يرى الناقد المصري أن الشاعر لم يعتمد على التناص مع حقول ذات طبيعة سمعية، بل مع حقول بصرية، ترتبط بالفنون الحديثة، نجد حضورها واضحا في جل نصوصه، حيث نجد الذات الشاعرة تنحو باتجاه التناص مع النصوص السينمائية أو التشكيلية، والتي يتخذ منها مرجعا يتناص معه، فتبدو باذخة الحضور في دواوينه.

جماليات الصورة والتناص السينمائي

في شعرية عاطف عبد العزيز

عمر شهريار

على مدار أكثر من عشرين عاما ومنذ أن أصدر ديوانه الأول "ذاكرة الظل" عام 1993 وهو يحفر مجرى خاصا به، ويدشن مشروعا شعريا باذخا، تتكامل ديوانه لتشكل لوحة شعرية كبرى لها جمالياتها الخاصة، فرغم تعدد دواوينه وتنوعها فإنها تنبئ عن مشروع واحد ممتد ومتصل، واستراتيجية جمالية تصل هذه الدواوين ببعضها البعض

يعد التناص إحدى الجماليات التي يعتمدها كثير من الشعراء، إن لم يكن كلهم، في إنتاج شعريتهم، وغالبا ما يكون التناص مع الشعر العربي القديم أو نصوص عالمية أو أساطير وحكايات شعبية، أو نصوص دينية، بوصف هذه النصوص جميعا جزءا من البناء الثقافي للشاعر، ومن ثم لا يستطيع الفكاك منها في بناء قصيدته، وأظن أن اختيار أي من هذه الحقول النصوصية لا يأتي اعتباطا بحال بقدر ما هو اختيار يعبر عن توجهات الشاعر وأيديولوجيته الجمالية وتكوينه الثقافي وبنية وعيه، وقد ظل الشعراء ينهلون من تلك الحقول النصوصية كشرايين تغذي قصائدهم.

من هنا تأتي أهمية التناص عند عاطف عبد العزيز الذي استخدم التناص أيضا لكنه انحرف موليا وجهه شطر حقول أخرى، محدثا قطيعته الخاصة، مع تراث التناص في الشعر العربي على مدار القرن الماضي تقريبا، فلم يعتمد على التناص مع تلك الحقول ذات الطبيعة السمعية، مدشنا مسارا جديدا نحو حقول أخرى للتناص، حقول بصرية، ترتبط بالفنون الحديثة، نجد حضورها واضحا في جل نصوصه، حيث نجد الذات الشاعرة في كثير من دواوينه تنحو باتجاه التناص مع النصوص السينمائية أو التشكيلية، والتي يتخذ منها مرجعا يتناص معه، فتبدو باذخة الحضور في دواوينه، في الوقت الذي يشحب فيه حضور الحقول التناصية القديمة، فلا نجده يتناص كثيرا مع النصوص الدينية أو التراث الشعري _العربي أو العالمي_ أو النصوص الشعبية إلا قليلا.

قبل أن نوضح تفصيلا مواضع التناص السينمائي والتشكيلي وتشكلاتها في نصوص عبدالعزيز يجب أن نؤكد أن هذا الانحراف يبدو طبيعيا في سياق جماليات قصيدة النثر التي تعتمد أساسا على المشهدية كجزء رئيس من بلاغتها الجديدة هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن قصيدة النثر تحاول دوما أن تخلق لنفسها فضاء خاصا بها سواء على مستوى الإيقاع أو التشكيل الجمالي، ومن ثم اتجه الشاعر إلى تعبيد طريق خاص بهذه القصيدة على مستوى النص كجزء من خصوصية بنائها الجمالي.

تتنوع أشكال التناص السينمائي في شعرية عاطف عبدالعزيز، فنجده يراوح بين السينما المصرية ونظيرتها العالمية، ولا يكتفي الشاعر باقتباس نص من حوار الفيلم مثلا، أو حتى مشهد، ويضمنه في قصيدته، فمثلا نراه في قصيدة "نافذة عالية.. نورها ضعيف":

أما القصور التي رأيناها في سينما

الستينات،

فبدت مطمئنة في مطارحها تستنشق

نسيم الشط،

كلما مررنا بها أصابتنا رعدة،

كأن مريم فخر الدين سوف تخرج إلينا

في أي لحظة

من بوابة تتسلقها النباتات،

بفستانها المفتوح،

وذراعيها المكشوفتين. (ديوان "الذي تنتظره لن يمر من هنا"، صــ22)

ففي هذه القصيدة لا يتناص الشاعر مع نص سينمائي بعينه، ولا حتى جملة حوار، لكنه يستعير ذلك العالم الذي قدمته السينما عن حقبة زمنية محددة، هي حقبة الستينات، بما قدمته من قصور ، فتنفتح طاقة التخيل لدى القارئ لاستدعاء شكل وتصميم تلك القصور التي قدمتها سينما الستينيات، بل وربما الشوارع وحركتها وموضات الأزياء التي كانت سائدة آنذاك، ثم يأخذ الشاعر في الأخذ بزمام الأمور مرة أخرى ويؤكد على ما ذهبت إليه مخيلة المتلقي، قائلا "كأن مريم فخر الدين سوف تخرج إلينا في أي لحظة"، فهو يؤكد للمتلقي أنهما يتشاركان في المخزون الثقافي ذاته، والذي تمثل سينما الستينيات جزءا من بنيته العميقة، والتي تربى عليها مواليد الستينيات وما بعدها وأصبحت تمثلا جزءا من رؤيتهم للعالم، ومرجعيتهم المعيارية التي يقيسون عليها ما حدث بعد ذلك من تحولات، فمريم فخر الدين هي إحدى رموز تلك الحقبة، دون حتى أن يحدد فيلما معينا (وإن كان الأقرب هو فيلم "حكاية حب")

وإذا كان في الفقرة السابقة قد استحضر مريم فخر الدين، بوصفها إحدى نجمات سينما الستينات، فإنه في مقطع آخر يستحضر رمزا آخر من رموز تلك المرحلة _التي قد نعتبر أن الشاعر يتعاطي مها بوصفها المرحلة الذهبية أو فردوسه المفقود الذي لا يكف عن البحث عنه واستعادته وإعادة بنائه وهذه سنوضحها في حينها_ فإنه لا ينسى استحضار النجمة الأشهر لتلك المرحلة السينمائية وهي سعاد حسني فنراه في قصيدة "ما نسيته العادية" ضمن ديوان "الفجوة في شكلها الأخير"..يقول:

كنا أوائل الصيف،

حين تذكرنا سعاد حسني فجأة،

تذكرناها معا،

ونحن نقلب الدفتر الدراسي

ذا الغلاف الأخضر. (ديوان "الفجوة في شكلها الأخير"، صــ56)

فهذا المقطع الشعري فادح الدلالة على الارتباط بالوعي السينمائي، فالذات الشاعرة،هنا، لا تتحدث عن السينما أو عن مرحلة الستينيات، ومن ثم لم يكن ثمة داع منطقي لذكر سعاد حسني، لكنه المنطق الشعري، الذي يرتبط بتلك النقطة البعيدة والمتخفية من الوعي، والتي تعلن عن حضورها الباذخ هنا، حيث تؤكد هذه المنطقة من الوعي أن حقبة الستينات _التي تم تثبيتها عبر شريط السينما ومن ثم ظلت باقية أمام الوعي وتلح في إثبات حضورها_ هي المرحلة المعيارية في رؤية الذات الشاعرة للعالم وتعاطيها معه، فحضور فصل الصيف (فصل إجازة الطلاب والذهاب إلى السينما من ناحية، والفصل البطل في عدد كبير من أفلام السندريلا في شبابها حين كانت تؤدي أدوار الطالبة المراهقة من ناحية أخرى) يستدعي مباشرة تذكر سعادر حسني كنوع من الارتباط الشرطي داخل الوعي، فإذا حضر الصيف حضرت سعاد، خصوصا إذا ما ارتبط ذلك بتقليب "الدفتر الدراسي، ذا الغلاف الأخضر".

لعلنا نلمح أن الذات الشاعرة، في المقطعين السابقين، استخدمت ضمير الجماعة (نا الفاعلين) وليس الأنا المفردة، فلم تتحدث عن ذاتها المفردة حتى ولو باعتبارها تمثيلا لمرحلة وجيل، وأصرت على صيغة الجمعي، كتأكيد على أن هذا الوعي ليس وعيها فقط، بقدر ما هو وعي جمعي سائد بين أبناء الجيل، الذين رأوا العالم من خلال كاميرا السينما، رأوه على الشاشة، العالم المثالي الذي يصطدم بالواقع الذي عايشوه بعد ذلك في الثمانينيات والتسعينيات.

كما يجب أن نلمح أيضا أن حقبة الستينيات، في المقطعين السابقين، تم تمثيلها عبر رمزين أنثويين بعيدا عن عالم الرجال، وربما يتماشى هذا مع الحضور الأنثوي الطاغي في معظم دواوين عاطف عبد العزيز، فالذات الشاعرة لديه لا تكف عن استحضار أنثى قديمة، أم أو حبيبة أو صديقة أو بائعة هوى عابرة، ومن ثم تعاطى تعاطت الأنا الشاعرة مع الستينيات مع بوصفها الأنثى الجميلة المفقودة، والتي حل موضعا عالم خشن قبيح أقرب إلى عالم الذكورة الفظة، وكأنه يستدعي بشكل خفي مقولة "ما لا يؤنث لا يعول عليه".

الصورة الذهنية السابقة لمريم فخر الدين وسعاد حسني –بما يمثلانه من حميمية ودفء وقرب من روح الذات الجمعية ووعيها_ والتي يتم استحضارها من أبعد منطقة في الوعي كمرجع ومعيار لقياس ما بعدهما، هذه الصورة تتناقض كليا مع صورة أنثى أخرى حيث يقول في القصيدة "ما نسيته العادية":

قلت

وأنا أنقل شيئا من يد

إلى أخرى:

لعلها أخت لفتاة الإعلانات،

الفتاة التي

كنا نراها على اللوحة المضاءة

_كلما عبرنا ميدان الحدائق_

بعيدة وساهمة في لباس البحر. (ديوان "الفجوة في شكلها الأخير"، صــ59)

يبدأ هذا المقطع بمفردة "قلت"_ والتي جائت في سطر شعر كامل بمفردها_ الدالة على التفكير الواعي وليس الاستدعاء الحر التلقائي كما في حالة سينما الستينيات، فالكلام يوقف الاستدعاء الحر السلس، وهذ الكلام يتوازى مع فعل "أنقل شيئا من يد إلى أخرى" فثمة فعل، ثمة وحركية وإيقاع سريع يتناغم مع عصر الانفتاح الذي هدم منجزات حقبة الستينيات، وثمة آلية وعدم اكتراث، ثم يقول "لعلها أخت لفتاة الإعلانات، الفتاة التي، كنا نراها على اللوحة المضاءة" ففتاة الإعلانات هنا تمثيل للمجتمع الاستهلاكي ي حقبة السعينيات وما تلاها حتى الآن، ففتاة الإعلانات تأتي هنا عبر استدعاء واع وربما عبر إجهاد للذاكرة في محاولة استدعائها، وليس تلقائيا كنموذجي الستينيات، فلم تقفز هذه الفتاة إلى الحضور مباشرة بوصفها جزءا من الوعي كمريم وسعاد.

ثم إن هذا التشبيه احتمالي وليس قطعيا، فهي "لعلها" كذلك، ثم إن الأهم أن الذات الشاعر هي فقط التي استحضرت فتاة الإعلانات هذه وليس المجموع كله، بل إنه يحاول أن يذكر أصدقاءه المروي عليهم بها، فهي ليست جزءا من وعيهم الجمعي، ومن ثم لم تقفز إلى ذاكرتهم كلهم في اللحظة ذاتها، بل إن الأمر يحتاج إلى مداولة وإلى من يذكرهم بها "الفتاة التي، كنا نراها على اللوحة المضاءة" فالجميع كان يراها، فالرؤية هنا جمعية، لكن التذكر فردي وبالكاد، ربما لأنهم _جميعا_ لم يكونوا يذهبوا إليها بإرادتهم الحرة كي يروها على شاشة السينما، فقد كانوا يرونها "_كلما عبرنا ميدان الحدائق_، بعيدة وساهمة في لباس البحر"، ففتاة الإعلانات مجرد فتاة ملقاة في الشوارع وعلى أسطح المنازل، تطل على الناس من عل بإضاءة قد تكون مزعجة، لتفرض حضورها عليهم. إنها شيء عابر وليس أصيلا، يعبرون عليه دون أن ينطبع في مخيلتهم ليشكل جزءا من الوعي الجمعي لمشاهديه، ثم إنها _مع ذلك وبسببه_ بعيدة وساهمة في لباس البحر، ليست قريبة من العين كنجمة السينما على الشاشة، وليست قريبة من الروح والوعي، إنها هناك وليست هنا، وفضلا عن كونها بعيدة فإنها، أيضا، ساهمة وغير ملتفتة لهم أو متفاعلة معهم، لا تبادلهم الحميمية والدفء أو الشقاوة والخفة كمريم أو سعاد، بالإضافة إلى أنها ترتدي لباس البحر في وسط ميدان الحدائق، إنها فتاة مفارقة، فتاة شمعية، فتاة المرحلة.

هكذا يبدو تمثيل الواقع المصري عبر التناص والاستدعاء للسينما والصورة، فماذا عن التعاطي مع السينما العالمية، وكيف يتم تمثيلها في شعرية عاطف عبدالعزيز، وفي أي صورة تحضر؟! إذا كانت الواقع المصري تم استحضاره في صور أنثوية، دافئة كانت أو ثلجية، فإن السينما العالمية يتم تمثيلها عبر نماذج ذكورية. هذا تقابل رئيس بين الصورتين السينمائيتين في مشروع عبدالعزيز الشعري، وثمة تقابل آخر بين الصورتين وهو أن السينما المصرية تمثل جزءا من الروح بينما الغربية ترتبط بالوعي والتفكير، وكأنه يستخدم التقسيم المعروف بين الشرق الروحاني والغرب العقلاني المادي فنراه مثلا في قصيدة "عطر امرأة" _ولاحظ اسم الفيلم وارتباطه بالأنوثة_ ضمن ديوان "سياسة النسيان" يقول:

ومن أوراق كراسة خطها رديء،

أكلنا البطاطا ساخنة،

فيما انحرف الحديث بنا إلى تقييم باتشينو،

مقارنة،

بأستاذية مارلون براندو

الأب الروحي. (سياسة النسيان، صــ12)

فرغم إن الفيلم يفترض فيه أنه فيلم رومانسي، ورغم إن الضمير "نا" في المقطع يشير إلى الذات الشاعرة ومحبوبته، ما يعد فضاء مواتيا للمحبة، خصوصا مع ما يمهد للمشهد "أكلنا البطاطا ساخنة" كجزء تقليدي من طقوس العشاق المصريين، فالأجواء كلها تنبئ عن موعد غرامي صرف، لكن الانحراف الشعري يحول المشهد إلى مشهد عقلاني تماما ذي طبيعة نقدية خالصة، فقد "انحرف بنا الحديث إلى تقييم باتشينو" وكأن الأمر خارج عن إرادتهم، حضور فيلم غربي يجبر الأنا الشاعرة وحبيبتها على الانحراف ناحية النقد والتقييم والمقارنات، ويجب أن نلحظ أن التقييم هنا ليس للبطلة الأنثى ولكن للبطل الذكر وهذا ليس شيئا مجانيا، وأخذ الانحراف والإكراه مداه حتى إن الحديث لا يقف عند فيلم "عطر امرأة" بل يتعداه إلى فيلم آخر وبطل آخر "مقارنة، بأستاذية مارلون براندو، الأب الروحي".

نحن، إذن، وبشكل فادح، أمام سلسلة استدعاءات ذكورية تتصل بالسينما الغربية _والأمريكية منها على وجه التحديد_ ترتبط بأبطال "ذكور" يستدعي أحدهم الآخر، بل إن سلسلة الآستدعاءات التي تبدأ بـ"عطر امرأة" الفيلم الرومانسي تجر الذات الشاعرة إلى "الأب الروحي" الذي يكاد أن يكون فيلم الجريمة الأشهر في السينما الأمريكية، فصوت الموسيقى ينتهي إلى صوت الرصاص، والعطر يستحيل دما، كل هذا في لقاء عاطفي بين عاشقين!

ولا ينتهي الأمر بالعاشقين عند هذا الحد، بل يصل الأمر إلى مداه مع نهاية القصيدة، حيث نراه يقول:

شيئا

فشيئا،

كان الممثل يوغل في رجولته

المظلمة،

فيما نمشي في إثره نفتش عن حيز نسيناه

في مدينة لا تزال على احتضارها،

حيز

أوشك أن يكون نفسه،

تماما،

خلف انفصالنا الشبكي. (ديوان "سياسة النسيان"، صــ16)

هكذا يبدو الممثل"الغربي" وكأنه "يسرق" الذات وحبيبته "شيئا، فشيئا"، وبنعومة غير محسوسة، إلى منطقته الخاصة، حيث يوغل في "رجولته المظلمة"، هذا التركيب الأفدح في دلالته على تمثيلات الأنا والآخر، خصوصا إذا ما وضعنا هذه الرجولة المظلمة بوقعها الثقيل على النفس والروح في مقابلة مع البهجة التي يبثها وجه سعاد حسني، أو شعاع الضوء الذي ينبعث من الوجه الملائكي لمريم فخر الدين. وفي ظل هذه الظلمة تمشي الذات ورفيقتها في إثر هذا الممثل، كتابعين مسوقين، وليس كذوات فاعلة لها حضورها الخاص والواعي، بحثا عن "حيز" في مدينة "لا تزال على احتضارها"، هذا الاحتضار الذي ربما يكون قد بدأ منذ أن احتلت "فتاة الإعلانات" الميادين وأسطح المنازل.

لم يعد ثمة مكان داخل هذه المدينة لهذا الثنائي العاشق فمشيا في إثر ذلك الممثل، بحثا عن حيز آخر، حيز جديد يستطيع أن يسعهما، وكأنه "الحلم الأمريكي"، لكن هذا الحيز الذي "أوشك أن يكون نفسه،/ تماما،/ خلف انفصالنا الشبكي". فنحن أمام مفارقة باذخة، أمام جدلية العمى والبصيرة التي تحضر بشكل سافر، فلم يعد الممثل هو الأعمى، بل الذات المسوقة التابعة وعشيقتها، بعد أن صدر لهما عماه وانفصاله الشبكي لدرجة أنهما لم يريا ذلك الحيز الذي تركاه خلف انفصالهما الشبكي.

لم يقف الشاعر عند حدود ذلك الاستدعاء للسينما الأمريكية، ذي الطابع الذكوري والعنف الرمزي، لكن أورد استدعاءات أخرى، ليفككها أيضا، ومعظمها تبدو ذات طبيعة رومانسية أو إنسانية، لكنه يفضحها وينزع عنها تلك القشرة الخارجية التتي تتدثر بها، كاشفا عن ثغراتها، ليس عبر وجودها المحض كنصوص سينمائية، ولكن عبر تعاطي الذات الشاعرة _كمتلق لها_ وأثرها فيها لحظة التلقي والمشاهدة وما تتركه داخله مة آثار أو اللحظات التي يستدعيها فيها، فهي كلها إشارات دالة على طبيعة التعاطي مع تلك النصوص السينمائية، فمثلا نراه في قصيدة "ودع هواك":

المحبة الخفيفة التي اعتادت

أن تمتلك الفضاء كله بهشاشتها،

مثل توم هانكس في الفيلم،

وهي تنزلق على قرميد المداخن،

والفترينات

وعتبات البيوت

ومعاطف العائدين من السهر،

حتى تستقر في النهاية على

حذاء عابر. (ديوان "الفجوة في شكلها الأخير"، صـ18)

هكذا ترتسم صورة "المحبة الغربية" في مخيلة الذات الشاعرة، محبة خفيفة، عابرة، هشة، "تمتلك" الفضاء كله رغم هذه الهشاشة وبها، وترتبط بشكل أو بآخر بالطابع الرأسمالي القاسي الذي يشيؤ الإنسان وعواطفه، فتنزلق المحبة على قرميد الماخن والفاترينات، في تماس حقيقي مع "فتاة الإعلانات" التي تروج للأشياء المعروضة داخل هذه الفاترينات، وتظل المحبة الخفيفة الهشة تنزلق وسط ذلك المجتمع الاستهلاكي "حتى تستقر في النهاية على حذاء عابر".