يرى الناقد المصري أن القصة القصيرة عند الكاتبة، أقرب إلي اللوحة التشكيلية، ترسم فيها معالم الأشخاص والمكان، ومن خلال كثافة اللون نتبين الحركة الداخلية التي تُنشِئ ديناميكية القصة. وتخلق رؤيتها الكلية. والساردة يغلب عليها المعاناة من الإحباط واليأس في العالم المعيش، فتلجأ إلي القناع، ربما لتستطيع أن تتعايش.

زينب عفيفي تكتب القصة في «خمس دقائق»

شوقي عبدالحميد يحيى

لم يكن عبثا أو مجانيا أن تعنون "زينب عفيفي" مجموعتها "خمس دقائق"[i]. ولم يكن ذلك لأنه عنوان إحدى قصص المجموعة فقط، وإنما لأنها الترجمة والتجسيد الحي للمجموعة المتجانسة، روحا وشكلا. حيث تحمل القصة سمات المجموعة، والتي تعني وعيا حقيقيا بكتابة القصة القصيرة، التي بها تستطيع الوقوف في وجه الهجمة التي تسعي لهدم أركان القصة القصيرة، بكتابة القصة بدون قصة، تحت مسمي ال(ق.ق.ج.). حيث يتوافر في القصة/المجموعة، متعة القراءة التي أراها عنصرا رئيسا في الإبداع عامة، وفي القصة القصيرة خاصة. وفرتها الكاتبة بالحكي، وإن لم توجد حكاية، وبالحركة وإن كانت ساكنة. وبالشخصية، وإن كانت صامتة. وبالرؤيا، وإن كانت عادية. إلا أنها تخلق من كل ذلك قصة قصيرة تعود بها إلي زمنها الذهبي الذي ازدهرت فيه –مصريا – علي يد يحيي حقي ويوسف إدريس وبهاء طاهر، ويحيي الطاهر عبد الله.. وغيرهم من سلسال كتاب القصة المتدفق عبر الأجيال.

فإذا ما بدأنا بالقصة التي منحت المجموعة اسمها "خمس دقائق" فسنتعرف علي جدة في انتظار حفيدها، وتصل لحظات انتظارها لخمس دقائق. تتوحد فيها الجِدة، في عمرها الحالي، مع سني عمرها الأولي، عندما كانت الطفلة قد بلغت من العمر عشر سنوات – ومعظم القصص نجد تلك الطفلة ذات العشر سنوات -. وهي الخاصية الأولي التي نبدأ في التعرف عليها من قصص المجموعة، الاختباء في الماضي، أو الهروب إلي الماضي. وهو ما يعني رفض الواقع. فعندما يعجز الإنسان عن معايشة المعيش، فهو يلجأ إلي مخبأ آمن، يشعر فيه بالأمان والراحة، وقد وجدته الكاتبة في تلك السن الباكرة. خاصة إذا ما تأملنا عناوين القصص التالية، حيث نجد "اختناق" حيث ازدحام الطريق الخانق، وصعوبة السير. ثم "القناع" والذي فيه يختفي الأطفال عن ذويهم، وكأنهم يهربون من مستقبلهم. ثم "عالم لا يفهمه أحد سواها" وكأن مجرد تسلسل العناوين، يحمل التطور الداخلي لحركة الإنسان في المجموعة، وخاصة أننا نجد السارد فيها جميعا، هو الأنثي، التي قد تعاني من الإحباط واليأس في العالم المعيش، أكثر مما يعاني الرجل. فهي تشعر بالاختناق، فتلجأ إلي القناع، ربما لتستطيع أن تتعايش، بينما هي في داخلها تهرب إلي عالم لايستطيع أن يقدره ويفهمه .. سواها.

فإذا ما بحثنا عن ذلك في قصة "خمس دقائق" فسنجد الساردة، الجدة، وقد وجدت نفسها صدفة في مدينة الأطفال، ورأت عالمهم السحري الخيالي الذي به {يصنعون عالما موازيا لعالمنا الواقعي المهموم بالحروب والكوارث}ص31. فالعالم المعيش هنا عالم خانق، عالم مرفوض. فتحاول أن تلبس القناع، أن تتناسي الزمن { ليتني طفلة لا تكبر أبدا..} بل وتخرج الأمنية المضمرة في الأعماق إلي حيز الوجود {أخبرته يوما حين رفض الذهاب إلي مدينته الخيالية أنني أحلم أن أعود طفلة مثله في هذه المدينة بقية عمري.

رد في تعجب: كيف وأنت كبيرة هكذا؟}.

 ولا نستطيع إغفال اسم الحفيد الذي تبحث عنه في مدينة الأطفال التي تتمني أن تعيش فيها "يحيي" والتي تنطق صحيحة حين يتم فتح جميع حروفها. بما يعني الحياة والبقاء، وكأنها تعني أن من يعيش في هذه المدينة، هو من يحيا. وغيره لا يحيا، ومخنوق. وتغوص الجِدة في داخلها، وتختفي عن الواقع المعاش، عن الحاضر، وذهبت إلي عالم لا يعرفه سواها{ اختفت الفتاة في زحام سكان المدينة المكتظة بالأطفال، تركتني وحدي أغوص في عالم يشبه عالمنا ولكنه ليس هو....}ص32.  وتتركز حياة الجدة بطولها في "خمس دقائق"{ دارت بي الدنيا. أرقص وأرقص، سافرت بلادا بعيدة وأنا أدور في دنيا الخيال، هذا أحببته وذاك تزوجته، وهذا العالم البعيد الذي جئت منه توا إلي مدينة الأطفال الخيالية التي تشبه مدينتنا}.ص35. وتنفصل الجدة عن نفسها، عن عمرها، لتعيش ابنة العاشرة{ البنات الصغيرات يرقصن كفراشات ملونة، طفلة العاشرة مازالت ترقص وتتسع حلقة الرقص بمجموعة أكبر من الأطفال المتشابكي الأيدي، وأنا في انتظار الحفيد الذي تأخر عن موعده خمس دقائق فقط}.

ونفس تركيز الزمن، وضيق مساحته، بينما فضاء القصة يمتد لسنوات وسنوات، تبدأ من العاشرة، نجده أيضا في قصة "السلالم الصغيرة تصعد لأعلي أيضا" والتي أري أن عنوانها لم يكن بالتوفيق الكافي، حيث السلالم وسيلة الصعود وليست هي التي تصعد، وحتي لو شكلنا (تُصَعِد) لنجل التاء بالضم وفتح الصاد وكسر العين وتسكين الدال، فإننا لا نجد أساسا دور للسلم هنا، حتي وإن كانت البنت الصغيرة "عفاف" قد صعدت السلالم من عشتها - وأمها - السلالم لتصل إلي السيدة العجوز التي أحبطتها، ورأت أن مصيرها أن تخدم في البيوت مثل أمها. ولذا كرهتها "عفاف" التي أصبحت دكتورة. وجلست تتأمل ذلك الماضي الذي كان بينما تنبهها – الخادمة – وتسألها: هل أعد كوب شاي ساخن لحضرتك يا دكتورة "عفاف"؟ .  حيث نجد زمن القصة هنا لم يتجاوز مقدار برودة كوب الشاي. ولتثبت زينب عفيفي، أنها علي درب يوسف إدريس تسير، في تفجير الأبعاد الكثيرة، في اللحظة الواحدة، والمتنوعة، المتجددة. فإن كان الماضي، أو الطفولة في قصة "خمس دقائق" ماض محبب، تسعي الساردة أن تعيش فيه أبدا، فلم يكن كذلك في قصة السلالم، والتي لم تكن الطفولة فيه محببة، وقد لاتتمني العودة إليه.     

وبهذه الكيفية، نستطيع القول بأن القصة القصيرة عند زينب عفيفي، أقرب إلي اللوحة التشكيلية، ترسم فيها معالم الأشخاص، والمكان، ومن خلال كثافة اللون نتبين ونلمس الحركة الداخلية التي تُنشِئ ديناميكية القصة. وتخلق رؤيتها الكلية.

ونستطيع أن نتبين رسم الأشخاص في كل من قصة " الإرث" وقصة "عالم لا يفهمه أحد سواها".

 ففي قصة "الإرث" حيث نشم رائحة الطفولة أيضا، إلا أنها هنا ليست حنينا له، ولا كرها فيه، وإنما للتعبير فقط عن تتابع الإجيال التي توارثت، ظاهريا، العمي، أو كف البصر، وباطنيا تنوير البصيرة.

فعندما يغمض الإنسان عينيه، فإنه يرتد إلي داخله، يتأمل داخله، ينفصل عن العالم. فإذا ما شعر بالتوافق الداخلي بعد التأمل، فإن ذلك يعكس تلك الأشياء المرفوضة في الخارج، فالعمي هنا أيضا نوع مما أسميته من قبل بالهروب الاحتجاجي، الهروب الرافض للواقع المعاش. حيث نجد إشارات، قد تبدو عابرة، إلا أنها في القصة لابد أن تكون لها دلالة، وموحية للوصول إلي المعني الكلي. فتبدأ القصة هكذا:

{عندما انقطع التيار الكهربائي كنا ثلاثة نحتسي الشاي بالحليب كما يفضله جدي}  والإشارة هنا { الشاي بالحليب كما يفضله جدي} حيث الحليب يعني الفطرة. في إشارة إلي ماقدمه جبريل للرسول (ص) بعد رحلة الإسراء و قبيل رحلة المعراج، اللبن والخمر، فاختار الرسول اللبن، فقال له جبريل، لقد اخترت الفطرة.

وفي قصة "عالم لا يفهمه أحد سواها" حيث تكشف امرأة الخمسين عن بؤرة الخوف الساكنة جواها، والتي ترجع للطفلة التي كانتها. عندما كانت "نجيبة" تسكن حجرتها وحيدة متوحدة في عالم لا يراه، ولا يفهمه أحد سواها، فتأتي بأفعال مفقودي العقل، فتثير مخاوف طفلة العاشرة.وعلي الرغم من خلو القصة من الحدث المركزي الذي تتحلق حوله خيوط الحكاية، إلا أن الحركة الداخلية، والمجسدة ل"نجيبة"، تجعل الشخصية واضحة المعالم، قوية التأثير علي الساردة، حيث استطاعت الكاتبة تصوير الحالة، بصورة مجسدة:

{ما زالت الطفلة تراقب "نجيبة" من بعيد في أحلامها ويقظتها، تتخيلها تقفز من شرفتها وتنقض عليها، تغرس أظافرها في جسدها النحيل، تقص شعرها الطويل لتصبح مثلها محلوقة الرأس ضئيلة الحجم، ضعيفة العقل، ومقيدة الروح في جسد هزيل}. إذ للقارئ أن يتصور تلك الصورة التي انزرعت في أعماق طفلة العاشرة، ومدي الرعب الذي انحفر وظل محفورا، رغم مرور السنين، ليسير القارئ به عبر تلك السنين، بتعرجاتها، ونتوءاتها، فلا يشعر بأن راوية تروي عن حدث كان، وإنما برحلة ممتدة. فعلي الرغم من أن قطار القارئ لا يسير، إلا أن حركة قطار آخر يسير في الاتجاه المعاكس ، تُشعر الراكب كما لو كان قطاره هو الذي يسير.

غير أن "زينب عفيفي" التي تخاف علي قارئها، وتصر في بعض الحالات أن تأخذ بيده، تختم القصة بجملة، تقريرية، تحاول بها أن تهدئ من قلق القارئ، وربما لتنهي به خوف امرأة الخمسين، فتخبرها، وتخبرنا بالوصول للمحطة الأخيرة فنقرأ:

{كبرت الطفلة وعرفت أن "نجيبة" ماتت منذ زمن بعيد}. وكأنها تقول أن ها هنا.. عليكم بالنزول.

أما الإشارة الثانية فتأتي في {بينما كنت أنا أؤدي واجبي المدرسي في مادة الحساب الذي تشقيني أرقامه، وتعذبني حالات الجمع والطرح والضرب، والقسمة علي اثنين} حيث نلمح علي الفور بما عليه شخصية الساردة، الكارهة للعمليات الحسابية، العمليات المادية أو التجارية. وهي العمليات الحياتية والمعاشة، وهو الإرث الحقيقي الذي ورثته عن جدها... الفطرة، أو الطبيعة البكر، الخالية من التعقيد والتجارة، بما تعنيه من ألاعيب لا تخلو من الغش والتلاعب. وهو ما يؤيده ما ورد في قصة "واحد + واحد= واحد" حين تتحدث الساردة أيضا عن الطفلة التي كانتها فنقرأ {فالحسابات المالية لم تكن قد وصلت إليها بعد}.

وتحرص الكاتبة كذلك علي ألا ينفرط منها عقد الزمن، وتتوه معالم القصة القصيرة، لنكتشف أنها وهي تحدثنا عن جدها، فهي أيضا في لحظة السرد، جدة أيضا ليتوالي الإرث جيلا بعد جيل.

وإذا ما عدنا إلي أولي قصص المجموعة "رائحة الطعمية" لنتبين كيفية تصوير الشخوص و الأماكن، وكأن السرد تحول إلي كاميرا، ترصد المشهد، لتحمل القارئ إلي رائحة وعبق المكان، والساردة تراه بعين الطفلة التي كانتها، والتي تثير شهية القارئ لذلك الطقس الشعبي:

{يبدو في الصورة أنه دكان صغير أمام مدخل البيت القديم المختبئ بين أشجار (( البوانسيانا)) المزهرة بالورد الأحمر، لون فستان العيد، "ظريفة" ترتدي ثوبها الفضفاض الملون بالوردات التركوازية الباهتة اللون، تتمايل في ذاكرة الطفلة بجسدها النحيف، ووجهها الأسمر النحيل، قابضة علي يد "الطاسة" الواسعة الممتلئة بأقراص الطعمية الصغيرة، وهي تنتفض وسط غليان الزيت، وتقبض باليد الأخري علي المقصوصة المتهالكة كمرآة لحالها، مخنوقة بصهد النار، ورطوبة الطقس الحار في ذاك الحيز الذي لا يتسع لأكثر من شخصين} ويواصل السرد رسم الصورة المتحركة الراسمة للمكان وشاغليه.

كما تجسد الجملة الأولي في الفقرة السابقة، تلك الصورة التي تراها الساردة بعين الآن، حيث تذكر{يبدو في الصورة}. -الأمر الذي يضعنا في الآن - والتي تمثل الفرحة والبهجة عند الصغيرة، حيث تحول لون فستان "ظريفة"الملون بالوردات، ورغم أنه (باهت) إلا أنه في عين الساردة الآن، كشجرة البوانسيانا، بأوراقها الخضراء الكثيفة، وورودها الحمراء، والمشهورة بقدرتها علي بعث البهجة في نفس الرائي. لتكشف لنا عن رؤية الساردة لتلك الفترة البعيدة.

ولا تزال الكاتبة تبحث في الطفولة وأثرها في الكبر، في قصة "نصفي الآخر" ولكن بشكل مختلف، ولتتعدد تجارب المجموعة، رغم توحد المرجعية. إلا أنها هنا تغوص إلي الأعماق. 

ففي هذه القصة، نتعرف علي الطفلة بعد أن كبرت، لكن نقطة البداية تظل تسيطر عليها، بل وتلازمها. فقد ولدت "زينة" إحدي توأمتين جئن معا. غير أن توأمتها "ناديا" ماتت فور ولادتها، وربما بعد ولاتها. حيث تدخلنا الكاتبة في دوامة اللايقين منذ البداية. فنحن، ولا الساردة، نعرف من منهن التي ماتت، ومن التي تروي:{كنت أنا وماتت هي، ربما كانت هي ومت أنا}. المهم أن بويضة انقسمت إثنتين، وليظل النصف يبحث عن نصفه. فتكبر التي عاشت "زينة" ومن فرط شعورها بالفقد، يخيل إليها أنها قد رأت نصفها الآخر، وبصورة توهمية، وكأن زينب عفيفي تُخرِج جوانية النصف الباحث، تخرجه إلي الضوء. تتعرف زينة علي زميلة في الكلية، تراها تشبهها في كل شئ، رغم الحقيقة التي تؤكد اختلافهما، في الملبس وفي الطباع. فتثور جوانيتها، أسُِرِقت أختها التوأم عند الولادة، أم أنه تم بيعها. وتختفي الزميلة التي توهمتها. تذهب لتتأكد من وجودها، فتصتضم بأخري، أيضا تشبهها، لكنها أيضا مختلفة، وبالطبع ليست أختها. لتؤكد لنا الكاتبة، أنها إنما تبحث في أعماق الساردة، الوحيدة لأبويها، الباحثة عمن يكمل بويضتها، أو يكمل نصفها الآخر.

عتبات النص

من الأعمال القليلة التي يستطيع المرء الحكم بتجانسها كلية، مجموعة "خمس دقائق". حيث يبدأ التجانس من عتبات النص التي تبدأ بالغلاف، الذي جاء معبرا لحد بعيد عن رؤية المجموعة. حيث نري صورة غير واضحة المعالم لأنثي. وكما أشرنا من قبل فإن السارد في قصص المجموعة أنثي. ثم جاءت الصورة بشكل معدول ومقلوب، أي انها الأصل والظل. وبينما غمر الضوء الصورة المقلوبة، أو الظل، فقد كسا الإظلام علي الصورة الأصلية. لتعطينا أن فترة الطفولة التي من المفترض أنها أصبحت في الظل، نراها أكثر سطوعا وإنارة، من تلك التي في الحالي. وكأننا نري الماضي أكثر مما نري الحاضر. وهي الرؤية التي عكسها، المقتطف عن الكاتب البرتغالي "جوزيه ساراماجو" والتي سبقت قصص المجموعة: {هناك من يعتقد أن السنوات الأولي من حياتنا، سنوات البراءة، هي فترة نعيشها وننساها، وأنا أعتقد عكس ذلك تماما}.

فضلا عن الإهداء الذي صدرت به الكاتبة {إلي الطفلة التي كانت.....} والذي توحي صياغته بهذه الكيفية، وما تركته من فراغ في شكل نقاط في نهايته، ما يعني الحسرة، أو الندم لأنها كانت.. وفقط، وكأنها حذفت منها (للأسف).

وكذلك يأتي التصدير الثاني والذي كتبته الكاتبة أيضا{ حكاياتنا التي لم ننشرها، هي بعض منا، إن لم تكن نحن} فإذا كنا لا نكتب إلا ما نعرفه، أو ما نتذكره، فإن هذا لا يعني أن ما لم نكتبه قد ضاع وانتهي، وإنما هو ما ذاب في وجودنا، وساهم في تكويننا، وربما كان هذا أحد الأسباب التي اشرنا إليها سابقا، من أن طفلة القصص تأتي في العشرة. أي بعد أن تكون الساردة قد عاشت عشر سنوات لم تكتب عنها، بل وربما ما قبلها. وكما يؤكد علم النفس فإنها الفترة التي يتعرف فيها الطفل علي ذاته، وتنطبع علي حياته، وقد أرادت الكاتبة به أن تستكمل ما لم يأت في قصصها. وبالطبع تحدثنا عن العنوان الرئيسي للمجموعة، والذي يعتبر العتبة الثانية، بعد الغلاف.

تدخلات الكاتبة

وقوف الساردة علي مسافة، غالبا ما تكون قد طالت، من فترة الطفولة المحكي عنها، أدي إلي ظهور ثقافة الكاتبة، لتبقي علي تلك المسافة في عين القارئ، الذي قد يحرمه من تلك المشاعر والحرارة التي تبعثها معايشة الحدث في حينه.

فأن نقرأ مثلا في قصة "رائحة الطعمية" والتي مسرح عملياتها في بيئة شعبية، أن نقرأ عن (شجرة البوانسيانا)، حيث المعروف عن تلك الشجرة أن بيئتها هي المناطق الحارة. لينقلنا نقلة شعورية في بيئة مختلفة، كمن يأكل الأيس كريم مثلا، ويفاجأ فيه بثمرة بلح جافة، أي تشعر القارئ بأنه وجد شيئا في غير بيئته.

كما أن الأمر قد يلتبس في بعض المواقف. فتتحدث الساردة بنت الخمسين مثلا، فيأتي الحديث كما لو أنه حديث ابنة العاشرة. فمثلا في قصة "واحد+واحد=واحد" نقرأ{فالحسابات المالية لم تكن قد وصلت إليها بعد} فالحديث هنا عن الطفلة التي كانت، ثم يأتي الاستثناء، وهو ما يعني أننا مستمرون في نفس الحالة، الطفلة التي كانت، فتستكمل الفقرة{فيما عدا ما قاله "سارتر" في الحب:"واحد زائد واحد يساوي واحدا"} وهو ما يخرج بنا أيضا عن جو الطفولة، وعن ثقافتها. حيث نواجه هنا بثقافة الكاتبة، لا بثقافة الطفلة.

كذلك تتدخل الكاتبة لتوضيح رؤيتها، او تقدم لنا خلاصة القصة، فتأتي في شبه حكمة أو وعظ، مثلما في قصة "الأحلام الكاذبة" التي يكشف عنوانها عن مضمونها المتوقع. وحيث، سرقت الساردة ساعة، ظنتها ذهبية، في طفولتها، من دكان عم منصور الموان. ثم لم تكشف لنا عما يمكن أن يكون قد وقع إزاء هذه السرقة. سواء منها هي بعد فعلتها، أو من والدها الذي أرسلها للشراء، أو من عم منصور صاحب المحل الذي سرقت منه الساعة. فقط تمنحنا هذه الجملة في النهاية، الكاشفة عن موعظة: {وعرفت بعد فوات الأوان أن الزمن دقات في عمر أيامنا، لا تحسب بالأيام والشهور والسنوات، إنما بأيام السعادة والفرح والشعور بالأمان والاستقرار..}.

وأيضا تحمل هذه القصة "الأحلام الكاذبة" بذرة لرؤية بدت غير مطروقة في المجموعة، كان من الممكن أن تسبح بالساردة في عمق الوجود الإنساني، تلك هي علاقة الساردة، الطفلة، ب "سعيد"، والذي كانت تصر علي اللعب معه، ولكن ظلت العلاقة في النهاية ، علاقة خارجية، لم تخرج منها الساردة إلا : { كانت ساعتي تشير إلي عقارب الزمن الماضي الذي توقف عند "سعيد" والمراكب الورقية ولعب الكرة مع صبية الحي..} حيث لم تستثمر تلك العلاقة، في خلق تجربة ما. أو خلق علاقة ما بين لعبها مع "سعيد" و سرقة الساعة. فقط كانت سرقة الساعة لتشير بها إلي الزمن الذي مضي، وأصبح لعبها مع ابن الجيران، ذكري ومضت.

وهو ما تداركته الكاتبة في قصة"عروسة ورق" التي عبرت فيها عن تجربة الحلم المفقود في الحصول علي عروسة تصنعها أختها التي تزوجت دون أن تفي بالوعد. حيث اقتربت فيها من التعبير عن التوحد مع الحلم عند الصغيرة التي تكورت علي نفسها أسفل مكتب الوالد، في ليلة عرس اختها. فالطفلة لا يهمها في الدنيا إلا أن تحصل علي حلمها، العروسة الورق، اللعبة، الحلم. فانفصلت عن الواقع المعاش، وهو ما يفجر العديد والعديد من الأحاسيس المعتملة في جوانية الصغيرة. غير أن الكاتبة لجأت أيضا إلي تجسيد مرادها من القصة في النهاية، التي بدت شبه حكمة، أو درس: {وأصبحت أختي أما لثلاث بنات ليتها لا تنسي صناعة عرائس من الورق لهن، أيا كانت انشغالاتها، ومهما امتلأت محال اللعب بكل أنواع وأشكال العرائس المزينة يالألوان الصناعية}.

توقيت الكتابة

رغم ان الكاتبة لم تسجل تواريخ كتابة القصص، حتي يمكن التعرف علي تطور الكتابة عندها، إلا أنه يمكن التعرف علي المراحل الزمنية لها، والذي نري أنها قد رتبت قصصها ترتيبا تنازليا. بحيث وضعت الآخير في المقدمة، يلها الأسبق فالأسبق. حيث يتضح ذلك من تنازل مستوي فنية القصة. ففي البداية نري القصة مكتملة الشكل والبناء. جاءت لغتها مشحونة بالصور الدافعة لخيال القارئ، وحافزة له لتصور المشهد. ونقرأ من هذه الصور البديعة والمجسدة:         

{الصور باهتة  تتضح معالمها كلما اقتربت الذاكرة التي تتواري تحت غطاء النوم}

{تائه في عالم لا يسكنه أحد غيرها، عالم يحكمه الهذيان والهلوسة المسكونة داخل عقل فاقد وعيه بالزمان وبالمكان}

{مقيدة الأيدي خلف ظهرها المنحني كقوس مقلوب، أو كعلامة استفهام عكس الاتجاه}

{كلماتها تشبه مواء القطط في مواسم الإخصاب}

بينما في القصص الأخيرة فتأتي الجمل حيادية، نتيجة المسافة الزمنية المتباعدة، سواء في زمن الحكي، أو زمن السرد. فكانت أقرب إلي التذكر منها إلي المعايشة، خاصة المعايشة العقلية التي تتضح بصورة جلية في قصة "سيد الحلم" والتي أرادت فيها الكاتبة التعبير عن انبهارها وحبها ل "بهاء طاهر"، ومحاولة الإشارة المباشرة إلي بعض أعماله، مثل {بالأمس حلمت به، كأنه عنوان لأحد قصصه، طاهرا في حواره بهيا في كلامه} وتستطرد في وصفه الذي بالفعل ينطبق علي شخصه البادي ك(البهاء الطاهر).

إلي أن نصل إلي القصة الأخيرة، والتي خلت من القص. حيث جاءت وكأن الكاتبة تحدد لنا منهجها في الكتابة الدائرة{حول الناس العاديين البسطاء} وعن منبع حكاياتها حول هؤلاء البسطاء، وهو أمها التي {لم تكن تعرف حكايات الأميرات والأمراء والقصور المهجورة والبلاد المسحورة} والتي خلتها منها القصص بالفعل، رغم دورانها في محيط الأطفال. وكأن الكاتبة، والأم من قبلها، في النهاية، تسعي لزرع قيم معينة تتسم بالواقعية في أعماق الأطفال.

وأستطيع أن أقول بكل ارتياح، بأن قراءة "خمس دقائق" في مجموعة زينب عفيفي، لتمنح من المتعة القرائية، والفكرية، ما يعادل خمس ساعات. وأن المجموعة وتد جديد يثبت أعمدة القصة القصيرة، فلا تستطيع رياح التغيير العشوائي الهابة علي القصة القصيرة أن تزحزحها عن قواعدها.

 

Em:shyehia48@gmail.com

 



[i] - زينب عفيفي – خمس دقائق – مجموعة قصصية- الدار المصرية اللبنانية – الطبعة الأولي يناير 2015.