في بنية سرد تقليدية لكنها رشيقة يروي لنا القاص المصري مسيرته في العائلة ولوعته لفقدان أخوات وأخوان له يموتون بعد الولادة بأيام أو بأعوام، راصدا مشاعره في الطفولة والمراهقة وشدة التصاقه بجو العائلة الحميم، ومدى اللوعة التي يتركها فقدان الأخوة في نفس الأم والطفل.

الذاكرة لها محطات

أحـمد محـمد جـيد

حينما سمعتُ أن أُمى حامل لآخر مرة كان سني وقتها حوالى السابعة عشر ، منذ عشرةِ أعوامِ لم تَعهد أُمي هذا الأمر من قبل ؛في المرة السابقة كُنتُ طفلاً بريئاً والمرة التى قبلها كُنتُ أكثر براءة ، ولا زلت أذكرها تلك المرة دُونَما غيرها ولادةُ أخى عبدُالرحمن وأذكر ما كنت آكل في هذا اليوم من حلوى ومن أين اشتريتها وما اسمها مع أنى كُنت لم أتجاوز الرابعة من عمري حينها إلا أن تلك الذكرى لم تزل محفورة بداخل قريحتي .... أذكر حينها في أى غرفة وُلد من بيتنا الذي كان بالطين حينها ، وصورة جدتي وهى تُمثل دَور الطبيب بكل إتقان تحاولُ فتح الباب لهذا الصغير ليدخل داره الثانية ،و أبـي جالس بجوارهما ببَسمة لا تفارق مُحياه يُداعبني أنا ، وأخي الأكبر كانت تلك محطتي الأولى .... أذكر حينما خرج ، ووضعوه في ملاءةِ ،وعلى طبلية صغيرة ،ودحرجوه ،ولازلت لا أدري لما كانت تلك الطقوس التى تَجودُ بها جَدتى من جُعبتها الضاربةِ في القدم والمُتعفرة بتراب الأرض الذي لم يفارقها حتى يوم رحيلها... لكنى مع ذلك لا أذكر وجهه ،وقد قيل لى أنه كان أجمل إخوتى حتى اليوم ... بشرةٌ بيضاء ... ، وعيونٌ زرقاء ..،وشعرٌ بنيٌ جميل ... مثل توأم أخي الأكبر الذي لاقى نفس مصير عبد الرحمن بعد عدةِ أيامٍ من مولده ،فلم يُمهلهما القدر سوى أيامٍ ،وضاقت بهم الأرضُ بما رَحُبَت ،وما وجدوا لأنفسهم مُتنفس فيها فرَحَلا غَيرَ مُبالين بنبضاتِ الأفئدةِ التى تُناجِيهم لحظةَ الرُؤيا ،وبعيونٍ رقت حين أبصرت أيتي الجمال تلك ... ثمتَ صورٌ قليلةٌ باهتةُ له تَكتَنِفُها خزائنُ البيتِ تَأَملتُها يوماً منذ زمن فحَجَبَني ستارٌ من العبراتٍ المُشتاقة .... أتُراني أسخطُ على قدرِ الله ؟ أم أتُراني أندم على رُفقة لم تُكتب لى ؟ ...

ومرت الأيام ....

ومرت الذكريات على مُخيلة فتى بريئ لا يُبالى بثقل ما يحمل ... ،وكُنت أنا ،وأخى الأُكبر خير رفقاءٍ ،وخيرُ أخلاءٍ نبني جدران الذكريات معاً لبنةً من مَرحٍ ،ولبنةً من ألم .... لبنةً من حب ولبنةً من جَميل الخصام .. ووالدى يضع بينهم مِلاطُ الحكمةِ والتربيةِ نَتَشَرَّبُــــها حيناً ونلفظها حينا ... حتى أقمنا جدار متماسكاً صلباً يتخلله بصيصٌ من شهوات الأنفس .... ثمت كلمات حفرناها عليه بأظفارنا ..." هيا نلعب يا مصطفى.." ..".. لا تلعب مع هؤلاء الأولاد..".."...لا تخبر أبي حسناً ؟ ......" .. "....هاتني قطعة من هذا ...." ........     ثمت صور علقناها .. نلعب الكرة معاً داخل البيت ونكسر ساعة الحائط مرارا .. متماسكين ونحن نُضرب من أبينا تأديبا لنا ... ببراءةٍ نستحم معا في طست كبير ... ببراءةٍ نذهب إلى الكُتَّاب ثم نعود ، ثمت روائح تتخلل ذاك الجدار ... "الرائحة التى كنا نعفر بها أجواء الغرفة" ... هل تذكر يا حبيبي ؟.... "أول عطر اشتريناه معاً وتنافسنا فيمن يملك الأذكي " ... أه من تلك الذكرى التى تٌدمي الفؤاد ...

ومرت الأيـــــام .....

وكانت لنا محطةٌ أخرى .. راجعت فيها ما كان ذكرى .. وأغلقت رفاً من رفوف الزمنِ وفَتَحتُ سجلاً أخر ....

أذكر يوم أنجَبَت أُمي من جديد ... يوم تركنا بيتَ الطينِ الأسود ،وسَكنَّا بيتَ الطوبِ الأحمر نفسُ أحداثِ الحلقةِ السابقة ،ولكن الزمان اختلف كُنت في حوالى السابعة ، واختلف الطبيب فكان طبيباً...، وكان الوافد توأم ... على ومَنار .... واختلف المزاج .. أنا وأخى كنا مَرضى فمـُـنعنا من استقبال الضيفان ... ،وكان الغدُ أولَ يومٍ لى في المدرسة ؛وهُنا بدأت الجدران تُرفعُ على عجلٍ ،وبدورها زادت ثقُوبها وكانت الكلمات المحفورة تزداد وتـزداد وما عاد يكفيها جدارٌ ولا جداران ،والصورة تأخذ أكثر من إطارها ... هنا بل هناك فرضتُ ذاتي بقوة وتشبثتُ بأعمدة الأسرة ،والتربية ،وتَشربتُ مِلاطها قدرَ ما أستطعت ،وكُنت بفضل الله من أوائِلَ أقرَاني ،وكذلك كان مُصطفى ... الضيفان الجديدان قد هدأت نفسيهما من عناء الرحلة ،وتنفسا الصعداء المُغبرةِ بغبار الدنيا وأخذت أجسادهما تربوا وتربوا ،وتتشكل بصور جديدة على ألبوم الأسرة ، عقولهما تتفتح وبدورها تقيم جُدرانها حَزو جُدراننا وتتشرب ما استصاغت من مِلاطٍ قد ذُقناه ولم نَزَل .... العينُ في العينُ ،واليد في اليد ،والفراش لصق الفراش ،ونفس الطعام يُنشأ تلك الأجساد الأربع ،ونفس المبادئ تتشربها تلك العقول الأربع ... ،وأبخرة من الحب تتسلل خِلسةً من قلبٍ لآخر ،وكلُ مِنَا لم يزل يحتفظ برونـقهِ وشغفه وآماله ... ومع أختلافنا في السَمتِ لكن الشكل كأقرب ما يكون .... أمُّ أبـي من الجنوب ،وأبيه من الشمال الغربي ،وأم أمي وأبيها من الشرق فما كان لهذا المزيج العرقي ،والحضاري إلا أن أنــبــتنا ... وبصورة لم نفهما كلٌ منا هَوى ذاكَ المكان ،وذاكَ الزمان ،وتلكُم الوالدان ...

جُدران الذكرياتِ صَارَ يُنسي بعضُها بَعضا ،ولم نعد نجد متسع لنحفر فيه كلمة جديدة ،أو نضع فيه صورةً ،أو نعطره بعطر ... فكان مصيرها في سلالِ النسيان .... إننى أحتاج إلى محطة ... بل كل منا يحتاج إلى محطة ليُعيد ترتيب جدرانه ،ويرمم ما أعتلاه الزمن حتى بـح صوته من كثرت الصريخ .......

عرس خالك ....؟

عرس خالتك ....؟

عرس ابن عمك .... وبنات عمتك .... ؟

حادثة أبيك ......؟؟؟؟

وفاة جدتك .......؟؟؟!!!

لا ... لا ... إننى أحتاج إلى شئ ينفضني من غفلتى ... يُسقط عنى غبارَ التيه

ومرت الأيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــام ....

ودخلتُ واحةَ المراهقة ... صحوةٌ فنشوةٌ فندمٌ فتوبةٌ .... ولأولِ مرةٍ صرتُ أُرصعُ جُدراني بالغثِ ،والثمين ثم أحاول مَحو اللبناتِ المظلمة فتتطاوعني شيئاً فشيئاً ثم تَأبي إلا الــتَّــجَــهُم من جديد ... فزاحمتها بهواياتي وشغفي وتوخلت في واحاتِ المعرفة أرشفُ من رحيقها الحـُلو حتى إذا ذُقتُ مرارةً تركت الزهرة جملةً ،فعالجتُ الحديثَ والفقهَ والفنَ والرسمَ والشعرَ و الأدبَ والترتيلَ والغناءَ والفيزياءَ والكرةَ وقابلت ابن تيمية ،وفريد الانصاري ،وشوقى ،والمتنبي ،وفان جوخ ،واينشتين،وابن سينا ،والمنشاوي ،وعبدالباسط .. صارت الجدرانُ مُتَــلَونةً في أصلها ،وظاهرها ... صارت قريحتي أزكي وأوسع وتذوقتُ أجمل أيام حياتي وأنا على وعي بما أتذوق ..

 حتى اذا أخذت جدراني زخرفها وازينت وضعتُ رحلى في السنة السابعة عشر في الثانوية العامة وهنا أُجبرت على فراق تلكم الأزهار وتفرغت لجَاثُومِ المستقبل

-          ذاكر .... يا بني ذاكر ربنا يهديك

-          اللى بتعمله ده مش هينفعك

على تلك الحال لاحت من بعيدٍ بل من قريبٍ محطة جديدة كنت أنتظرها

أُمُّكُم حَاملٌ أُمُّكُم حَامل أُمكم حَامل أُمكم حامل حامل حامل..... بعد عشر سنوات؟!!!!! ....

كان صمتى أقوى من سكوني شعرت بأني كنت أحلُم لعدة أيام ثم استيقظت تحت صدى الضرباتِ المتتالية

لكن

- لماذا تبكين يا أمي .... هل من الفرحة أم من الخوف ؟

وظل هذا الضيف يدقُ بابنا تسعة أشهر...... حتى فُتح له ....

-          من أنت ؟ ....

-          أنا رُميساء ...

صورةٌ من الحبيبين الذين رحلا من زمنٍ فات ولازالت صورتهما تلوحُ في سُبات

رُميساء ... كانت هي دُمية أختها الكبرى منار بل كانت بمثابةِ الأُمِ لها أغدقت عليها من الحب أكثر من أى شئ أخر .. تَحمِلُ عَن أمِّهما بعضاً من آلاَمِ الأُمُومَةِ حتى شَابت عَلَى صغرٍ ...

وهُم وأَنَا عُدنا نرمِّمُ جُدرانَ الذكرياتِ من جَديدٍ كانت الأُولى على حالها ،والحديثةُ صارت أعلى وأَسمَكَ يحسبها الجاهلُ صخراً حتى إذا جاءها وَجَدَها قشاً بمسحةِ طينٍ ... حاولت مسح الخبيث وسَترَ المُفضح فلاح لناظري قطارُ الجامعةِ يقتربُ ويزعقُ ،والأحداثُ تُعيقنى ، وتُكبلني ؛ وأخي الأكبرُ قد سبقني إليه ، وأخي الأصغرُ خُطواته لا تَلحقُ خُطواتي ....

ومَنار تَحمِلُ عَن أمِّهما بعضاً من آلاَمِ الأُمُومَةِ حتى شَابت عَلَى صغرٍ... ثم رَحَلَت هي الأخري في الرابعة عشر من عمرها ، وتَركَت لنَا كَــنزها .....

أفطرتُ يومها على دَمعٍ مُر ... ولاَحَت لناظرى لبِنَاتٌ ،ولبِنَاتٌ من جدرانِ الذكرى تتحطم وتَـتَهدم ،ولا أري أمامى إلا سيلٌ من العبرات يعميني ، ووابلٌ من التعازي يُزيد في الرحيلِ يقيني ،ولا أحدَ يأتينيِ ،ولا أحد يَسقينيِ ... زَملونى دَثروني أَدركوني ...

فجــُدرَاني صَارَت حَصيداً كَأن لم تغن بالأمس ....

 

12/2/2015     الإسماعيلية