يكتب الناقد السعودي أن الباحث العماني في هذا الكتاب أبان عن قدرة محمود درويش على الممازجة بين رؤاه النقدية بكل ما فيها من عقلنة، والإبقاء على جذوة خطابه الإبداعي، فقد حافظ على مضمون الرسالة والوظيفة الإخبارية، والاعتناء بجمالية لغته الشعرية ومفاعلة الممارستين الجمالية والإخبارية بوعي، بلغة سهلة وبدون الوقوع في فخ المباشرة والسطحية.

منزع درويش النقدي

قراءة في كتاب «المنزع النقدي في شعر محمود درويش»

محمد العباس

الناقد الأول لأي شاعر هو ذاته، ولذلك لا يخلو منتج شاعر من إطلالات ووساوس لذلك القرين الساطي. ومن ينادم في داخله ناقداً واعياً وأميناً يمكنه تحكيك نصوصه قبل نشرها على الملأ. إذ بقدر ما يكون صوت الناقد الجواني مؤانساً وغيوراً على هيبة الشاعر، يكون النص على درجة من النضج المعرفي والاستواء الفني، بحيث لا يُجهز على النص، أو يجعل من الشاعر ضحية وسواس قهري كتابي، ولذلك همس مارشال ج. كوك في أذن المبدع ليوصيه بإبعاد الناقد الجالس فوق كتفيه واستئناف الكتابة.

هذا ما فعله محمود درويش، الذي كان محل متابعة من النقاد المعجبين والمتربصين بشعره. وهو الأمر الذي جعل الناقد الداخلي عنده يتضخم ويكبر ويحضر بقوة وكثافة في شعره، بحيث صار يحاوره بشكل صريح أو ضمني في نصوصه، ويستدعيه متحدياً تارة ومستجيباً تارة أخرى. وهذا هو موضوع كتاب جاسم جميل الطارشي «المنزع النقدي في شعر محمود درويش» الصادر حديثاً عن بيت الغشام للنشر والترجمة، الذي يرصد الوعي النقدي عند درويش بشكل تحليلي، ليضعه قبالة هاجس الإبداع، سواء على مستوى اللغة أو الإيقاع أو الموضوع أو حتى التجريب.

في هذا الكتاب الذي هو في الأصل دراسة ماجستير، يميل الطارشي إلى أن المنزع النقدي عند درويش في شعره قديم قدم نصوصه الأولى، حيث حضرت مراوحاته النقدية بشكل مبعثر، إلا أنها بدت على درجة من الوضوح والتضخم في «ورد أقل»، وصولاً إلى «لماذا تركت الحصان وحيداً». كما خص الشاعر مجموعات شعرية بالحديث عن هذه الظاهرة مثل، «جدارية» و»سرير الغريبة» ولا تعتذر عما فعلت».

وظلت ملحة عليه حتى عمليه الأخيرين «أثر الفراشة» و«لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي». وقد اعتمد الباحث في دراسته على استنطاق نصوص درويش الشعرية من داخلها، واستقراء كل ما يحفّ بعالمه من حوارات وشهادات ونصوص نثرية.

البحث مكتوب بمنهجية مؤانسة، حتى لغته تنحى إلى الإبلاغ عن مراداته بأبسط المفردات والعبارات، الأمر الذي يجعل الكتاب في متناول القارئ العادي، ربما لحجم الاستشهادات بشعر محمود درويش المألوف في وجدان القراء. وربما لأن الطارشي صمم إستراتيجية دراسته على هذا الأساس، أي كمدخل لشعر درويش، حيث يتكون البحث من أربعة فصول تبدأ بأزمة الإبداع بشقيها: النفسي والنصي، ثم أزمة الماهية الشعرية كمفهوم وقضايا وتجديد. كما يجادل في الفصل الثالث أزمة التلقي من خلال وظيفة الشاعر ودور القارئ. ويناقش في الفصل الرابع المنزع النقدي بين الوظيفة النقدية والوظيفة الإبداعية، فاحصاً هيمنة الوظيفة الواحدة، وتفاعل الوظيفتين الإخبارية والجمالية.

من ذلك المنطلق التقعيدي يفكك الطارشي ما سماه بالمنزع النقدي عند درويش، فالشاعر، بتصويره بأزمتين دقيقتين تجسدان طبيعة العملية الإبداعية وتحددان مصير الكتابة الشعرية: أزمة نفسية تتعلق بالحالة الروحة وطبقاتها الشعورية، وأزمة نصية تتعلق بمدى قدرته على تطويع اللغة للتعبير عن إحساسه، حيث يستخلص أزمة درويش، ومن خلال نصوصه وحواراته في: الغموض الملتبس بالإيماءة والمحاولة في دائرة الحلم.. هذا أولاً. وثانياً في حالة القلق والانتظار والترقُّب التي تحيل إلى أزمة وجودية. أما الأزمة النصية فلا تتمثل في المعجم أو اللغة أو الإيقاع، بل في الفكرة التي تستولد الوحدات الكلامية، وهي عند درويش إيقاعية، حيث يستشهد الطارشي بقوله «يختارني الإيقاع». كما يُكثر من الطرق نصياً على هذا المفهوم كمعادل للكثافة الوجدانية. كذلك يعبر درويش عن أزمته النصية بضيق اللغة، ومحدودية الورقة البيضاء، وبمعنى أدق طبيعة اللغة الشعرية، المتمثلة في موسوعة التصويرات والمعجم والمجاز، وهي الأزمة التي تدخله متاهات ماهية الشعر، المتعالي عن الحد والتعريف، المطالب بأداء وظيفته الوجودية المستبطن لتجربة روحية متأرجحة بين الألم والأمل، وهو المحل الذي يشكل حالة من التحدي لدرويش، أي البحث في الشيفرات المعيارية، التي تجعل الشعر شعراً، فالشعرية، بملفوظها وبمعناها الاصطلاحي، سؤال منزرع بعمق في منجزه الشعري، تماماً كقضايا التجديد الشعري وافتكاك الشعري من النثري والعكس، أو الجمع بين تعاليات الكتابة وعادية الكلام، أو التفريق بين السمات الكتابية والسمات الشفاهية القائمة على الغنائية في الأداء الشعري، حيث يقدم في نصوصه مقترحات تطبيقية وأخرى تنظيرية خطابية حول هذه الإشكاليات وغيرها.

متوالية طويلة من القضايا المطروحة في الحقل النقدي يستجلبها درويش إلى داخل نصه كقصيدة النثر والتناص والتصوف وانخفاض منسوب الفلسطنة في شعره، ليرد بها على النقاد الذين طالما تأملوا شعره وجادلوه خلال مسيرته الشعرية. طارحاً مفهومه الخاص لكل قضية من تلك القضايا المختلف عليها، وهو لا يطارحهم الأفكار كخصوم برانيين، بل يجعل من تلك الإشكالات وقوداً حيوياً لنصه. وكأنه يمارس النقد الذاتي لمنجزه، بحيث يجعل من قضية التلقي، التي تعتبر مسألة نقدية أيضاً، منطلقاً أيضاً لمخاطبة ذاته والآخرين، حيث يعبر عن رفضه للوظيفة الأيديولوجية للشعر، التي تصهر صوت الفرد في ضجيج الجماعة. ويقاوم من منطلق فني إنساني تحجر الخطاب الشعري، ولذلك يؤكد على النضالية، في الوقت الذي يسعى فيه إلى تهشيم الصورة القديمة للشاعر.

هكذا أبان الطارشي عن قدرة درويش على الممازجة بين رؤاه النقدية بكل ما فيها من عقلنة وبرود ومساجلة، والإبقاء على جذوة خطابه الإبداعي، فقد حافظ على مضمون الرسالة والوظيفة الإخبارية، والاعتناء بجمالية لغته الشعرية ومفاعلة الممارستين الجمالية والإخبارية بوعي، بلغة سهلة وبدون الوقوع في فخ المباشرة والسطحية، حيث دلّل الطارشي على كل ما ذهب إليه بتنصيصات تحمل مضامين صريحة ملفوظة أو إشارات قابلة للتأويل، ليؤكد أصالة المنزع النقدي في شعرية درويش، وكأنه يقدم مقترحاً جديداً لمقاربة منجزه يعتمد على فحص الخطاب في حيز قراءة النص.