يطرح الباحث اليمني هنا أهمية ميثاق القراءة الذي يطرحه التعاقد التجنيسي بين النص والقارئ، ويتناول مدى تجنب الصواب عدد من النقاد الذين أرادوا التغاضي عن الميثاق التجنيسي الذي تطرحة رواية «دملان» وطرح اقتراحاتهم بتجنيسات مغايرة لا تصمد للتمحيص النقدي الدقيق الذي تتسم به هذه الدراسة.

التلقي النقدي لميثاق القراءة

في رواية (دملان) لحبيب سروري

صـادق السلمي

يحرص الكاتب حبيب سروري على عتبة التعيين الأجناسي لأعماله الإبداعية، وهو ما يلحظه المتتبع لمسيرة الكاتب الأدبية المتنقلة بين أجناس أدبية مختلفة*، قبل اختياره الرواية جنساً أدبياً لإبداعه. وقد توج الكاتب مسيرته الروائية، حتى الآن، بسبع روايات - إحداها ثلاثية - تضمنت جميعها عتبة التعيين الأجناسي، المحدد بلفظ (رواية)، والمتموقع إلى جانب عناوين الروايات، سواء في صفحة الغلاف الأولى، أو صفحة العنوان. وقد اتخذت طريقة كتابة الإشارة التجنيسية (رواية) في جلّ روايات سروري - عدا رواية عرق الآلهة - شكلاً عمودياً (من الأعلى إلى الأسفل). وهو ما يمكن أن يُعدّ تبئيراً بصرياً لهذه العتبة، يتَمثّل في انزياح طريقة كتابتها عن الطريقة التي كُتبت بها عتبات صفحة الغلاف الأولى. ولعلّ في ذلك دلالة، تتمثل في لفت انتباه المتلقي لهذه العتبة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ما يضفيه التبئير البصري من دلالة مضاعفة للعلامة التجنيسية (رواية).

وتعدُّ مسألة الوعي بمفهوم الجنس الأدبي الذي اختير إطاراً للأعمال الإبداعية مسألة مهمة، سواء على مستوى الممارسة الإبداعية، أو على مستوى التلقي، فعلى مستوى الممارسة الإبداعية يفرض الوعي بمفهوم الجنس الأدبي على المبدع الأخذ بعين الاعتبار المعايير والشروط التي يتحقق بها الجنس الأدبي الذي اختاره إطاراً لعمله الإبداعي. وهذا الوعي وإن كان يتحقق في مستواه الأدنى من تراكم معرفي، هو حصيلة قراءة الكاتب لنصوص سابقة في الجنس المقصود، فإنه يشهد مستويات أخرى من الوعي، تتفاوت من كاتب لآخر، حسب العوامل المحددة لهذا التفاوت، كتخصص الكاتب، وقراءاته واطلاعه في المجال الذي يكتب فيه، والمرونة التي تتمتع بها بعض الأجناس الأدبية عن غيرها، فضلا عن رغبة التجديد لدى بعض الكتّاب، والتي تحتم عليهم الخروج عن معايير هذا الجنس أو ذاك(1).

ويظهر لنا وعي الكاتب حبيب سروري بمفهوم الجنس الروائي من خلال ما طرحه حول هذا الجنس الأدبي من تعليقات، توزعت بين نصوصه الروائية، وتلك النصوص التي تنتمي للمحيط النصي، آخذةً بعداً نقدياً، لا تبتعد في مجملها عن ما قاله النقاد في نظرية الأجناس الأدبية. إذ تكشف لنا مقاطع الميتاروائي التي تضمنتها رواية (دملان)، عن ما يمكن اعتباره محددات الجنس الروائي لدى الكاتب، سواء ما يتعلق بمعايير الكتابة في هذا الجنس الأدبي، أو ما يتعلق بتلقيه. ويمكن لنا اقتباس كثير من هذه المقاطع النصية، التي جاءت على لسان الراوي في سياق قراءته لمذكرات (سوسن)، إحدى شخصيات الرواية:

1. «ظننت أوّلاً أنه شيءٌ ما يُشبِهُ الرواية، لأن اسم الراوية: (حياة) كان مجهولا بالنسبة لي. بدأتُ بقراءته بتجرّدٍ كامل وفصل صارم بين الراوية (حياة) والكاتب، كما علمنا الأستاذ نجيب في المدرسة»(2).

2. "ثمّ افترضت أن النصّ مزيجٌ حرٌ من الخيال والسيرة الذاتية لأن حياة (حياة) في الصفحات الأولى تشبِه كثيراً حياة سوسن قبل زواجها، كما أعرفها. ناهيك أن (حياة) سرَدت أحداثاً معروفة مرّت فعلا في شارعنا دون أدنى فذلكة».(3)

3. «بعد ذلك تتحوّلُ الكتابة إلى يوميّاتٍ مؤرَّخة تنقل بشكلٍ فوتوغرافي مذكرات (حياة)، لا سيما بداية وتطور قصّة حبها، بأسلوب يَقِلّ طابعها الأدبي أكثر فأكثر مع تفرقع وتحطُّم ذلك الحب وانقلابِهِ إلى حقدٍ متأجج»(4).

4. «يغلبُ [على] الكتابة حينها طابع المذكرات الشخصية العنيفة. كنت مشدوداً للقراءة أحاول قدر ما استطيع إيهام نفسي بأن عليّ أن أقرأ كل ذلك بتجرد، وأن لا أربط أبداً بين (حياة) وسوسن، وكأنني أقرأ قصة أو رواية، كما علمني الأستاذ نجيب»(5).

5. «فقدَ النصّ في هذه الصفحات جمال بدايته الأدبية. لم تعُدْ للأسماء أغلفة ولا للأفعال ستائر. لم (تُملَّس) العبارات أو تنمّق أو تُعدْ صياغتها قبل نسخها في الدفتر كعبارات بداية النص»(6 (

6. «ما أسعدَ كاتب رواية الخيال! هو ربُّ روايته، يخلق شخوصه كيفما يشاء، يُحدِّدُ مستقبلهم كيفما يشاء، يبني عوالمهم، أنماط سلوكهم، يختارُ موعدَ ولادتِهم وموتِهم... كيفما يشاء. كاتب رواية الخيال يخلق الواقع من دماغه، فيما كاتب رواية الواقع لا يختلف كثيراً عن مسجل المحاضر... يحتاج أن يرى الواقع أمام عينيه قبل أن يكتب روايته».(7)

يمكننا من خلال الاقتباسات السابقة أن نستنبط جملة من المعطيات، هي:

- كيفية تلقي العمل الروائي (الفصل بين الراوي والكاتب)[1].

- التركيز على عنصر التخييل، كشرط أساسي لانتماء العمل الأدبي للجنس الروائي[2+ 6].

- الصياغة الأدبية للّغة أداة مهمة في الكتابة الروائية[5].

- رسم حدود فارقة بين الأجناس السردية، كالفرق بين الرواية -كعمل تخييلي بحت- وكل من:

‌أ- رواية السيرة الذاتية: (النصّ مزيجٌ حرٌّ من الخيال والسيرة الذاتية)*[2]

‌ب- اليوميات: (تتحوّلُ الكتابة إلى يوميّاتٍ مؤرَّخة تنقل بشكلٍ فوتوغرافي مذكرات الراوي/الشخصية)[3].

‌ج- المذكرات الشخصية:(تركيز الكتابة الأدبية على الذات)[4].

‌د-     الرواية الواقعية:(على حين يمثل الواقع مرجعاً للرواية الواقعية، تؤكد رواية التخييل على الخيال كعنصر هام في بناء عالمها الروائي)[6].

ونلمسُ في المحيط النصي -مقالات، ومقابلات صحفية- بعض أراء الكاتب حول دور ميثاق القراءة في توجيه تلقي الأعمال الأدبية؛ حيث يقف الكاتب حبيب سروري عند الإشارة التجنيسية (رواية)، معتبراً إياها علامة هامة في تحديد الأعمال التخييلية عن غيرها من الأعمال الأدبية التي تتقاطع مع الواقع، لاسيما السيرة الذاتية. ففي مقاله (عندما تنبش الرواية في تلابيب الذاكرة المحرمة)، يقول عن شخصية (وردة) بطلة رواية (وردة) لصنع الله إبراهيم: «لكن ماذا لو نطقت أمامنا تلك المقاتلة نفسها، أو فتاة تشبهها، أو أخرى خلقها من العدم أديب محنك (لا تهم كل هذه الفروق الضئيلة طالما تربعت على عرش الكتاب الذي نحن بصدده كلمة: رواية)؟»(8) وفي السياق ذاته يرى الكاتب سروري -في معرض رده على سؤال حول علاقته بـ(وجدان) الراوي والشخصية الرئيسية في رواية دملان - أنه «يلزم قراءة الرواية بكل تجريد طالما لا توجد حرفياً كلمة (سيرة ذاتية) في غلافها! ينبغي في غياب ذلك عدم الربط التلصصي بين الكاتب من ناحية والسارد وبقية شخصيات الرواية من ناحية أخرى، لأن الرواية ليست تقريراً سياسياً أو محضر اجتماع. هي قبل وبعد كل شيء عمل فني خيالي حر.»(9)

ومما سبق يمكن الجزم بأن آراء حبيب سروري السالفة الذكر، سواء الصريحة منها (مقالات -ومقابلات صحفية)، أو الضمنية (الميتاروائي) يمكنها أن تكشف لنا عن معرفة -تكاد تكون متخصصة- بسمات الجنس الروائي ومعايير كتابته، وشروط تلقيه؛ إذ لا تخرج آراء الكاتب في مجملها عمّا قاله النقاد المتخصصون عن مفهوم الجنس الروائي وقواعد كتابته وشروط تلقيه. وعليه يشكل التعيين الأجناسي (رواية) في أعمال الكاتب سروري ميثاق قراءة، يتوقع القارئ بموجبه توافر شروط ثلاثة، يفترض وجودها في كل عمل أدبي حمل لافتة (رواية): أولاً: التزام العمل المقروء بالمعايير السائدة الخاصة بالجنس الروائي. ثانياً: وجود علاقات ضمنية تربط العمل المقروء بأعمال معروفة موجودة في سياقه التاريخي. ثالثاً: إن التخييل لا الواقع هو مرجعية مثل هذه الأعمال الأدبية.(10)

قد يبدو البحث عن توافر الشروط الثلاثة في نصوص الكاتب سروري، مدخلاً مناسباً للحديث عن انسجام دلالي بين النصوص الإبداعية وعتباتها التجنيسية التي تتصدر أغلفتها، إلا أن مثل هذا البحث يواجه إشكالية مهمة، تتعلق بخصائص الفن الروائي، بوصفه نوعاً أدبياً يستعصي على القولبة، ومن ثم يصعب تحديد معايير صارمة لكتابته، ناهيك أن مثل هذا البحث يستدعي تساؤلاً عن مدى إبداعية الأعمال الأدبية الخارجة عن معايير النوع الأدبي. فقد شرق الباحثون وغربوا في مسألة مراعاة الجنس الكتابي في العملية الإبداعية، فهناك من يرى أن أدبية النص تكمن في مدى مراعاته لمعايير نوعه الأدبي، وهي نظرة البويطيقا الكلاسيكية للنص الأدبي، وهي رؤية معيارية تراعي قواعد العمل الفني المنتمي لنوع معين، فإن لم يحقق العمل شروط هذا النوع عُدَّ العمل رديئاً. أما نظرة البوطيقيين المحدثين، فيعتبرون وظيفة البويطيقا وصفية بحتة، وليست مقياساً للحكم على جودة العمل أو رداءته، فالأنواع الأدبية -حسب تودوروف- ليست قوالب جامدة يصب فيها الكُتَّاب أعمالهم، فكل عمل جديد يضيف جديداً للنوع الذي ينتسب إليه ويبدل فيه؛(11) بل إن من الأجناس التعبيرية ما يلعب دوراً مهماً في البناء الروائي، يحدد بنية المجموع خالقاً بذلك مغايرات للجنس الروائي.(12)

وبين استحالة الكتابة بعيداً عن معايير النوع الأدبي، وصعوبة الحديث عن حالة إبداع في ظل الالتزام الصارم بهذه المعايير، يظل التعيين الأجناسي المدون -عادة- على أغلفة الأعمال الإبداعية، هو الفيصل في توجيه قراءة النصوص. وعلى الرغم مما تبديه عتبة التعيين الأجناسي من سيطرة في توجيه أفق انتظار القارئ، وفي كيفية استقباله للعمل/ الكتاب، فهذا لا يعني بالضرورة تقيد القارئ بهذا التوجيه، ذلك أن فضول بعض القراء سيدفعهم بعيداً عّما تفرضه عليهم هذه العلامة التجنيسية من إرغامات في حقل التلقي، للبحث عن قراءة مغايرة، لا تحترم العقد المتفق عليه بين المؤلف والقارئ، فإذا لم يكن التطابق مؤكداً بين المؤلف والشخصية والراوي (ميثاق التخييل)، فإن القارئ يحاول عقد مشابهات ولو لم يرغب المؤلف في ذلك، أما إذا تأكد التطابق (ميثاق السيرة الذاتية) فسيميل القارئ إلى محاولة البحث عن الاختلافات.(13)

تحاول بعض القراءات النقدية لبعض أعمال حبيب سروري الروائية التشكيك في الميثاق التخييلي لتلك الأعمال، متخذةً من مضامين بعض الروايات وتقنياتها الفنية مدخلاً لإنجاز قراءة مغايرة، غايتها التشكيك بهذا الميثاق التخييلي، والتحرر من سلطته التوجيهية. وقد حظيت روايتا (الملكة المغدورة) و(دملان)، من بين روايات الكاتب بهذا النوع من المقاربات النقدية. وسنقف في هذا البحث عند رواية (دملان) التي أثار تحديدها التجنيسي الروائي لغطاً بين النقاد، فمن يراها سيرة ذاتية للكاتب، ومن ألحقها بما يُعرف بـ(السيرة الروائية)، بناءً على تشابهات يراها بين الراوي والمؤلف. ومن يرى في مرجعيتها المتوزعة بين الواقع والتخييل عملاً روائياً ينتمي إلى المدرسة الواقعية. ويمكن لنا مقاربة هذه الآراء، حسب ما آلت إليه نتائجها>

»دملان» .. سيرة روائية
يرى الناقد حاتم الصكر أن دملان سيرة روائية، وليست رواية كما يراها مؤلفها. وعلى ما في ذلك من إغفال لقصد المؤلف -الذي يُعوَّلُ على إشارته كثيراً في توجيه القارئ لتلقي عمله الإبداعي- فقد بنى الناقد أطروحته تلك، على احتشاد العمل الإبداعي بجزئيات شخص المؤلف، ثم تغريبها بتخيل الرحلة إلى دملان والحلم الطويل خلالها، وهو ما يشجع في رأيه على قراءتها وفق اقتراحه السابق.(14) وقد اتخذ الصكر من عنصري المطابقة والمماثلة منهجاً إجرائياً في مقاربته لعلاقة السيرة الذاتية بالرواية، حيث سار الناقد في مقاربته للرواية على محورين، الأول: يقوم على قراءة عتبات النص الروائي، كالعنوان وصفحة الغلاف والتصدير العام للرواية، والإهداء والهوامش وعتبة الشكر... إلخ. منتهياً إلى أن بعضها يُعضِّدُ الميثاق التخييلي المدون على غلاف الرواية، وبعضها الآخر يوحي بأفق المطابقة بين الراوي والمؤلف. وهو ما يوحي بتوظيف الكاتب للإمكانات المتنوعة لكلا النوعين الأدبيين، الرواية والسيرة الذاتية. أما المحور الثاني من المقاربة، فقد سعى الصكر فيه لقراءة عناصر السرد في الرواية، محاولاً التأكيد على عنصر المطابقة بين الراوي والمؤلف في الرواية، من خلال الآتي:

- هيمنة ضمير المتكلم على السرد في رواية دملان، وهو ما يؤكد دلالياً صلة الراوي بالأحداث المروية، بل إن هيمنة ضمير السرد الأول تمتد إلى رسم الشخصيات وتسمياتها ووصفها والتعليق على ماضيها ومستقبلها، الأمر الذي يجعل العمل في أفق السيرة الذاتية.

- امتلاء أفعال السرد وأحداثه بالإشارات المكانية والتاريخية والاجتماعية والنفسية عن تلك الحقبة من الحكم الاشتراكي للجنوب، وهو ما يوحي بالمرجعية الحقيقية لتلك الأحداث.

- الفضاء الزماني والمكاني لثلاثية (دملان) يخدم هدف المطابقة؛ المعيار الأساس في السيرة الذاتية، باستثناء الولادة وسنوات الطفولة في تنزانيا التي تكاد تشبه في تصويرها مفردات الرحلة الخيالية إلى مملكة (دملان) وعاصمتها (تنكاء). وأن تلون الفضاء الزماني والمكاني بشعور السارد يؤكد الجانب السيري في العمل، كتصوير الأماكن بصورة قريبة من الواقع، فضلا عن مرجعيتها التي لا تبتعد كثيراً عن الواقع.(15)

ومن المعلوم أن مفهوم التطابق يُعدُّ معياراً حاسماً في تحديد انتماء النص الأدبي للسيرة الذاتية، وأن وجوده في النص الأدبي له ثلاث وظائف؛ الأولى: حالة وجود الميثاق السيرذاتي (الأطوبيوغرافي) على الغلاف، يعمل معيار التطابق على مضاعفة دلالة الميثاق السيرذاتي (الأطوبيوغرافي). الثانية: حالة غياب الميثاق السيرذاتي (الأطوبيوغرافي) عن الغلاف، يكفي وجود معيار التطابق في العمل الأدبي لاعتباره سيرة ذاتية. الثالثة: حالة وجود ميثاق تخييلي على الغلاف (حالة نادرة)، وهنا يكمن دور مفهوم التطابق في التشكيك في الميثاق التخييلي. وهنا يسوغ الاشتغال على هذه النقطة.(16) ووفقا لمفهوم التطابق المتعارف عليه في الوسط النقدي، يمكن الجزم بعدم تحققه في ثلاثية دملان، سواء التطابق الاسمي، فاسم الراوي/ الشخصية الرئيسية في الرواية (وجدان) لا يتطابق مع اسم المؤلف المدون على غلاف الرواية، أو التطابق الفعلي، كون سيرة المؤلف الفعلية لا تتطابق مع سيرة الراوي/ الشخصية الرئيسية في الرواية، إن لم تكن على النقيض منها تماماً، وهو ما أكّده المؤلف.(17) فضلا عن إقرار الأخير بحضوره في الرواية بدور ثانوي، أشير إليه بالأحرف الأولى من اسمه (ح. ع. س)، وهو ما لا يدع مجالاً للشك بانتفاء التطابق، الذي حرص الناقد الصكر على إثباته طوال مقاربته النقدية للرواية.

«دَملان» .. سيرة ذاتية
وقد ذهب إلى هذا الرأي الناقد عبد العزيز المقالح، فقد صنفها ضمن السيرة الذاتية في سياق عفوي خالٍ من البرهنة، فالمقالح يرى تطابقاً بين الراوي والمؤلف في رواية دملان، دون إسناد ذلك بأي دليل؛ إذ يقول: «يعود الروائي أو الراوي لا فرق بعد رحلة طويلة في فرنسا ومدنها، إلى وطنه».(18) ويرى في موضع آخر من الدراسة نفسها أنها (سيرة روائية) مستنداً في حكمه هذا، على بِنْيَة الرواية الخارجية التي تقوم «على شكل رحلات، أو يوميات أو مذكرات، وهي حقول متنوعة من السيرة الروائية».(19) يكشف لنا هذا الرأي عن تجاهلٍ واضحٍ عند المقالح لمعايير كتابة السيرة الذاتية، فضلا عن غياب أدنى معرفة بالحياة الشخصية للمؤلف، فالمقالح، وعلى الرغم من عدم إعارته أي اهتمام للميثاق التخييلي الذي يتصدر غلاف الرواية الخارجي وتصريحات المؤلف المؤكدة لهذا الميثاق، نجده قد تجاهل معيار التطابق الاسمي والفعلي بين المؤلف والراوي والشخصية الرئيسية في الرواية، كمعيار أساسي يستحيل الإخلال به من أي ناقد، يتغيا تمييز السيرة الذاتية عن أنواع أدبية أخرى. وهو تطابق تام، لا يعرف مستويات أو درجات، ومجرد الشك في وجوده يؤدي إلى استبعاد انتماء النص إلى فن السيرة الذاتية.(20) ناهيك أن سيرة المؤلف تقف على النقيض تماماً من سيرة الراوي/ الشخصية الرئيسية في الرواية (وجدان)، فالرواية في حقيقتها سيرة ضدية لسيرة المؤلف، وهو ما أكده الروائي في تصريحاته، إذ يقول في إحدى مقابلاته: «لا علاقة بين الراوي: وجدان، والكاتب: حبيب، من قريب أو بعيد، إن لم يكن كل واحد منهما عكس الآخر تماماً».(21)

«دَملان» .. رواية واقعية
في مقال للناقد مسعود عمشوش بعنوان: (رواية السيرة الذاتية في اليمن -رواية دملان بين التوق إلى الخيال وفخ الواقع) ينفرد عمشوش بتصنيف رواية دملان في خانة الرواية الواقعية، باعتبارها نوعاً تعبيرياً فرعياً يندرج ضمن الجنس الروائي العام، معتمداً في ذلك معيار المدارس الأدبية في تحديد أنماط الجنس الروائي، مستبعداً ما قاله نقاد سابقون عن انتمائها إلى فلك السيرة الذاتية أو السيرة الروائية؛ إذ يخلص في آخر مقاله إلى أن "رواية (دملان) ليست رواية خيالية بل رواية واقعية تتوق إلى الخيال ... لا تكاد تقترب من رواية السيرة الذاتية. وتظل في المقام الأول رواية وليست شهادة ولا سيرة ذاتية».(22) وينطلق عمشوش في تحليل واقعية ثلاثية دملان من ثنائية الخيال/الواقع في الرواية، كعنصرين محددين لمدى اقتراب العمل الروائي أو ابتعاده عن التخييل والواقع. ويمكن أن نجمل المبررات التي اعتمدها عمشوش في إثبات واقعية الرواية بالآتي:

- شخصيات الرواية ليست نماذج إنسانية عامة، بقدر ما تحيل على شخصيات واقعية، يمكن أن يهتدي إلى مفاتيح توليفها كل من جايلوا المؤلف في تلك الفترة.

- اعتراف المؤلف بوجوده كشخصية ثانوية في الرواية، يشير إليها ببداية اسمه الحقيقي (ح. ع. س)، فضلا عن وجود إشارات إلى أفراد عائلته، بطريقة لا تختلف عن طريقة حضوره (زوجته ن. ف. وطفلتيه ع. وك)(23)، وترد الإشارة إلى والده باسمه كاملا.(24)

- محدودية الخيال في الرواية مقارنة بطولها، فضلاً عن انشداد الخيال إلى الواقع، والاقتصار على تحريفه، حيث تصبح عدن -مثلا- عدم، وشاطئ خليج الفيل شاطئ خليج الثور.

- التصوير التاريخي للأماكن والمدن في الرواية، والأبعاد الوصفية الواسعة التي تحتويها الرواية، تدفع إلى قراءتها كنص واقعي «إذ إنه من الصعب الزعم أن هناك خيالا في تقديم سوق الملح في صنعاء، أو وصف رحلة وجدان من سيئون إلى مدينة هود في حضرموت التي لن نجد أدق منها في أكثر الأدلة السياحية أمانة».(25)

وعلى حين حاولت الدراسات السابقة لدراسة عمشوش التشكيك في الميثاق التخييلي لرواية دملان، سعت الأخيرة للتأكيد على هذا الميثاق، كأفق انتظار ينبغي عدم تجاوزه في أي قراءة، مستعينة بتصريحات المؤلف -كدلالة مضاعفة للميثاق التخييلي المدون على غلاف الرواية- بأن «أحداث وشخوص دملان خيالية بحتة، غير أن المدن والأماكن والرموز الاجتماعية والمنعطفات الزمنية التي تشكل مسرحاً للرواية مستوحاة من الواقع».(26) محدداً غايته من وراء ذلك، بقوله: «إني أريد أن يشعر القارئ أن كل ما يدور كأنه واقع حقاً، أريده أن يسقط في مطب متابعة كل ما حدث كأنه حدث حقاً».(27) وقد حاول عمشوش من خلال مقاربته للبعد الواقعي في الرواية إظهار -بشكل ضمني- الأسباب التي دفعت بعض النقاد للتشكيك بالعقد القرائي للرواية، والتي ترجع -بحسب ما يُفهم من مقاربته- إلى تركيز تلك الدراسات على المستوى الواقعي في الرواية، كمؤشر دال على الميثاق المرجعي، متجاهلة طبيعة التداخل بين الواقعي والخيالي في الأعمال الروائية، لا سيما فيما عُرف بــ(الرواية الواقعية(.

 

باحث وأكاديمي يمني

 

هوامش:

* نشر الكاتب بالعربية ديوان شعري (شيء ما يشبه الحب)، بعد ترجمة روايته الأولى (الملكة المغدورة) عن الفرنسية، يليه مجموعة قصصية (همسات حرى من مملكة الموتى)، ثم استقر إبداع الكاتب على جنس الرواية، التي نشر منها حتى الآن - بعد روايته المترجمة- ست روايات، إحداها ثلاثية.

(1) ينظر: صادق السلمي، منير طلال ومعايير النوع الأدبي –مقاربة التعيين الأجناسي في روايتي(طريق البخور) و(طوفان الغضب)، أدب وثقافة، صحيفة الثورة -يومية، صنعاء، ع 17826، 9 سبتمبر 2013، ص 14.

(2) حبيب عبدالرب سروري، دملان، دار الآداب، بيروت، ط 1، 2009، ص 116.

(3) دملان، ص 116، 117.

(4) دملان، ص 117.

(5) دملان، ص 117.

(6) دملان، ص 118.

(7) دملان، ص 290، 291.

(*) يرد مصطلح رواية السيرة الذاتية في رواية الكاتب (عرق الآلهة)، الكوكب –رياض الريس، بيروت، ط 1، 2008، ص 131.

(8) نشر هذا المقال في أكتوبر 2000. ضمن كتاب: (عن اليمن ما ظهر منها وما بطن)، مؤسسة العفيف الثقافية، صنعاء، ط 1، 2005، ص 15.

(9) من مقابلة صحفية أجراها محمد عبد الوهاب الشيباني، ونشرت في 1 ديسمبر 2002. ينظر: كتاب: (عن اليمن ما ظهر منها وما بطن)، مرجع سابق، ص 73.

(10)  ينظر: عبد الكريم شرفي، من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة، الدار العربية للعلوم ناشرون -بيروت/منشورات الاختلاف- الجزائر، ط1، 2007، ص 166.

(11) ينظر: وليد الخشاب، دراسات في تعدي النص، المجلس الأعلى للثقافة، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، د. ط، د. ت، ص 23.

(12) ينظر: ميخائيل باختين، الخطاب الروائي، تر. محمد برادة، دار الفكر، القاهرة/باريس، ط 1، 1987، ص 88.

(13) ينظر: فيليب لوجون، السيرة الذاتية -الميثاق والتاريخ الأدبي، تر. عمر حلي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1994، ص39.

(14) حاتم الصكر، الرواية والسيرة الذاتية: من المماثلة إلى المطابقة -نموذج (دملان) لحبيب عبد الرب سروري(1- 2)، صحيفة 26 سبتمبر، ع 2008، الخميس 14 يوليو، 2005 ، ص 6.

(15) ينظر: حاتم الصكر، الرواية والسيرة الذاتية: من المماثلة إلى المطابقة - نموذج (دملان) لحبيب عبد الرب سروري(2 - 2)، صحيفة 26 سبتمبر، ع 2008، الخميس 14 يوليو، 2005، ص 6.

(16) ينظر: بحراوي حسن، أنساق الميثاق الأطوبيوغرافي -السيرة الذاتية بالمغرب نموذجاً، آفاق -مجلة دورية، اتحاد كتاب المغرب، الرباط، ع 3- 4، دجنبر 1984، ص 40.

(17) يؤكد المؤلف في إحدى مقابلاته الصحفية أن الشخصية الروائية في رواية (دملان) تمثل نقيضه تماماً، وأنه كان بإمكانه أن يكون هو، لولا اتخاذه قرارات مصيرية في حياته. ينظر: مقابلة الروائي مع لارا الظراسي: صحيفة الأيام -يومية، عدن، ع 4142، 7 إبريل 2004، ص 9.

(18)  عبد العزيز المقالح، مقاربات أولية عن واقع الرواية في اليمن، غيمان، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، ع 4، 2008، ص18.

(19) المرجع نفسه، ص 17.

(20) ينظر: بحراوي حسن، مرجع سابق، ص 40.

(21) ينظر: مقابلة لارا الظراسي مع الروائي، مرجع سابق، ص 9.

(22) مسعود عمشوش، رواية السيرة الذاتية في اليمن - بين التوق إلى الخيال وفخ الواقع، الملحق الثقافي، صحيفة الثورة، صنعاء، 31 مايو 2004. ومنشورة على موقع الروائي: (http://abdulrab.free.fr/).

(23) ينظر: دملان، ص 239، 240، 241، 259، 289، 300، 303، 305، 315، 320، 327، 328، 331، 332، 333، 334، 336، 347، 371، 404، 412، 468، 476، 499، 511، 525.

(24) ينظر: دملان، ص 64.

(25) مسعود عمشوش، مرجع سابق.

(26) ينظر: مقابلة لارا الظراسي مع الروائي، مرجع سابق، ص 9. وينظر: مسعود عمشوش، مرجع سابق.

(27) ينظر: المرجع نفسه، ص 9.