يصور القاص السوادني ويغوص في أعماق جدٍ عاجز في قرية في لحظات مواجهة موت عنيف لا معنى له بالنسبة لوضعي الإنساني حينما تهاجم قريته من قبل دبابات و نفسه عاجزا مشلولا يتنفس ويستعيد تاريخ حياته والحروب وعسف الإنسان بأخيه الإنسان وخراب الأواصر الأسرية واقتتال الأخوة.

لم أعد حياً.. لكني أتنفس

عمر الحويج

باغتنا الانفجار، جاءنا.. مدوياً، من فوقنا. جاءنا ..عابراً سماءنا،تلك التي ظلت.. تظلل صفاءنا، جاءنا مخترقاً جبالنا، تلك التي أبداً، كانت .. أماننا و حِمانا.

حينها.. تحولت قريتنا، الوادعة، إلي كتل من اللهب، والنيران، والدخان،.. تلتها، لا بل رافقتها، زخات من المطر الرصاص، المنهمر علينا، من كل أنواع الأسلحة، الخفيف منها، و الثقيل.. أحاطنا من جميع أركاننا، من أمامنا، من خلفنا.. من يميننا، من يسارنا، أما من تحتنا، فقد اهتزت، بنا الأرض ومادت، وكأنها زلزلت زلزالا، رجّتها أصوات الدبابات وحركتها الضاجة، حين أخذت، تخبط خبط عشواء، في أرضنا.. في مساكننا.. في البشر والناس.. و حتى قطعاننا وطيرنا.

   إلا، أنا.. وجدتني، مازلت حياً.. أتنفس!!.

بدأت أتحسس ما حولي، ببصري.. لا أري، غير الدخان، وألسنة النيران واللهب، كما لا أسمع، غير ضجيج الدبابات وهديرها، وهي تجوب المكان هنا وهناك.. مسرعة.

لا أدري، ما هو فاصل الزمن، بين بداية الانفجار الأول.. وما تلاه. ولكني وجدت نفسي، في الحالة الأخيرة، التي كنت عليها، حين حملني، أحفادي الأربعة، على ظهر، نقّالتي الخشبية. المتآكلة، بفعل الزمن، وثِقل الجسد، والتي صنعوها، خصيصاً لحركتي اليومية – خاصة من. قُطّيتي.. سكني، إلي حيث شجرتي الظليلة، و التي تحتويني، تحت ظلالها، طيلة نهاري، وبعض ليلي.

وحتماً.. أن شجرتي  الظليلة، هي التي حمتني.. أو ربما. وأبقتني حياً،بعد كل ما حدث.. وما يزال. وأنا الحي كميت منذ زمان مضى.. بعيد، حين أصابني ذلك البلاء، الذي شل كامل جسدي، عن الحركة، وترك لي فقط، بعض من حواسي: عيناي.. اللتان ظلتا، تخترقان بعض الضوء.. إلا قليلاً. وسمعي.. دون لساني.. وقلبي الذي يخفق.

 وهكذا، أنا..  وجدتني.. ما زلت حياً.. أتنفس !!.

إلا أن شجرتي الظليلة، والتي حمتني.. أو ربما.  وأبقتني حياً. لم تستطع أن تحمي الآخرين. فهاأنذا، قد طال انتظاري، ولم يأت أحد، من أهلي، حتى الآن، ليتفقدني.. كما عودوني.

وأنا.. لا زلت، لا أرى أمامي، سوى الدخان.. والفضاء، حالك السواد، بعيني الغائمتين. فقط يخترق أذني، ذلك الهدير الآتي، من هياج الدبابات وما يلحق بها، من الآليات العسكرية، التي أعرفها جيداً، وأكاد أحدد، أنواعها.. فقط، من صوت، تحرك عجلاتها. ففي زمان مضى.. بعيد، عملت جندياً، بعد تجوالي، في العديد من المهن، السفلى منها

والأسفل. أذكر في ذلك العهد.. البعيد، كانوا أيضاً يدفعون بنا دفعاً، لاقتحام القرى والمدن. لنقتل ونحرق، في تلك الأنحاء البعيدة.. كبعدنا الآن، عن هؤلاء الذين جاءوا، لحرقنا وقتلنا.. لماذا؟ لست أدري. ما أدريه الآن فقط، أن كل ما حولي، أضحى هامدا, خامدا.. ومتلاشيا. أين يا ترى، اختفى نبض قريتي، الذي كان يحتويني - رغم عجزي، وقلة حيلتي – بدفئه وحنيته، أين أهلي؟.. أين ناسي؟ أين حتى، قطعاننا وطيورنا؟. فانا لا أسمع لها: خواراً أو صهيلاً، نهيقاً أو نقيقاً.... ولكني الآن أسمع .. لقد أتتني، أصوات أقدام، تتقدم نحوي، بخطوات منتظمة، وأخرى مهرولة..  بل بدأت، أسمع أصوات أصحابها، يتصايحون.. يتجادلون.. يأمر بعضهم، ويأتمر البعض الآخر.. عرفتهم، من أصواتهم.. عرفتهم، من لسانهم.. الذي به ينطقون، نعم عرفتهم. لقد عذبني، هذا اللسان كثيراً: ابني الصغير، أصغر أبنائي.. في ذلك الزمن.. البعيد. يوم عمّت الفوضى، تلك المدينة الكبيرة.. وحين استعادوها – من الخارجين – كما كانوا يقولون. أخذوا.. يبحثون، يفتشون، ينقبون: في الشوارع، في البيوت، في الدّواخل، وفي النفوس، في سحنات الناس، وفي ألوانهم.  وفي الطريق العام، كان ابني يسير.. حين أوقفوه، عن اسمه.. سألوه، حين سمعوه، أخذوه .. ثم قتلوه. في ذات الطريق العام.. قتلوه. أنا عرفت.. فيما بعد، أنا عرفت.. ابني قتله لسانه.. ولم يقتله سلاحه. والآن.. لا أنا، ولا أهلي و ناسي،  نملك سلاحنا، وإن كنا نملك لساننا، ومثلنا أحفادي. ولكن أين هم الآن. لماذا لم يأتوا، ليتفقدوني كعادتهم.. أثار تعجبي منهم، واندهاشي. أنهم في الأيام الأخيرة، وبغير عادتهم وجدتهم، يتحلّقون حولي، تحت ظل، شجرتي الظليلة. أسعدوني بوجودهم قربي. ولكنهم أحزنوني بحواراتهم، فعن طريقهم، عرفت الحرب، التي تدور حولنا، عرفت بسببها.. أغلقت مدارسهم – وعرفت حينها سبب تحلقهم حولي – عرفت منهم، أن الناس هناك، يهربون من قراهم، إلى الكهوف، في جبالهم.

ما أدمى قلبى، أن اثنان من أكبر أبنائي، قد التحقا بها – تلك اللعينة – ما أدمى قلبى أكثر، أن أحدهم، يحارب في   جانب، والآخر في الجانب المقابل. وما أدمى قلبى، أكثر وأكثر، أن اثنان من أحفادي، تعاركا أمامي، كُلٌ.. دفاعاً عن والده. وأنا العاجز أصلاً، وجدتني عاجزٌ عن الفهم، وعاجزٌ أكثر، عن وقف عِراكهما أمامي، فقط.. ما قدرني عجزي عليه، أن دمعت عيناي، كما الآن.. فقد دمعت عيناي، لهذا الذي مر بخاطري، حتى غامتا، ولم تريا، أصحاب تلك الأقدام، التي أخذت تحوم حولي، بل تتقدم نحوي، أراهم الآن.. ينحني أربعة منهم، تقبض أياديهم على أركان، نقالتي الخشبية.. المتآكلة، بفعل الزمن، وثِقل الجسد،  أحسست بعدها، بارتفاعي المفاجئ عن الأرض، بعنف لم أعهده، في أحفادي، حين يحملونني برفق، ليتحركوا بي، من موقع لآخر. وبعنف أقوى.. مشوا بي، إلي أين؟.. لست أدري، فقط مشوا بي، ثم مشوا. ثم فجأة توقفوا، ودون انتظار، دون إنذار، أطلق أربَعتُهم، سراح أيديهم، من أركان،نقّالتي الخشبية.. المتآكلة، بفعل الزمن، وثِقل الجسد، وبعنفٍ.. تركوني ارتطم بالأرض، وقبل أن أفيق قليلاً، انحنى اثنان منهم، ومن جانب واحد، من نقّالتي الخشبية، دفعا بي إلى أسفل.. ولكن دون نقالتي الخشبية !!. ووجدتني داخل حفرة، وإن لم تكن عميقة، لسرعة وصولي.. قاعها، وحين أفقت .

وجدتني،لا زلت حياً.. أتنفس!.

وبدأت أتبين ما حولي. حولي أجساد محترقة، إنهم أهلي.. ناسي. هؤلاء الأربعة.. إنهم أحفادي، عرفتهم.. بإحساسي عرفتهم. اثنان منهما، متلاصقان.. متماسكان، يحضنان بعضهما، هل يا ترى، كانا يتصافحان, أم كانا يواصلان عراكهما.. لست أدري !!.. ما أدريه فقط الآن، أن نظري وقع، على جسد آخر. إنها زوجة حفيدي: صغير السن.. صغيرة السن، وهي بكامل زينتها. تزوجها حفيدي، قبل عام مضى، أقام لهما والده حفل زواج، ظل حديث قريتنا زماناً طويلاً، رقص فيه الشباب.. فتياناً وفتيات، كما لم يرقصوا من قبل, استدعوا فيه، كل موروثاتهم المتنوعة.. رقصاً وغناءً. ولكن.. ما أرى؟.. إنها دماء، دماء على ساقيها, دماء على فخذيها.. يا الهي.. لقد أتوها، حتماً أتوها.. ولكني لا أدري.. إن كان أتوها، قبل موتها.. أم بعد موتها. أتوها. ظللت طيلة سنوات عجزي، بالنية داخلي.. أصلّي. الآن.. على صباها أصلّي. وأنا أصلّي.. أتاني من خلفي أنين، إنه أنين طفلة، تيقنت منه، إنه منبعث، من ابنة حفيدتي.. آخر عهدي بها، ذاك النهار، جاءتني .. وتحت ظل شجرتي الظليلة، علي الأرض، جلست تحفر، بأظافرها الرقيقة.. اذكرها، حين التفتت نحوي، نادتني، جدي.. جدي.. " أنا جوعانة ".. أخذني منها، صوت آخر، إنه هدير جرّافة، أعرفها هذه الجرّافة, عملت عليها أيام الجندية, دائماً جاهزة، هذه الجرّافة.. للحفر والردم.

- مالهم هؤلاء الناس !!.. هل سيدفنوننا، بهكذا عجلة !!.

تذكرت أجدادي.. في ذلك الزمن البعيد، يحكون.. أن مواراة الميت الثرى عندهم،  تستغرق أياماً بلياليها، يعدون حفرة الدفن، بمرقدها.. يتوسدها الميت، يحيطونه ببعض، مقتنياته الثمينة. أما هؤلاء.. فما اعجلهم !!.

أسمعها.. الجرّافة، تتحرك.. تملأ جوفها، بالرمل والحصى والتراب.. تتقدم نحونا،

ولا يزال أنين حفيدتي يأتيني من خلفي، والجرّافة تُفرِغ ما بجوفها، في حفرتنا.. فيسكت الأنين أنين.أصرخ.. يا هؤلاء:

هل جئتم تسكتون جوع حفيدتي، أم جئتم تسكتون أنينها؟

وعادت الجرّافة مرة اخرى، بعد أن ملأت جوفها.. بالرمل والحصى والتراب..  وأفرغت حمولتها في حفرتنا، وبعدها.. لم أعد أرى !!.

ولكني.. وجدتني، لا زلت حياً.. أتنفس !!.

وعادت الجرّافة، وملأت جوفها.. بالرمل والحصى والتراب.. وقبل أن تُفرِغ حمولتها، صحت بكل قوتي، من    داخلي.. أمهلني يا هذا، حتى.. أتشهد !!.  ولكنه.. لن يسمعني.. لن يسمعني. بل سمعته أنا.. يردد: "وقتلاهم في.."

ثم أفرغ حمولته، في حفرتنا.

وبعدها..  لم أعد أسمع !!.

ولكني.. وجدتني، لا زلت حياً.. أتنفس !!.

وعادت الجرّافة، وملأت جوفها.. بالرمل والحصى والتراب.. وأفرغت ما في جوفها، في حفرتنا.

وبعدها.. لم أعد حياً !!.

ولكني.. وجدتني، ما زلت.. أتنفس !!.

 

أغسطس 2014