يتناول الباحث المصري "الثورة" والتحول الاجتماعي-السياسي والظاهرة التطورية عامة، ليخلص إلى أن الجدل حول تصنيف الثورة الفرنسية على أنها ثورة بورچوازية أو رأسمالية غير مجد، لأن صانع النظام الرأسمالي هناك كان التراكم البدائي للرأسمال ثم التراكم الرأسمالي ولم يكن صانعها الثورة.

الثورة الشعبية بين سياقين تاريخييْن مختلفين

خليل كلفت

لا يكفي التمييز بين التحوُّل الاجتماعي-السياسي والثورة الشعبية حيث توجد أبعاد متعددة لكل ظاهرة من هاتين الظاهرتين الاجتماعيتين.

وتشمل ظاهرة التحوُّل ليس فقط ما هو اجتماعي وما هو سياسي فإلى جانبهما، وفي ارتباط متمفصل معهما، توجد تحولات أخرى مثل تحولات القوانين والعلوم الطبيعية والإنسانية والآداب والفنون، في ترابطها وتفاعلها والتأثير المتبادل بينها، غير أن ضرورة التسمية المختصرة تجعلنا نكتفي بكلمتين أو بكلمات قليلة.

وتنقل كل خطوة في ظاهرة التحولات إلى خطوة منطقية تالية، كما تُملي القوانين التقنية-الاجتماعية، فكل تطور تقني أو اجتماعي أو علمي أو جمالي يفتح الباب أمام تحسينه والمزيد من تطويره كل يوم وكل ساعة وكل لحظة. وبصورة تدريجية تراكمية، تتطور هذه التحسينات والتغيُّرات في أدوات العمل، والأبنية الاجتماعية، والمعرفة، والثقافة، والخبرة، وفي نظرتنا للعالم، كما أنها تصنع من هذه التحسينات في تراكمها تطورات مادية وثقافية ثم تطورات إنتاجية العمل ونمط الإنتاج الاجتماعي ومراحل تطور المجتمعات ونُظُمها الاجتماعية. وهذه عملية لا تتوقف إلا في فترات التدمير الحربي للنفس أو للغير، والركود، والتأسُّل، والتراجع التاريخي.

ورغم الطابع المستمر لمقتضيات ونتائج هذه الظاهرة التطورية التقدمية مهما اعترضتها فترات من الركود والتراجع والتدهور، يغدو من الضروري تقسيمها إلى أنماط للإنتاج ترتبط بإنتاجية العمل وشكل المجتمع؛ مثلا، عهود المشاعة، والعبودية، والإقطاع، والرأسمالية، والشيوعية (التي لم تتحقق بعد). ولا تشهد التحولات عبْر عهود التقدم التقني-الاجتماعي (في عهود التراكم البدائي للرأسمالية) ثورات وانتفاضات وتمردات شعبية إلا في حدودها الدنيا مثل المقاومة والاحتجاج بكسر الآلات التي تدفع بالبشر إلى خارج عملية الإنتاج والبطالة.

ولا تنفجر الثورات الشعبية إلا في مجتمع طبقي احتجاجا على استغلاله وظلمه واستبداده وجبروته في محاولة لتحسين ظروف الحياة. وتتناقض الإستراتيچيا الثورية مع الإستراتيچيا الإصلاحية التي لا تطمح إلى أكثر من تحقيق إصلاحات ومطالب جزئية بعيدة عن كل رؤية ثورية.

وهناك اعتقاد بأن الثورة والإصلاح نقيضان يستبعدان بعضهما البعض. ولا تقوم حتى أي ثورة "اشتراكية" مفترضة بشيء اسمه الثورة بل تقوم بإصلاحات ترتبط ببرنامج ثوري ورؤية ثورية. ولا يكون بمستطاع ثورة رأسمالية أو حتى "اشتراكية" أن تقوم بتحقيق مقتضيات وأهداف الثورة في غمضة عين، أو منذ اليوم التالي.

وفيما تتواصل التحوُّلات، تؤدي مظالم نظام ناشئ عن التحوُّل إلى أعاصير احتجاجات شعبية عفوية انفجارية مفاجئة نسميها ثورات شعبية ضد هذا النظام لإجباره على إجراء إصلاحات في مستويات المعيشة وتخفيف الفقر أو في مطالب الديمقراطية الشعبية. وكما يشهد التاريخ تكون متلازمة الفقر وراء هذه الثورات، وقد تأتي شرارتها من حركة شبابية أو طلابية غير أن استجابة الشعب هي التي تحوِّلها إلى ثورات. وتحدث هذه الثورات في ظل مختلف العهود ولا يؤدي منطقها، وليس أوهامها، إلى أكثر من تحقيق إصلاحات، فلا تنتج عنها أنظمة أخرى، وكما قال فريدرك إنجلس فإنه ما كان لثورة العبيد أن تؤدي في حالة نجاحها إلا إلى إعادة إنتاج نفس النظام العبودي.

ورغم فقر الشعوب وإفقارها، في الأنظمة الرأسمالية المتقدمة، لا تحدث ثورات شعبية، لأن مستويات الفقر فيها تختلف عن مستويات الفقر عندنا، ولأن قرونا من نضال شعوب تلك البلدان نجحت في جعل النضالات الإضرابية ومفاوضات اللجان الثلاثية تتوصل إلى حلول ملائمة. ويمكن بالطبع أن تتفجر انتفاضات وثورات شعبية سلمية أو مسلحة تؤدي إليها مظالم عنصرية في هذه البلدان أو ضد حروب خارجية مرفوضة. على أن تدهور هذه البلدان وارتفاع مستويات فقر اقتصاداتها وشعوبها يمكن أن تفتح الباب أمام ثورات كثوراتنا.

وهناك بالطبع ثورات في عهد عبودي خالص أو عهد إقطاعي خالص أو في سياق الانتقال من المشاعات إلى العبودية أو في سياق الانتقال من العبودية إلى الإقطاع أو في سياق الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية. وبالطبع فإن الثورات الشعبية في العهد المشاعي مستبعَدة لأنه مجتمع لاطبقي، وكذلك الثورات الشعبية في عهد الرأسمالية المتقدمة باستثناءات. وبالطبع فإن التراكمات الاقتصادية-الاجتماعية-السياسية هي أساس هذه الانتقالات.

وفي فترات الانتقال جميعا يوجد ازدواج بين كل نظام قائم وكل نظام لاحق. ويهمنا هنا بصورة خاصة ازدواج بقايا الإقطاع مع مستوى كبير من التطور الرأسمالي كما كان الحال في معظم البلدان الرأسمالية المتقدمة في الوقت الحالي. والمثال الأبرز لهذا الازدواج هو النموذج الذي أحاط بثورة 1789 الفرنسية الشعبية.

وأعتقد أن ذلك السياق الذي ازدوج فيه صعود الرأسمالية مع وجود بقايا مهمة من الإقطاع هو صانع الازدواج. ويختلف هذا عن ثوراتنا الشعبية التي لم يحدث فيها تطور رأسمالية مستقلة كشرط للازدواج. ولهذا يلعب الازدواج في الثورة الفرنسية دورا يصبّ في مصلحة الرأسمالية الصاعدة بحكم الصراعات المتداخلة المتشابكة التي أثارتها الثورة، وليس لأن الثورة نفسها ثورة "رأسمالية"، ولم تكن الثورة تتويجا لذلك التراكم الذي كان سيشق طريقه بدون انفجار الثورة التي لم تكن ضرورة من ضرورات التطور الرأسمالي اللاحق في فرنسا.

ونتيجة للازدواج كانت الثورة مزدوجة، أي ثورة للبورچوازية ضد الإقطاع بتحالف مع طبقات شعبية بتضليلها بشعارت خادعة عن الإخاء والحرية والمساواة ، وثورة مضادة للبورچوازية ضد الشعب، ثم اتجه صراع الرأسمالية إلى الشعب فأقامت نظاما استغلاليا ومستبدا واستعماريا. ولا شك في أن مسألة إلى أي حد استفادت الطبقة الرأسمالية الصاعدة من الثورة تحتاج إلى بحث مستفيض لا يتسع له المجال هنا.

والحقيقة أنه لا معنى لأن نصنِّف الثورة الفرنسية على أنها ثورة بورچوازية أو ثورة رأسمالية لأن صانع النظام الرأسمالي هناك كان التراكم البدائي للرأسمال ثم التراكم الرأسمالي ولم يكن صانعها الثورة. غير أن الثورة أسبغت على فرنسا وَهَجًا لا ينطفئ.