تتناول الأكاديمية المغربية "الارتجال" في المسرح العربي عامة والمغربي خاصة، وترى أنه رغما عن بداية حديثها عن التجربة في القرن التاسع عشر، فإن الثقافة العربية تملك إشارات تبيّن أن الارتجال قديم وترافق مع فنون الأداء والظواهر شبه المسرحية مثل "الحلقة"، "إزلان"، "عبيدات الرما" في المغرب.

الارتجال في المسرح العربي

نجـوى خالـدي

عرف العالم العربي مجموعة من الاتجاهات التي أنشأت فعلها على أسس ومبادئ الارتجال، والحديث هنا يأخذنا إلى أرض الكنانة مصر التي عرفت المسرح الارتجالي منذ دخول فرقة مارون النقاش إلى مصر، حيث كانت تضم في صفوفها ممثلين مصريين أهمهم جورج دخول الذي عرف فيما بعد باسم كامل الأصلي، هذا الأخير الذي كان يتميز"بموهبة كوميدية وقدرة كبيرة على خلق المواقف والأحداث. وحينما شعر بإقبال الجمهور على ما يبدعه، انفصل عن فرقة مارون النقاش، وأسس إلى جانب الكوميدي أسعد حلمي وحافظ عباس وحافظ ليمون، ومحمود حسني وغيرهم، فرقة خاصة به واتفقوا على تأسيس فصول مضحكة من تأليف جورج دخول، لا تعتمد على نص مكتوب بقدر ما تعتمد على موهبة أعضاء الفرقة وقدرتهم على إضحاك الجماهير مستخدمين في ذلك أساليب متعددة منها النكتة اللاذعة والعبارات المكشوفة والملابس الغريبة"(1).

وكما في المهازل الأتيلية، فالممثل هنا أيضا يرتدي ملابس متميزة ودائمة، فجورج دخول كان يتميز بزي خاص هو عبارة عن بيجامة مخططة بالعرض وطربوش له زر قصير من الأمام ثم يضع شاربا نصفه إلى الأعلى والنصف الاخر إلى الأسفل، كما اشتهر أيضا حافظ عباس بأدائه دور البربري.

أما المواضيع التي كان يناقشها هذا النوع من المسرح فكانت تستمد إما من حواديت زمان، كحدوتة "ست الحسن والجمال"، أو من تلك الأعمال التي كانت تعرض على مسارح الإسكندرية والقاهرة كروايات "الإبن المفقود"، و"الكونت فلور".. أما توزيع الأدوار فقد كان يتم بطريقة اعتباطية، فهذا يقوم بدور الشاطر حسن مثلا، والآخر بدور الوزير وهكذا.. إلا أن هناك دوران أساسيان في كل عرض مسرحي لا يتغيران، هما دور مضحك السلطان الذي يمثله دائما جورج دخول، ودور البربري الذي كان يقوم به حافظ عباس.

واستمرت هذه الفرقة في تحقيق نجاح متميز إلى أن اعتزل بعض الممثلين منها، وتشتت الفرقة، وقد تزامن هذا مع ظهور فرق أخرى سيطرت على الساحة، كفرقة علي الكسار وأمين صدقي، وبشارة واكيم.. لينتهي عهد الارتجال بمصر، ويصبح ممثلوه بعد ذلك مجرد ممثلين ينتمون إلى فرق جديدة، بعضهم يقدم مونولوجات بمفرده والبعض الاخر اكتفى بالانتماء إلى فرق ظهرت على الساحة، وهكذا إلى أن انتهى الارتجال بصفة عامة من المسرح المصري.

وبعد مصر تأتي سوريا، التي عرفت المسرح الارتجالي من خلال احتكاكها بالفرق التركية عن طريق الزيارات التي كانت تتم بين البلدين، كما تأثرت سوريا بالمسرح الارتجالي في مصر من خلال تقديم "الفنان محمد علي عبده شخصية البربري على طريقة علي الكسار(2)، كما عرفت بلدان أخرى الارتجال، كتجربة ريمون جبارة بلبنان الذي كان يعتبر الارتجال في المسرح شيئا ضروريا ويتجلى ذلك في قوله "لا يليق أن يعلو الممثل في القرن العشرين خشبة المسرح ليقول كلمة مؤلف أو مخرج، إذن عليه أن يقول كلمته"(3).

لنصل في الأخير إلى أن الارتجال موجود في معظم ثراتنا العربي، فكل بلد من البلدان السابقة عاشت تجربة الإرتجال ومارسته، رغم أن هذه الممارسات كانت بسيطة، إلا أنها تركت صداها في المسرح العربي.

ولا يمكننا الحديث عن الارتجال دون أن نذكر الدور الذي قام به المغرب في إبراز هذا النوع من المسرح، بل البعض يقول أن المغرب عرف الإرتجال قبل أروبا، يقول سامي عبد الحميد "وربما كان اعتماد أسلوب الارتجال في المسرح العربي أقدم منه في المسرح الأروبي والأمريكي، حيث يذكر تاريخ المسرح المغربي بأن الارتجال قديم قدم بدايات العمل في المسرح"(4).

ونلمس من كلام سامي عبد الحميد أنه لا يستطيع الجزم بهذه الحقيقة، لذلك جعلها من قبيل الاحتمال، لكن هناك إشارات تبين لنا أن هذا الفن قديم في العالم العربي، إذا اعتمدنا الأشكال الماقبل مسرحية التي عرفها المسرح المغربي، وكانت بدورها النواة الأولى لظاهرة الارتجال في المغرب.

وتتجلى الأشكال الماقبل مسرحية في: الحلقة، إزلان، عبيدات الرما، هذه الأشكال التي اعتمدت على الارتجال بصورة مباشرة، في حين أن هناك أشكال أخرى كالبساط، سيدي الكتفي، سلطان الطلبة.. لكنني لم ألمس فيها الارتجال، بل هي عبارة عن أشكال تدخل ضمن الأشكال الماقبل مسرحية.

الحلقة: أو مسرح العامة، يقول عنها الدكتور حسن المنيعي: "كانت ولا تزال فضاءا لعبويا، مشتركا بين المدن والقرى، تعرض فيه مجموعة من الفنانين أعمالها المدهشة والطريفة، وكل مايمتلكه كل واحد منهما من مهارات فنية في مجال الحكي عن الإنس والجن والحيوان، وابتكار ألعاب بهلوانية أو سحرية، أو ارتجال الشعر والنكت"(5).

فأهم ما يميز الحلقة هو عالمها الخاص الذي يمتزج فيه الخيال والتاريخ واللاتاريخ، فهي مكان مفتوح لا زمني من خلال شكلها الدائري وفرجاتها القائمة على الارتجال وبلاغة الجسد والإيقاع الموسيقي.. مما يجعل المشاهد يستحضر كل الأزمنة في لحظة واحدة، كل هذا بفضل الراوي الذي قال عنه الطيب الصديقي "منك تعلمنا مهنتنا.. من خلال عصا واحدة لا غير تحولها حسب إرادة الحكي، تصبح العصا شجرة مخضرة تتحول إلى مظلة أو إلى حصان راكض، وفجأة هو السيف الذي يجرح أو ذا القلم الذي يدون المجد، لك أيها الراوي القديم الذي يبتعد بتؤده عن حياة كل مساء"(6).

باختصار، الحلقة هي بؤرة المسرح المغربي التي عن طريقها خلق ذلك التواصل بين الراوي والجمهور، وبين الجمهور وقضايا مجتمعه، ويعتبر لحسن حربة رائد من رواد مسرح الحلقة على الصعيد الوطني، وظل اسمه موشوما في الذاكرة المغربية، فالحلقة كانت ولازالت إلى يومنا هذا تلعب دورا مهما في الساحات المغربية الكبرى كساحة جامع الفنا بمراكش، وساحة بوجلود بفاس وغيرهما.

كما نلمس تأثر المسرح المغربي المعاصر بالحلقة من خلال مجموعة من العروض التي تناولتها كموضوع أذكر منها: (القاضي في الحلقة) (أرض الذاب) للطيب العلج، و(الحلقة فيها وفيها) لعبد القادر البدوي.

أزلان: مفرده إزلي، وتعني بالأمازيغية النشيد المرتجل، وهو عبارة عن عرض درامي يمتزج خلاله الشعر بالرقص والموسيقى، ينتصب مؤدوه أمام الجمهور الذي يشكل نصف دائرة، ويشرعون في أداء مقاطع موسيقية يتخللها إزلي كمحور لموضوع الرقصة بطريقة ارتجالية بديعة، وتعتبر كل فرقة ناطقا رسميا بعادات وتقاليد وأمجاد القبيلة التي ينتمي إليها، كنموذج لهذه الفرق: فرقة "آيت حمو موسى" بقبيلة العدرج.

عبيدات الرما: من بين الأشكال الماقبل مسرحية التي ازدهرت في المغرب، عرفت في العديد من المناطق المغربية كالحوز وعبدة والشياظمة ودكالة والشاوية.. وغيرها من المناطق التي لازالت تحافظ على هذا الثرات.

تتكون عبيدات الرما من (صغار الفلاحين والعمال والزراعين الرعاة وغيرهم من هواة خرجات الصيد ومباهج التجول في الغابة وراء موكب القناصة والرماة، وعندما تجمعهم المناسبات ومواسم الأولياء، يتحولون من تلقاء أنفسهم إلى مغنين وشعبين يطعمون فرجاتهم ببعض المرتجلات والاستكشافات الهزلية التي يتطرقون فيها إلى موضوعات بسيطة يستمدونها من صميم حياتهم اليومية"(7).

ويتميز أفراد فرقتها بارتداء زي خاص يميزه ذنب الثعلب المتدلي إلى الوراء، وهذا طبيعي بحكم عشق أفرادها للطبيعة، أما العرض فيشكل في نصف دائريته، يختم بمقطع موسيقي يعتبر بمثابة جس النبض للجمهور ومدى تجاوبه مع العرض، وبحكم "اعتمادهم على البديهة والإلقاء الشفوي وعدم الكتابة والتدوين، فقد ضاعت استكشافاتهم ومهازلهم المرتجلة، وذهبت نصوصهم المغناة أدراج الرياح بغياب شيوخهم سواء بالوفاة أو مبارحة البادية إلى المدينة"(8).

وتعددت مواضيع مرتجالاتهم واختلفت بين حديثهم عن الغابة والحيوانات، وحديثهم عن المراة وتغزلهم بها، كما تناولوا قضايا عربية كالصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

هذه هي طائفة عبيدات الرما التي قاومت الموت، واستطاعت أن تحيا، وتحاول خلق ذلك التواصل بين الماضي والحاضر، ولو بشيء بسيط مما بقي من ذلك الماضي، فما زلنا إلى يومنا هذا نشاهد على قنواتنا التلفزية هذه الفرق من خلال شباب مثقف يحاول رد الاعتبار للثرات المغربي الأصيل.

هذه بعض الأشكال الماقبل مسرحية التي عرفها المسرح المغربي وارتكزت بالأساس على الارتجال كمنطلق لعروضها.

وخلاصة القول: الارتجال هو التعبير عن قضايا المجتمع بطريقة عفوية، اتخذ فيها الضحك، والسخرية، والموسيقى.. وسيلة له لخلق التواصل بين المجتمع وقضاياه.

(باحثة أكاديمية مغربية)

* * * *

المصادر والمراجع

(1) طلعت المرصفي، المسرح والارتجال، مجلة المسرح، العدد: 38 فبراير 1967، السنة الرابعة، ص62.

(2) علي الراعي، المسرح في الوطن العربي، الطبعة الثانية، العدد 248، المجلس الوطني للثقافة والاداب، الكويت، ص33.

(3) سامي عبد الحميد، صدى الاتجاهات المعاصرة في المسرح العربي، مجلة الأقلام، العدد السادس، 1980، ص121.

(4) نفسه، ص121.

(5) حسن المنيعي، المسرح.. مرة أخرى، سلسلة شراع (كتاب نصف الشهر49)، دار النشر المغربية، أديما، 1995، ص9.

(6) نفسه، ص9.

(7) حسن البحراوي، المسرح المغربي: بحث في الأصول السوسيوثقافية، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، 1994، ص81-82.

(8) نفسه، ص82.