في نصه / شهادته على واقع سوري يغيب ينكفئ الشاعر راجعاً إلى الذاكرة، يوضح سردية عائلة تواشجت مع سيرتها تحولات المدن وتداخلات الأديان، ولعبت بمصائر شخوصها الأهواء العاطفية وحراك النزوع الفكرية والفنية. إلى كل ذلك تحضر العائلة كشاهد دال على عالم إنساني مفرد تتلبسه جدليّة التاريخ الاجتماعي.

كنيسة مار نقولا وابنها المسلم

منذر المصري

(إلى جدتي زكيّة إلياس كوتيّة)

 

داخل دكّان أبيه، في سوق البازركان، كما كان يُطلق على سوق طرابلس للقماش والحرير، في بداية القرن الماضي، كان الشاب رفعت مصري، الإبن البكر لعبد الله مصري، تاجر الأقمشة الحريرية المعروف، منحنياً فوق عوده، يبدد بالعزف والدندنة عليه الوقت الطويل الذي يمتدّ من الساعة الثانية ما بعد صلاة الظهر، حتى الساعة الخامسة ما بعد صلاة العصر وربما أكثر، حين تدريجياً تعود الحركة للسوق، ويعود الزبائن للشراء والباعة للبيع، عندما تفاجأ بدخول السيدة كوتيّة بردائها الأسود المقصّب، ومعها ابنتها الشديدة البياض، ذات الشعر الشديد السواد، والعينين الواسعتين ذاتيّ الحدقتين الشديدتي السواد بدورهما. لم تكن المرّة الأولى ولا الثانية التي تبتاع السيدة الموقّرة ما تحتاجه من أقمشة من ذلك المحل، فقد كانت تعلم أنها تعامل فيه معاملة خاصة، وإن لم تكن تدري تماماً لماذا، وبخاصة إذا كان رفعت من يقوم بعملية البيع، وهذا ما كان يحصل غالباً، فالشاب، ومنذ فترة غير قصيرة، يبدو وكأنه هو وحده من يتكفل بعملية البيع والشراء. إلاّ أن الأم هذه المرّة تنبهت لشيء يزيد عن النظرات الإعجاب الخجولة، التي كان رفعت يرمق بها من حين لآخر ابنتها (زكيّة). كان هناك إشارات سريعة غامضة، بالعينين، وبالفم، وبكامل الوجه، تبادلاها معاً وهما يظنان أنها مشغولة بالنظر للقماش وتفحصه، ما أوحى إليها بوجود تواطؤ ما بين الإثنين، تواطؤ لا تدري على ماذا، لا لا يمكن، لا، فهذا أقرب للمستحيل، لأن عائلة المصري، حتى وإن لم يكن ليست من عوائل طرابلس المسلمة وحسب، بل العائلة المتدينة، التي تعرف بالمدينة بكثرة عدد علمائها وشيوخها، وحفظها لخزانة شعرة النبي، التي تخرجها في الأعياد الدينية ويُدار بها على المساجد ليقبّلها المصلون. وعائلة كوتيّة ليست أيضاً من عوائل طرابلس المسيحية الارثوذكسية وحسب، بل أيضاً عائلة تتوارث أباً عن جدّ الخدمة الدينية في كنيسة مار نقولا العجائبي، من الأسقف إلى المنشد إلى الشماس. إلاّ إن الأم وهي في طريق عودتهما، تذكّرت أنه سبق وأرسلت ابنتها للسوق، أكثر من مرّة، لإحضار بعض نماذج الأقمشة التي توصي عليها، وأن ابنتها كانت تتأخّر بالعودة، لدرجة أنها يوماً سألتها، وأجابت بما لم تقتنع به كثيراً، ولكن من أين كان لها أن ترتاب بشيء كهذا.

لم يكن من الحكمة مفاتحة أيّ إنسان بشكوكها، ولا حتى ابنتها زكيّة نفسها، ولكن لا بأس، بل يجب، الاسراع في حسم قضية خطبتها وزاوجها من طبيب أسنان قريب لهم، توفيت زوجته الشابة أثناء ولادتها بطفلهما الثاني، حتى وإن كان يزيدها قليلاً بالعمر، ولديه طفلان، لماذا لا!؟ «كلّ شيء راح يجري على نحو جيد»، زكيّة نفسها لم تبد ذلك الاعتراض الذي كانت تبديه سابقاً، الأمر الذي أراح الأم وبدّد شيئاً من وساوسها السابقة. ولكن بعد ثلاثة أيام من واقعة دكان القماش، التفتوا حولهم ولم يروا زكيّة في البيت! بحثوا عنها في الكنيسة والمدرسة وعند الأقارب والصديقات ولم يجدوها: «رفعت علينا أن نهرب، أهلي سيأخذونني إلى بيروت غداً وسيزوجونني من ذلك الطبيب»، صاحت أوّل ما دخلت الدكّان. من دون أيّ تردّد، وتبعاً لخطّة مسبقة، لطالما رسمها الشاب في رأسه، وأعدّ لها في الأيام الأخيرة كامل مستلزماتها، غادرا طرابلس مباشرة، إلى أين.. لا أحد يدري.

إلى أين!؟، إلى دار الإفتاء في دمشق، حيث نطقت بالشهادتين مشهرة إسلامها على يد مفتي الديار الشامية، الذي، لا أدري مدى صدق هذه الرواية التي نقلتها لي عمّتي مستهام، انبهر بجمالها، فعرض عليها الزواج من إبنه، فأجابته، أنها أسلمت لتتزوج من رفعت مصري وليس لأيّ سبب آخر. بعدها اختار جدّي مدينة طرطوس ليسكنا فيها، وليس حمص أو اللاذقية، لغاية شديدة الأهمية بالنسبة له، وهو أنها أقرب مدينة لطرابلس. فقد بقي هذا الرجل الذي كزوجته شقّ عصا الطاعة وخرج عن عائلته، حتى تبرّأ منه أبوه وقاطعه جميع أخوته، وفيّاً لمدينته حتى يوم وفاته. فهو رغم هذه القطيعة المزدوجة، كان مصراً على أن تلد زوجته أولادهما الثلاثة، أبي (شكيب) وعمتَيّ (مستهام وفائقة) في طرابلس. فلطالما سمعت أبي يردد، بأنهم في طرطوس كانوا يقولون: «لو احتاج رفعت مصري باقة بقدونس فإنه يذهب ويشتريها من طرابلس«.

حدث هذا عام /1917/، تصوروا!؟. وكان عمر رفعت /23/ سنة، وعمر زكيّة /16/ سنة، أي أنه كان فتى في بداية عهد الرجولة وكانت فتاة قاصراً، وكان من الممكن الادّعاء على رفعت بتهمة الخطف والتغرير بقاصر، ولكن ذلك، وفي مدينة مسلمة كطرابلس، يجري البتّ بهذا النوع من الأمور من وجهة نظر الشريعة الاسلامية، لم يحصل. فقط اتّخذ القرار بشطبها من سجلات الطائفة، أي قتلها ورقيّاً، ثم البحث عنها وقتلها إذا أمكن جسداً وروحاً معاً. ممّا اضطرّ جدي، حسبما أخبرتني به أيضاً عمّتي مستهام، إلى أن يمنعها من فتح باب بيتها في طرطوس طوال حياتها. الأمر الذي أساء فهمه البعض، واعتبروه بقايا من التديّن الشديد الذي ربما حمله من أهله، إلاّ أن ذلك لم يكن صحيحاً كما بينت، خصوصاً بعد أن تأكّد لي، وأنا أقلب ما تحتويه أدراج خزانته بعد وفاته بزمن، أنه لم يكن ماسونيّاً عاديّاً، بل أنه قد تحصّل على مرتبة رقمية متقدمة في الأخوية.

وكما حمل، أو قل خطف، الحبّ جدي شمالاً من طرابلس إلى طرطوس، خطف الحبّ أبي شمالاً من طرطوس إلى اللاذقية، وهذه المرّة مع عدم موافقة جدي رفعت ذاته، وإن غير الحاسمة، ذلك أنه كان يريد أن يزوج ابنه الوحيد فتاة من عائلة طرابلسية، الشرط ذاته الذي كان يفرضه على كلّ من تخوّله نفسه أن يتقدّم للزواج من عمّتَي. الأمر الذي لم يحدث، ربما بسبب القطيعة القديمة، وربما لا، وكان فاشلاً في كل تفاصيله، فأبي أحبّ معلّمة لاذقانيّة من عائلة متواضعة، ونقل لأجلها مكان عمله وسكنه إلى اللاذقية، حيث لم يجد في البداية مسكناً له إلاّ عند عائلة مسيحية من أقارب أمه. بينما عمّتاي لم تتزوجا قط. لكن جدي، بحكمته، لم يتأخّر في تقبل الأمر، باعتباره واقعاً ما عاد يجدي شيئاً مواجهته ورفضه، وهكذا عادت الأمور لطبيعتها بين الأب والابن، فكان أن اتفقا على تقسيم الأبناء، أوّل الذكور وأولى البنات من حصّة الأب، وثاني الذكور وثانية البنات من حصة الابن. الأمر الذي سرّت به أمي، وذلك لأنه كان بمثابة قبول عائلة أبي بها كزوجة لابنهم، من جهة، ولأن هذا الاتفاق لم يتعدّ، كما تبين، أكثر من حقّ إطلاق الأسماء، فكان أن اختار جدي اسمّي (محمد منذر) و(مرام). بينما أسمت أمي: (ماهر ومنى). أمّا خامس الأولاد، فقد أسماه أبي باسم أبيه، لأنّه كان يرى، خلافاً للعادة الجارية، أنّ من الأفضل عدم اطلاق أسم الجدّ على الحفيد، إلاّ بعد وفاته.

وصفت مرّة، الجو العائلي الذي تربّيت به أنا وأخوتي الأربعة. بأنه كان جواً مفتوحاً، متفتّحاً، منفتحاً، فاتحاً، عينيه ويديه وعقله وقلبه لاستقبال كلّ جديد، وبأننا كنّا أناساً توجهوا بكامل صدورهم للمستقبل، وأداروا ظهورهم للماضي بكافة أشكاله. فكلّ ما جمعته من معلومات عن ماضي أسلافي، عرفته لاحقاً نتيجة رغبتي بمعرفة ما يمكن لي أن أسميه جذوري، وذلك بأسئلتي لعمّتي مستهام التي عاشت ما يقارب الـ90 سنة، ولغيرها من أقارب أمي الأكبر سناً، ولأناس ما زالوا أحياء، كانوا يعرفونهم، على ندرتهم. والشيء الذي كنت أضيفه بعد هذا الوصف، أن حالتهم هذه لم تكن استثناء، بل يمكن تعميمها دون تردد على كثير من عائلات اللاذقية، أقصد أن هذا الانفتاح كان الحالة العامة لمجتمع اللاذقية، تلك المدينة الصغيرة المطلّة على البحر المتوسط، ليس فقط عائلات الطبقة الاقطاعية وذات الملاءة المادية فحسب، بل أيضاً الطبقة البورجوازية الوسطى التي تعلّمت وتوظّفت وافتتحت المحلات والعيادات ومكاتب المحاماة ودخلت الأحزاب، وعمل جزء ليس قليل منها في أعمال البحر والوكالات البحرية. وأظن هذا، على خصوصية التركيبة الاجتماعية والمذهبية للاذقية، ينطبق على أكثر المدن السورية، إن لم أقل ينطبق عليها جميعها. ولكن ما أريد الإلماح إليه، أنه رغم إمكانية تفسير هذا الانفتاح والتطور الاجتماعي والثقافي وتعليل أسبابه بالنهضة العامّة التي كانت تحدث في سوريا آخر فترة الانتداب الفرنسي، وخلال فترة ما بعد الاستقلال لما يزيد عن عقدين من السنين، فإني كثيراً ما سمعت أن هذا الانفتاح، أو على الأقل جزءاً هاماً منه، قد حدث بتأثير من تواجد المسيحيين بهذه النسبة الكبيرة في سوريا، وبأن العائلات اللاذقانيّة المسلمة ذات المكانة الاجتماعية كانت تجد، في العائلات المسيحية التي اختلطت بها، ولو بحدود غير واسعة ولكن بنفس الوقت بتأثير قابل للانتشار والتوسع، مثالها الحضاري وقدوتها الاجتماعية والثقافية. أمّا عن انفتاح عائلة شكيب مصري ابن زكيّة الياس كوتيّة فحدّث ولا حرج. فلقد أثبتت الأحداث، أنه كان انفلاشاً أكثر منه انفتاحاً، ظهرت نتائجه المباشرة، عندما لم يكمل أيّ من أخوتي الأربعة، مستثنياً الكبير منهم وهو أنا، دارستهم الجامعية، رغم وصولهم جميعاً إلى السنوات الأخيرة. ذلك أن كلاّ منهم راح يحيا على هواه، بل قل على عواصفه، أخي ماهر أعلن بوذيته، فسافر للهند على طريقة (الأوتوستوب) ومكث فيها زمناً، لا يعلم غير الله كيف أمضاه، وعاد حافياً على إحدى طائرات الخطوط شركة الطيران السورية على حساب الحكومة السورية كما تنصّ الأعراف الدولية، بعد أن التجأ لسفارتها في نيودلهي وهو على حافّة الموت، من دون أي ورقة رسمية تثبت جنسيّته. ولكنه عاد ومعه عدة روحية كاملة، منها تلك الثياب ذات الأقمشة الحريرية الرقيقة المطعّمة بالمرايا الملوّنة الصغيرة، التي ارتديت بعضها بنفسي، وآلة موسيقية هندية اسمها (سيتار)، كتلك التي اشتهر بالعزف عليها الموسيقار الهندي رافي شانكار في السبعينات، وتبعه جورج هاريسون من فرقة البيتلز، وبريان جونز من فرقة الرولينغ ستونز، وأظنّه أوّل وآخر سيتار دخل سوريا خلال تاريخها القديم والحديث، فصار له أتباع من الشباب والفتيات، يعقدون جلسات الاستماع الطويلة للمغنية (جنيس جوبلين)، ولفرق (آندر جراوند) مثل: (كريم) و(يس) و(جيثرو تول) و(كريتفول ديد) وسواهم، كما صار (ماهر مصري مشروع الصليبة بناية كاظم زينونة) العنوان العالمي المعمم على كل الهيبيين الذين يعبرون اللاذقية في طريقهم لبلاد البنغال، العنوان الذي يعرفون كيف يصلون إليه بكلّ سهولة، ذلك أن كلّ أهل اللاذقية، أو على الأقل، شبابها الذين إمّا يقعدون في المقاهي أو يهيمون في الطرقات، ما أن يرونهم حتى يصطحبونهم إليه، فيقرعون بابنا، ولو بعد منتصف الليل، لتفتح لهم أمي أو أبي، وليدخلوا ويلقوا متاعهم وأجسدهم التعبة على كنبات الصالون أو على طول الممر من باب البيت إلى غرفة الاستقبال. بينما أنا، رغم تولعي بالموسيقى تأثراً به، فقد دخل في مشطي، أن أكون ماركسياً، أرسم، من بين ما أرسم، صور لينين وجيفارا. ما جعل أبي يردّد: (كيف أستطيع أن أحيا في بيت، لدي فيه ابنان، واحد هيبي، وواحد لينيني؟؟). غير أن ماركسيتي تلك، كرفيق صغير السن للمفكر اللاذقاني إلياس مرقص، ودراستي التخطيط الاقتصادي، لم تستطيعا قتل ميلي المتأصّل للرسم والشعر. الأمر نفسه بالنسبة لمرام وتحوّلها لشاعرة، والأمر أيضاً نفسه، ولو من الجانب الثاني، بالنسبة لأخي الأصغر رفعت، الذي ربما دفع ثمن هذا الخليط العجيب ولم يعلم ماذا يفعل بنفسه، سوى أن يحاول، عبثاً، جمع كل شيء. أمّا أختي منى فقد كان لها أن تنجو من كلا المصيرين.

قلت إننا كنا عائلة منفتحة على كافّة الاتجاهات وعلى جميع الناس من دون تمييز، وما سأرويه الآن، ولو باختصار، هو كيف أنقذ هذا الانفتاح حياتنا أنا وأخي رفعت، أو من دون أي مبالغة كيف أنقذنا من التقلب على جوانبنا في زنازين السجون الوطنية ومهاجعها سنوات لا يمكن لأحد توقع عددها ولا نتائجها المأسوية، فلقد كان لدى أمي ابن خال يخدم مساعداً متطوّعاً في الجيش العربي السوري في ريف دمشق أو في القنيطرة على ما أذكر، وكان متزوجاً من امرأة علوية، مات زوج أختها، المساعد في الجيش أيضاً، فجاءت هذه الأخت مع أولادها وسكنت في بيت صهرها، ابن خال أمي. وما أعرفه أن أحد أولاد هذه المرأة قد تطوّع كضابط في المخابرات العسكرية، وخلال زيارات هذا الإنسان للاذقية، كان يزور عدداً من أفراد عائلة روشان، عائلة مربيه وزوج خالته، فكانت أمي، سيدة العائلة بكافة الاعتبارت، تستقبله وتستبقيه لتناول الغداء معنا. وكيف بعد هذا بزمن، وتحديداً في نهاية عقد الثمانينات من القرن الماضي، قامت الأجهزة الأمنية بحملة اعتقالات واسعة لأعضاء أحد التنظيمات السياسية اليسارية وكلّ من له علاقة بهذا التنظيم مهما كانت بعيدة، وكان أن اعتقلنا أنا وأخي مع من اعتقلوا منهم. ولو لم يحدث ويكون هذا القريب العلوي، ابن أخت زوجة إبن خال أمي! حينها رئيس فرع الأمن العسكري، لبقينا مع الأخوة المناضلين نشاركهم مصيرهم المجهول لسنوات وسنوات، كالكثيرين ممن لم تتخطّ جرائمهم أنّ معتقلاً ما ذكر أسماءهم، أو أنهم تسلّموا منشوراً ما وقرأوه بدافع الفضول، أو أنهم جلسوا مرّة وشربوا شاياً مع أحد أفراد التنظيم.

غير أن علاقتنا بالمسيحية كعائلة، لم تتوقف على أن جدّي لأبي المسلم تزوج زكيّة كوتيّة المسيحية وأنجب منها أولاداً، بل استمرت تعمل عملها السحري فينا نحن أحفادها، فكان أن درسنا المرحلة الابتدائية في مدرسة (الأرض المقدسة) وكانت تسمّى أيضاً باسم مديرها، (مدرسة الأب سالم)، صديق أبي من أيام عمله في الأمن العام، الذي اعتدنا زيارته لبيتنا في الأعياد والمناسبات، وكنّا نقبل يده جميعنا، حتى إني مرة رأيت خالي غاندي يفعل، طبعاً ما عدا أبي، وبعدها انتقلت لدارسة المرحلة الإعدادية في الكلية الوطنية الأرثوذوكسية، التي كان ناظرها، المعروف بقسوته وضربه بالعصا على ظهر اليد، كما هو معروف بإنشاده الديني في كنيسة مار ميخائيل، كبرى الكنائس الأرثوذوكسية باللاذقية، وله أشرطة تباع وتوزع ويستمع إليها في التعازي، من آل كوتيّة عائلة جدتي نفسها، لكنه يوماً لم يقس علي ولم ينهل بعصاه على ظاهر يدي أو باطنها، رغم كسلي. إلى أن انتقلنا للدراسة في ثانوية التجهيز الأولى، التي أطلق عليه لاحقاً، اسم البطل اللاذقاني: (جول جمّال)، تخليداً لاستشهاده في عملية تفجير المدمرة جان بارت، فخر الأسطول الفرنسي آنذاك، بطائرته الصغيرة خلال العدوان الثلاثي على مصر 1956. وتتابعت حتى بلغت أوجها بزواج أخي ماهر فتاة مسيحية وإنجابه منها شكيب الابن الثاني، كما تزوجت أختي مرام مسيحياً فرنسياً من أصل يوناني، فكان شيئاً غريباً، أضحك البعض حينها، أن يُقرأ عند وفاة أبي على أوراق النعوة الملصقة على جدارن المدينة: (أصهاره: الحاج بسام ناصر الدين وأنطوان كومبوراكيس).كما أن رفعت نفى نفسه نفياً طوعياً للسويد، وتزوج هناك سويدية، منجباً منها ثلاثة صبيان، يتأكّد كلّ من يراهم، بأنهم المثال الرائع على تحسين النسل السويدي، ورفع متوسط الخصوبة في ذلك البلد الكهل، على رأسهم شكيب الإبن الثالث!؟

بعد وفاة جدي رفعت سنة 1961 مرضت زكيّة مباشرة، مرضاً قاتلاً، وكأنها كانت تنتظر وفاته لتمرض وتموت. أذكر زيارتها الأخيرة، وربما الأولى والأخيرة، فأنا لا أذكر سواها، لبيت ابنها، ونومها في غرفتنا على سرير أخي، كيف أمضت تلك الليلة وهي تعاني نوبات سعال متواصلة، حتى إنها في الصباح، قالت شبه معتذرة: «لم أدع منذر ينام بسبب سعالي». «لم تستطع العيش من دونه»، هكذا فسّر أبي لحاقها السريع بجدي بعد أن أقل من سنة على رحيله. وكأنه حقيقة، عندما هربت معه، اختارت ألاّ يكون لديها إنسان في العالم سواه. ماتت زكيّة إلياس كوتيّة العاشقة التي طوّحت بكل شي من أجل من أحبّت، بعد أن أنشأت تلك السلالة الهجينة من الحب والجرأة و.. التوق للحرية. ماتت جدّتي مخلّفة لي أيقونتها التي أخذتها معها أثناء فرارها وخبأتها في حقيبتها الجلدية إلى أن زرتها آخر مرّة قبيل وفاتها بأيام، عندما حضنتني وأخرجت من تحت مخدّتها، ذلك الشيء الداكن والمذهب الذي خصّتني به، أنا دون أبي، قائلة: «عدني أن تحرص عليها طوال حياتك، وأن تبقيها معلقة فوق سريرك، لتحميك وتحمي أطفالك». «أعدكِ». ومن يومها ها هي أيقونة زكية كوتية ترعى بيتي، وتعطره كل صباح أحد بما ينسال منها من زيت ذهبي مضيء، لا أحد يدري من أين ينبع. وعندما يسألني زائر ما عنها، وعمّن هما الشخصان المرسومان فيها؟، أنظر إليه متفحصاً ما يكفي من الوقت لأختار له أحد الجوابين: «إنها صورة جدتي وأبنها، أبي شكيب«.

(كاتب وشاعر سوري)

(عن نوافذ" 24 آب 2014)