يعود الباحث المغربي إلى قصة مضى على نشرها نصف قرن، ليؤكد لنا أنها لاتزال برغم كر السنين ورحيل كاتبها علامة فارقة على التجريب القصصي تستحق التوقف حيالها من جديد. فيقدم لنا تحليلا جديدا للنص، وقراءة لعدد من تأويلاته المحتملة، مستفيدا مما تراكم منذ نشرها من أدوات التحليل النصي والقراءة الجديدة.

نزف صوت صمت نصف طائر

محمد أنقار

هذا عنوان قصة قصيرة محيّرة، شغلتنا كثيراً وعميقاً في منتصف القرن الماضي. أستحضر الآن تلك القصة بتأثير المناسبة الحزينة المتمثلة في وفاة صاحبها القاص والمترجم المصري محمد إبراهيم مبروك (1943- 2014). كانت القصة قد نشرت في عدد 118 بتاريخ أكتوبر 1966 في مجلة "المجلة" القاهرية التي كان يرأس تحريرها آنذاك المبدع الرقيق يحيى حقي، ويسهم في هيئة تحريرها الكاتبان المتألقان فؤاد دواره، وعبد الفتاح الديدي، في حين ضمت سكرتيرية التحرير اسماً لا يقل تألقاً: كمال ممدوح حمدي، إلى جانب محمد سامي فريد.

اشتمل ذلك العدد على قصص  شبان آخرين مثلوا بالنسبة إلى جيلنا نماذج رفيعة تحدتْنا بصنعاتها الفنية الجديدة، وعمق رؤاها. كانت مصر آنذاك مرتعاً خصباً للتجريب الأدبي والنقدي والفكري المجتهد والرائد بالنسبة إلى كل مثقفي العالم العربي. وكنا في المغرب نتوقف طويلاً إزاء تلك التجارب؛ نناقشها، ونعيد قراءتها، ثم لا بأس بعد ذلك أن نحاول تقليد بعض نماذجها. ولعل استحضار عنوان "نزف صوت صمت نصف طائر" بعد حوالي نصف قرن خير دليل على عمق ذلك التأثير.

لم يكن اسم محمد إبراهيم مبروك متداولاً بيننا قبل أن ينشر قصته المثيرة للجدل، عكس ما كان عليه الحال مع أبو المعاطي أبو النجا، وعز الدين نجيب، وبهاء طاهر، وجمال الغيطاني، وإبراهيم أصلان، ويوسف القعيد، ومحفوظ عبد الرحمن، وسليمان فياض، ومجيد طوبيا، ومحمد روميش وغيرهم. غير أن اسم مبروك اختفى بعد ذلك أو كاد من حقل الإبداع القصصي مكتفياً بمجموعة قصصية يتيمة. ثم توارى "دهراً" طويلاً في شعاب الترجمة. وعلى الرغم من أن مبروك نقل إلى العربية روائع عالمية من أدب أمريكا اللاتينية خاصة، إلا أن صورة تحفته القصيرة هي التي ظلت عالقة بالفكر والوجدان.

*  *  *

"نزف صوت صمت نصف طائر" رمز قوي للتجريب القصصي ما بعد الحداثي السابق لعصره. كان محمد إبراهيم مبروك ومحمد حافظ رجب من الرواد المتميزين في هذا النمط السردي الطلائعي، حيث إن رجب كان قد شغلنا هو الآخر بقصتيه الطريفتين: "مخلوقات براد الشاي المغلى" و"الكرة ورأس الرجل". وعلى الرغم من أن النشاط الطلائعي لمحمد حافظ رجب مضى أبعد من محمد إبراهيم مبروك؛ فإن الزمن لم يستطع أن يمحو البصمة القوية لصاحب "نزف صوت" من سجل السرد العربي المعاصر.

*  *  *

من الصعب جدا تلخيص قصة "نزف صوت صمت نصف طائر" أو تأويلها. بل إن تلخيصها الدقيق شبه مستحيل مادام الأمر يتعلق بنص يطارد الأحاسيس والنبضات، أو على الأصح، يطارد "ذرات" "صوت صمت". وإزاء هذه الصعوبة يَفضُل لنا إمكان الوصف الفضفاض لبعض عناصر النص وجزيئاته المصوَّرة في معظم الأحيان بصيغ رمزية مجردة، وفي أحايين قليلة جداً بصيغ مباشرة صريحة. ولعل القصد من وراء هذه الخطوة النقدية تفادي الوقوع في أخطاء التأويل، أو تقويل سارد النص وكاتبه ما لم يقلاه.

يبدأ النص والسارد في جماعة يشربون بقريته المصرية. طلبوا إليه أن يحكي «بصوت مسموع [..] أرهفوا الآذان علهم يتلقون الكلمات وهي ترفرف ساقطة ولم تزل ساخنة قبل أن تموت». ثم راح يحكي تجربته المرّة بكلمات الصمت، والجرح، والنـزيف. لذا جاءت كلمات شبهَ ميتة يصعب أن تسعف على تحديد تفاصيل التجربة بدقة. ومع ذلك يمكن القول إن التجربة المحكية دارت حول ثلاث شخصيات رئيسة؛ السارد، وزوجته، وابنهما أمل. السّارد شاعر من مصر، ابن قرية. أما هي فامرأة إنكليزية بدليل مجموعة من القرائن النصية. ويبدو أن الثلاثة كانوا يعيشون في لندن، إلا أن ظروفا غير صريحة اضطرت السارد إلى العودة إلى بلده مصر، تاركاً في عاصمة الإمبراطورية الإنكليزية الزوجة والطفل. وفي أثناء ابتعاده عنهما مدة عامين ظل يناجيها ويسترجع ذكرياتهم وهم أسرة. إلا أن عائقاً منع استمرار سعادة الثلاثة، ربما تعلق الأمر بكذبة، أو خيانة غامضة.

غير أن الحكي الاسترجاعي لم يكن سهلاً حيث صاحبته معاناة أليمة مزقت السارد وجعلته كالطائر المنشطر إلى شقين، يعيش بجناح واحد، ويقتات بأصداء الصمت الذي يفصله عن حبيبيه. هو إذن "نصف طائر ينـزف"؛ ومن هنا تركيبة عنوان النص الثلاثية:

j – "نَزْفُ"       +       k – "صوتِ صمْتِ"      +      k – "نصفِ طائرٍ"

*  *  *

إذا كان من الصعب التلخيص الدقيق لهذه القصة كما قد سلف؛ فمن الصعب كذلك معالجة صورها، منذ البداية، معالجة كليةً ومقْنعة ما لم يتمكن القارئ الناقد، قبلياً، من تفكيك عناصرها طلباً للتبسيط.

إن صور السرد، سواء أكان رواية أم قصة قصيرة، هي موسومة في جوهرها بطوابع كلية. هي تكوين في كون شامل. والتكوين غير قابل للتبعيض والتجزئة إلا على سبيل التبسيط. وفي هذه الحالة الاضطرارية يمكن أن نقول إن بإمكان القارئ الناقد أن يفكك، مبدئياً، تمهيداً للنقد الشامل. والحق أن مثل هذه الخطة التبسيطية قد تقتضيها بعض الأعمال الإبداعية القائمة في أصلها على التركيب العميق؛ من قبيل "في البحث عن الزمن الضائع"، و"الصخب والعنف"، وعموم الروايات التشييئية، وسرد ما بعد الحداثة.

في سياق هذه الخطة أقترح "الفضاء" مدخلاً أولياً لمقاربة بعض صور القصة على الرغم من اعترافي المسبق بطابعه التجزيئي. ذلك أن "الهجوم المباشر" على صور هذا النمط من السرد يمثل في الغالب مغامرة نقدية محفوفة بالمخاطر. هي خطوة مبدئية إذن من أجل الاستيناس فحسب، يشكل فيها الفضاء تداخلاً للأزمنة والأمكنة والأفكار، حسبما يسميه باختين بـ"الكرونوتوب".

*  *  *

1 – الفضاء الأول: في القرية المصرية حيث السارد يوجد في جماعة. قالوا له احك بصوت مسموع، فكان أن جعله طلبهم ينكفئ على ذاته، ويشرد في متاهات أعماقه، مسترجعاً ذكرياته أيام أن كان يجمعهم عش دافئ هو وزوجته وابنهما أمل في لندن. ثم جاء الحكي بصوت شبه ميت، أو على الأصح إن الذي حكى هو "نصف طائر":

«ألم أقل إن طيوري لم تعد تملك إلا جناحاً واحداً؟» (ص 95).

لكن يبدو أن السارد خيّب بحكيه الغريب أفق انتظار الجماعة:

«ظللت أراهم وهم يعبرون متطلعين إلى عيني وما زالوا يرون ملامحي القديمة.. ولما لم يروا داخل حاجزي الزجاجي شيئاً أداروا وجوههم ناحية الطريق وواصلوا الخوض فيه» (ص 95).

في هذا الفضاء الأول استرجع السارد "ليلة الخميس" التي عاشوا خلالها ذكرى مبهمة في ظلام القرية. وفيه استحضر كذلك "الصوتَ الساقط" و"الطائر ذا الجناح الواحد" بوصفهما من أبرز السمات التكوينية المهيمنة على وظيفة السرد في النص برمته.

2 – الفضاء الثاني: على خلفية نهر التيمز. خلاله عاد السارد إلى حيث كان دفء الحب. عاد إلى يوم ذكرى زواجهما والهدية التي أحضرها لابنهما أمل بالمناسبة. في هذا الفضاء استمرت العناية بالصوت المتصاعد، وازداد التركيز على مكون الطائر، مع إضافة سمات تشخيصية ملموسة، من قبيل التسمية (ابنهما أمل)، ووصف الزوجة بـ"حبيبتي"، وربما هي المقصودة بـ"المغنية الأولى"، بدليل قوله:

«قلت للمغنيـة الأولى اسكتـي يا امـرأة، لكنها لم تسكت لأن يـدي لم تمتد لتوقف الصوت» (ص 96).

صوت تلك المغنية سيحضر من جديد، وللمرة الأخيرة، في الأسطر النهائية من القصة حينما تصل ذكرى الوقائع السديمية إلى ذروة الانهيار الدموي.. إلى النـزيف.

ولا يمكن أن ننسى، إضافة إلى كل السمات السالفة، تبرعم أسلوب الحكمة في هذا الفضاء الثاني. من ذلك قول السارد:

«الطيور لا تحيا للأبد، ربما لأنها لم تعرفه أبداً، لكنها تظل على أية حال تغني طوال أبدها حتى ينتهي فتكف عن الغناء» (ص 96).

وقوله:

«مواجهة موتانا أرحم بكثير من التحديق في الآخر الذي يموت منّا أمامنا» (ص 96).

إن صوت السارد لا ينحدر نحو السقوط فحسب ولا هو ينـزف فحسب، بل هو، إضافة إلى رمزيته التجريدية الساقطة، مضمخ بالحكمة. ولنا أن نتوقف في هذا السياق لنتساءل عن المفارقة  الحاصلة بين أسلوب الشرود المهيمن على السرد، وأسلوب العقلنة الذي يتجلى بين الحين والحين في صيغة حكمة.

3 – الفضاء الثالث: الليـل البعيد حيث كان السارد ينـام نومـاً كاملاً، وكـان له لسان كامل.

إن الليل زمن، لكنه في الوقت ذاته سبيل عبره صوت السارد من القرية المصرية إلى لندن، واسترجع خلاله ذكرى أخرى كانت له مع زوجته وابنهما أمل. تحقق ذلك بلغة حلمية يصعب تلخيص تفاصيلها. لكن على الرغم من الصعوبة يمكن أن نثير الانتباه إلى مجموعة من السمات التكوينية التي هيمن عليها معجم الأصوات ونقيضها:

(النداء – الكلام – الصمت – التكتم – العواء – الصوت – الصرخة –  الرنين - الدوي...).

ومنها أيضاً الصورة التي تجسد صعوبة التحديق في الشمس. بيد أن أبرز تلك السمات تجتمع في الصورة التي تلقي ضوءاً ساطعاً على كلمات مفاتيح العنوان؛ أقصد كلمات: النـزيف – صوت صمت – نصف طائر. وفيما يأتي نص الصورة المعنية:

«الصوت ثقب ضيق حافته المستديرة في حدةِ حواف الشفرات، والكلمات قبل أن تخرج خارجي تواجَه بشفرة الدائرة الضيقة وهي متّقدة بوهج الشمس. ويتعالى الصراخ من الطائر قبل أن يدفع برأسه في الثقب ليكتشف بعد الضربة أنه فقد رأسه. وما يسمعونه في الخارج ليس سوى دوي الصرخة المكتوم في داخلي يرن في جِلدي قبل المرور. وما يحملقون فيه لا يُعد المحاولة اليائسة للجناح الواحد. وما يشاهدونه بوضوح هو طيوري بعد أن مرت بعنقها خلال دائرة المقصلة. وكل بقعة دم نُقَط عديدة متباعدة تنـزّ وتلمع وتنمو وتتصل مكونة نصف طائر دموي يحملق دون أن تطرف عينه» (ص 98).

4 – الفضاء الرابع: حيث السارد ممدّد في الفراش بموضعه المصري. خلاله طارد رغبة مفقودة واسترجع بعض تفاصيلها. وحقيقة أمر هذا الفضاء أنه تناسل عن الفضاء الثالث.

في الفضاء الرابع "دومت" الرغبة بالسارد ورمت به في تيه واقعي لكنه مفعم بالتجريد الذي عادة ما يَسِمُ الأحلام:

«وصلتُ حيث كففت عن الصعود، محنياً رأسي بالرغبة، ويداي تقبضان على حافة السور القصير المحيط بالسطح، والأرض شريط عميق أضيق من جسدي فحدقت فيها بأسف» (ص 98).

التفاصيل الصغيرة التي استرجعها السارد وهو ممدد في فراشه عديدة، يمكن أن نستخلص منها تلك التي حظيت بعناية تصويرية زائدة، ونقصد بها:

- قدما الطفل أمل.

- الصفعة والعري.

- ما أثارته في أعماقه نغمات المغنية الأولى [زوجته؟].

- حلم قديم ذو صلة بالشمس والاستعمار الإنكليزي لمصر.

- مقابلات: (التيمز # النيل). (شوارع لندن # الشرق). (عاصمة الإمبراطورية # مصر). (خوذات جنود الإنكليز # شمسنا).

- كانت صاحبته قد قدمته إلى أصدقائها بوصفه شاعراً من مصر.

- سنتان فصلتاه عنها وعن ابنهما.

- انتهى الصوت والصراخ إلى ظلام ودم.

*  *  *

تلك جملة من المراوغات التي قمنا بها من أجل مقاربة سمات تكوينية مهيمنة في هذه القصة العسيرة وفضاءاتها المحتملة. أما وقد تجاوزنا الخطة التجزيئية التي اعتمدناها مضطرين؛ فقد آن الأوان للوقوف وقفة كلية متأملة إزاء الصورة الأخيرة في القصة حيث كثّف السارد خلاصة السفر الطويل لصوت صمت نصف طائر وهو ينـزف:

«حاولت أن أعود بجسدي لأن أمل صرخ فلم يطاوعني فصرخت ليسمعني، والأرض تصعد متسلقة الحائط بشراهةِ قِطٍ حتى انقطعت الصرخة وانطفأت الأضواء كلها واشتعل جسدي وأنا أحاول أن أحتضنك فلم أجدك في الفراش ولم أجدني. وأخذت أغمغم وأنا أشرق بالدم والخادم يصرخ: سيدي: والمغنية الأولى تكذب باسمي يا.. أ.. م.. ل..

صعق الخادم لما رآه يتحول إلى بقعة دم بجوار الحائط تحتضن الأرضَ والعشبَ باختلاجة قاسية تشدها كلها ثم رأى فمه يبتسم وعيونه مغلقة، ويموت، ومازالت المغنية الأولى تخلص للغناء وتكذب!» (ص 102).   

هي اللحظات الأخيرة إذن لنـزيف صوت الصمت واحتضاره، وحتى موت صاحبه. لكن كيف يمكن لميّت أن يصف موته؟ ذاك سؤال توحي به الصورة إيحاءاً محيّراً. أما الجواب المحتمل فيمكن الاهتداء إليه بالانتباه إلى أسلوب الالتفات حيث انتقل السارد من ضمير المتكلم إلى الخادم باعتباره واصفاً خارجياً لحالتي النـزيف ثم الموت.

لا تسأل عن سمات هذه الشخصية الجديدة (= الخادم) ما دام هذا النمط من السرد لا يشفي الغليل في مثل هذه الأمور التشخيصية. هو إذن شخصية أنيطت بها مهمة وصف اللحظات الأخيرة لحالة الموت هذه. ومع ذلك لم يمت السارد إلا مجازاً بدليل أنه ظل حياً ليصف ما عاينه الخادم. أما الزوجة، المغنية الأولى، فلن تنقطع، فيما يبدو، أنغامها القادرة على استثارة إيحاءات جديدة مستقبلاً لدى السارد. إيحاءات لن يبارحها قط منغص الكذب الذي ربما كان سبب هذه المعاناة كلها. أما السمات الإضافية لذلك الكذب فلا تسأل عنها هي الأخرى. مادام التجريد هو الاختيار التصويري المعتمد في مثل هذه الكتابات المجنحة.

*  *  *

بعد أن قاربنا جملة من السمات التكوينية لقصة "نزف صوت صمت نصف طائر" وفضاءاتها المحتملة، وانقضاضنا على صورتها الأخيرة المفعمة تجريداً وتوتراً؛ نخلص إلى هذه النتيجة النقدية المفارقة:

يصعب جداً تلخيص نص محمد إبراهيم مبروك مثلما يصعب نقده نقداً مباشراً وشاملاً منذ الوهلة الأولى.

هو نص كُتب لكي يُقرأ مرات ومرات، ويُستشرف إحساساً. لكن ألا يمكن أن تكون هذه الخلاصة الغريبة هي عين ما قصده الكاتب؟

إن هاوي السماع السينفوني قد ينسى تفاصيل سينفونية ما ودقائق حركاتها، ومع ذلك يظل خلود رحيقها يلازمه مهما يحيا.

كذلك شأني مع "نزف صوت صمت نصف طائر"

*  *  *

• تعقيب.

نُشرت قصة "نزف صوت صمت نصف طائر" مصحوبة بتعقيب مركز كتبه صبري حافظ. ولقد تعمدتُ، منذ البداية، ألا أقرأ ذلك التعقيب حينما كنت بصدد معالجة قصة محمد إبراهيم مبروك. وأعترف بأني عندما كانت تستـعصي عليّ بعض صورة القصة، كان التعقيب يغويني ويغريني بأن أعود إليه لمعرفة موقف صاحبه من هذا الموقف أو ذلك التأويل المحتمل. إلا أني قاومت الإغواء وامتنعت عن الاستسلام لإغرائه، ثم استنجدت بتكرارَ القراءة بوصفها السبيل المناسب لمقاربة هذا النمط من الكتابة السردية. أضف إلى ذلك أن صاحب التعقيب الناقد صبري حافظ كان قد مارس علينا في ستينات القرن الماضي تأثيراً قوياً بمقالاته النقدية الطويلة التي كان ينشرها في المجلات والملاحق الأدبية في القاهرة وبيروت. لكل ذلك كانت المقاومة صعبة جداً.

لكن بعد أن أنهيت المعالجة واطمأننت إلى أني سجلت بقدر من الأمانة تفاصيل تجربتي في قراءة قصة مبروك أقبلت بنهم شديد على تعقيب صبري حافظ وأتيت عليه بنفس واحد. فما الذي اكتشفت فيه؟:

- استخلصت أن قراءة كل منا لم تختلف في العمق عن قراءة الآخر من حيث إننا حكمنا معاً على نص محمد إبراهيم مبروك بكونه فريداً في بابه، متميزاً في طريقة سرده التي توخت الشفافية والرقة عوضاً عن المباشرة والتقريرية.

- ثم إن كلا القراءتين ركزت على الصورة، وإن كان صبري حافظ قد رجحت لديه فكرة اقتران صور الكاتب بالشعر. في حين يحلو لي أن أستشرف مثل هذه الصور وهي في سياقها النثري حتى وإن كانت مفعمة بشاعرية فائضة.

- غير أني لاحظت أن صبري حافظ قد ساير خطة السارد في الكتابة فاعتمد هو الآخر أسلوباً نقدياً مضمخاً بالشفافية والشعرية. في هذا السياق خلص إلى أن هذه القصة تقدم أسلوباً فريداً في البناء الفني، حيث يصبح الشكل واحداً من وجوه المضمون الذي تقدمه. وبناءاً على ذلك لم يحفل الناقد كثيراً باستنطاق دلالات بعض التفاصيل الواقعية في القصة، ولا هو انساق طويلاً مع تأويلاتها المحتملة.

- آخذ صبري حافظ الكاتب على عدم قدرة قصته «على الكف عن الاسترسال في اللحظة المناسبة والمضي فيه مع الجزئية المواتية». ربما يُفهم من ذلك عدم تحكم السارد في مدى الاسترسال المونولوجي مع تفصيل من التفاصيل أو التحكم في ضبط إيقاعه من حيث الطول أو القصر. أما أنا فقد تحفظتُ في هذا النص من المفارقة القائمة بين شرود السارد وتيهه الداخلي وبين الأسلوب الحكيم الذي كان يميّز بعض صوره الصغيرة ويطبعها بطابع الحكمة والوقار. إذ كيف يمكن للموقف المرتبك النازف أن يسعف على صياغة جمل أو صور رصينة؟

 - ثم أنهى صبري حافظ تعقيبه قائلاً:

«أخيراً فإنني أستطيع القول بأن هذا الفنان سيكون واحداً من أفضل كتاب الأقصوصة المصرية في المستقبل، لو لم يتقاعس في منتصف الطريق أو يدركه الغرور في بدايته»(ص 103).

ويظهر أن محمد إبراهيم مبروك قد تقاعس في منتصف طريق هذا الفن وانصرف إلى حقول أخرى بتأثير تجربة الاعتقال القاسية. لكن على الرغم من ذلك ألا يمكن، أحياناً، أن «تكفي واحدة؟».