هذا النص للقاص المغربي نشيد رثاء مشحون بالمرارة لبؤس المثقفين والكتاب والشعراء الذي يعيشون بمحيط يزداد جهلا يوما بعد آخر بحيث لا يصبح للقراءة معنى فكيف بالشعر والقصة والفنون، نص يرثي شاعراً مغربيا مجهولا أنتحر مع مقدم الخريف ومعه كل من انتحر حقا او يعيش منتحرا في البيئة القاسية للتخلف.

عذرا أيها الأحياء

ميلود بنباقي

للموت هالة لم تبل بالتقادم ولا بكثرة الاستعمال. وللانتحار رائحة ليل سريع جاء من مجهول، وإلى نفس المجهول يسير. ولانتحار الشعراء رائحة أخرى.

رائحة الحنين إلى المعنى في عالم خال من المعنى.

رائحة الرحيل إلى البدايات قبل اكتمال النهايات.

رائحة الريح خالية من المطر.

ترى أي رائحة لانتحار الشاعر المغربي عبد القادر الحاوفي؟

لعل المثير في هذا الانتحار هو توقيته الدقيق، لا رائحته. فالشاعر لم ينتحر عبثا، ولم ينتحر صدفة. اختار لحظة "مناسبة" لسفره الأخير. صيف يتهيأ للرحيل على مهل، وخريف يدنو من أشجار الروح غير مستعجل ولا متحمس. هذا هو الدخول الثقافي في مغرب ماتت فيه القراءة قبل موت الشعراء. هذا هو الموسم الثقافي الجديد الذي لا يحمل من الجدة سوى الخيبات والهزائم.

وكأني بالشاعر وهو"يقف قويا في وجه الموت"، شامخا أمام حبل مشنقته، يقول للشعر اندثر، ويقول للنثر اندثر، ويقول للأحياء خذوا الحياة بإخفاقاتها، وامنحوني صمتا مطبقا يليق بقصيدتي.

نشر الرجل قصائده متفرقة منذ ثمانينيات القرن الماضي، ولحد آخر ساعة في حياته، لم يستطع نشر ديوانه الأول. ولو نشره، لكان مات قبل يوم مماته هما وكمدا. وتلك قصة أخرى. ولأنه كان شجاعا أمام الموت، قويا في وجه الحياة، فقد اعترف-عكسنا جميعا- بإخفاقه "في الشعر والكتابة والرسم"، ولم "يوفق في حماقاته الجميلة في حضن الحياة". والحقيقة أننا، نحن المتشبثون بالهزيمة في هذه الحياة، هم المخفقون حقا في نجاحاتنا الوهمية وبطولاتنا المتخيلة.

منذ أكثر من سنة، أودعت خمس نسخ، نعم خمس نسخ فقط، من روايتي: محلي ومارينز، في مكتبة الألفية الثالثة، قبالة بناية البرلمان بالتمام والكمال، وبكل فخامته وهيبته. وبعد مرور تلك "الأكثر من سنة" ظلت "تلك الخمس نسخ" في حفظ الرفوف وصونها، لم تطلها يد قارئ صار أندر وأعز من لقاح إيبولا المفترض.

ألم يكن حريا بي، وأنا أتعرض لهذا الإخفاق المدوي، والهزيمة المرة، أن أعلق كتبي البائرة في حبل مشنقة تعويضا عن عجزي عن السفر إلى منفى بعيد؟

أليس للشعراء والكتاب في هذا البلد الجميل الحق في الانتحار؟ إذ ما جدوى أن يعيشوا بعيدا عن أرواحهم الهائمة، المهملة في المكتبات العامة أو الخاصة؟ بل هل هم أحياء أصلا؟

لا يحيى كاتب أو شاعر إلا في نصوصه أو قصائده، فإذا ماتت، وهذا هو الحاصل اليوم، فإن حياته أو موته سواء. وإن حياته ما هي إلا مكابرة من أجل حيوات أخرى لا غير. قد تكون العائلة، وقد يكون الأصدقاء، وقد يكون موعد مع قدر لم ينضج بعد.

لكن الانتحار ليس هواية للشعراء فقط، فالمغاربة صاروا يقبلون عليه كخلاص من حياة بائسة ملأى بالمنغصات والهموم. في 12 سنة الأخيرة ارتفع معدل الانتحار في صفوف المغاربة بنسبة كبيرة جدا، هي 97 في المائة. وأفاد تقرير لمنظمة الصحة العالمية أن 1628 مغربيا انتحروا في العام 2012 وحده. لكن هذا الرقم لا يعكس الحقيقة كاملة. فآلاف مؤلفة أخرى من المغاربة انتحروا، لكنهم ما زالوا على قيد البؤس والإخفاق، أو لربما انتحروا في حوادث سير أو على متن قوارب هجرة إلى القارة أو الدار الأخرى، لكن تقرير منظمة الصحة العالمية لم يدرجهم في قوائم المنتحرين، لأن أسماءهم وردت في قوائم الموتى جراء حوادث متفرقة.

الذين يتعاطون المخدرات، والذين يتهورون في الطرقات، والمهاجرون نحو المجهول في ظلمات البحار، كلهم، وغيرهم كثيرون، منتحرون، لكنهم مازالوا على قيد البؤس في هذه الحياة الغريبة.

رجاء، إذا وجدتم كاتبا أو شاعرا، معلقا في حبل كلماته، لا تبحثوا في أسباب وفاته. هذه كانت وصية عبد القادر الأخيرة. فيا أيتها الحياة رفقا بالشعراء. ويا أيتها الإخفاقات المتكررة رفقا بالقصيدة، فإنها أرق من وطأتك الثقيلة. ويا أيها الأحياء عذرا، إذا سببنا لكم، نحن المهووسين بالوهم والكتابة، إزعاجا في حياتنا كما في موتنا.