تتناول الباحثة السورية ومحررة (الكلمة) سيرة الاستعراب الاسباني في علاقته مع ترجمة النص المسرحي العربي، وارتباط ذلك بعوامل التجديد في بنية هذا الاستعراب ومنهجية البرامج الأكاديمية عند نهاية الخمسينيات من القرن الماضي. وتؤكد على إمكانية الحوار التواصلي مع الثقافة الإسبانية عبر المسرحية العربية المترجمة.

الاستعراب الإسباني وترجمة المسرحية العربية الأولى

أثير محمد على

يتواشح حضور المسرح العربي وقضاياه في الفضاء الثقافي الإسباني مع سيرورة الاستعراب فيه وتحولاته الجدليّة، وعليه يمكن القول أن تتبع الخطوات الأولى التي أعلنت فيها المسرحية العربية حضورها في الثقافة الإسبانية، متلازم مع البحث التاريخي والتغيرات في بنية الاستعراب عند نهاية الخمسينات من القرن الماضي.

تطرح هذه الفكرة الكثير من الأسئلة، سأحاول فيما يلي تناول الإجابة عن بعضها:

- كيف كان حال الاستعراب قبل أن تترجم أول مسرحية عربية إلى الاسبانية؟!!

- ما هي طبيعة الظروف التي فرضت التغيير ومهدت الطريق للمسرح العربي للحضور في الثقافة الإسبانية وأنشطتها المختلفة؟!!

حال الاستعراب التقليدي
بداية تقود المقاربة التاريخيّة للقول أن الاستعراب الإسباني في عقد الخمسينات من القرن العشرين، المتمركز أساساً في الجامعات والمؤسسات التعليمية المتخصصة، كان  يراوح في مكانه الذي وصل إليه منذ أزمان بعيدة، بمعنى أنه تميّز بمستوى علمي رفيع، إلى جانب نأيه عن القضايا الاجتماعيّة، وبعده عن حراك الفضاء السياسي. أي أنه كان مدرسياً محضاً منغلقاً على نفسه، فيما لو استثنينا بضعة حالات فردية ومنعزلة لا تشكل تياراً جلياً ضمن مجال الاستعراب.

ما انفك الاستعراب التقليدي يتكئ على دراسات تتخذ من العصر الأندلسي في شبه الجزيرة الإيبرية موضوعاً له، ويمكن فهم وتبرير هذا الأمر بما هو متعالق مع التاريخ الإسباني في المقام الأول. وكانت الدراسات المنجزة نقليّة تتغيا ترجمة تراث ذلك "الآخر" الأندلسي، أكثر منها تحليليّة أو تفكيكيّة تخوض في المساءلة حول علاقة الاسباني مع الأندلسي كتاريخ مشترك ومتشابك يتقاسمه الاسبان والعرب، كما أنه لم يتطرق لقضايا نقاشيّة تحاول تأويل سيرورة الحضارات وثقافاتها، واللقاء فيما بينها من عدمه، رغم فرادة ووجاهة مثال "الأندلس التاريخية" لعقد مثل هذا النقاش والتفكر، وصياغة المواقف التي تطال راهن الحاضر كما الماضي.

هذا يعني أن الاستعراب لم يكن يعالج هذه المسائل، ولم يقدّم وجهة نظر اسبانية حولها، ويمكن القول أنه بقي حتى أوائل الستينيات وفياً لبحثه وقلقه النظري، دون أن يخوض في الشك والتساؤل ومحاولة تقديم الأجوبة، وفي الحالات النادرة التي تطرق لها حصر نفسه ضمن الحدود الخاصة بالأدب، الشعري منه على وجه التحديد، وبقي وفياً للدقة العلميّة، مجتهداً في مهمته التدريسيّة، ينفذ ما يترتب عليه من تنقيب ضمن فلك "الأندلس التاريخية"، لتقديم منجزات أكاديمية وضعيّة دقيقة ذات مستوى تراكمي مرموق.

إلى كل ذلك يمكن القول إن الاستعراب الإسباني الجامعي كان يعاني من نقاط ضعف كبيرة من وجهة النظر المنهجية في عملية التدريس، فلم تكن روح التجديد قد طالت المنهج ولا المواد التدريسيّة، التي تشكل بمجموعها العمود الفقري الذي لابد أن تقوم عليه العمليّة التعليميّة للغة العربيّة وآدابها وفنونها. فاللغة التي كانت تدرّس قاربت اللغة العربيّة القروسطيّة، أكثر منها اللغة الحيّة المعاصرة لمجتمع أناسه على قيد الحياة؛ والغاية من تعلمها أن تكون وسيلة لترجمة النصوص الأندلسيّة القديمة في المقام الأول، ولم يكن لها، كما ذكر سابقاً، أي اهتمام بخوض السجال حول المعرفة العربيّة ومختلف أشكال التعبير الإبداعي المعاصرة، أو اللغة العربيّة كوسيلة اتصال حيّة وراهنة.

أما من الناحية الاجتماعيّة، فيمكن القول أن الاستعراب الإسباني لم يكن ينجز أية مهمة في هذا المجال، باستثناء جهد البروفسور اميليو غارثيا غومِث (1905-1995)، الشخصيّة المرموقة والمعروفة في أواسط الاستعراب بترجماته ودراساته المعرفيّة التي فرضت نفسها بقوة ساطعة، آن عقد نقاشاته وحواراته الأدبية والنقدية لعموم الاسبان متخطياً تخوم الاستعراب وحدوده. وفي معرض الحديث هنا، وإن كنت ابتعد قليلاً عن محور الموضوع أود أن أذكر ترجمة غارثيا غومِث لـ"طوق الحمامة" و"قصائد عربية-أندلسية"، والتي لعبت دوراً هاماً في توجه أهم جيل أدبي وفني اسباني في القرن العشرين، وأقصد هنا الجيل الذي يعرف بجيل الـ 27، وتحديداً في مجمل إنتاج فدريكو غارثيا لوركا الإبداعي، وبشكل مباشر فعله الشعري المعنون "ديوان التاماريت".

حسناً، بالعودة للحديث الذي كنت بدأته عن حال الدراسات العربية في اسبانيا، أقول أنه كان لا بد من انتظار الشرط الممهد لتجديد يطال الاستعراب على يد جيل شاب جديد تواصل مع راهن واقعه الإسباني خارج حدود المؤسسة الأكاديميّة، في الوقت الذي وجه نظره إلى الواقع العربي وثقافته الحيّة، وانتزع الاستعراب من حصنه المكتبي المنغلق على نفسه وعلى الأوابد القديمة، لينعطف به نحو منهجيّة معاصرة مغايرة، لا تكتفي بدراسة الماضي بروح بحثيّة حديثة، بل وتلتفت إلى حاضر الثقافة العربية ولغتها ومنجزها الإبداعي الحديث، وعبره المسرح: نصاً في المقام الأول، وعرضاً فيما بعد بالتعاون مع مؤسسات ثقافية فنيّة أخرى.

من المتفق عليه صلة المسرح العربي، كما الأجناس السردية، وتجديد الشعر بالحداثة العربيّة؛ من هنا يمكن فهم دوافع العناية بالمسرح العربي في اسبانيا بعد تأسيس دراسات الأدب العربي الحديث، وتسليط الضوء على الثقافة العربية الحديثة.

عند هذه النقطة، يصل بي الحديث إلى البروفسور بدرو مارتينث مونتابِث: شخصية اسبانية مرموقة ارتقت خشبة تاريخ الاستعراب لتلعب دورها التجديدي الهام ستينيات القرن الماضي.

بدرو مارتينث مونتابث وتحديث الاستعراب القصدي والممنهج
بعد أن أنهى دراسته في مدريد، حصل مارتينث مونتابث الشاب، بمساعدة أستاذه اميليو غارثيا غومث، على منحة دراسيّة لانجاز أطروحة الدكتوراه في القاهرة، غادر باتجاه مصر أوائل سنة 1957، ورجع إلى اسبانيا منتصف عام 1962.

إلى جانب دراسته في الجامعة المصرية، عمل بدرو مارتينث مونتابث في سلك التدريس في مدرسة الألسن للغات التي أسسها رفاعة الطهطاوي، كما اشتغل في المركز الثقافي الإسباني، وأصدر فيه دورية تنطق باسم نفس المركز ودعيت بـ"الرابطة" al-Rabita، وهي مجلة ثنائيّة اللغة (اسبانيّة/ عربيّة).

يقول مونتابث في لقاء معه حول تجربته المصرية، وجذور التجديدات التي حققها لاحقاً في بنية الاستعراب بعد عودته إلى بلده:

"حرصت دائماً على رؤية الواقع، ولم أتقوقع في التخيلات قبل الاقتراب منه واللقاء معه ومعرفته وإدراكه، ومن ثم التكيف معه بالمقدار الذي أستطيعه، دون أن أغفل عن رفض ما لا يعجبني فيه. ومصر لم تكن الاستثناء في قناعتي هذه بأي حال من الأحوال، وبما أنني لم أحمل عنها صورة مسبقة في ذهني، فإن كل ما في مصر فاجأني وأدهشني، فواقعها اتصف بالجِدّة تماماً بالنسبة لي؛ وأود التنويه إلى أن التجربة المصرية هي التي بلورت رؤيتي، فبدرو مارتينث مونتابث، كشخص وكمستعرب، سواء في تمثله للحياة أو للاستعراب، هو نتيجة ومنتج لتلك التجربة الشابة أساساً".

في مصر عايش بدرو مارتينث مونتابث الواقع كما هو، رهف حس المراقبة لديه، فالحراك الإنساني في العالم العربي يدعو للنظر وللتحرك معه، ومشاهدة تمسرحه وتقليب حيثياته بصرياً ومعرفياً. هكذا تعشقت تجربة مارتينث مونتابث الشاب مع كرنفال من شخوص وحيوات، ومشهديات متنقلة، وتمسرح شعبي حي، في ذات الوقت الذي كان يعقد فيه وشائج صلات متينة مع مروحة واسعة من شخصيات ثقافية بارزة، ترك العديد منها أثراً عميقاً في نفسه، وتوجهه الفكري في تلك المرحلة المبكرة، من هذه الشخصيات أذكر:

طه حسين(1889-1973)، عبد الرحمن بدوي (1907-2002)، عبد العزيز الأهواني (1915-1980)، محمد عبد الحليم عبد الله (1913-1970)، يوسف إدريس (1927-1991)، عبد الرحمن الخميسي (1920-1987)، محمد أنيس (1921-1986)، حسين مؤنس (1911-1996)، نجيب محفوظ (1911-2006)، يوسف الشاروني (1924-)، يحيى حقي (1905-1992)، صلاح عبد الصبور (1931-1981)، صلاح فضل (1938-)، ومحمود أمين العالم (1922-2009)، المؤرخ محمد مصطفى زيادة (؟-1968)، والمؤرخ الإسلامي جمال الدين الشيّال (1911-1967) من بين أسماء أخر.

وأغلب الشخصيات المبدعة من بين الأسماء المذكورة نُشِر حوار معها، أو مقالة عنها، في "مجلة الرابطة" في وقت لم يكن أغالبها معروفاً في الثقافة الإسبانية، وأُلحِق كل لقاء بترجمة لنص أدبي لها. وعلى نحو دوري أُرسِلت نسخ من أعداد المجلة للسفارة الإسبانية، والتي بدورها كانت ترسلها إلى المؤسسات الإسبانية المعنية.

عاد مونتابث إلى اسبانيا بعد خمسة أعوام ونصف العام تقريبا، وشرع بالعمل كأستاذ في "جامعة كومبلوتنسي" في مدريد، وتدرج في سلك التعليم، وتصدى بشكل كامل تقريباً حتى يمكن القول أنه الأب المؤسس لفرع "الدراسات العربية والإسلامية" في "كلية الآداب والفلسفة" في "جامعة آوتونوما" في مدريد (سنة 1968)، كما استلم مناصب إدارية عدة أهمها عمادة الجامعة.

مع الانعطافة نحو النصف الثاني من القرن الماضي، كانت اسبانيا عامة، والأكاديميات التعليمية على نحو خاص، تعيش استعداداً واضحاً للتغيير، وحدس المستعرب العائد من مصر أن تحوّل اسبانيا الديموقراطي هو أمر حتمي، فمع سنوات الستينيات بدأت الدلائل واضحة على ما كانت اسبانيا تختبره جدلياً، والذي سيتبلور كاستعداد وجاهزية من قبل أهل البلد للتحول الديموقراطي خلال العقود التالية، قبل موت الجنرال فرانكو وبعده؛ وبهذا المعنى برزت الجامعة كمختبر قادر بامتياز على حياكة هذه التغيرات والتحولات المصيرية في تاريخ اسبانيا ورؤيتها لمحيطها، ولحاضرها ولماضيها الإسلامي العربي. إضافة لكل ذلك أدرك مارتينث مونتابث أن ما رآه وخبره واكتشفه وتمثله في مصر خاصة، والمشرق العربي عامة، برهن له عن مدى جهل الاستعراب الإسباني بهذا العالم الذي يقوم على دراسته، فاقترح تجديد الاستعراب بعمق، وبشكل لا يطال تحديث المنهجية التدريسية فقط، وإنما مشروعه والتزامه بالحراك الثقافي المجتمعي. ورأى أن التحديث هو حاجة وضرورة يجب أن تأخذ حيز التنفيذ، ووافقه على رأيه جيل من المستعربين المنتسبين لدفعة دراسات الاستعراب في عقد الخمسينيات، ممن أتيحت لهم الفرصة لتوسيع دراستهم في المشرق العربي أو في مغربه شمال أفريقيا، وراكموا زمناً من تجربة الحياة في البلاد العربية وتعرفوا مباشرة على واقعها.

عن تلك السنوات يذكر مارتينث مونتابث في حديث لي معه:

"اقترحت على مستعربين آخرين أن نضم جهدنا ليتحول إلى جهد جماعي، نستطيع به انجاز التجديد المرجو، مع الوعي التام بأن مشروعنا هذا يعني، بجانب هام من جوانبه، القطيعة الكاملة مع العديد من القيم الخاصة بالاستعراب الإسباني التقليدي في ذلك الوقت، خاصة فيما يتعلق بدوام الاستعراب لقرون طويلة على تناول موضوع الأندلس التاريخية حصرياً.. ولكن لم تعن محاولاتي التجديدية، ومنها تأسيس دراسة الأدب العربي الحديث، وضع أصابع الديناميت وتفجير الاستعراب التقليدي على الإطلاق، بل حرصت على احترام جهد المستعربين السابقين دون التنازل عن حقي بالقيام بمشروع ودراسات تأخذ بعين الاعتبار منحى حداثي مختلف. في كل الأحوال أرى أن الوضع حينها حتّم هذا التغيير في توسيع دائرة الاستعراب، وتناولاته الزمنية وطبيعة مقارباته والتزاماته الاجتماعية".

مع تأسيس "فرع الدراسات العربية والإسلامية" في "جامعة آوتونوما في مدريد" أصبح الطريق ممهداً أمام مونتايث لاستنبات كافة الأفكار التجديدية التي آمن بها، وتحقيق كل المشاريع التي حلم بها خلال سنواته المهنية السابقة، والتي شكلت منعطفاً تاريخياً واضحاً لا يمكن العودة به للوراء في البرنامج الدراسي، فلأول مرة في سيرة الجامعة الإسبانية يتم تأسيس فرع مستقل ومنفتح على الدراسات العربية الحديثة والإسلامية الشاملة، متخطياً بذلك حصريّة الاقتصار السابق على الدراسات العربية الإسلامية الأندلسيّة. وأصبحت اللغة العربية التي تشكل محور هذه الدراسة غير مقتصرة على المقاربة النظرية وعلى غائيّة الترجمة، بل على أساس أنها لغة عملية وحيوية وحية، كما أدخلت لأول مرة مواد تعليمية تتخطى احتكار العالم القروسطي، بل تعالقت مع الحداثة العربية وراهن الواقع العربي، ففي هذا الفرع تمت متابعة تدريس المواد الكلاسيكية القديمة الخاصة بالعصر الأندلسي والدراسات الإسلامية حتى القرن الخامس عشر، إلى جانب المواد الجديدة الخاصة بالأدب العربي المعاصر، ومواد أخرى لم تكن معروفة سابقاً كتلك التي تعنى بجغرافيا وعلم اجتماع الفضاء العربي، والأجناس الفنية والأدبية الحديثة ومنها المسرحية العربية.

المعهد المصري للدراسات الإسلامية
قبل أن أتابع حديث الذكريات الدالة على تحولات الاستعراب، أود التطرق لـ"المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد" الذي دشنه طه حسين سنة 1950.

عاشت اسبانيا الفرانكوية (1939-1975) لوقت طويل حالة إقصاء من الأقطاب الدوليّة، فلم تكن حاضرة في أي تمثيل للمجتمع الدولي، ولكن مع اقتراب القرن الماضي من الانتصاف ظهر لديها بشكل جزئي بعض الأصدقاء؛ بداية من بعض أنظمة أميركا اللاتينية ثم بعض الأنظمة العربيةـ وحرص النظام الفرانكوي على خلق العلاقات الإسبانية-العربية، والتي نعتت بشكل متكلف في الخطاب الرسمي بـ"النموذجية". ضمن هذا السياق استثمرت العلاقات الثقافية كإمكانية لرعاية تقارب ما؛ وبما أن مصر في تلك السنوات كانت تحمل راية الزعامة في العالم العربي، عقد العزم على تدشين مشروع مصري يعنى بالفعل الثقافي في اسبانيا، وكانت النتيجة تأسيس "المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد".

ثمة بالمقابل، عامل حاسم آخر تدخل في سيرورة تحقيق هذا المؤسسة الثقافية، ألا وهو أن عرابيها ينحدران من مستوى ثقافي مرموق بامتياز، كل منهما في ثقافته، وأقصد هنا كل من عميد الأدب العربي طه حسين (وزير المعارف حينها)، والمستعرب الكبير اميليو غارثيا غومِث (أستاذ بدرو مارتينث مونتابث)، ولعل الصداقة العميقة التي جمعت بينهما منذ زمن بعيد أثرت في تحفيز حكومة بلديهما لإنجازه. ولابد من القول أن "المعهد المصري للدراسات الإسلامية" عمل منذ تأسيسه كصلة وصل ليس بين اسبانيا ومصر فقط، وإنما مع عموم العالم العربي؛ وكان لمدة طويلة المؤسسة التمثيليّة الوحيدة للثقافة العربية في العاصمة مدريد، وساهم بتقديم أبحاث عالية المستوى، ولم يغفل عن رعاية الترجمة إلى الإسبانية لنصوص سردية ومسرحية تمثل حراك الثقافة العربية الحديثة خير تمثيل، وأذكر هنا، على سبيل المثال ترجمة "الأيام" لطه حسين، و"يوميات نائب في الأرياف" لتوفيق الحكيم سنة 1955 من قبل اميليو غارثيا غومِث، ولعل هذا النص الأخير لعب دوره في تنبيه الاستعراب لمنجز الحكيم عامة والمسرحي على نحو خاص.

من كل ما تقدم يمكن الحديث عن مؤثرين فاعلين حرضا على حضور المسرحية العربية في العالم الناطق بالإسبانية: الأول يعود للاستعراب في صيغته التجديدية، والثاني للمؤسسة الثقافية العربية ممثلة بـ"المعهد المصري للدراسات الإسلامية". أي لجهتين، اسبانية وعربية، تمثلت كل منها معنى المسؤولية التاريخية في التواصل والحوار مع الآخر من خلال الفعل الثقافي والتزاماته في التعبير وترجمة قضايا الواقع العربي وشبكة علاقاته الثقافية والسياسية والاجتماعية، كما تتبدى في جماليات المنجز الأدبي والدراسة البحثيّة الحديثة.

الترجمات المسرحيّة الرائدة إلى الإسبانية
هكذا ظهرت سنة 1963 باللغة القشتاليّة، برعاية "المعهد الإسباني-العربي للثقاقة"، التابع لوزارة التعليم والثقافة الإسبانية، أول ترجمة لنصوص مسرحيّة لتوفيق الحكيم إلى اللغة الإسبانية، فضم مجلد واحد مسرحية "أهل الكهف" (الصادرة سنة 1933 في مصر) مع ثلاثة نصوص مسرحية أخرى بفصل واحد وهي: "بيت النمل"، "بين يوم وليلة"، "أغنية الموت". وقام بالترجمة كل من فيدريكو كورينته، ماريا أوخينيا غالبث باثكث، خواكين بايّبه، وبدرو مارتينث مونتابث.

وفي سنه 1977 صدر عن "المعهد المصري للدراسات الإسلامية"، ترجمة مسرحية "شهرزاد" (الصادرة سنة 1934 في مصر)، وكان قد تصدى لترجمتها بشغف وحماس فريدين بدرو مارتينث مونتابث، وقدمها بدراسة موسعة حول الحكيم ومسرحه، وتعتبر المقدمة إلى الآن مرجعية كلاسكيّة لمن يود الخوض في منجز الحكيم. أما لقاء مونتابث الشخصي الأول مع توفيق الحكيم، فيعود لسنوات متقدمة بعد رجوعه من اسبانيا، حين دعت جامعة آوتونوما في مدريد توفيق الحكيم لإلقاء محاضرة فيها.

ومن يومها إلى الآن تتابعت الدراسات والترجمات لمجمل تراث الحكيم عامة، والمسرحي خاصة إلى اللغة القشتاليّة سواء في اسبانيا أو أميركا اللاتينية. ولعل الجاذبيّة والعناية بالحكيم من قبل المستعربين تجد تبريرها، في جانب من جوانبها، بنسيج اللغة العربية في النصوص المسرحيّة، التي حاكها الكاتب المصري، وتوافقت مع ميول الاستعراب التجديدية نحو لغة عربية تقع في منطقة متعادلة ومتوسطة ما بين اللغة المحكية المنطوقة والفصحى المكتوبة، والتي سماها الحكيم بـ"اللغة الثالثة".

على التوالي اقتبس نصاً من حديث لي مع البوفسور مونتابث:

"حينما أكون متعباً من اللغة العربية أتناول نصاً لتوفيق الحكيم، لأعيد علاقتي معها إلى مجاريها الجميلة. ودائماً أقول أن توفيق الحكيم بالنسبة لي هو المصمم الأعظم للغة العربية، وقد ترك لدي إحساساً لا يخطئ بأنه شخصية متوسطية أصيلة، ومن المحتمل أنه الأكثر متوسطيّة من بين كل هذه الشخصيات المصرية التي قابلتها. كنت أشعر أنه شخص صلد، أمامه يحس المرء الذي يقابله بما يشبه القشعريرة، لقدرة الحكيم على الدخول في الأعماق، حتى دون أن يحدثك.. مكتفياً بنظرة من عينيه. ولم تشب علاقتي الأدبية مع توفيق الحكيم أية شائبة، واستثني من كلامي هذا علاقتي الإيديولوجية معه، والتي لم أكن على توافق تام معها. إلا أن تراثه الأدبي عمل على تحفيزي باستمرار".

حسناً، الآن بعد حوالي خمسة عقود من السنين، حين يراجع الباحث قائمة النصوص الدرامية العربية المترجمة والدراسات المتنوعة حول المسرح العربي في اللغة الإسبانية يتنابه الاحساس بمدى الجهد والنية الثقاقية للتواصل الحواري بين الثقافة العربية والثقافة الإسبانية، مهمة أخذتها على عاتقها أجيال من الاستعراب الإسباني إضافة لبحاثة اسبان من أصول عربية، وسعت نطاق الرؤية ليشمل التجربة المسرحية وقولها الفني في مختلف البلاد العربية.

من بين من ترجمت أعمالهم أذكر كتاب المسرح، وسنة ترجمة نصوصهم الدراميّة، على التوالي كي نتعرف على توجهات الاستعراب الإسباني عامة:

- كاتب ياسين: مجموعة مسرحيات "دائرة القصاص" (عن الفرنسية 1973)، وتحتوي على النصوص المسرحية لكل من "الجثة المطوقة"، و"مسحوق الذكاء"، و"الأجداد يزدادون ضراوة".

- "مسرح الثورة الجزائرية" (سنة 1977)، ويضم نصوص لكاتب ياسين، حسين بوزاهر، وآسيا جبار، ووليد كارن، وجمال عمراني.

- حسين بوزاهر (الجزائر)، "أصوات القصبة" (1969).

- عز الدين المدني (تونس): "ديوان الزنخ" (1978).

- معد الجبوري (العراق): "آدابا" (1974).

- سعد الله ونوس (سورية): "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" (1974)، و"مغامرة رأس المملوك جابر" (1992).

- سالم اكويندي (المغرب): "حديث ابن مسيك" (1981).

- منور صمادح (تونس): "الجمال" (1978).

- حسن الطريبق (المغرب): "وادي المخازن" (1981).

- عبد الوهاب البياتي (العراق): "محاكمة في نيسابور" (1981).

- نجيب محفوظ (مصر): "حواريات 1967-1971" وهي مسرحيات من فصل واحد (ترجمت سنة 1989)، و"التركة" (1991).

- جليل القيسي (العراق): "غدا يجب أن أرحل" (1991).

- محمد الماغوط (سورية): "المهرج" (1992)، و"العصفور الأحدب" (1992).

- "مشهدية المسرح المصري" ويضمن ترجمة لنصوص أربعة كتاب: توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، رشاد رشدي، عبد التواب يوسف 1991.

- يوسف إدريس (مصر): "البهلوان" (1996).

- عبد القادر علولة (الحزائر): "الأجواد" (1996).

- الطيب صديقي (المغرب): "موليير أو حباً بالانسانية" (1999).

- الفرد فرج (مصر): "الشخص" (2000).

- نزار قباني (سورية): "جمهورية جنونستان" (2003).

- محسن الرملي (العراق): "في البحث عن قلب حي" (2007).

إضافة للأمثلة المذكورة عن ترجمة النص المسرحي، أعتقد أن جهد كتابة نصوص مسرحية باللغة الإسبانية من قبل عرب يحملون الجنسية الإسبانية، ويكتبون باللغة القشتالية له تقديره الخاص، وهنا أذكر مسرحيات نمر سلمون (سورية) المكتوبة بالاسبانبة: "أنا وأناه" (1999)؛ ومجموعة تضم مسرحيات "الليل الشفيف"، "المهرج المتأمل"، "أغنية المهد تسمع من بعيد" (2004)؛ ومجموعة تضم "ذكريات عقيمة"، و"أتعتقد أننا سنصل" (2004).

قبل أن أنهي مقالتي، أود الإشارة إلى أن بعض المسرحيات التي ذكرتها ترجمت ونشرت من قبل مجلة "بريمير أكتو" (الفصل الأول)، وهي مجلة في النقد المسرحي اهتمت منذ عددها الأول الصادر سنة 1957 وحتى الآن على أن تكون مرجعية وتحليل جمالي وتأمل في حراك المسرح الدولي، وأرفق كل عدد مع نص مسرحي ودراسة حول كاتبه.

أما رئيس تحرير المجلة فهو الناقد الإسباني المرموق خوسية مونليون (1927-): شخصية مؤثرة في عالم المسرح في اسبانيا، وله يعود الفضل في تأسيس "المعهد الدولي للمسرح المتوسطي" سنة 1991، والذي لعب الدور الأهم في حضور العرض المسرحي العربي في اسبانيا. ومن نشاطات المعهد المذكور "مهرجان جنوب مدريد المسرحي"، والذي حرص باستمرار على وجود العرض المسرحي العربي، كجزء من حوار "ثقافة السلام" التي تبناه، فشارك الفنانين العرب، ممثلين ومخرحين، في نقل وإيصال التقنية المسرحية المفردة في الثقافة العربية إلى الفضاء الفني الإسباني من مثل الفرجة، ومسرح الحلقة، والبساط، والطقوس الصوفية شبه المسرحية، والحكواتي، وغيرها من الفنون الأدائية.. ولذلك حديث آخر.