بنا.

نطبق الأجفان على "بنات نعش "  أو على غيمة ناعمة تتمختر بغنج ودلال لتطلق العنان لخيالاتنا، نشكلها كما نريد.   فتارةً تكون حمامة، وتارة تفاحة كبيرة لا تحتاج الى حواء لتغري آدم بأكلها.

أسمع "المفردات "(1)  تُقَّبل بعضها،  تروح وتغدو مع حركة ذراع الجارة البيضاء كالقيمر(2)  العراقي وهي تمد الفرش في سطح الدار،  فتتفتح مساماته لنسمات صيفية باردة،  ويستعد لإحتضان أجساد أعياها النهار ليمد فيها الهدوء والسكينة.

أستلقي على ظهري أنظر إلى السماء، زرقاء بنفسجية ، ترصعها نجوم منثورة فوقي كحبات اللؤلؤ تتلامع وتتشكل ، تتباعد وتتقارب.  وأبدأ لا شعورياً بِعدِّها،  فتصرخ بي إبنة خالتي  : " لا تعديها .. ماما تقول إن عدَ النجوم يصيبك بالفالول(3) فأبتسم وأعود لعد لآلئي الفضية،  وعندما أصل إلى القمر أتوقف عنده للحظات فأحدثه عني،  ويتراءى لي أن له وجهاً طفولياً مبتسماً .

 كان لأبي وأمي فراش متميز في إحدى زوايا السطح. يحيط به غطاء من القماش يثبت على أربعة قوائم عالية تبرز من جوانبه الأربعة . لا شيء يضاهي اللعب في تلك الغرفة الصيفية الخاصة ذات الجدران القماشية. وتحت ضوء المصباح اليدوي نصنع أشكالاً متحركة من الظل.  إِشبكْ إبهام اليد اليسرى بإبهام اليد اليمنى ، وإفرد باقي الأصابع من الجهتين.  حَركهما إلى الأعلى والأسفل،  وتمتع بحمامتك المصنوعة من الضوء.  أما علامة النصر المعروفة،  فتتحول في غرفتنا القماشية وتحت ضوئنا الصغير إلى أرنب له اذنان طويلتان يقفز ويلعب حولنا.

 أحلى ما في تلك الغرفة الرقيقة الجدران أن لا سقف لها. من قال إن علينا النوم تحت سقف ؟ السقف في هذه الغرفة هو السماء.  عندما كنت أنظر من فراش أمي وأبي إلى السماء أجدها محصورة في مربع جدران القماش تلك، فأعود راكضة إلى فراشي لأرى السماء كاملة بلا جدران ولا حدود.

 

الاحتفال
تحاول أمي إيقاظنا قبل شروق الشمس لنتسحر ببضع لقيمات مغموسة بالنعاس ، لا نعرف أهميتها إلا عند إقتراب موعد الإفطار،  عندما يشتد بنا جوع الصيام.

دُم دُم دُم .. سحووووووور ..... دُم دُم دُم ... سحوووووووور .. أسحب نفسي من فرشتي الدافئة الليّنة بسرعة لأُطل من حيث ننام في سطح الدار وأرى  المسحراتي يرتدي "دشداشة" رمادية و" عرقجيناً"(4)  أبيضاً ويضع حول بطنه حزاماً جلدياً عريضاً،  يعلق طبلته على رقبته ويقرعها ثلاث مرات  ... دُم .. دُم .. دُم .. يعقبها متلفتاً، رافعاً رأسه إلى الأعلى بحركة مسرحية وهو يضم شفتيه صائحا بصوته القوي:  سحووووورررر.

تطلُ أمي حاملة صينية السحور. مربعات الجبنة البيضاء الصغيرة المغطسة بوعاء عميق من الماء الساخن ليخفف طعمها المالح ويطَريها، و صحن الكباب المقلي الرائع الطعم. نلف أحداها بالخبز ونضيف له أوراق النعناع الطازجة الندية،  نلحقه برشفة شاي أسود ساخن يعبق برائحة الهيل تصبه لنا أمي من السماور الفضي المخصر الذي يشبه بهيئته جارتنا الجميلة، أونستبدل الشاي بالبطيخ الأحمر"الرقي" البارد شديد الحلاوة،  فيذوب في أفواهنا كطعم الحب في أفواه العاشقين .

في  نهاية كل إسبوع تجتمع العائلة كباراً وصغاراً في بيت جدي لتناول الإفطار. فتُعدْ أمي وبقية نساء العائلة أصناف الطعام التي يتميزن بها.ننتظر أطباقهن الشهية بفارغ الصبر وعيوننا معلقة على شاشة التلفزيون في إنتظار إعلان موعد الإفطار. هذا اليوم هو من أصعب أيام الصيام،  فرائحة الطعام الزكية المنبعثة من مطبخ بيت جدي الكبير وطقس تحضير المائدة الجماعي الذي يشترك فيه الجميع كباراً وصغاراً لا يزيدنا سوى رغبة بالهجوم على الطعام وإلتهامه.  و ما أن نضع قطعة التمر في أفواهنا ونشرب كأس اللبن الرائب حتى يذهب الجوع تماماً،  إلا إننا لا نغادرالمائدة قبل تذوق طبق الجدة اللذيذ الذي لا يعده أحد بمثل براعتها: "الدولمة" (5) ، طبق لا يخلو منه البيت العراقي .

 بعد الإفطار تجتمع العائلة كلها ليلعب الجميع لعبة البات أو المحيبس وتتعالى صيحات الإحتجاج من الخاسرين والإبتهاج من الرابحين، فالفريق الخاسر عليه أن يقدم للفريق الرابح صينية من "الزلابية"(6) اللذيذة. ننقسم الى فريقين، ونختار بالقرعة الفريق الذي سيبدأ اللعبة، بالحصول أولاً على الخاتم والذي يكون قد إتُفق عليه مسبقاً بين الفريقين.  يمد كل أعضاء الفريق الباديء أيديهم وراء ظهورهم وهم جالسون ويقوم أحدهم بالمرور من ورائهم متظاهراً بوضع الخاتم في أيديهم جميعاً لكنه بالطبع سيختار يد واحد منهم. ثم يصيح: "بات" وعلى أعضاء الفريق أن يقدموا أيديهم الى الأمام على شكل قبضات مغلقة بإحكام. أما الفريق المقابل فعليه أن يختار أحد أفراده ليحاول أن يحزر مكان الخاتم. فيطلب من الذي يعتقد إن الخاتم ليس معه ال" تصفيق" أي فتح كلتا اليدين، أو قد يطلب من أحدهم فتح إحدى يديه وهكذا حتى يصل الى مكان الخاتم وعندها عليه أن يمسك اليد ويصيح: "جيبه" أي هات الخاتم فإذا كان حدسه صحيحاً ربح فريقه الدورة وصار الخاتم عندهم لتبدأ دورة أُخرى،أما إذا فتح اليد الخطأ أو طلب الخاتم من الشخص أو اليد الخطأ فإن على الذي عنده الخاتم أن يصيح: "بات" أي بقي الخاتم عندنا، وعندها تبدأ دورة ثانية حتى إنتهاء اللعبة بربح صينية الزلابية.

أكثر أوقات اللعبة إثارة هي عندما يتحمس الرجال ويبدأون بإبتداع طرق مضحكة وغريبة لمعرفة مكان الخاتم، خصوصاً في المرحلة الأخيرة حين يكون قد بقيَّ من اللاعبين واحد فقط والخاتم في إحدى يديه، عندها قد يقوم اللاعب المقابل بنتف شعرتين من حاجبيه الإثنين في الوقت نفسه والشعرة ذات الطرف الأبيض تكون هي المقابلة لليد الرابحة، أو قد يرمي بقطعة نقود معدنية أو يحاول دراسة شكل اليد وتكورها والتأثير على اللاعب بالنظر في عينيه مباشرة، وإذا كانت زوجته من غير اللاعبين فإنه قد يطلب منها الجلوس بجانبه أو طبع قبلة على وجنتيه عَّلها تمنحه شيئاً من الحظ.

اليوم سيكون آخر يوم من أيام رمضان، بعد الإفطار سيأتي جمع الأطفال مع قارعي الطبول ليجمعوا النقود المعدنية والحلوى من البيوت،  ويغنوا: ( ماجينة يا ماجينة ... فكي الكيس وإنطينة.. ). يتعلق أخي الصغير برقبة أبي مطالباً إياه بالعيدية؛  يخرج أبي من جيبه الحلوى صائحاً : تنتنة ؟!! فنركض إليه أنا وإخوتي صائحين : أنه أنه أنه .. فيوزعها علينا بالتساوي وهو يضحك .

تضع أُمي صينية تملأها بصحون صغيرة من الحلوى والجوز واللوز والفستق وقمر الدين، والمشمش المجفف (طرشانة) والإجاص الناشف (كزكز) ، هي ذاتها الصينية التي إستعمَلتها قبل أكثر من شهر لإحياء ذكرى النبي زكريا ، فملأتها بالحلوى و بقوارير الفخار كتبت عليها أسمائنا ووضعت في كل واحدة منها غصن ياس وشمعة.

قواريرنا نحن البنات تختلف عن قوارير الأولاد، فلقواريرهم إنبوب كإنبوب إبريق الشاي. أما نحن فلقواريرنا الفتحة العليا فقط نضع فيها الياس والشمعة. نضمر أُمنية وندخل دبوساً في أسفل الشمعة فإن ذابت الشمعة حتى وصلت الدبوس قبل إنتهاء الإحتفال فإن الأُمنية ستتحقق وإلا فإن علينا الإنتظار عاماً آخر حتى يأتي إحتفال زكريا مرة أُخرى.

نخرج قبل يوم الزكريا إلى "شارع النهر" لنشتري ما نحتاجه للإحتفال، كانت أختي تختفي فجأة في إحدى المحلات الصغيرة المواجهة للمدرسة المستنصرية القديمة،  فألحق بها لأجد نفسي في عالم آخر حيث أختي غارقة في إختيار الخرز المصنوع من السيراميك الملون أو الفضة، ويتحول عالمي إلى ألوان ونقوش لا حصر لها. تجتذبني الأساور و الخواتم الرفيعة المصنوعة من المطاط بألوانها الزاهية،  فنعود أنا وأختي بعدد منها بينما تكون أمي قد إختارت لي قماشاً للفستان الذي سألبسه في الإحتفال. 

ألبستني أُمي فستاناً بلون الحلم، زهرياً فاتحاً تزين الدانتيلا أكمامه وحوافه، ووضعت شرائط وردية في شعري "تبدين كالأميرة" ، قالت أُختي عندما رأتني.

 إبنة خالتي كانت ترتدي مثل فستاني فقد خاطتهما لنا خالتي سوية.  ركضنا أنا وهي لجمع الحلزونات: وضعناها جميعاً على الأرض وصرنا نغني لها : "زلنطح .. زلنطح .. طَّلع كَرونك وإنطح" لكنها لم تستجب فتركناها وركضنا عائدين إلى حيث بدأ الآخرون يغنون أغنية أخرى لزكريا :" يا زكريا .. عودي علية .. كل سنة وكل عام .. لأنصب صينية".  

كل مَن حولي كان يحب الحياة، أشعر أحياناً إننا كنا نعيش لنحتفل.  

جاءت صديقتي مَجْد عندنا، عندما كان عبد الباسط عبد الصمد يقرأ سورة الفاتحة في التلفزيون كانت هي تقرأ معه، لم اكن قد حفظت أنا الفاتحة تماماً ، فكانت تتباهى علي بقدرتها على الحفظ.  قالت لي مجد إنهم لا يصومون الآن فرمضانهم يأتي في وقت آخر وهم يأكلون فيه الخضار والخبز فقط ولا يأكلون اللحوم أو مشتقات الحليب. ولم أفهم كيف تصوم وهي تستطيع شرب الماء! فحسدتها مرة أُخرى.  

في الشتاء، جاءت لي مَجّد بلعبة جميلة، ذات شعر ذهبي طويل، كانت تغلق عينيها الزرقاوين حين أمددها وتفتحهما حين أرفعها. قالت لي إنها من بابا نويل، وإنه قد أعطاها واحدة مثلها لأنها كانت تنظفُ أسنانها قبل النوم، وإنها طلبت منه أن يجلب لي لعبة أنا أيضاً لأنني صديقتها العزيزة، ومقابل لعبتي رتبت غرفتها قبل أن تنام.

فسألتها إن هي شاهدت بابا نويل فقالت إنه يأتي عندما ينام الأطفال ويترك لهم الهدايا التي طلبوها تحت شجرة الميلاد؛ فطلبت من أُمي أن تضع لي شجرة الميلاد وطلبت من بابا نويل هدية لي ولمَجّد ثم نمت.

 

النهر
النهر مرآة القمر، يطل منها ليلاً بوجهه الباسم، متأملاً بغرور جماله الضوئي في صفحة الماء. أحياناً كانت تمر بضع نجيمات فوق صورته فتحركها بهدوء ولا تشوهها بل تزيدها جمالاً. نجوم أرضية، تحمل أمنيات الناس وأحلامهم. إن إقتربت من حافة النهر في وسطه تقريباً،  سترى بعض الناس يضعون تلك النجوم.  فتيات جميلات أو نساء إزدادوا حلاوة مع تقدم العمر، وقد تجد رجلاً يقف متأملاً نجمته وهي ترحل عنه في الماء، أو ترى أحياناً أطفالاً صغاراً يضعون أمنياتهم في قوارب ورقية صغيرة ويرسلون بها إلى النهر. كل من له أمنية يستطيع صنع نجمة يرسلها لتتهادى على صفحة النهر. تأتي بقطعة خشبية صغيرة وشمعة صغيرة،  تشعل الشمعة وتدير رأسها إلى الأسفل فوق سطح الخشبة، وعندما يسيل شيء من الشمع عليها ضع قاعدة الشمعة فوقه واضغطها قليلاً حتى تثبتها عليه،  تقترب من النهر بهدوء ، أطلب (المراد) وانت تمسك بنجمتك بين راحتي يديك ثم أنزلها برقة وروية في الماء. حّرك الماء بإتجاهها بخفة لتخلق أمواجاً صغيرةً تقنع شمعتك بالذهاب عنك وتحملها مسافةً في النهر، راقبها وهي تذهب وتتحول في ظلام الليل إلى نجمة تطفو على سطح المياه،  عسى أن يساعدك (خضر الياس)- النبي الذي غاب في النهر-  في تحقيق مرادك.

إن مررت في النهار سترى على حافة دجلة مرقد خضر الياس الذي صنعه الناس كرمز لغيابه في النهر،  مكَوناً من غرفة صخرية صغيرة جداً ولها شباك واحد لايمكن رؤية ما وراءه من شدة الظلام في الداخل وسترى بعض الناس حوله يخضِّبون جدرانه بالحناء وينذرون النذور إن تحققت أمنياتهم.

تحت شرفات البيوت الجميلة المطلة على النهر،  وفي حدائقها تكثر زهور ملونة صغيرة  تنمو في مجموعات لها جذر واحد. الزهرة الواحدة منها تتكون من رؤوس دائرية مجوفة صغيرة جداً، تصطف على شكل حلقات، كلما إقتربت من مركز الزهرة صَغرت الحلقة وتغير لونها. فتكون أحياناً حلقاتها البعيدة عن المركز وردية فاتحة أما القريبة منه فصفراء فاقعة،  أو قد تكون بنفسجية غامقة من الخارج وسماوية اللون من الداخل. أحياناً تجد منها بيضاء ناصعة، أو تختلط بعض حلقاتها باللون الوردي او الأصفر. يطلق على هذه الوردة إسم "وردة المينا"، لأنها مطعمة بالألوان كما يطعم الذهب بأحجار المينا الجميلة. نجمع هذه الورود ونبدأ بتقطيع رؤوس الزهرة المجوفة فندخل كل رأس بتجويف الرأس الآخر من الأعلى، ونظل نوصل بينها حتى تتكون لدينا قلادة جميلة ملونة ولكنها رفيعةً جداً.

كنا نصنع هذه القلائد من بعض الورود الصغيرة الأخرى ، كالرازقي العذب الرائحة الذي كانت أمي تقص ساق زهرته مكتفية بالرأس، وتتركه يطفو في إناء صغير وعميق تملأه بالماء وتضعه في الثلاجة لتفوح رائحته كلما إزدادت برودته. و لا تخلو طاولة الطعام من إناء شبيه، قد يكون أكبر قليلاً، فيضفي شكل الزهرة الرقيق ولونها الأبيض إنتعاشاً بارداً يلطف حرارة الصيف، و لتكون رائحتها حناناً مضافاً لحنان أمي الذي إرتبطت رائحة الرازقي عندي بها كإرتباطها بكل أُمهات لا بل كل نساء أرض السواد(7) فهذه الزهرة هي عطرهن المفضل، يزيِّنَ به صدورهن بتثبيتها في فتحة زر القميص العليا، لتنشر رائحة منعشة وندية تعطي للصباح طعماً آخر، تغنى بها الشعر الشعبي الجميل: "يا عطر أُمي، يا ريحة الرازقي الغافي على قمصاني". أما  الياسمين الأبيض والأصفر فقد حرص الناس على تزيين أسيجة حدائقهم به. وللياسمين العراقي رائحة مميزة قوية وزكيةً جداً.  فعندما يفرش الله عباءته الليلية علينا، وتعود الشمس إلى مخدعها و تهب نسمات الصيف البغدادي الطرية، تبدأ قصة الحب الأبدية بين الياسمين وشبو الليل(8)، وتبدأ رائحة هذا الحب تغزو الحدائق والشوارع، وتتألق أكثر إذا قررت سحابة صيفية أن تنثر قطراتها الخفيفة لتترك بعض الندى على أوراق الأشجار، فتختلط رائحة التراب المندى مع رائحة الياسمين وشبو الليل لتُكون مزيجاً رومانسياً يصعب تواجده في أي مكان آخر.

وللرومانسية حكاية أخرى في بلادي، حيث يختلط الفرح بالحزن أينما ذهبت. وكما كان ولا زال النهر وزهوره وعبيره هو رمز الحب الرومانسي الجميل، فإن له قصصاً أخرى شهدها وتناقلها أهله ومحبوه عبر الأزمان.  فيقال أن "عشتار" إلهة الخصب والحرب، وقد وسوست لها باقي الآلهة بخيانة حبيبها "تموز" ، ثارت ثورتها وهي القوية المتجبرة، فقتلته وقطعته ورمت به الى دجلة،  نهر الحب والألم منذ ذلك الحين.  ومرت الأيام وإكتشفت عشتار كذب الآلهة عليها وإخلاص تموزالحبيب لها، فملأ  قلبها الألم وأوجعته الحسرة على ما فعلته فجلست على حافة النهر تبكي حبيبها الذي قتلته بيديها دون ذنب إقترفه، دموعاً كثيرة غزيرة بغزارة ألمها وكثرته، حتى فاض النهر من دموعها وأغرق الحقول والأراضي التي حوله. وهكذا ظلت عشتار تجلس على حافة النهر كل عام في ذات الشهر الذي قتلت فيه تموز لتبكيه دموعاً غزيرة تسبب الفيضان، فينطلقن الجدات ليحكين لأحفادهن عن القصة الإسطورة، التي سمعتها في صغري عندما فاض النهر وأغرق بعض الأراضي في بغداد والمدن الواقعة عليه وتسبب بتسرب الماء الى سراديب البيوت الموصلية القديمة.

 

السرداب
في غربة تلك المساءات الحارة كانت ذاكرتي تستعجلني وتسحبني بقوة الى تلك الغرفة اللذيذة البرودة تحت الأرض، فأتذكر حيطانها الملساء وأرضها الباردة وقيلولة الظهيرة فيها التي كانت سرعان ما تأتي محملة بأحلام مليئة بنسائم ندية باردة فتصبح القيلولة أعمق وألذ.

لا أذكر أنني دخلت بيتاً من بيوت "الموصل" ولم أجد فيه تلك الغرفة السحرية المبنية تحت الأرض، لكن أكثرها تعلقاً بذاكرتي هي التي كانت في بيت "جدو ذنون"  قريب أبي.

كان بيت "جدو ذنون" بيتاً حميماً كأصحابه، مليئاً بالأولاد والبنات، يضج بالحياة.  لم تكن زيارتنا للموصل تكتمل إن لم نقضِ في ذلك البيت معظمها. كان البيت مكوناً من "حوش" وسطي كبير فاتحاً ذراعيه نحو السماء بلا سقف ولا غطاء، تتوسطه حديقة صغيرة تقف في وسطها من ضمن الأشجار والزهورالفواحة الملونة شجرة رمان أحمر زاهٍ كخدود بنات "جدو ذنون"،  وشجرة نارنج شديدة الخضرة كانت السبب في تعلقي بثمار النارنج ورائحتها طوال حياتي.  

وفي زاوية أخرى من زوايا الحوش كانت "المرجوحة"  التي كثيراً ما غفوت عليها وأنا أراقب أختي وبنات "جدو ذنون" وهن يتحادثن ويضحكن. كنت أغفو وأنا أنتظر شعور الدفء الذي يضفيه غطاءً تضعه عليّ إحدى البنات بذلك الحنان الذي تميز به أصحاب تلك الدار الجميلة.

كانت غرف الدار تتوزع حول الحوش الكبير فتمتد غرف الأولاد على جهته اليسرى،  في ممشىً يقع في نهايته مطبخ الدار الذي أكلت منه أشهى الأطباق الموصلية الدسمة المطبوخة "بنفس" طيبة تضفي على جودة الطعام متعة لا تضاهيها متعة. أما غرف البنات فكانت على الجهة اليمنى من الحوش لكنها ترتفع عنه قليلاً، نصل إليها بدرجات قليلة لكن سميكة، ينبسط تحتها "السرداب" ، تلك الغرفة السحرية الباردة.

 إذا مشيت في الحوش بمحاذاة غرف البنات حتى النهاية سيكون باب السرداب على يمينك، وستقابلك تماماً في نهاية الحوش، فسحة مسقفة تمتد على طوله تقريباً متوسطة بين باب السرداب وحائط المطبخ المقابل.  كانت هذه الفسحة مغطاة "بقمرية" عنب كبيرة تمتد على طولها، كثيراً ما إحتضنت تحت ظلالها وتحت عناقيد عنبها الشهية كراسي الكبار وأحاديثهم وأسرارهم، وفيها كانت " بيبي(9)حليمة" زوجة "جدو ذنون" تفترش الأرض هي وبناتها لصنع "كليجة العيد"(10) أو دق البرغل لعمل كبة الموصل الشهيرة، المحشية باللحم واللوز وأحياناً "بالكشمش"(11)، أو كبس ثمار الخيار والفلفل الأخضر لصنع "الطرشي" الذي غالباً ما يخزن في غرفة المونة في السرداب.

كان الدرج النازل الى السرداب عميقاً جداً، درجاته كبيرة وسميكة كجميع درجات البيت، وكانت تلك الدرجات صعبة على طفلة مثلي كما هي صعبة على الكبار أحياناً، لكن ما أن أصل الى حافة الباب المؤدي الى درج السرداب حتى تلفحني برودته ورائحة النظافة الشديدة التي يتميز بها البيت، فأسرع لنزوله، بالتعكز على الباب أو بأن أدير ظهري لأتعكز بكلتي يدي بالدرجة الأولى ثم الثانية وهكذا حتى أصل أرضية الغرفة، لأجد عالماً آخر، برودته منعشة، لكن دفء حميميته يلف الجميع، فينطلقون بالأحاديث المرحة التي سرعان ما تهدأ لتتحول الى قيلولة هادئة لساعة أو أقل، يليها صوت أقدام إحدى البنات وهي تحمل صينية الشاي، فتدب الحياة في النائمين وتبدأ موسيقى الملاعق وهي تدق في حافات إستكانات الشاي الرقيقة لتذويب السكر وتنغيم حميمية الكلمات التي يتبادلها الجميع فيما بينهم، ويلتف الجميع برائحة الهيل المنبعثة من الشاي الغامق الحمرة، ومن الكليجة الحارة الخارجة من الفرن تواً.

وتظل الروائح الشهية وموسيقى الود تلف الجميع وهم يتناوبون على صب الشاي وتوزيع "الكليجة" وتقطيع البطيخ الأحمر البارد وتقديمه الى الجميع،  بين نكات "جدو ذنون" وضحكات "بيبي حليمة" الخافتة الخجولة، ومرحنا الذي لا ينقطع.  فتارة نلعب ورق الشدة، وتارة نلعب لعبة "الحية والدرج" وتارة نلعب "الجلكة" وهي لعبة أدواتها مجموعة من الحصى النظيفة، التي طالما لعبتها أختي و بنات "جدو ذنون" ولكنني لم أفهمها الى حد الآن، ربما لأنني كنت مشغولة بإكتشاف عالمي السحري في تلك الغرفة الممتدة في خيالي الطفل.

كان السرداب يحوي في داخله غرفة أخرى أصغرمن الغرفة الأمامية الكبيرة، كانت تلك غرفة "المونة"، تحتوي على خزائن قليلة  تُخزن فيها الحبوب وأطعمة أخرى، وكانت تحوي أواني فخارية كبيرة وعميقة تسمى الواحدة منها "خُم" ، يخزن فيها الطرشي، والزيت، وأشياء أخرى تساعد برودة المكان على حفظها من التلف. كان للخُم غطاء فخاري يوضع فوقه حصاةً سوداء ملساء جداً كبيرة ونظيفة لإحكام إغلاقه. وهي نفس شكل الحصاة التي كانت أمي تستعملها بأحجام مختلفة، عندما كانت تطبخ الدولمة في قدر كبيرة ، فتغطي الطبخة مباشرة بصحن فخاري وتضع الحصاة فوقه لتثقل عليه وتدفع بالطعام الىأسفل القدر لتغطي المرقة كل ما في القدر فيتشرب طعمها جيداً.

قبل النزول الى السرداب لا بد من المرور بجانب "الحِبْ". وهو آنية كبيرة عميقة مصنوعة من الفخار أيضاً، لها منحنيات أنثوية رقيقة، تتسع من رأسها ثم تبدأ تضيق، حتى تصل الى قاعدة صغيرة جداً، ولها أذنان كبيرتان من على جهتيها لحملها. تُملأ هذه الأنثى الفخارية بالماء وتوضع على حامل حديدي بثلاثة أرجل خاص بها، بحيث ترتفع قاعدتها عن الأرض، غالباً ما تغطى بقطعة قماش رقيقية تسمى" مَلمَل"  أو بقطعة خشبية مدورة لحفظ الماء نظيفاً. أما تحت قاعدتها فيوضع إناء معدني ليلتقط قطرات الماء المترشحة من "الحِبْ" والتي عادةً ما تكون، باردة ومنعشة. ومهما كان قيظ الصيف وحرارته فإن ماء الحِبْ تبقى باردة ولذيذة. وهو كان سبب إنتشارها في شوارع أكثر المدن العراقية، حيث تجدها أمام أبواب الكثير من البيوت، ليشرب منها المارون في الطريق كما أصطلح على تسميتها "ماء سبيل". وقد شهدت المدن العراقية إنتشاراً واضحاً لها خلال الحرب، فتوضع في الباب ويكتب عليها، لروح الشهيد فلان، فيمر العطاش يقرأون الفاتحة على روح الشهيد ويروون عطشهم بماء الحِبْ اللذيذة التي ليس كمثلها ماء.

وللحرب في بيت"جدو ذنون" قصة، ففي إحدى أيام الربيع المنعشة النسمات في الموصل "أم الربيعين"، وبينما كنا نجلس في الأرجوحة وقت المغرب نتبادل الأحاديث المرحة كالعادة. فوجئنا بأحد أولاد "جدو ذنون" وهو جندي في الجيش كباقي إخوته وغالبية شباب البلد آنذاك، يقفز من فوق السياج المرتفع جداً عما يزيد عن مترين الى داخل حوش البيت من الشارع. مسرعاً وكأن هناك من يطارده وهو يرتدي بزته العسكرية، وتعلو وجهه حمرة الغضب الشديد والعصبية، يكاد الدم ينفر من وجهه الأبيض المليح التقاطيع.

فما كان من أمه "بيبي حليمة" إلا أن صرخت به برعب تسأله عن ما به، فكان كبركان غضب إنفجر يصب وابل غضبه على الحرب ومن صنع الحرب ومن يحارب، صارخاً بأنه لا يريد أن يقتل أحداً بعد الآن ولا يريد أن يموت في حرب تافهة لا يعرف أسبابها ولا ما وراءها. فترجّاه الجميع، أن يخفض صوته خوفاً من ان يسمعه أحد. وبعد توسل ورجاء من أخواته وأمه ونحن، خلع بزته العسكرية في حوش الدار وقال: إحرقوها إن شئتم فلن أرتديها بعد الآن، فقد سئمت القتل والعيش تحت رحمته. ظل ذلك الحدث محفوراً في ذاكرتي لفتىً عاش في طيبة ذلك البيت ورفض أن يشارك في جنون حرب ليس لها أي هدف سوى حصد أرواح الشباب من كلا الطرفين المتجاورين.

 

مخبأ الأحلام
لم يثر خيالي الطفل شيء كما أثاره ذلك المخبأ السري في غرفة "سَمَرْ" الفتاة الدافئة الجمال، الرقيقة الروح.  كان عالم سَمَرْ صامتاً بلا أصوات، لكنني كنت أشعر أن في قلبها موسيقى لم يعرفها أحد من البشر غيرها، كنت أشعر بها تتمايل على ألحانها وتبتسم فأكاد أسمع ما تسمعه من ألحان روحية مَّلكتها حناناً نادراً.

 أطبق الصمت على عالم سَمَرْ منذ كانت في الخامسة من عمرها عندما مرضت بالإنفلونزا الحادة التي أثرت على جهازها السمعي فعطلته تماماً،  فلا تكاد تذكر من الكلام سوى بضع كلمات طفولية النطق. إلا إنها كانت تمتلك من الذكاء ما يجعلها تعرف ما يُقال حتى قبل أن يُقال، وأضفى إختفاء الأصوات من حياتها هدوءً وصفاءً على ملامح وجهها وفي عينيها الواسعتين الملتمعتي السواد. لم يلاقِ أحد منا يوماً صعوبة في فهم ما تريد قوله، ليس لإن لنا قدرات خاصة للفهم ولا لأننا تعلمنا لغة الإشارة، ولكن لأنها هي من خلقت طريقة خاصة للتواصل معنا. كان لديها قدرة غريبة لإيصال أصعب الأفكارعبرالإشارة وملامح الوجه يمكن لأي أحد قراءتها حتى من كان أٌمياً لا يعرف القراءة. كان لها حضور يصعب تفاديه، يُفرض عليك دون أن تشعر، وتبدأ بالتعامل معها بعينيك بدل السمع، و تنسى إنها مختلفة منذ اللحظة الأولى التي تبدأ بها حديثها الخاص معك. كان كل ما في وجهها يتحدث بدءاً من عينيها الفصيحيتين. لا أذكر انني رأيتُ سمر يوماً دون إبتسامتها الغريبة الدفىء. كنت مسحورة بالروح التي تضفيها على المكان وعلى الحنان الذي تغدقه على الجميع فكنت أُتابعها بعيني أينما ذهبت.  فكان أن لحقتُ بها يوماً وهي تتهادى أمامي بجسدها الممتلىء بالإنوثة الى غرفتها في الطابق العلوي من بيت جدو ذنون. فما أن فتحت باب الغرفة حتى أطل علي عالم آخر يعبق بالموسيقى وتكاد تذوب فيه الروح. كل شيء في تلك الغرفة كان شديد الترتيب، كثير النور رغم أنها خالية من أي شباك أو أي مصدر للضوء سوى ما يدخل من الباب من ضوء النهار. إبتسمت لي سَمَرْ عندما رأتني ودعتني للدخول لتريني شيئاً. إقتربت من حائط الغرفة في الوسط ، كانت قد علقت عليه ستارة صغيرة رائعة الألوان صنعتها بنفسها من خيوط القطن الناعمة، تبرز منها أزهار تكاد تنطق بالحياة، أزاحتها عن مخبأ عميق في الحائط على شكل قوس، وضعت فيه صناديق دائرية مختلفة الأحجام، مصنوعة من القماش المطرز بخيوط الحرير والقصب والأحجار الملونة، لم أر في حياتي شيئاً أجمل منها. فتحت إحداها ونظرت إلي بإلتماعة عينيها الطفولية تدعوني للإقتراب. كان الصندوق مليئاً بأحجار ملونة مختلفة الأحجام والأشكال، دعتني لإختيار بعضها بنفسي، فمددت يدي متنقلة بين الأحجار في حيرة من أيها أختار، فشجعتني إبتسامتها لإختيار عدد منها بألوان مختلفة، أشارت لي بأن أضعها في وعاء صغير، وفتحت صندوقاً آخر لتخرج منه خيطاً رفيعاً من النايلون الشفاف وبدأت بشكِ الأحجار فيه واحدة بعد الأُخرى بعناية وتناسق ثم إقتربت مني وعقدته حول رقبتي، وسحبتني إلى مرآة معلقة على الحائط لأرى فيها نفسي وأنا أرتدي ما أعده أجمل ما قُدم لي من هدايا. إرتبط بذاكرتي بسَمَر الجميلة و بذلك المخبأ في الحائط  والذي علمتُ فيما بعد أن إسمه باللهجة الموصلية "الرازوني"،  أما أنا فقد أسميته:  مخبأ الأحلام.

 

البريي (12)
كل شيء في الموصل كان يدعو للإبتهاج بدءاً من حب أهلها للشمس والمرح والحياة . فما كانت تمر نهاية إسبوع  دون أن يضج البيت بالحركة النشيطة المرحة منذ ساعات الصباح الأولى الكل مشغول بالإعداد للخروج الى "البريي" في إحدى مناطق الموصل أو ما حولها وأحياناً الى الشمال.

فتُعد اللحوم لشيّها على الفحم، ويطبخ الرز في قدر كبيرة، ويوضع الشاي المهيل والماء المثلج وعصير السوس أو الرمان في ترامس كبيرة لتكفي الجميع. ويبدأ الجمع بالتحرك في قافلة تمتد كسلسلة لا يمكن فكها. في الطريق،  يبدأ الجميع بالضحك وإلقاء النكات والحكايا الطريفة عن أحد أفراد العائلة أو الأقارب، أو بغناء الأغاني الموصلية الشعبية المعروفة بسخريتها وبلذع كلماتها.

كانت حقول شقائق النعمان تمتد حمراء قانية بكثرة على الطريق، تتمايل أزهارها الجميلة مع النسائم الجبلية المنعشة فتضفي أناقة ألوانها ورقة نسيج أوراقها بهجة للنظر وراحة تتسلل الى القلب دون أن نشعر. عند وصولنا "سرسنك"(13) واجهتنا نقطة التفتيش الأعتيادية في الطريق. وحذرونا بضرورة ترك المكان قبل الظلام لأنه سيكون خطراً. كيف لمكان بهذه الرقة والروعة أن يكون خطراً؟ إخترنا مكاناً بين الأشجار على ضفة جدول صغير جداً وسريع ينحدر من إحدى الشلالات الكثيرة في الشمال. كان الماء عذباً جداً وشديد البرودة. تركنا بطيخة حمراء في الماء بين الصخور دون كسرها فكانت بدورها تتمايل بخفة فيه لكنها أثقل من أن يستطيع الماء تحريكها، وإنصرف الجميع لإعداد الطعام. كان العمل يقسم تلقائياً دون تحديد، فالنساء يعجنَّ خليط اللحم والكرفس والبصل حول الأسياخ الحديدية لصنع الكباب، أو بشك قطع اللحم المربعة الصغيرة في أسياخ رفيعة لصنع التكة، أما الرجال فمهمتهم إتمام شيّ اللحم.

 إنصرفت أنا لجمع الحصى الملونة من الجدول. أحسست بالماء يداعب قدميَّ بحنان كأنه يقول لي شيئاً. لم أتصور يوماً أن يكون النهر أو الجدول مجرد تجمع لسائل بلا طعم ولا لون ولا رائحة! بل كنت متأكدة بأن لذلك السائل المتجمع روحاً تسري فيه كما يسري الدم في أجسادنا نحن البشر، وروحه خالدة لا تموت،  وهي شاهدة على كل ما في محيطها من حب وبهجة وحزن وألم أحياناً. وأتذكر كيف أن مُدرسة الموسيقى أسمعتنا قطعة موسيقية قالت إنها تتحدث عن جدول يشق طريقه بين الصخور وطلبت منا إغماض أعيننا و تخيل الماء وهو يمر بين الصخور بقوة تارةً وبهدوء ورقة تارة أُخرى ، فأحسست فعلاً بتلك الروح تسري فيَّ،  فتخيلت نفسي أجري مع مياه النهر وأُ بعد الصخور عن طريقي بقوة وأهدأ بعدها فرحةً مبتهجة عندما أدخل قرية ويتهلل الناس بمياهي ويرقصون فرحاً بوصولها. نسيت الموسيقى لكن صوت المعلمة الهاديء وكلماتها وصورة النهر ظلت محفورة في ذاكرتي تحمل قدمي للوقوف مرة أُخرى كلما واجهت صعوبة في الحياة.

حَضُرَ الطعام وإجتمع الجميع حوله يأكلون ويوزعونه فيما بينهم بإستمتاع تام. وجاء وقت شرب الشاي فصفت الإستكانات وصب فيها الشاي الذي كان قد وضع علىالفحم بعد الإنتهاء من الشيّ مباشرة. ولا شيء ألذ طعماً من الشاي المخدر على الفحم. فيتنعم به الجميع مرة بعد أُخرى فلا يكتفي أحد بإستكان واحد منه. وتبدأ أصوات الغناء تعلو، ويفسح المجال خصوصاً لمن لهم أصوات جميلة مرافقين لإنطلاق الألحان من أصابع "مؤيد"، القريب النحات الذي له في كل بيت من بيوتنا قطعة فنية أو أكثر والذي كان أيضاً يعزف على العود بروحانية نادرة فيتمايل الجميع طرباً. و تُسمع آهات الإستحسان تنطلق عفوية من البعض،  ويشارك الجميع في تذكركلمات هذه الأُغنية أو تلك. ثم يأتي وقت البطيخ الأحمر الذي إكتسب برودته الشديدة من برودة الماء الجاري في الجدول؛ فيُقَطَع ويُوَزع ويبدأ طقس آخر من الغناء والتمايل والمرح.

 ما أن بدأ الظلام يخيم على المكان شيئاً فشيئاً حتى بادر الجميع الى جمع الأغراض ووضعها في السيارات. وبدأنا نشعر بوجود حركة ما في أعالي الجبال حولنا. كان الوضع كما كان دائماً متأزماً بين الحكومة و المنادين بإستقلال كوردستان . فكانت أحياناً تنطلق في الليل بعض المعارك بينهم وبين قوات الحكومة آنذاك،  فهذه الأخيرة تطلق عليهم لقب "العصاة" وهم يطلقون على أنفسهم لقب "الثوار" . وبين حقوق مغتصبة وحقوق مستحدثة وقسوة وخلط في الأوراق كنا نحن كما الكثير من الناس في ذلك البلد، نحاول الإستمتاع في الحياة الى أقصى حد ممكن متلحفين بحبنا للأرض الغنية بأهلها المتعددي الألوان والمعتقدات والقوميات، مما يجعلها بحق برج بابل الإسطوري.

 

حلاوة ليل
لا أتذكر متى تذوقتها لأول مرة، لكنني أعرف أن كل مرة هي كالمرة الأولى لا يمكن توقع لذتها، تذوب كأن طعم الحياة كله يذوب تحت  لساني. فأجدني أتذكر كلمات الشاعر(14) الرائعة : "حلاوة ليل، محروقة حرق روحي". لها سمرة عجيبة إكتسبتها من سمرة أهلها الذين يجيدون صنعها بإمتياز لا ينافسهم فيه أحد. فأن تصنع طعم الجنة من طحين وسكر وسمنة فقط، هو شيء ليس بالسهل. فلا بد أن يكون لك تلك اللمسة السحرية، لمسة تجمع حرارة الشمس ولون النهر وسمرة الأرض و دلال النخلة. أمد ملعقة صغيرة في طبق الجنان ذاك وأرفعها الى الأعلى فترتفع الحلاوة خيطاً يقاوم الإنفلات كأن له جذراً في الطبق وأضعها في فمي فتذوب بسرعة مخلفة لذة عجيبة في أسفل اللسان فأُغمض عيني و أجد المتعة تسحبني الى المزيد منها في كل مرة.  وأن تصنعها يدا "جَنّة" هوَّ فوز آخرلا يضاهى.

"جَنّة" كانت بابلية بإمتياز، كلما رأيتها تخيلتها تمشي بين الجنائن المعلقة وتدخل برج بابل وهي تتمايل بكل دلع "الحلاويات" وذكائهن الفطري وشقاوتهن المحببة. تطل على العالم بعينين واسعتين شديدتي السواد، تحمل حباً جميلاً للحياة وحناناً كبيراً في قلبها الذي حظي به حسن،  الذي كان يشبهها في طيبته وعينيه الجميلتين.

كانت  تُدهش الجميع بجمالها وبشعرها الأسود الحريري الذي كانت تقصه دائماً بشكل دائري طفولي فيتحرك بعفوية ودلال كلما حركت رأسها، وكانت كما الحلاوة التي تصنعها، أجمل في كل مرة من التي قبلها.

حملت جَنّة الحلّة في قلبها، كما حملها حسن. سكنوا بغداد وأحبوها لكن الحلّة الحنينة ظلت تطل من عيونهم وعيون إبنهم علي. وظلت رائحة الفرات والنخل تتهلل بنا كلما دخلنا بيتهم الشديد الأناقة الحميم البساطة. لم يكن عليٌ ينام إلا على صوت أُمه وهي "تّلولي" له بلهجتها الجنوبية الشديدة الحنيّة والحزينة النغمة: دِلِلّوي يا الولد يّبني دِلِلّوي... والتي ما زالت تثير فيَّ كل مشاعر الإشتياق كلما سمعتها، فكأن الأرض كانت تغنيها لنا كلنا حتى كبرنا وهجرناها.

كانت جَنّة تمد ساقيها وهي جالسة على الأرض واضعة مخدة صغيرة على أعلى الأقدام، فتضع رأس علّي فوقها وتمد جسده على ساقيها وهي تغني له وتحرك ساقيها بهدوء يميناً وشمالاً فيروح عليٌ في عالم من الأحلام يبدأ بصوت أُمه الدافىء وحرارة جسدها الحنون.  فتنضم بعد أن ينام، الى حسن في إحتوائنا بحميميتهم وحرارة لقائهم، حتى نصبح بدون أن نشعر كتلة واحدة من الدفء تتناغم مع بعضها وتنسجم فتنطلق الأحاديث والنقاشات والأغاني أحياناً،  فيصبح بيتهم كالوطن الذي ما أن نتركه حتى نعود إليه مسرعين مرتمين بين أحضانه.

كان لحسن صوت يحمل الكثير من تلك الأرض، دافيء وحزين أحياناً. يخترق القلب ويحوله الى آلة موسيقية تعزف له وحده. ما أن تبدأ سهرتنا حتى يبدأ الجميع بمطالبة حسن بالغناء، وهو يتمنع خجلاً. إلا إنه ما أن يبدأ، حتي يدخل كل مَن في المكان في صمت مطبق، وقد يغمض البعض أعينهم وتتمايل رؤوسهم إستحساناً. أما هو فكأنه في عالم خاص به، عالم يمتلكه هوَّ وحده. فيرتفع صوته وينخفض وترقص معه دقات قلوبنا، ويتحول حسن الى كَلكَامش يجد الخلود بإنطلاق صوته الساحر. 

 

الموسيقى
 كانت الألحان تتدفق من حولنا بلا توقف، من لحظة الإستيقاظ على لحن عندليب يحمل أخبار الصباح،  إلى لحن "تخدير" الشاي ورائحة الخبز الحار. تتبعثر الألحان وتلتقي ، تتمازج مع اللحظات وتولد لحظات جديدة. فلا قيود لتوالد الألحان ولا حدود لتجددها.

كنتُ طفلة عندما إستسلمت لموسيقى الأوتار السحرية المستسلمة بدورها لأنامله، يمدها بالحياة تارة و يغرقها بالحزن تارة أُخرى. غاب الجميع، وبقيتُ أنا على إحدى كراسي المسرح الفارغ الكبير، الذي ذاب فضاؤه في ألحان إحتوت المكان وتخللت مسامات الكراسي والجدران وستارة المسرح وأضواءه وجسدي الصغير المنزوي في إحدى أركانه.

كنت هناك أتدرب مع زملاء لي على نشيد سنقدمه بإسم المدرسة في مهرجان عيد الأم. لا أعرف كم مضى من الوقت وأنا مخدرة على الكرسي، أُرا قب ذلك العشق الأبدي بينه وبين آلة العود طوع يديه، يداعبها كحبيبة، وهي تتغنج ألحاناً تُقبل أصابعه.  سمعت صوتاً يناديني من بعيد. كان صوت أُمي الغاضب . كانت قد بحثت عني في كل مكان عندما لم تجدني في الباص الذي عاد بزملائي الى المدرسة.

رأيته بعد ذلك بسنوات عديدة، كنت قد تغيرتُ لكني لم أنس ذلك اليوم الذي تسمرت فيه في زاوية من زوايا المسرح الوطني أراقب عزفه، وأغرقني من جديد في قصة حب جديدة مع عوده لّفَتني والحاضرين معي في ذلك البلد البارد الغريب، بدفء حمله إلينا من هناك، من تلك الأرض البعيدة القريبة.

أغمضت عينيَّ لأحلق معه في فضاءات أعرفها، وأشتاقها في كل لحظة. صوت التصفيق في المسرح الوطني المترافق مع نبضات قلبي الطفل و عطورالحاضرين التي تغرق المكان، لون الستارة الأحمر الغامق، عيوننا الصغيرة المعلقة بوجه مدرس الموسيقى وهو يقف خلف كواليس المسرح جامعاً قبضة يده اليمنى يهزها بإشارة التشجيع والمباركة. شممت رائحة المطر في بغداد ورأيت الكَهْرَمانة (15) تصب الزيت في الجرار، لا زالت جميلة رغم كل تلك السنين المريرة.

 صار لي جناحان حلقا فوق نخل البصرة، حملاني فوق الفرات وهو يغني لدجلة قبل إلتحام جسديهما بعناق أبدي وعشق لا ينتهي. مررت فوق المآذن والكنائس والمعابد، سمعت أجراس الحياة وترانيم الصلاة. شممت رائحة تَفتُح القداح(16)  في بساتين ديالى. ركضت بثيابي المدرسية أجمع حبات النبق المتساقطة على أرض حديقتنا، إسترحت تحت أغصان شجرة النارنج في بيت جدو ذنون في الموصل، كان عطر ثمارها يغمرني بحنان ساحر، وأحسست بطعمها تحت لساني، لا مثيل له، حلو، حامض، مر، طيب، حنون كطعم تلك الأرض.  من قال إن الجنة بعيدة؟  لا بد إنه لم يرّ تلك السماء ولا عرف ذاك الهواء ولم يذق أبداً طعم ثمار النارنج.  

 

إشارات:
* جزء من مجموعة قصصية تحمل نفس العنوان

(1) المفردات: أساور مصنوعة من  الذهب تلبس عادة بمجموعات من إثنتين أو ثلاث أو أكثر أحياناً.

(2) القيمر: هي قشطة حليب الجاموس، وتكون ناصعة البياض و سميكة.

(3) الفالول: نوع من الثآليل الجلدية تكون صغيرة عادة، بارزة عن الجلد و خشنة.

(4) عرقجين: غطاء رأس صغير مصنوع من خيوط قطنية متداخلة مع بعضها (حياكة) وهو لباس إسلامي عادة ما يرتديه الرجال عند

     الصلاة ويرتديه الرجال أيضاً تحت  الغترة و العقال في بلدان الخليج العربي.

(5) الدولمة: طعام مكون من ثمار الخضار الكاملة.تحفر وتفرغ من محتوياتها ثم تُحشى بخليط من الرز واللحم والكرفس والبهارات. وتطبخ

      بصلصة دسمة من الزيت والليمون. وأهم أصناف الخضار هي البصل والسلق.

(6) الزلابية: نوع من الحلويات ذات شكل حلوزني مذاقها شديد الحلاوة. 

(7) أرض السواد: وهو إسم كان يطلق على أرض الرافدين لشدة خصوبة أراضيها وخضرة زرعها خصوصاً النخيل التي كانت تغطي

     معظم مساحة العراق.

8 ) شبو اليل: نوع من أنواع الزهور شبيه بالياسمين بكثافة أشجاره إلا إن زهرته تأخذ شكلاً رفيعاً متطاولاً أكثر. يتيمز بأن رائحته تنتشر

     في اليل عندما تغيب الشمس وتخف حرارة الجو فتمتليء الشوارع والبيوت بها، وتضفي على ليالي السمر العراقية نكهة متميزة.

(9)  بيبي: أي الجدة. وقد كان متعارف في أغلب العوائل على إطلاق إسم الجد والجدة على أي قريب كبير في السن إحتراماً لهم.

(10)  كليجة العيد : كعك العيد، ويتكون من عجينة محشية بالتمر أو الجوز والسكر ويستخدم في العجينة نوع خاص من البهارات الحلوة.

(11)  كشمش: نوع من أنواع الزبيب

(12) البريي: وتلفظ باللهجة الموصلية بإستبدال حرف الراء بحرف الغين، وتعني البر. والخروج الىالبر يعني القيام بسفرة صغيرة في مكان مفتوح.

(13) سرسنك: وهي منطقة في شمال العراق (كوردستان) تمتاز كما كل كردستان بجمالها الفاتن مما جعلها إحدى أهم المصايف في العراق.

(14) الشاعر العراقي المعروف مظفر النواب.

(51) كَهْرَمانة: إبنة  شهبندر التاجر التي صبت الزيت في الجرار في قصة الأربعين حرامي. ولها تمثال جميل في بغداد يجسد هذه القصة.

(16) القداح: زهور أشجار البرتقال. وتشتهر محافظة ديالى في العراق بجودة ثمار البرتقال وجميع أنواع الحمضيات التي تزرع في بساتينها.