تنسج الروائية الجزائرية عالمها من خلال شخصية فتاة متبناة تربت في عائلة فرنسية لتكتشف عند موت أمها الفرنسية، تراجيدية وجودها في الحياة فتعود إلى الجزائر باحثة عن جذورها، ومن خلال هذه الحبكة الطريفة نتعرف على تفاصيل الثورة الجزائرية وما أرتكبه المستعمر الفرنسي من خلال حياة قرية في الجبل.

رائحة الذئب (رواية العدد)

سامية بن دريس

الفصل الأول : سارة بنجامين
1 - الإثنين الساعة السابعة مساء (دون ذكر التاريخ)
 ــ من أنا؟

بالتأكيد لا أريد طرح سؤال فلسفي ،بقدر ما أسعى ــ كما يحق لجميع البشر ــ نحو تحديد هويتي، سؤال الأنا هذا هو ما يخلخل تاريخي. ولو كنت تصالحت مع هويتي ما قطعت البحر لأخاطب جمهورا قد يتفل على وجهي، ومن يدري قد أعود بعاهات جديدة ، وربما لن أعود أبدا. بالنظر إلى مستجدات الأحداث الأخيرة كما أبرزتها وسائل الإعلام المختلفة.

 حسنا دعنا نبسط الأمور قليلا. ولنخرج أوراق الهوية القديمة التي تواطأ الناس على إلصاقها بي كما لو كنت أمام شرطي .

 ــ إذن أنا سارا بنجامين الشاهد على الجريمة، التي لا يقدر أحد على محو آثارها، إنني ــ ببساطة ــ مثل زهرة الحقيقة قد تغمس لسنوات في رماد النسيان، لكنها لا تلبث أن ترفع رأسها من قلب الظلام، فقط من أجل أن تزهر.

 صوتي في نهر التاريخ المتدفق كالعواء في بؤرة الضمير الإنساني،ومثل المدية الساخنة التي تخترق الأحشاء. حسنا أنا اللطخة الحمراء، والداء المزمن، هل قلت إنه البذرة الخضراء في ربيع الذاكرة؟ و شاهدة القبر المنقوشة بيد مرتجفة،تلك الشاهدة التي تصرخ ضد الجريمة: أنا اللوحة المرمرية المصقولة ذات الخط المشوش المحصنة ضد النسيان. أجل من أجل الجبهة المضادة للنسيان ، لست أنا من يرفض التصالح ،الألم هو من يأبى التواطؤ مع النسيان، عدو الذاكرة الطازجة، يصرخ الصوت الممزق بداخلي، من أجل كل أولئك الذين انطمروا بلا أسماء أو هويات مثل بذور الخريف في أرض الدم والدموع، تحت رماد آلة الموت الجماعي، هذه أنا ـ سارة بنجامين ــ سليلة هؤلاء الذين غاصوا بأقدامهم في أغوار أرض الموت، دون أن يكون لهم الحظ في الحصول على شاهدة حجرية تقول، ولو بصوت خافت لأحفادهم، إنهم مروا عبر درب الحياة الأغبر، أولئك الذين حاصرهم الموت من جميع الجهات وسد أمامهم المنافذ، الموت القاتم بكل وجوهه الحقيقية والمقنعة: الموتى في مملكة الموت والموتى في مملكة الحياة. وهذا الفريق الأخير الذي أكل التفاح الحجري، أكثر من غيره، طبعا مع الأخذ بالحسبان أولئك الذين ظلت أرواحهم تتخبط داخل صدورهم دون أن يقدروا على تحريك ألسنتهم بالكلمات المتكورة في ذاكرة القلب.

 دعنا نقول إذن إنهم في عداد الأموات، مجرد نقاط حبر، حروف منثورة بلا رابط بينها فوق الورق.

 أنا واحدة من القافلة الممتدة بين طريق الشمال والجنوب صعودا ونزولا، وأنا فوق كل هذا ــ كامتياز من امتيازات الألم ــ مزيج من الدماء الناشزة التي تكون النهر الذي يشق الأرض من الشرق إلى الغرب، دماء تتنافر، دماء ما كان لها أن تتمازج في أصلها، ومياه ما كان لها أن تجتمع ،ما كان على الحوض أن يتلقى مياها قذرة، لولا لعنة الحرب، ما كنت البويضة الحرام العالقة عند منعرج الشك، القابعة تحت ظلاله، على موعد مع خوف يتململ.

ــ وماذا بعد يا سارة بنجامين؟!

 عائمة مثل الفلين يا سارا بنجامين، أكنت تتوقعين هذا المصير، أكنت تعتقدين أن الريح ستأخذ قاربك إلى بحر الشك ؟ أواه يا سارا، ما كان هذا ليخطر على بالك، كنت ستنعمين بحياة هنية، وربما كنت أكملت دراستك، وحصلت على وظيفة جيدة أقلها في الجامعة، لكن هيهات هيهات ! تلاشى كل الجهد الذي سال عرقك لأجله، هجرت كل ذلك، فقط لأن القارب جنح بك بفعل ريح لم تعرفي من أين هبت.

 

 2 - الخميس الواحدة صباحا(دون ذكر التاريخ)
 لطالما راودتني الهواجس السوداء، وطالما تسكعت في خيالي عابثة بذاكرتي ، وكم بعثرتني مثل أوراق الخريف،و مزقتني بين أكف الريح، طوال الليالي المتلاحقة! لكن هذه الهواجس على خطورتها فضيلة إنسانية ــ أكدت أمي السيدة راشيل بنجامين بصوت حازم غير قابل للتردد، دون أن ترفع رأسها نحوي؛ أعني تلك السيدة التي استقبلت كما القطة جسدي الغريب عن رائحتها ــ وحسبها فالهواجس دوما تأخذنا نحو خيط فضي، يلوح بين أعيننا ونحن نترقب قطار النوم، نتمدد على أرجوحته قبل أن يلفنا ملاكه الرحيم؛ ملاك النوم، في غطاء حريري ناعم، إنها تبدأ مثل هواية مراقبة النجوم، ومطاردة الفراشات في الحديقة، قبل أن تتحول إلى عادة، عادة مطاردة الفراشات في الحديقة وإمساكها ثم وضعها داخل صندوق زجاجي شفاف، لنرى تخبطها، ومن تلك الرفرفة يمكننا أن نذهب أبعد حتى من صيد الفراشات، إلى أماكن أخرى وعرة ومظلمة، وفي العتمة نمد أيدينا لنمسك بطرف ذلك الخيط ليقودنا نحو مغارة علي بابا المغلفة بالأسرار، نمني النفس بالكنوز الثمينة، هل المغارة هي بيت راشيل بنجامين، أين تنمو الحشائش في غير تهذيب، وتمد أعناقها نحو نافذة غرفتها المعتمة ذات الستائر السميكة؟ من هي الفتاة التي تطارد الفراشات في الحكاية راشيل أم أنا؟ في البداية كنت صائدة الفراشات ولكن مع مرور الأيام تغير موقعي في الحكاية، لعلي تحولت إلى فراشة في صندوق راشيل، هل كان الصندوق مجرد حكاية؟ ولم كنت أتبعها في الحديقة وهي تترصدها عند شجرة التفاح؟ تلقي عليها مظلتها العريضة وتضحك بأعلى صوتها كمن ينتقم من عدو لذوذ وتتسع عيناها، عينا العجوز وتنفتح طيات جيوبها،ويتناثر الرذاذ من فمها فتمسحه بطرف كمها. وفي الليل تعيد حكاية صائد الفراشات، التي تضيء العمر، إنه عامل السرك المسرح من الخدمة، الذي كان عليه البحث عن حيلة جديدة تقنع الجمهور. وفيما راح ظلها يتضخم فوق الجدار، ليطرد ملاك النوم ويسقط سلته العامرة بالأحلام الدافئة، صار ملاك النوم الرحيم يتمهل على الدوام ، قبل أن يحمل إلى الطفلة سارا سلة عامرة بالأحلام الدافئة لكنه يتأخر دوما عن الموعد ، لأن راشيل لا تفتح له الباب. إلا بعد أن تتفقد صندوق فراشاتها، وهي تقود الطفلة عبر الرواق المعتم حيث تلفحها ريح الليل الباردة عبر النافذة الصغيرة نصف المفتوحة المطلة على الحديقة، وهناك في الغرفة المجاورة للمطبخ تبتسم راشيل، تبتسم للفراشات اليابسة في العتمة، وفي الصباح تفتح الصندوق وتعيد تثبيتها فوق اللوح بدبابيس حادة تنزل لشرائها من السوق.

 مضت راشيل بنجامين نحو السماء وخلفت الفراشات مثبتة على اللوح الخشبي، بالأحرى بقايا فراشات متآكلة؛ أجنحة متناثرة، بقايا أرجل، غبار في قاع الصندوق أجنحة أنصاف أجنحة. كانت تحمل مشروعا غامضا، لا أدري أكان حقيقيا أم هو مجرد مشروع رمزي.

 3 - الأحد : التاسعة مساء(دون ذكر التاريخ)
 ـ راشيل ! أكانت لغزا أم مجرد مجنونة هادئة؟!
 أشعر أن الحياة لم تمنحها الوقت الكافي لأعرفها، لأعرف سر ابتسامتها في العتمة، طبعا ماتت بعد عمر طويل، أعني في التسعين،. ليس الذنب ذنب الحياة ، ولكن المسافة الشاسعة الممتدة بيننا مثل الصحراء هي التي حالت دون تعارفنا، أعني دون أن تتمكن يوما من الحديث الهادئ الصادر من منطقة صافية في روحها، تتحدث بصوت هادئ، دون أن تضطر لاستعمال عبارات من قبيل اللعنة وتبا، وسئمت، إنه قاموسها الجاف اليائس.

 على كل لم تنزع راشيل جميع أقنعتها، لعلها لم تجد الوقت الكافي لتفعل، أو على الأرجح لم تجد الشجاعة الكافية، من يدري؟ بعد رحيلها أيقنت أني أشد الناس جهلا بها، وطبعا إلى هذا الحد فلا أحد يعرفها سواي، ذلك أن راشيل ليس لديها معارف أو أصدقاء أو أقارب، تبدو امرأة مكتفية بذاتها، لا أذكر أبدا أنها استقبلت شخصا غيري في بيتها، ماعدا جارة عجوز تدعى جاكلين رحلت منذ ثلاث سنوات، وكأن أمي أخذت على عاتقها مسؤولية ألا ترهق ألبومها وأجندتها بأسماء وصور وأرقام هواتف، إنها عملية روتينية متعبة، وإذا كان مصيرهم في النهاية هو الشطب فما جدوى كتابة أسمائهم بالأساس؟ أو لعلها عرفت كيف تؤثث أيامها بي أولا كخطوة أولى نحو مشروع حياتها القادمة، وكانت مازالت رغبتها في الحياة متأججة، ثم اخترعت حكاية الفراشات لتتلهى، بجدية العالم تعلقها في اللوحة، لتتأكد أن الحياة هي مجرد نثار غبار يتساقط من الفراشات. تضحك كلما سقطت فراشة على الأرض، كلما تخلى جناح عن الجثة، كلما غادرت رجل موضعها. حياة بكاملها بكل هبائها ظلت معلقة على اللوح الخشبي، وفي الصندوق. قضت سنوات تلملم بقايا أيامها المهلهلة دون أن تكون لديها رؤية واضحة إزاء المشروع، كنت أسألها لم تفعلين هذا يا أمي، ودون أن تلتفت إلي. ألا ترين؟ أنا أجمع الفراشات.

ــ وماذا ستفعلين بها؟

ــ أووه يا لك من طفلة مشاكسة، أجمعها؟ كانت هذه هوايتي منذ الطفولة، أليست جميلة انظري إلى أجنحتها الطرية الملونة.

 لا حقا وعن طريق صدفة خرقاء وجدت أمي مشروع حياتها، الهدف الذي سيمنح معنى يتماهى وحقيقتها، إنه تمثال السيد جوزيف رومان، لا شك أنها أجمل هدية حظيت بها،أهم حتى من جوزيف نفسه، الآن عندما أرى وجهها يطل علي من تحت التمثال حيث يسقط ضوء واهن، أوقن تماما أنها كانت تتعايش مع الموت بطريقة ما، وفي السنوات الأخيرة نسيت البيت وأعماله. كانت حياتها فارغة تقريبا، إنها حياة بلا مجد وبلا هدف، ولعل مجدها الوحيد هو أنا، لقد ربتني كما جرو صغير، ولم تكن بحاجة طبعا لتدربني على لعق الحليب وضرب رجليها بذيلي، على كل هي مشكورة، فلولا التفاتتها الطيبة ما كنت هنا فوق هذا السطح الأغبر المسمى الأرض، و لكان الجرو الصغير قد انتهى كلبا ضالا في المزابل. ولكن من أكون لأعتب على حركاتها الغريبة، حركات تتجاوز ما تمتلك من قوة متهالكة، هاهي تفتح الباب على مصراعيه وتأذن لي بالدخول، لم تتكلم، كانت إشارة عينيها من خلف النظارة كافية لأفهم أنها تريدني، فتسربت نحو الداخل حيث العتمة ورائحة الرطوبة والتمثال الشمعي، مثل سحلية عليها أن تعيش بياتها الشتوي.

ــ أقلت إن راشيل كانت تحبني؟ لا شك في ذلك، لكن ذلك الحب، لم يكن بالطريقة التي أريد، كان يبدو نوعا من الحب الغريب، أو حبا قسريا فرضته الظروف، طالما أن الحب أصناف ودرجات، لعل حبها يصنف في الدرجة الدنيا، إنها مسكينة على الرغم من ذلك.

2-
 ورثتني أمي بيتها الريفي القديم، فضلا عن ثروة من الهواجس السوداء ذات الكتلة الرهيبة، وحين تهب من كل الجهات وتحاصرني عند المضيق الخانق،أبدو مثل ذبابة يابسة في بيت العنكبوت الشرير، كما لو كانت قدرا قاسيا ووسواسا قهريا، لم تكن تلك الهواجس يوما رحيمة بي ، كانت تنشب أظفارها في جسدي و تنهش لحمي كوحش جائع، لدرجة خيل إلي فيها أني غير قادرة على تمييز صورتي ووجهي. يصرخ صوت غريب آت من بؤرة ما في جسدي، صوت ينتمي إلي ولا أعرفه، لأنه من الخشونة بحيث لم أعد موقنة أنه ينتمي إلى منظومتي الجسدية، يتماهى مع صوت راشيل في أيامها الأخيرة ، كأنه صوت ينسل من قلب الظلام، يخرج من رحم الغيب ليرتطم بالأرض، ليس صوتي بالتأكيد: هل سأراها؟ يخترقني ذاك الصوت ؟ كيف هو وجهها؟ ما شكل إطلالتها الأولى؟ كيف ستراني؟ هل ستتعرف إلى بعض بذور رحمها التي نثرتها الريح في مكان ما، كما تفعل ببذور عباد الشمس و الأزهار البرية ؟ مرهقة أسئلة الانطباع الأول الفائرة، تغفو عند فوهة القلب دون اكتراث. تلك الأسئلة المعلقة على الحافة المسننة وهي بحاجة إلى إجابات، أجل إجابات مسكوكة بأدلة، ذلك أنها ستقود بدورها نحو ضفاف أخرى، شواطئ مهجورة و هويات جديدة لها طقوسها، ما كانت لتخطر على بالي، بكل ما ينجر عن ذلك من أوراق ووثائق وطلبات ومقابلات وربما محاكم، وأشياء أخرى مملة ومعقدة، وربما رهيبة، سنضطر لفتح صندوق الذاكرة ولفتح بعض القبور المنسية على الرغم من رائحتها النتنة، أجل بعض القبور تقادم بها العهد ، لكن الرائحة النتنة مازالت تفوح منها.

 ــ الأمور أكثر تعقيدا مما قد تبدو للوهلة الأولى.

 ــ أكبر من مجرد عبارات طائشة نثرتها راشيل بنجامين( غير أن هذا الحديث يبقى سابقا لأوانه، أشبه بالحديث عن التتويج بالماراثون عند بداية السباق).

 ــ لا يا عزيزتي سارة، لم تكن تلك عبارات طائشة، أطلقتها راشيل بنجامين، بل كتبت رسالتها وهي في كامل وعيها، كتبتها منذ خمس سنوات، كانت أكثر شبابا، خطتها بعبارات دقيقة، انظري إلى التاريخ : 23 أفريل 1986 م .

ــ 1986 ؟ يعني بعد تعرضها للأزمة القلبية ، دخلت المستشفى و...

ــ أجل بعدما خرجت من المستشفى، وبعد فترة النقاهة قصدتني توا، كانت تحس تهديدا ما، إنه التهديد اليومي الذي يتربص بنا، تهديد الموت، مع أنها يومئذ كانت تبدو بصحة جيدة، وقد بدأت تستعيد عافيتها، لذلك سارعت راشيل لكتابة وصيتها وتركت لك هذه الوثائق أيضا، إن لم تصدقي يمكن عرضها على خبير خطوط.

ــ هل هذا ضروري؟

ــ المحكمة ستطلب ذلك على كل حال، هذه أمور معمول بها، ولا داعي للقلق، ستجدين كل شيء داخل هذا المغلف. هاهو عقد البيت ، انتقلت ملكيته إليك آليا بحدوث الوفاة ، وهو الشرط المدون في الوصية، عزيزتي ثمة أمور أخرى مدونة ، اقرئيها على مهل، لا داعي للقلق، اتصلي بي إذا احتجت أي مساعدة مازلت في الخدمة، كل شيء سيسوى. لن يتغير الوضع كثيرا، حقوقك المالية مضمونة، حتى لو تغيرت باقي التفاصيل الأخرى اطمئني.

 ــ إلى اللقاء.

 ــ إلى اللقاء

 ويومها أيقنت أن راشيل لم تكن غامضة فحسب، بل أشد غموضا من ذي قبل، بدت مثل متاهة معقدة، لا مدخل لها ولا مخرج، وكأن تلك السنوات التي ربطتنا هي محض عقد من الخرز المتآكل.

 كنت قد عدت إلى البيت مساء الاثنين، فوجدتها متوعكة، وبدت أنفاسها واهنة مثل وريقة خريف، حتى اعتقدت أنها ستنطفئ عند هبة نسيم، بالكاد تعرفت إلى وجهها المتغضن، الذي بدا في العتمة أكثر شحوبا من أي وقت مضى، فتحت النافذة، فانزعجت، فأعدت إغلاقها وأسدلت الستائر، علي ألا أأثر على الطقوس التي اعتادت عليها، إنه طلبها الأخير. وبعد يومين من مكوثها في المستشفى لفظت أنفاسها ليلا، كانت صباح يومها الأخير قد تحسنت قليلا، أمسكتني من يدي وقبلتني. قالت إنها بخير، وإنها تتحسن، بل إن أمورها تتحسن ساعة بعد ساعة، وعلى الرغم من التعب الذي كان باديا عليها، فقد ابتسمت للحظات وظلت تنظر في وجهي: كان بود ي أن أصطحبك في رحلة، إذا شفيت سأصطحبك في رحلة إلى الجزائر، نعم سنذهب أنا وأنت ، سأذهب بك إلى قسطنطينة سنبحث عن بيتي هناك؛ ذلك البيت الجميل بحديقة خلفية، تزينها أشجار البرتقال والليمون، والياسمين، أتعرفين؟... غامت راشيل، مثل سمكة سقطت في الماء وانزلقت بخفة نحو الأعماق، متنصلة من خيط الصنارة فانزلقت من يدي بطريقة عجيبة، كما لو كان جسدها مشبعا بالزيت، هاهي يدي فارغة، كأن عين الكاميرا ثبثت المشهد، وحدها ابتسامتها الباهتة بقيت طافية على السطح، ابتسامة ضائعة ضلت طريقها، ابتسامة طائشة انطلقت نحو وجهة مجهولة .... أخيرا واصلت راشيل: سنجلس على الكرسي الحجري الطويل، أتعرفين هناك فوق الكرسي الحجري حكت لك أول سترة صوفية، كان لونها أصفر وأبيض مثل أزهار الياسمين...نعم في الحديقة وفي كل الحدائق المجاورة، كانت تفوح رائحة الياسمين بأزهاره البيضاء والصفراء الصغيرة، يا إلهي ذلك البيت هو قطعة من الجنة. وقد خرجت من الجنة مثل حواء.

 خلال تلك الفسحة التي أهداها الموت، كتبت لي رسالة تركتها تحت المخدة التي اتكأ عليها ملك الموت، وهو يستل روحها، قصاصة صغيرة بخط مرتعش يقاوم بقوة الحياة وحرارتها طغيان الموت الذي بسط نفوذه منذ دخولها المستشفى، كتبت بذلك الخط الواهن مقتنصة غفلة الموت عنها، مثل لصة وكان هو ينظر إليها بطرف عينه ساخرا كما لو كان ينظر نحو طفل محتال، منتظرا اللحظة الحقيقية لبداية عمله : عزيزتي، عند وفاتي اتصلي بهذا الرقم.

 ــ ألو مرحبا.

ــ هنا مكتب المحامية ليزا بالبون، هل من خدمة؟

ــ أجل أنا سارا بنجامين، ثمة شيء لي من السيدة راشيل بنجامين.. صحيح؟

ــ لحظة من فضلك... أجل هناك وصية مسجلة باسمك ، هل ترغبين بمقابلة السيدة بالبون؟

ــ أجل بكل تأكيد.

ــ من فضلك دعيني أرى أجندة السيدة، غدا، لا بعد غد، آنستي موعدك الأسبوع القادم: الاثنين الساعة الواحدة زوالا، أهذا يلائمك؟ ستقابلين السيدة في المكتب.

3-
 قبل موت راشيل كانت الحياة ــ مع إيماني بكونها حقيقة موجعة ــ الهبة الحقيقة الحاضرة في وجودي، الحضور المادي الملموس، أما الموت فيبدو حادثا معزولا، مع أنه حقيقي لدرجة لا تكاد تصدق، كنت أرى نفسي بعيدة عن منظاره، واحدة من هفوات الغرور الشبابي؛ بحكم أن الموت يلتف في غلالة الغيب، هذه الالتفافة نأت

به بعيدا عن محيطي.

 كان هذا خلال العشرين سنة الماضية، ولأن الريح هزت الخيمة التي كنت أستظل تحتها، كما يحلو لأحمد أن يردد ـــ وبفعل الرسالة، انقلبت الأمور من أساسها، تقوضت حياتي لدرجة النقيض، ففي ظلام الهواجس وحدها قد يتحول الموت إلى حقيقة ثابتة، بينما تنتقل الحياة تلقائيا إلى الهامش المعتم،الهامش البعيد، لذلك تتبادل أسئلتي أدوارها: حية أم ميتة؟موت أم حياة؟ من البطولة إلى دور الكومبارس والعكس: - هل ستقودني نحو رائحتها

الموت بذرة الحياة والحياة بذرة الموت، يبدو الأمر مثل لعبة الاختباء، ضوء وظل ، ليل ونهار، ربيع وخريف، بذرة اللوز داخل القشرة اليابسة، زوجي أحمد يردد دائما كأنما يردد أغنيته المفضلة:" الحياة في الموت والموت في الحياة ". أيهما المركز وأيهما الهامش؟ أيهما البحر وأيهما الشاطئ ؟ بل إنه يستعين بالقرآن أعني الكتاب المقدس للمسلمين : " يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل و يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ".

أتململ على مقعد طائرة البوينغ المتوجهة الآن من مطار أورلي إلى الجزائر في الرحلة رقم 1225، وهذه حقيقة كالهواء المتسرب إلى رئتي، أي أنها حياة، مثلما أن يد أحمد تمسك يدي وملمسها ناعم والدفء يتسرب من مساماتها، وهو ما يعني أن الضوء المنبعث من كوة ما في العالم هو حقيقة أيضا، الضوء الذي تحدثت عنه السيدة راشيل بنجامين الضوء الذي علي تتبع طرفه لبلوغ الهدف، في نهاية الخيط على الطرف الآخر من البحر الأبيض المتوسط: هل مازالت البذرة داخل قوقعة اللوز؟أم تراها انطمرت في قلب التراب مولية رؤاها نحو الماضي، من يدري؟ قد يكون للمستقبل حظ لديها!

 الحياة هي صندوق بنادورا العجيب ومنه تتطاير الشرور والآثام كما يتطاير زبد الأفراح. من الحظ أن أكون في حفلة ألعاب نارية،لكن المشكلة من سيوجه لي بطاقة الدعوة لتلك الحفلة؟ لتتزين سمائي بتلك الأنوار؟ بعد ساعات يمكن أن تتلألأ إن ابتسم الحظ ،وتكلمت المرأة المسماة نوارة، هل ستجد الشجاعة الكافية لتعري كامل الحقيقة؟ عمرها اليوم سيمنحها مزيدا من الامتيازات،أعني أن تجاوز الخمسين سيتيح لها الكثير من الحرية لتضئ زمنها الغابر، إن كانت على قيد الحياة، يمكنها أن تنظر إلي بعين جديدة لا تعرف الخجل، عين الحقيقة الجامدة، هذه احتمالات، خيالات في كثير من الأحيان، هواجس، هواجسي اللعينة التي خلفها صمت السيدة راشيل أو بالأحرى كلامها الذي عرى رأس الجذر العائم.

 لهذه الحقيقة عدة وجوه، زوايا متعددة، وعلي الاتصال بمختلف الأطراف و الإنصات إليها جميعا، أهم شيء دربت نفسي عليه خلال سنوات الانتظار هو التقليل من حدة الانفعال، كل أولئك الذين جعلوا مني سارة بنجامين ــ المواطنة الفرنسية المتحررة، الآتية نحو المستقبل بثقة أعني الأحياء منهم و الأموات.

 والحقيقة مثل شبكة العنكبوت تلتف وتلتف. و أنا لا أمسك إلا بطرف واهن في قصة مهلهلة، ويبدو أن لهذه القصة فصول طويلة وشخصيات وعقدة شديدة الحبك، لا أدري هل أنا مع قصة بوليسية متشابكة الأحداث؟ لا أعرف. لقد قلت إني أتخبط داخل متاهة، كفأرة التجارب سيئة الحظ، ولا أدري إن كنت سأعرف المخرج. يبقى هذا مجرد كلام، خواطر تلامس جدران القلب، فراغات تملأ فجواتها المخيلة، وبالنظر إلى ما لدي من معطيات يمكن أن تكون رحلتي مجرد زيارة مجاملة إلى الأرض التي ولدت عليها وفاء لذكرى راشيل، وهي في الأغلب زيارة عارية من مشاعر الحنين، ما أراه هو ما رأته عين راشيل، وراشيل ولدت هناك وأحبت هناك وعاشت هناك، كل حركات حياتها رقصت هناك ولاعبت الشمس جسدها وعطرته . لذا علي أن أستعير عينها. هذا إن فشلت رحلتي و خسفت نوارة قمر الكلام . فيمكن أن تنطفئ نجوم قصتي إلى الأبد، وأظل سارة بنجامين القابعة فوق مسامير الشك، يمكن أن تموت الأسئلة على لساني، وماذا لو غادرت السيدة نوارة إلى العالم الآخر؟ هل أخذت سري معها إلى القبر؟ جائز! كل شيء بين يدي هذه المرأة، بين راحتيها، لقد ولى زمن راشيل وتدفق نهر زمنها، زمن نوارة وعليها أن تثبت جدارتها به، وهي من سيكون لها شرف فتح صندوق بنادورا المليء بالحكايات . كيف هي المرأة التي قيل إنها أمي، أمي بالرائحة والدم والانتماء؟ لا شك أنها تتلفع في ثوب فضفاض يسمونه الحجاب، كذلك الذي ترتديه مليكة صاحبة مطعم البركة، وهي فضلا عن ذلك، وفي بؤرة الموضة وربيعها تبدو مطمئنة تماما إلى ثوبها، فتعقد حول رأسها منديلا يمتد ليغطي رقبتها و صدرها مانعا تطفل الشعيرات الفضولية، كما تفعل النساء العربيات، غير أن هذا ليس هو مركز الهزة، وبؤرة الزلزال تكمن هنا: هل ستفتح بابها الموصد لأسئلتي؟ عم ستحدثني تلك المرأة نوارة؟ هل ستنظر في وجهي؟ هل ستجلس قبالتي وتنظر في عيني بحثا عن سرها؟ وتمد يدها لترفع وجهي بين يديها؟ هذا كثير، كثير علي في اللقاء الأول، أم أن هوة من الدماء والدموع والأحزان ستفصل بيننا مثلما يفصل البحر الأبيض المتوسط بين الضفتين؟ وماذا لو أشاحت بوجهها عني؟ وانزاحت تلك النظرة المرتابة ماسحة قامتي متلاشية على عجل ؟

 في هذه الرحلة وفي كل ما سيعترضني من مفاجآت ومخاوف وأفراح ــ بدرجة أقل ــ وفي كل ما يسكنها من غموض واحتمالات غير مثمرة وعناقيد يابسة أو طازجة، في كل الصناديق المقفلة والمفاتيح الموعودة بالرنين،أنا مدينة لتلك الحزمة من الخواطر التي عششت بذاكرتي، نبتت كما حشائش القبر، منذ أزيد من عقد،أي منذ الرسالة التي تركتها السيدة راشيل بنجامين تحت وسادتها، وتسللت نحو السماء خفية. يمكنني القول دون ارتياب بأن رسالتها هي بداية طريق الشك للبحث عن تاريخي ، ميلادي الغامض، الطفلة العارية على رصيف الضفة الأخرى التي علي المروق نحوها. أكنت طيلة تلك السنوات مجرد كذبة افتراها الآخرون، ورسموا اسمها و تاريخها ومنحوها هوية وحياة، كما لو كنت دمية معطلة الإرادة، لعبة بيد طفل يتحكم بها عن بعد، في صورة شابة فرنسية ــ كما تقتضيها الصورة النمطية المثالية ــ حرة و حالمة وتستمتع بالحياة، تدرس بالجامعة وتترقب المستقبل بعينين لامعتين، تضمران بين الحين والآخر شيئا من الريبة، هذا صحيح في جانبه الخفي؛ فالخوف من الآتي ــ بدوره ــ أحد الأسرار التي تنام عليها سفينة الحياة، دون أن تتوانى عن التحليق مثل الفراشة من بستان إلى آخر، تمتص عسل أيامها برفقة الأصدقاء: جاك وسيلين وإدموند... لعلي كنت سعيدة بتلك الحياة ،مع أن قرون القلق لا تتوانى عن الظهور بين وقت وآخر، خصوصا ما بعد منتصف الليل، إنها مثل مخلوقات العالم الخفي: لا تظهر إلا في الليل لنرى وجوهها البشعة وأنوفها الطويلة المعقوفة وعيونها الحمراء الملتهبة بألسنة الشرر.

 كانت تطل من نوافذ غرفهم المؤثثة بوجوه الممثلين وأبطال الكرة: الصورة المكبرة لمدلل الكرة الفرنسية زيزو، الغريب أن بيننا قاسما مشتركا فهو ينحدر مثلي من دم جزائري . ولكن التفاصيل هي أمر مخيف حقا ، لأن التفاصيل وحدها هي التي تمنحنا الخصوصية، وهي نفسها التي جعلت مني كائنا مختلفا ، لعلي نوع من المسخ؛ لاتحاد مخلوقات بشرية بأخرى غير تلك التي نراها في أفلام الرعب والخيال العلمي، من المنطق أن أكون كذلك، ولحسن الحظ أني لا أحمل تشوها كبيرا في جسدي وإلا كنت المسخ عن جدارة، عندما يلتقي الحقد والكره ماذا سينجبان أكثر من مسخ؟ من الحظ أني لم أرسم الصورة الحقيقية، وهل هناك صورة حقيقية ؟ بالفعل، كل شيئ،هو خلق خيال ناعم،ملء للفراغات والبياض. لحسن الحظ أني ما كنت صنفا من فرانكشتاين، لعلي كذلك على المستوى الرمزي، بطريقة ما أنا ترجمة لتشوه فظيع ، خلاصة علاقة غير سوية طرفاها الحقد والكره. لا شك في ذلك.

 ثمة أسئلة تفرض نفسها ، تاريخ ميلادي يحمل رائحة الشك، كيف أكون في ذلك الزمن الملتهب حصيلة زواج جزائرية بفرنسي؟ لا أعرف إن كان أبي فرنسيا بالتحديد ولكن راشيل أشارت إلى هذا الاحتمال، لعل ملامحي كشفت لها السر، ربما، ربما تعرف من يكون أبي، ولم تشأ وضع يدي على الصفحة المحددة، أهو مجرم حرب؟ خريج سجون؟ قاتل محترف؟ متورط في أعمال مشبوهة كاغتصاب النساء والأطفال؟ متهم بالتعذيب؟ كل شيء وارد. وهذا كلام آخر سابق لأوانه ، إنه في الرف الموالي لرف نوارة مباشرة.

 يعشق إدموند زيزو وتحبه سيلين كذلك، أنا لا أحب الكرة، لهذا ليس لدي نجم مفضل، ولا أحضر المباريات على الرغم من إلحاح الرفاق،ربما كنت أحب الشعر أكثر، في أحسن الأحوال أكتفي بالإنصات إلى نقاشاتهم الملتهبة وأضحك من أحاديثهم عن النجوم والقذفات والأهداف، تحتد النقاشات حين تنبعث من أسرتهم عطور الدخان والمخدرات، وتعلو دوائره مثل اللانهاية وتنتشر في الأفق الغامض، فيبدو النظر باهتا ومشوشا وتتجمد الحواس المخدرة، ويصرخ إدموند وينتصب واقفا وشعره الأشقر بشكل أشواك القنفد لامع بفعل الهلام على إثر مناقشة حامية كأنها معركة، لم نكن وحدنا ثمة كوكبة أخرى من رفاق الجامعة انضمت إلى القافلة، قافلة الشبيبة القادمة، النساء والرجال الذين سيصنعون المستقبل، النخبة التي عليها إدارة دفة الحياة كما لو كانت تقود دراجة نارية مجنونة ، لعل فيليب يصلح لقيادتها، بينما تركب روز خلفه، إنهما متلازمان فمن الطبيعي أن تركب خلفه، وماذا عن روبير زعيم الصحافة الإلكترونية ، ملك التدوين ، لعله سيرأس مركزا للاستشراف، يبدو ذلك في عينيه الثاقبتين، ومن البقية ؟ جاكلين وغيوم وإيميلي، وذلك الشاب القصير الذي لا أعرف اسمه، وتلك المتعجرفة هناك من تحسب نفسها؟ نعم ، إنها شبيهة مارلين مونر. ومن يدري لعلها الشبيبة القادمة ، إنه المستقبل يرتسم أمامنا في الطابق الأرضي للبيت المهجور. يقطع إدموند التطلعات والأحلام والمغازلات بصوته الأرعن: أنا ملك الضباب والأفكار الغائمة،لا توجد حقيقة في هذا العالم ، هناك الجدران المتهاوية، الجدران المتهاوية، فحسب ....هاهاهها "، يحتضن إدموند القيثار ويغني كالمجنون، بينما ترافقه سيلين راقصة، وكأنهما ينشران العدوى بين الجميع ، فتندفع الأيدي والأرجل متجاوبة مع الموسيقى فحسب، إنها أجساد نصف واعية، تتحرك فحسب مطلقة العنان لما تريد الموسيقى قوله. في حين ينزوي جاك الحزين ــ هذا هو اسمه في المجموعة ــ في الزاوية، ينكمش على ذاته وهو يرقب مشهد امتداد النار إلى بيت صديقه ، وحين تخمد النيران التي أشعلها قيثار إدموند الكهربائي وينتشر الرماد مادا بساطه الكئيب على الرفوف والأسقف والأبواب والنوافذ والستائر، بينما يسترخي هو على الأريكة لاهثا، وفي محاولة جادة لإعادة الحياة إلى الأشياء المحيطة وترتيبها ومنحها هذا الامتياز الرصين؛ الأزهار النضرة في المزهرية والستائر المترقرقة والطلاء اللامع، ثمة أصابع سحرية تمر لتعيد للون روحه،دائما بصمته الهادئ يتقدم رجل الإطفاء ليطفئ النور، ويجلس إلى البيانو في العتمة تحت ضوء الشارع المختفي خلف الحديقة ويعزف قطعة لبيتهوفن،عادة السمفونية التاسعة هي المجاورة لروحه لا أدري لم كنت أفضل الفصول الأربعة لفردي فأرجوه أن يختم العزف بها قبل أن نغط في نوم مشوش لا يوقظنا منه إلا جرس الباب، حيث يقابلني عادة وجه راشيل، جاءت باحثة عني لتصطحبني إلى البيت بعد أن خرجت غاضبة إثر مشاحنة بيننا، وهناك تعد لي فطيرة التفاح بيديها المتعرقتين البطيئتي الحركة، وفطيرة التفاح هي عقد الاعتذار بيننا، دون أن نجد الشجاعة لمناقشة ما فات، بدأ الأمر بمناوشة صغيرة، حين قلت لها: يا أمي كفي عن تكليم هذا التمثال، إنه مجرد تمثال من الشمع ، أتذكرين يوم صنعه السيد ريمون جينيور، كان فنانا هاويا من الدرجة العاشرة، يعمل في الساحات العمومية، وأمي رأت تمثالا معروضا أمامه لصبي صغير. ابتسمت فجأة حيث لم تكن مهيأة للابتسام ، رأيت بريق المكر في عينيها، وعرفت ابتسامة الشيطان ترقص هناك.

ــ من هذا الصبي الوسيم؟

 ــ إنه ابني، جورجيو المسكين، ملاكي الصغير، لقد مات يا سيدتي دهسته عربة مجنونة. اللعنة على هؤلاء السواق الذين لا يحترمون مشاعر الأمومة والأبوة، إنهم بلا قلب...

 ــ أهو للبيع؟

 ــ لا، لا جورجيو الصغير ليس للبيع، إنه للعرض، نحن لا نتاجر بأبنائنا ، نحن فقراء صحيح، لكننا لا نتاجر بأبنائنا يا سيدتي ولا بمشاعرنا، أنا فنان، انظري إلى أصابعي، يمكن أن أصنع لك تمثالا لأحبائك، أعرض خدماتي لأتقاسم الأحاسيس مع الناس كما شطائر البيتزا هذا ما أريده لقاء بعض القطع النقدية، أسد بها رمق أطفالي، لقد جئت من أرض بعيدة ... تقاطعه أمي:

 ــ نعم إنها فكرة جيدة. هل يمكنك الحضور إلى منزلي، علي أن أريك الموديل ، عليه أن يكون مطابقا، الإتقان مطلوب وستنال حق أتعابك ، اطمئن.

 ــ جيد اتفقنا، متى نبدأ العمل؟

 ــ إذا شئت غدا.

 ــ لنتركها بعد الغد.

ــ خذ العنوان، لا تنس.

ــ اطمئني سيدتي إلى اللقاء .

ــ إلى اللقاء.

 جذبتني من معصمي، وعدلت المظلة على رأسها وقالت ضاحكة، أخيرا سأحقق حلمي، وسأفي بوعدي، تعلمين ، تزوجت السيد جوزيف رومان بعد قصة جميلة، كنت صبية رائعة في ريعان الشباب واعدة بالحياة، وكان الهواء رائقا في مساءات الربيع، والشمس، آه لتلك الشمس! أنت لا تعرفين تلك الشمس في أرض الأحلام، إنها أجمل شمس رأيتها، لا إنها أجمل شمس في الكون تلك التي تشرق في قسنطينة، شمس مهذبة وحيية، شمس متوهجة، شمس متغطرسة في الصيف، كيف فرطنا في تلك التفاحة الذهبية؟ أتمنى أن أعود قبل موتي لأرى تلك الشمس.

وبعد وفاته لم أتزوج ، لم أرغب ببناء حياة جديدة ، كنت أرى في ذلك خيانة لأسرار وسادته، لهذا خطر ببالي أن أصنع له تمثالا، هذا أقل ما يستحقه، لئن كانت السلطات قد نسيته كمحارب دافع عن شرف فرنسا ومات لأجله، فأنا لن أنسى ما حييت ذلك، من تقلب على فراش الانتظار القاسي؟ من مشى فوق الأشواك ؟ أنا طبعا، وهل هناك غيري؟ لست جاحدة، كنت أقمت له التمثال أولا في قلبي، وهاهي الفرصة تواتيني، هل ستأتي مرة أخرى لتدق بابي؟ أشك. إذن يا عزيزتي سارة علينا أن نستعد لاستقبال الضيف العزيز، غدا سنرتب الغرفة، ونهيئ مكانا للتمثال سأضعه في البهو ليستقبل الناس، لا ليس لدينا ضيوف سأضعه في غرفتي، لأعوض السنوات، حيث تقاسمنا السعادة أنا وهو وحدنا، إنها غرفة رمزية تحاكي غرفتنا هناك.

كان منظرها البائس ذاك يدفعني نحو حافة الجنون؛ انعطاف كتفيها، نظاراتها الطبية السميكة ذات الإطار المذهب في محاولة يائسة للبحث عن مجد زائف، شالها من الصوف المسدل على كتفيها في أسى، هي لا تريد أن تعترف فقط لسبب واحد، تريد أن تحيا لأجل تمثال جوزيف رومان، امرأة مجنونة لا شك في ذلك، لا تريد الاعتراف بأن الحياة مضت وخلفتها على الضفة المهجورة.

 في بعض الأحيان تتملكني الشفقة فألح عليها بالخروج:

ــ هيا نخرج لنتسوق، كل الناس يفعلون ذلك.

 تحدق راشيل كالمصعوقة في عيني:

 ــ ولم علي أن أخرج، أنا مرتاحة هنا في بيتي.

 ــ أرجوك ماما لنذهب إلى المتنزه، لنشم بعض الهواء النقي، ستجدين من هم في سنك، رفقاء جدد، هواء جديد ، طيور تغني وأطفال يمرحون ، ستسعدين حتما يا أمي، وسيعتدل ضغطك.

 ــ ومن قال لك أني بحاجة إلى رفقة أم تحسبين أني مجنونة ؟

ــ كلا لم أقل هذا.

ــ ماذا تقولين إذن؟

ــ لا شيء، ابقي مع التمثال،افعلي ما تشائين ودعيني أفعل ما أشاء لا تبحثي عني مرة أخرى.

 ــ لن أبحث عنك، فتاة عديمة الفائدة، أرجو ألا تعودي إلى بيتي مطلقا، دعيني وشأني، ناكرة للجميل. قطة متشردة، اللعنة ،أمازالت تلك الدماء تسري في جسدك؟.

4 -
 في الطابق السفلي لمنزل إدموند المهجور، ألفنا ما يسمى بعصابة أجنحة الفرسان، فرقة مسرحية همها مقاومة الآلهة الأرضية الشريرة، هكذا يبدأ الشباب الثائر رحلته، نافضا أجنحته متوجها نحو سماوات التجريب، مخترعا أشكالا ووجوها وألوانا جديدة، قبل أن تقوم الأيام بقص أجنحتها، وقبل أن ترسو السفينة الهالكة على الشاطئ المهجور، كان على الفرقة أن تبحث عن أفق، عن مساحة صغيرة في سفينة العالم المزدحمة بالطموحات والمشاريع والرؤى. كل مسرح ناجح ينطلق من المسرح اليوناني، إنها القاعدة الذهبية للإبداع. لكن كيف سننحرف عن التكرار؟ سألني جاك ــ لا أريد أن نعيد التمثيليات الكلاسيكية ، فلها أهلها من المختصين، أنا أريد تصورا جديدا، ما رأيك لو نحتفظ بأسماء الشخصيات ثم نعطيها تركيبة نفسية وزيا مختلفا؟ صرخت واو جيد... سنرى ما يقوله الأصدقاء، إدموند عنيد وسيلين ستقلب الأمر مليا، ثم تلوي شفتيها، يبدو لي صعب التنفيذ، لكن سنحاول. لا بأس أخيرا اقتنعت الفرقة أنه لا بد من التجديد، و إلا سنسقط في بطن الحوت الكبير المسمى التكرار، وعندها سنخلي المقاعد لمنافسينا في فرقة "العاصفة القادمة"ونهديها مقاعدنا في كل المسارح، وتلك ضريبة الفشل.

 "العاصفة القادمة "فرقة مغرقة في الحداثة، أذكر التصفيقات والضحكات التي استقبل بها الجمهور شخصية الكونتيسا ماري، كيف سأصف الكونتيسا ماري؟ مزيج من الجنون والعقل، حزمة من الذكاء الخارق والغباء الأخرق. أجل قالت لرفيقها، اسمع الأغبياء يفهمون بعضهم جيدا، ثم صاحت يا أغبياء العالم اتحدوا. لقد كانت تلك اللقطة من الكونتيسا ماري بثوبها العريض ذي الأجنحة وعصاها السحرية الغليظة التي تفقد مفعول سحرها في اللحظة الحرجة، بمثابة الانطلاقة بالنسبة لهذه الفرقة، التي تخلت تماما عن الرومانسيات الحالمة والجمال الممجد، لتشيد بناءها على ما يسمى بفلسفة البشاعة، إنها بعض الأفكار الغريبة الرائجة، التي تبشر بذوق جديد، ذوق الحداثة وما بعد الحداثة، صخب الستينيات والسبعينيات، هذا هو الميراث الذي تبنيناه.

 بالنسبة لنا لا أقول بأننا حذونا حذو غريمتنا، وإلا كنا أعلنا النهاية أمام الجمهور وقدمنا رقابنا للجز أمام الصحافة الطلابية، لذلك اجتهدنا تماما لتطوير عرض جاك، كاتب نصوصنا المتميز، وقضينا الليالي نرسم الشخصيات التي تدخل أدغالا جديدة في النفس البشرية، إنها أفكار جاك أحيانا، لكن الأفكار الغريبة تتدفق من خيال إدموند الشبيه بالمغارة.

 كثيرا ما أحب إدموند دور هرقل، وجاك دور يوربيد، أما أنا فأحببت دور بينيلوب كأني منذ البداية موعودة بالانتظار وبأسوار إيثاكا العالية، أنا هكذا أراها عالية دوما، أعلى من قامتي. أما سيلين فتقمصت روح فينوس تارة وهيلانة تارة أخرى، كنا نغرق لساعات طويلة في تحضير بعض العروض ونؤديها أمام الطلاب. ثم ننتظر بشغف تعليقات الصحافة الطلابية .

 ولكن العمل في بعض الأحيان قد يكون عسيرا ومملا على غرار الأعمال الفنية عادة، يتمرد على صاحبه، يحرن مهر الإبداع فيفلت اللجام ويسيح في الحقول، عندها فقط يقوم إدموند إلى الثلاجة ويفتح قوارير الشراب، فقط لتمر فترة الفراغ تلك بسلام، لنقدر على مواجهة العجز والجفاف الذي يكتسح المخيلة مثل الرماد.

 هل قلت إني بريئة؟ طبعا لا! تقاسمت مع الأصدقاء كل شيء؛ الرغيف و الشراب والدخان والفراش، هذه هي نزوات الشباب الطبيعي، ولكن بعد سنوات سأعرف أن بعض الشباب في النصف الجنوبي للأرض لم يمضوا شبابهم على هذه الشاكلة، ولم يعرفوا العالم الخفي للمرأة إلا ليلة زفافهم، إنه أمر غريب حقا!

 في تلك الأوقات الجميلة التي طرزنا حواشيها على طريقة المظلات النسائية الغجرية الزاهية بالغناء والموسيقى وباللهو وبالضحكات في لحظات النجاح التي تقاسمناها مثل سيجارة وحيدة، تحت تصفيقات الجمهور، وبعدها يبدأ الاحتفال عند منتصف الليل، أما في مواسم الفشل فكنا نتحالف. ليواجهني في الصباح الغائم المشوش وجه راشييل بخطوطه المتضاعفة مثل الموجات على سطح الماء، تلك الموجات التي تروح تكبر وتكبر فتتلاشى راشيل وتخرج غاضبة.

 5 -
 ــ يحدث أن نتسلق أسوارا جديدة، هذا كل شئ ــ أجبت سيلين على الهاتف رافعة كتفي في لامبالاة ــ

 ــ عن أي أسوار تتحدثين ياسارا؟ ما هذا الغموض؟

 ــ أنا واضحة ، قلت لك هناك أسوار جديدة علي تسلقها.

 ــ هل أنت ذاهبة إلى الهملايا؟ صديق جديد يا سارا؟!

 ــ .........................................

ــ الفرقة يا سارة، كيف سندخل المسابقة من دونك؟ إدموند يرجو عودتك يا بينيلوب، من سيقف على أسوار إيثاكا؟ من يترقب إيليس؟ من يغزل الثوب غيرك؟ من يخاتل أعيان إيثاكا غيرك يا بينيلوب؟

ــ أعذروني لا أستطيع العودة.

ــ هل نأتي إليك ؟ الأصدقاء متحمسون، جاك وإدموند يتوسلان إليك إنها فرصتنا ياسارة أتعلمين فرصتنا نحو الشهرة والمجد...

ــ لقد ماتت أمي يا سيلين.

ــ وإن يكن، سنأتي إليك، إدموند يعرض عليك الإقامة ببيته،لا يمكنك الخضوع لشروط الحزن المريرة.

ــ ثمة أسرار اقتحمت حياتي، لم أعد فقط سارة بنجامين، أنا شيء آخر، شيء غامض كالضباب ، أنا بلا هوية، لعلي مسخ، علي أن أستعيد هويتي الحقيقة، علي التأكد من حقيقتي و مقاومة الكذبة، الخروج من بحيرة الزيف، أنا وحدي من عليها فعل ذلك، لا أحد سواي، لن يقدر أحد على مساعدتي، لا أنت ولا جاك ولا إدموند، افهميني جيدا يا سيلين كانت الفرقة حياتي تعرفين ذلك، لكن هذا الآن صار من الماضي، الماضي البعيد.

 ــ هل أنت مريضة يا سارة؟ يمكننا المساعدة. أعرف صديقا أبوه طبيب نفسي ناجح، سيساعدك على تجاوز الأزمة.

ــ لا ، لا تتعبوا أنفسكم، لن تعثروا علي، سأذهب بعيدا أبعد من خيالكم.

 وهكذا تلاشى الأصدقاء مثل الغيوم، سقطوا في الحفرة، وتلاشت الفرقة، كما لو أن شمسا دافئة أذابت رجل الثلج، ولم أعد أعرف ــ منذ الصبيحة التي رحلت فيها أمي ــ أي خبر عن أجنحة الفرسان.الأضواء الجديدة دفعتني نحو مناطق كانت في العتمة، بسبب تلك الرسالة، كان علي ثقب القوقعة الصلدة التي أحاطت بي فجأة، كيف يمكن فك لفة الخيوط التي التفت حول رقبتي؟ على الفراشة أن تمزق الشرنقة، ولم تكن الشرنقة من حرير. لذلك وفي خطوة عملية أولى انتقلت من باريس إلى مارسيليا، أجل لقد نزلت النجمة الصاعدة من علياء سمائها ، نعم تلك الفتاة تحولت إلى مشروع مجهض، تلك التي كانت تسير على الشاطئ عند الغروب مسدلة الشعر تتأبط ذراع جاك الحزين وهو يلقي عليها القصيدة الشهيرة لأبولينير" تحت جسر ميرابو" تسير على مهل شبه مخدرة، فيما يدغدغ جاك بصوته الحزين الرخو كل مساماتها تحت نسمات الليل الباردة:

Sous le pont Mirabeau coule la Seine
 Et nos amours
 Faut-il qu'il m'en souvienne
La joie venait toujours après la peine
 Vienne la nuit sonne l'heure
 Les jours s'en vont je demeure

 6 -
 
تلك التي كانت صورها على جدران بيت الطلاب، بينيلوب المكابرة نزلت أخيرا، إلى أرض الواقع لتشم رائحة الهواء العفن ومنظر الأطفال المشردين وصفوف العاهرات على أرصفة الليل. نزلت إذن من سماء الموسيقى وخرجت من ثوب المسرح اليوناني والتاريخ، نزعت الأثواب العتيقة ورائحة أثينا، لا لأرى وجه بينيلوب الحداثية في المرآة، وإنما لأرى وجهي، وجهي المحفور بالشكوك، هاهي بشرتي النضرة تتغضن تحت مظلة ليالي الأرق، مشحونة بإحساس البحث عن الحقيقة، حقيقة الجسدين اللذين زرعاني في أرض الحمق والنسيان المحفوفة بالمخاطر، في بعض الأحيان قد تبدو الأجساد على قدر لائق من الحمق،لأنها لا تعرف أين تؤمّن جنون رغباتها بعيدا عن الأخطار المحتملة و غير المحمودة العواقب؛ إذ في حالة مثل حالتي يبدو إنجاب طفل بمثابة خطر حقيقي، حتى لتبدو السلحفاة أكثر مسؤولية وأكثر حكمة من الإنسان، لأنها تتخير أين تضع بيضها. حتى قطتي ليزا بدت عاقلة، هجرت سريري لأجل أولادها، هجرت الدفء والأمان من أجلهم.

دائما ما زلت أقول أنني ابنة السهو، لعلي اكتسبت هذه الصفة عن أمي بالتبني،فهنا حيث العالم غاص بالفوضى والحقد والشراهة، متعطش لملوحة الدم الطازج وفورته، ماذا تفعل فتاة مثلي، كانت تؤمن أن الفن يمكنه تقليم أظفار الجريمة؟ ماذا تفعل فتاة مثلي في هذه الظروف غير شحذ الحواس؟ وقد سمعت عن عودة أكلة لحوم البشر: صاروا يصادفوننا في الشوارع ، في المرة الأولى بدا أني لمحت ظلا غريبا، خيالا يتوثب، أما في المرة الثانية فقد رأيته بشعر طويل وأظفار حادة كأنها من نحاس، رأيت فما ملطخا بالدماء وأسنانا تشبه أسنان المنشار الكهربائي، في أول عهدي بالأمر،اعتقدت أنها مجرد كذبة للاستهلاك الإعلامي، حتى كبريات الصحف هنا على غرار لوموند ولو فيقارو أشارت إلى الأمر. لكن حينما رأيت ذلك بأم عيني لم تعد هناك مساحة للشك، نحن مهددون، أقول للذين ما زالوا يستلذون الإنكار: إن الحياة في خطر.

اضطررت لتغيير القناة، هربا من لعاب السيدة جوزفين فالي، تلك التي ادعت أنها رأت أكلة لحوم بشر حقيقيين .

لكن في بعض الأحيان تهرب من عزرائيل لتلقى قباض الأرواح كما يقول زوجي، فهاهي القنوات التلفزيونية تجد لقمتها السائغة وكبريات الصحف تخصص عدة صفحات للموضوع ذاته. أتساءل إن كنا عدنا بخطوات واسعة نحو عصور الخرافة ؟ أجل إنها الخرافة العلمية المقننة.

في الأيام التالية فتح الموضوع للنقاش من قبل الشهود و المختصين، مثلا كتب البروفيسور موريس، قال إن بشرتهم سوداء، وإنهم أقوام نزحوا من الجنوب، كاحتمال مبدئي ورد ذكر أدغال إفريقيا، وربما الصحراء الكبرى، وأكد أنه إذا تم القبض على إحداها فسيكون من السهل علينا دراسة خصائصها الجينية، لعلها تمثل شكلا من أشكال التطور في السلم الطبيعي.

 ماذا تعني؟

 أعني أن الإنسان وفي سلسلة التطور وبفعل عوامل بيئية و بيولوجية ونفسية يمكنه أن يتحول في مرحلة معينة إلى صنف من أكلة لحوم البشر.

 أما البروفيسور جوزفين فقالت بأن هذه المخلوقات ذات منظومة ثقافية معقدة وشديدة الخصوصية، ولها نظام اجتماعي وديني خاص ودائرة مغلقة لا تستطيع باقي المخلوقات النفاذ إليها.

 ــ أتساءل كالحمقاء ما لشعرة التي تفصل عالمنا البشري اليوم عن أكلة لحوم البشر؟ حتى هؤلاء الذين يصدعون رؤوسنا بالتحاليل ويملأون أعمدة الصحف بالأكاذيب هم صنف من أكلة لحوم البشر.

يقول إن بشرتهم سوداء وإن فريستهم المفضلة اللون الأبيض، هذا يعني أننا صرنا مهددين في عقر دارنا، كيف أمكن أن تتنقل هذه المخلوقات من أدغال إفريقيا إلى أوروبا وإلى أمريكا أيضا؟ أم يكون كريستوف كولومبوس حمل بذرتهم إلى هناك؟

لا أدري لقد بدأ الأمر محض إشاعة، ثم انتقل إلى مرحلة متقدمة من الجدية وصار على العالم الغربي أن يتهيأ لعدو جديد، كأن هذا الغرب لا يستطيع العيش دون عدو حتى لو كان افتراضيا، ألا تتسع الأرض للجميع؟ ولكن العالم هو هذا، يأكل لحم بعضه البعض. شاءت حواسي المتعطشة للغموض الموسوم في أفقي أم أبت. في النهاية الحياة هي كنزنا المشترك، هي بحرنا المالح، هي حديقتنا المصفرة الأزهار، وعلينا أن نتمسك بهذا العطاء المهدد من قبل أكلة لحوم البشر، أضاف احد الضيوف في حصة: "العلم والحياة " التي تقدمها القناة الرابعة.

لكن من هم أكلة لحوم البشر؟ هل نحن متأكدون أننا لا نأكل لحوم بعضنا؟ زوجي يقول بأن القرآن صور تلك الوضعية قبل قرون، يقول لي انظري: " أيود أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه" الصورة مقززة أليس كذلك؟ يضيف وقد ارتسمت على وجهه ملامح القيء والاشمئزاز، وقد قلب شفتيه بمرارة.

7-
 أعترف: مارسييليا وطن ملون يفتح صدره للجميع، دون أن تسألني من أنا، مدت ذراعيها واحتضنتني، بلاد تمور بالمهاجرين كما الفاكهة من شتى الأصناف: أفارقة بأجسادهم الفائرة، آسيويين ومغاربة، ما يهمني من هؤلاء هم الجزائريون، كما لو كان بيننا ثأر قديم، كما لو كان علينا إعادة الجني إلى المصباح.

في مارسيليا هبت روائح جديدة على جسدي، وجوه عامت أمام أعيني، من حسن الحظ أني عثرت على عمل بمطعم تونسي تملكه السيدة مليكة وزوجها عبد الهادي، عرفت من مليكة أنها جزائرية . فرت إلى فرنسا بعد التهديدات الإرهابية المتكررة .

وكان هذا كافيا لبداية رحلتي، في المطعم ذاته مطعم البركة تعرفت إلى أحمد طباخ المطعم، شاب أسمر قال إنه يحمل شهادة الليسانس من بلاده، تخصص علم الاجتماع. وحين عثر علي فتح عينيه السوداوين، و بدا من شدة الصدمة كمن عثر على تحفة تاريخية ثمينة و قطعة نادرة، والحقيقة أنني أصبحت ــ في ظرف خاص ــ جزءا مهما من تاريخ الجزائر. هل جاء خصيصا للبحث عني؟ يجوز! قد تكون قصة أخرى مشابهة لأن الحرب قد تخلق من المأساة نسخا متعددة الأوجه.

ــ هل قال إنه جاء للبحث عني؟ خيل إلي أني سمعت ذلك لكن أحمد ظل صامتا ينظر إلي فحسب.

 كنت نصف صاحية، ورأسي يمور بما قالته المحامية، وبوجه راشيل الملون بصفرة الموت وبالتمثال الشمعي وبرائحة البيرة، كنت شبه ملقاة على قارعة الحياة، بداية واعدة للمتشردة القادمة. دخلت مطعم البركة، وطلبت فنجان قهوة وكأس ماء، لا أدري كيف فعلت ذلك، كنت بحاجة لأصحو، لأزيل الغمام الذي يغشى عيني، كنت بحاجة لنظارات وإلى عكاز، وكأن القدر انتشلني في تلك اللحظة فدفع قدمي نحو العتبة، كانت المرة الأولى التي أدخل فيها مطعما من هذا الطراز.

 وقف الشاب الأسمر الطويل أمامي بتهذيب :

ــ ماذا تطلب الآنسة؟

ــ فنجان قهوة، قهوة مركزة ودون سكر.

 هل الحدس أصل الحقيقة ؟ ممكن! لا أريد طرح سؤال فلسفي، ولكني أجرب واقعا، أجل واقعا عشته بعينين مفتوحتين، وإلا كيف أمكنني إرهاق المسكينة أمي في أيام المراهقة العصيبة بأسئلتي اللجوج: ماما لم بشرتي سمراء؟ ماما لم أنفي دقيق هكذا؟ ماما لم لا أشبهك؟

بالتأكيد كنا نختلف كليا لدرجة انعدام أي نقطة التقاء، و ربما حتى فيما هو إنساني، كما لو كنا شمالا وجنوبا. ولأن أمي كانت امرأة قليلة الكلام، فلم يكن من اليسير اقتلاع الكلمات من لسانها، كما لو كانت تتستر على أسرار التركيبات الكيميائية المحرمة، لهذا كانت تختصر المسألة في جملة تطلقها عبثا دون مراعاة العواقب، لا تتعب نفسها في تغيير التعبير ، بل الجملة نفسها كأنها اقتطفتها من الكتاب المقدس : " إنها من هبات الطبيعة فحسب" هل حكمت علي الطبيعة ألا أشبه أمي؟ يا لها من شبهة! لا أستطيع الجزم أن أمي كانت تخشى مناوشاتي، هل كانت تخاف الوحدة؟ أي ما يجعل الدائرة تنغلق عليها بمفردها، ماذا لو أخبرتني الحقيقة قبل وفاتها؟ هل كنت سأترك سريري خاويا وأخلفها وحيدة ومهملة مثل ثمار آخر الموسم؟ لا أدري! في النهاية لم تكن أمي السيدة راشيل بنجامين سوى وسيط، حاضنة زجاجية لاكتمال النمو. وأنا مثل هبة نزلت عليها من السماء ذات عيد فصح، فمدت ذراعيها المتغضنتين وتلقفتني.

كان زوجها قد قتل أثناء حرب الجزائر، مازال دمه طازجا فوق الصخور،كما تقول يوم 13 نوفمبر1960 مخلفا عند عتبة الباب تحت مظلة الغروب الشاحب امرأة وحيدة تنتظر بقلق أزهار الخمسين الكئيبة في حديقتها المهملة، هاهي تقف خاوية من الجمال والذرية، تلتفت بعينين واهنتين نحو بوابة العمر الهارب، تلتفت بفزع إلى الوراء، وتنظر حولها فلا ترى دليلا على حياة مضت، دليلا ماديا قويا كأن يكون طفلا يؤثث وحدتها، يخط الطريق بين المدرسة والبيت، ستزرع من أجله أزهار المرغريت لأجل سنواته العشرة، لأجل سنواته العشرين، ستنقش تحفة ما بأصابعها هي، ستطرز منديلا لحبيبته، لاشيء سوى ظلها الهزيل على الجدار. لاشك أن الحسرة تملأ قلبها وهي ترى نهر اليأس يتسرب نحو عرينها، هل كان عليها أن تمكث إلى جانب رجل نذر نفسه للقتل؟ ربما! ولكنها ذات يوم في شبابها الغابر قد أحبت شابا طويلا ببزة عسكرية اسمه جوزيف رومان، وفي حديقة البيت الجميلة التقيا لأول مرة، وتبادلا القبل تحت شجرة الكرز، فما الذي تغير بعد كل ذلك التاريخ؟ الآن ترى السيدة راشيل أن سقف البيت يتهاوى على رأسها وحدها، وأن الأرض تهتز تحت قدميها، وبدا لها في بحيرة اليأس القاتمة أنها أنفقت كل تلك الساعات فقط من أجل انتظار الفراغ الهائل المتمدد أمامها، في الفراش القاسي والغرفة الواسعة وعلى طاولة المطبخ، فيما يتقوى استبداده عند آخر المساء، فيكشر عن أنيابه ويمد مخالبه المكسوة بالشعر الكثيف الأسود في ساعات الليل الطويلة، ماذا تفعل سيدة تزحف نحو الشيخوخة الأكيدة بحياتها في مثل هذه الظروف؟ تبحث عن أفق غادرته الغيوم؟ تفتش عن لعبة تتسلى بها في الجرائد القديمة وفي رسائل الحب العتيقة. كأنها تفتش عن شبابها المهدور، بين إطلالات زوج سرقته غريمة عنيدة اسمها الحرب. لكن السماء رحيمة وهاهي تنفتح فجأة وتلقي العطية الثمينة في أحضان السيدة التي بالكاد انفرجت شفتاها من هول المفاجأة. كأنها ادخرتني لمستقبل المرأة الخائفة في البيت المنفرد عند زاوية الشارع ، لا شك أنها كانت تجهل إلى أين تمضي في سماء تضخمت فيها الغيوم، الغيوم التي أخافتها أكثر من أي وقت مضى، أكثر حتى من يوم مقتل زوجها السيد جوزيف رومان، هاهي تتكدس وتنذر بمطر مشؤوم، وما يحير السيدة هو عجزها عن اتخاذ القرار، لهذا ارتسمت على صفحة وجهها المقنعة بالغموض سحب الحيرة والخوف.هل عليها البقاء في بيتها الجميل، ذي الحديقة الصغيرة، في المدينة التي أحبت قسنطينة؟ أم عليها أن تغادر خوفا من الانتقام؟ وقد لبست الشمس لونا آخر لم تعرفه السيدة من قبل كانت شمسا دامية لا تنتمي إليها بأي حال. بين الخوف والرغبة تكورت السيدة في الزاوية، ثم تجرأت ومدت رأسها عبر النافذة لتطل على الحديقة المهملة في بدايات الشتاء بشالها الصوفي الأبيض المسدل على كتفيها المنحنيين نحو الأرض في استسلام، لم تصدق أنها رأت تلك الشمس الدامية التي لا تنتمي إليها، إنها تعرف الشمس، فمنذ ربيع طفولتها وهي ترقبها في دلال وتطاول، كانت شمسها التي تمددت تحتها في شاطئ مدينة الشموع بجاية، حين كانت ضفائرها الذهبية تتماهى وضوءها،هل حقا عاشت تلك الأيام المسروقة من الجنة؟ ألم يكن محض حلم عابر راودها؟ أما هذه الشمس فتبدو جديدة كأنما تشرق لغيرها، لقد رأت ــ يوم مقتل زوجها ــ شمسها الحقيقية الكابية رأتها تخبو رويدا رويدا وتتبدد عند الغروب، فيما يشبه جثة متفحمة. أما هذه غريمة شمسها فكانت شمسا أخرى، شابة ويانعة لولا أنها أشرقت لغيرها، وهي تعرف أكثر مما تعرف مثلا جارتها نيكول لم تشرق الشمس لغيرها؟ لقد قررت السيدة نيكول المكوث في بيتها، كانت تعلن ذلك ضاحكة، أما هي فلم تملك الإجابة إلا بعد سقوط العطية السماوية بين راحتيها.

 في الساعات القليلة التي كان زوجها يسرقها من وقت المعركة، معركة الجزائر الضارية، ليعود إليها، كانت تشم رائحة الدم بين أصابعه، ورائحة دم العذارى، كانت تميزها بحاستها الأنثوية المتيقظة، وكانت تؤمن بأن الله حرمها نعمة الذرية بسبب ما اقترفته يداه في حق الأطفال العرب بالتحديد، ودون أن تملك الجرأة على مواجهته بالحقيقة، كانت تخزن كل شيء في قلبها و تنتظر الليل لتصرخ بعد إغفاءة قصيرة، تهتز في السرير، لأن الأرواح تخنقها بأيدي غليظة تضغط على رقبتها، تقول إن البيت مسكون بالأشباح السوداء، فتقوم من فراشها لتشعل الشموع والبخور وتتحالف عيناها على مرافقة الليل، تسل خيوطه السوداء إلى الصباح، كان السرير كابوسها، أذكر دائما أنها إلى آخر لحظة من حياتها، حين أقضي الليل لديها وبعد رجاء ودموع وتوسلات أراها تقوم من فراشها لتشعل الشموع، لم تكن سوى امرأة غامضة، ضيعت سفينتها البوصلة، وحين تلقفتني يداها، تركت كل شيء وفرت بي صوب البحر، قطعة مشبعة برائحة الأرض التي أحبت.

عشت رفقة أمي الغامضة المسكونة بالخوف والتعاويذ والبخور، لوحات شرقية مفعمة بالسحر، نقضي أيامنا الرتيبة على مهل، حتى أننا قد نقضي اليوم بلا كلام، الخيط الناعم الذي يشد على أطرافه البشر. لا أذكر غير القليل من أيام الطفولة حيث تعكف أمي على قراءة كتاب صلواتها على ضوء النافذة، بينما ألعب أنا في الحديقة المهملة لمنزلنا الريفي، حيث هرمت أشجار البرتقال والتفاح دون أن تمتد يد مفعمة بالحياة لترميم شبابها المسفوح، أعدو خلف العصافير وأنبش التراب، ثم أعود إليها في أوقات الجوع، كأن ما بيننا هو محض غرائز ومنعكسات شرطية، ككلب بافلوف أسأل فتجيب، وأجوع فتقدم لي الطعام، البيض المقلي عادة أو البطاطا المسلوقة مع الخيار والطماطم. عشت محرومة من الحب ومن الشكولاطة، وهذا طبيعي، لأن أمي لم تكن قادرة على حب الحياة، أو بالأحرى العيش في عالم خال من الأشباح ، كانت تتآلف مع أشباحها السوداء: السيد جوزيف رومان ونيكول وابنها الصغير ديمتري ...

 اليوم بعد تلك السنوات وبمنظار بعيد ومكبر أستطيع القول بأن ما كان بيننا هو نوع من الحب المشوه، علاقة ممسوخة، كانت تحبني وترفضني في الوقت ذاته، إذا هربت من البيت جاءت باحثة عني تذرف الدموع، وإن عدت إليها أهملتني وعادت إلى ذهولها، وإلى تمثال السيد رومان زوجها لتحدثه، لا أدري ما لذي كانت تقوله بالتحديد، كانت تحتفظ بسرها المرسوم في حركات شفتيها لنفسها فحسب، عم كانت تفتش راشيل بنجامين في أشيائها القديمة؟ في غرفتها الموصدة بالمفتاح، حيث تقضي معظم أيامها، ما الذي تخزنه في ذاكرتها وحقائبها العتيقة؟ هل أنا ابنة رحمها من رجل غريب مر قرب نافذة وحدتها عند آخر الليل؟ أكنت ثمرة الخيانة وعذابات الضمير؟ هل هذا معقول ؟ إنها الهواجس من جديد، الهواجس السوداء، أفكاري المريضة، أنا الأخرى تلك المقعية في العتمة وخلف ظلال المرآة، الفتاة التي تطل على حافة الهاوية ببلاهة. هواجس ما قبل الرسالة، ولكن هل الرسالة مفتاحي نحو الحقيقة؟ لا أعرف، لا أعرف، لا أعرف.

لم يقاطعني أحمد كان يستمع إلى الحكاية فحسب ، دون أن يمد يده ويتذوق جرعة من قهوته الباردة، كانت الساعة قد جاوزت منتصف الليل، وأحمد الذي أبدى اهتماما غريبا بالقصة كان أول شخص أتحدث معه بهذا الصدق بعد جاك الحزين، كان أشبه بملاك قادم من الجنة، كان هادئا وخجولا، ورأيته متحرجا قلقا بعض الشيء ربما من وجودي برفقته. في البداية راح ينظر إلى الساعة بقلق، أعرف أن عمله يبدأ مبكرا، ومع الأيام فهمت أن ليس العمل هو الذي يدعوه للنظر في ساعته، ولكنه نوع من الحرج الوراثي الذي رأيته على وجوه بعض رواد مطعم البركة، ومنذ ذلك اليوم أدمنت المطعم، حتى أني تعلمت بعض الكلمات العربية: السلام عليكم، صباح الخير، الحمد لله.

 الحقيقة أني صدمت في البداية من امتناعهم عن تقديم المشروبات الروحية، ثم احترمت القرار، حين علمت أنه يرتبط بالديانة، عجيب هناك دين يحتم على الإنسان أن يبقى صاحيا لأن العقل هو أعظم الهبات الإلهية. شيء آخر صدمني، اللحم الحلال، بمعنى أن الحيوان وهو عادة خروف أو بقرة أو دجاجة أو ما شابه، يجب أن يكون مذبوحا على الطريقة الإسلامية. وهكذا فهمت بعد فوات الأوان أن المطعم مخصص للمسلمين، ومن زواياه تفوح رائحة المسك والعنبر. والحقيقة أني استغربت في البداية، وأعرضت عن تذوقه، لكن أحمد ألح وشجعني مستعينا بجملة من المعارف العلمية حول فوائد اللحم الحلال، لا أنكر أن الصدفة والغيوم التي عششت برأسي هي التي قادتني لدخول هذا العالم، العالم الجديد كأني كريستوف كولومبوس على مشارف أمريكا معتقدا أنها الهند، إنها الحالة المشابهة تماما، طبعا لم ينس أحمد أن يذكرني بأن ليس الصدفة هي التي قادتني نحو تلك العتبة الواطئة، ولكنه القدر الذي رسم مسار خطاي. وأنا لا أنكر أني عرفت عالما آخر يمور بالطمأنينة الهدوء، كأني هاجرت من النقيض إلى النقيض، وهناك وبعد ثلاث سنوات طلب أحمد يدي وابتسمت مليكة ولمعت عيون الأصدقاء، وتلألأت شموع ملونة على مهل. كان الطعام لذيذا، اصطحبني أحمد إلى المطعم ذاته مطعم البركة، ولكن هذه المرة كزبون يحتفل به المطعم الذي قدم عشاء خاصا مكونا من الكسكس بلحم الخروف وطاجين الزيتون، قال أحمد: هذه هي الأطباق المفضلة في أعراس الشرق الجزائري، ولو كنت في البلاد لكان هذا هو الطعام المقدم، ربما كانت أمي ستفضل الشخشوخة، أو تقدمها في الغداء. كما ترين نبحث عن رائحة البلاد، نتخيل أننا بين الأصدقاء، أعلمت أمي أنني سأتزوج، تعرفين بكت كثيرا، كانت تريد واحدة من هناك، ولكن هذا هو المكتوب، تعلمين أنني لا أستطيع الدخول إلا بعد تسوية وضعيتي والحصول على الأوراق اللازمة، وعندها سأرافقك إلى هناك، ربما ستغفر لي أمي هذه الزلة، سأقبل رأسها، أطلب من الله أن يطيل في عمرها، حتى أراها وأنال بركة رضاها، طبعا إنها أشياء غريبة تحدث. ووفاء لذلك سمى ابنتنا الأولى على اسمها فاطمة الزهراء، وسمى ابننا الثاني أوراس، ولم أجد الرغبة في الاعتراض على ذلك، في النهاية هي أسماء، لها موسيقى.

في البداية وجدت صعوبة في التأقلم مع اسم ابنتي، ولكن ضرورات التأقلم هدتني لاختصاره إلى "فاتيمه" كما يفعل أبوها مع فارق في الحرف الثالث، وهو ليس اسما غريبا لأن قطة راشيل أيضا كانت بهذا الاسم، والعجيب أن أحمد قال بأن كلبهم اسمه جاك.

8 -
 مع أن زواجي من أحمد قد ردم الكثير من الحفر ورمم الأعطاب الطارئة هنا وهناك، إلا أن الفجوة التي خلفتها راشيل راحت تتعمق و بقيت وردة دامية متفتحة على الدوام. في كثير من الأوقات كنت أهرب من مواجهة ذاتي، أفر من مرآة هواجسي، أحتاج إلى طبيب نفسي وإلى تنويم مغناطيسي، زوجي يقول أن علي مواجهة ذاتي والوقوف على الحقيقة والذهاب إلى آخر النار، أتمسك بيد أحمد الدافئة في حركة مضطربة،فيبسط راحته الواسعة ويقبض على يدي، أنظر عبر النافذة؛ ها أنا معلقة بين السماء والأرض، ها أنا أمر بين السحب، ضائعة في الأفق الرمادي الغامض لبدايات الشتاء، أحلم لو كنت نجمة ساطعة، لا حاجة بها إلى الانتماء إلى أم أو أب وإلى أرض وقوم ولغة، نجمة تكتفي ببريقها دون أن تشتبك في مآزق الهوية! ها أنا أرى بنصف عين لا أكثر، رؤية مضببة وغامضة، لأن أمي أو من كانت تسمى أمي عجزت عن قول الحقيقة كاملة، فتركت بضع كلمات باردة وحادة مثل المدية في ظرف مغلق تحت وسادة احتضارها وأطفأت شموعها إلى الأبد.

في مراهقتي كثيرا ما قادتني الهواجس المبكرة إلى مغادرة البيت أمام الصخرة الصامتة راشيل التي تتجاهل متعمدة أسئلتي، ومثل قطة ضالة تغرس رأسها في الحقائب القديمة، وهكذا كنت أذهب لدى الأصدقاء إلى المنزل الريفي حيث الطابق الأرضي؛ الأصدقاء طيبون، ولكنهم ليسوا ملائكة، فثمة طقوس سرية يتعاطونها بعيدا عن الأهل.

وفي الجامعة استطعت التحرر من نظراتها القلقة الممزوجة بخوف غامض، وتيقنت أنها تخفي عني سرا، يكفي لتغيير مسار حياتي، كانت نظراتها القلقة تهرب من مواجهتي، لا نلتقي على طاولة العشاء، أراها في آخر الليل ممدة على السرير.

للهروب من نظرات الثعبان الباهتة في مواسم البيات، اتجهت إلى المسرح بحماس لأفرغ كل ذلك القرف الذي كان يجتاحني كلما عدت إلى البيت، وعادة ما كنت أعود إليها ثملة، ما وسع الفجوة بيننا وفتح ثقبا آخر يوازي ثقب الأوزون، وبدا أن الطابق الأرضي لبيت إدموند هو الرحم الذي يتسع لكل مخاوفي وشكوكي وهواجسي المجنونة، وكان يمكن لفرقة أجنحة الفرسان أن تمنح معنى لحياتي. كان يمكن، ولكن الحمام ألقى إلي رسالة عاجلة. فغادرت المسرح ليس من أجل تأمين المستقبل، كما كررت أمي أمامي آلاف المرات نافثة غموضها الثقيل في رئتي "التمثيل لا مستقبل له" وإنما لتلك الأسباب المتعلقة بها هي وبرسالتها. درست الأدب الفرنسي سنة واحدة فقط وانتهى كل شيء. ولأنها كانت تحلم حلما طويلا وعريضا، كأن سوسة راحت تأكل مخها، فقد اقترحت علي دراسة اللغة العبرية، ووعدتني بزيارة إسرائيل ولا أعرف ما هي الظروف التي حالت دون تنفيذ رغبتها، كانت تريد الموت هناك في أرض الله المقدسة كما تقول، وكنت أسخر من أحلامها، عن أي أجداد تتحدثين يا أمي؟ وقد ولدت وعشت في الجزائر؟.

ــ أجدادنا الأوائل.

ــ أنت تهذين يا أمي، العالم يسير بعصا عوجاء وأنت تبحثين عن أرض الميعاد، عن أي تراب تتحدثين، هناك يرقد ملايين البشر، سأقول لك شيئا، إن هذا الحلم يزهر بالدماء وحدها وأنا لا أريد أحلاما تقطر بالدم، أنا أومن بالعدالة وبالحق وبالحرية لجميع البشر.

 لقد غادرت البيت، مشبعة بتلك الوساس الخرافية المعششة في ذهنها، الحق ليست راشيل وحدها، ثمة كثيرون يفكرون بهذا المنطق الأعوج، ولكني بحدسي وحده كرهت هذا الكلام، لعلي كنت أحمل بذرة الفن وهي التي صدتني عن الوقوع في براثن الكذب، أما الآن فلدي رأي آخر، لا شك أن ذلك الخليط من الدماء الذي يسري في جسدي هو الذي حال دون زيارتي. وماتت السيدة راشيل بنجامين دون أن تحقق رغبتها في الموت على الأرض المقدسة. وتركت تحت وسادتها رسالة إلى ابنتها سارا بنجامين هي المفتاح الذي ستفتح به بوابة حياتها الحقيقية.

ومنذ ذلك التاريخ تغير كل شيء، الأصدقاء الوجوه والأيام وهواجسي أيضا. ويحق لها أن تتغير، لما اكتشفت أنني نسخة مزيفة من نفسي، قطعة من التاريخ كما قال أحمد، لعلي ضحية من ضحايا الحرب عن جدارة.

غادرت الجامعة والتحقت بمطعم البركة، لأبدأ حياة جديدة، أدنو فيها من حقيقتي، هل كانت حياة جميلة؟ لا أدري....

وهنا اندفع صوت المضيفة الناعم يدغدغ أذني بأننا سنحط في مطار هواري بو مدين الدولي. ثمة أسماء وتواريخ علي حفظها، وقد بدأت أحبو لأصعد جبل اللغة العربية، وأفك أبجدياتها.

 أغلقت الكراسة البنفسجية الغلاف، خبأت ذكرياتي بين دفتيها ووقفت.

 الفصل الثاني : سفود الذاكرة
 1 -

 قبل منتصف نهار الخامس عشر من ديسمبر1999، نزل زوجان شابان في قرية كاف الحمام .في ذلك التاريخ كان العالم بأسره واقع تحت تأثير قلق النهاية،
وجلا مما تراه أعين السحرة والمشعوذين والعلماء، مما تبسطه الأوراق والفناجين والأرقام، لاهثة حوافر التوقعات، تلك التوقعات الراكضة كحصان طروادة المجنون الذي دون هوادة راح يصهل مبشرا بنهاية الحياة على وجه الأرض، إنها نهاية العالم الوشيكة، مع مطلع الألفية الثالثة، أو تلك التي تنادي بحدوث خلل عميق في أجهزة الكومبيوتر، سيفضي حتما إلى وقوع كارثة حقيقية، هذه التوقعات التي عرت مخاوف العلماء والسياسيين ورجال المال والاقتصاد، ولا شك أن الإعلام بدوره لم يتمكن من إغماض عيونه بالصوت والصورة عن إظهار ظلال الخوف المقيت الذي رقص بجرأة في المآقي، على الرغم من محاولات التضليل للإفلات من قبضته الحديدية، هذه مخاوف البشرية منذ فجر التاريخ، وإن كان فريق ثالث من أنصار النزعة المغامرة فريق الحالمين والرومانسيين والمؤمنين بمواهب الإنسان قد بنى آمالا عريضة، الآمال الكبرى التي ترفع راية العلم عاليا، هذا العلم سيحطم كل الصخور العنيدة التي تقف في وجه سيله الجارف، تفاؤلا بقدرات العقل البشري الذي حل كثيرا من العقد والألغاز: أين كنا ؟ وكيف أصبحنا؟ لقد روضنا المستحيل وأخضعنا المجهول لإرادتنا أليس هذا كافيا لنؤمن بأنفسنا كبشر عليهم قيادة العالم؟ وما زلنا سنمضي بعيدا بأسئلتنا التي مبعثها الخيال، الخيال طاقة خلاقة، نمارسها بشغف الطفل بلعبته. هكذا أعلن هؤلاء ساخرين من كل الذين تبرعوا بثرواتهم أو أهدروا أيامهم في الأسف والبكاء، ببساطة لأنه لاشيء سيقف في وجه الموج. النهر سيمضي إلى حال سبيله ما لم يتدخل الإنسان لتحويل مجراه. وهكذا الحياة مجرد نهر دافق، والأقوياء هم أولئك القادرون على تغيير مجراه. وهكذا تراهم يهزون أكتافهم وينهون حديثهم لكبريات الصحف والمحطات التلفزيونية بابتسامات عريضة درست بعناية جيدة، على العالم أن يتفاءل، التفاؤل هو الروح السرية للعالم. فيه بذرة الجمال وطول العمر والصحة الجيدة.

في مثل هذا القلق الراكض، وصل الوافدان الغريبان إلى القريةــ طبعا لم تكن هذه التوقعات غير سطور باهتة في هامش صغير تعرفه قلة قليلة من قراء الصحف في القرية، دون أن تأخذ تلك المحاذر بالجدية المطلوبة كأن الأسئلة طرحت في ساحة غير ساحتهم: ما لنا وما لهذه التوقعات؟ إن كان على العالم فسينتهي حتما في يوم من الأيام، سينتهي لا ريب، حين يشاء الله ذلك، ولكن العاقبة كيف تكون القلوب بيضاء أم سوداء؟ سليمة أم مريضة؟ هذا هو الهم الذي يحمله الناس هنا، عندما تحدثهم عن نهاية العالم أو بالأحرى القيامة حتى نسمي الأشياء بأسمائها، وهذه هي بغيتهم من الحياة؛ في أي صف سيصطفون إلى اليمين أم إلى اليسار؟ أم أن الضفتين ستلفظان المنفيين الذين يتأرجحون بين الجهات، كما هو حالهم في الدنيا. للكون رب يحميه وللعالم رب ينهيه، فما الذي يحير العلماء والعرافين والسحرة والنجوم؟ قال بعض العارفين في القرية من رواد الصحف.

 لذلك توجهت الأنظار نحو الشابين بالدر ذاته الذي انشغل فيه العالم بقضاياه الكبرى. فلا أحد يدري أي الدوافع رمت بهما إلى ضفة مثل ضفتنا، في يوم لا تكاد ساعاته الرمادية تكشف عن خطوط بيضاء واهية، بشمسه الباهتة وسحابه الذي ماانفك يغري الفلاحين ويضلل أمنياتهم، سحاب واعد، يأخذ مآل الحمل الكاذب، فيتبدد عند نهاية النهار ويكشف عن روح عقيم.

ها هما يترجلان من السيارة، أحداهما شابة ثلاثينية أو ربما أربعينية تبعا للتقديرات الأولية التي حددت العمر الجسدي أو ما يسمى حدس النظرة الأولى، بنظارات طبية تخفي إلى حد ما حولا في جانب عينها اليمنى، وشعر كستنائي قصير، وقامة مديدة جعلت أهل القرية يتسلقونها كما لو كانوا يتسلقون قمة سيدي عثمان جبلهم الأثير. تفحصوهما بالكثير من الريبة والفضول القلق، يقول عمي لعرج: " يـاه ! أين رأيت هذا الوجه" إن ملامحها العامة تشي بأنهم رأوها في مكان ما، الظلال المنعكسة في عينيها السوداوين، الهالات النضرة فوق خدودها، النتوء الذي يتوسط أنفها، قد يكون أثر سقطة أو ارتطام بجدار أو بحجر، الأطفال عادة ما يبالغون في قيادة أنفسهم نحو الهلاك. لولا تلك النظرة الحائرة التي لا تعرف الاتجاه بدقة، لاطمأنوا إليها، لقد تبادل الجميع تلك النظرات القلقة المريبة، وساد صمت أخرس، كما لو كانت لحظات فراغ في فيلم لألفرد هتشكوك. ولكن أين يمكن أن يكونوا رأوها وأغلبهم لم يتسن له تجاوز بستان عمي لعرج، وهو سقف العالم وأبعد فضاءاته، العالم هو كاف الحمام والموت والحياة أيضا؟ حيث بمجرد المروق خارج السياج، وقطع ذلك الفراغ الهائل بين الحقول ذات الروابي المحدودبة والتربة العصية المزروعة بالأشواك والصخور، والشعاب ستتغير اللهجة بالتدريج، وستظهر لغة أخرى أكثر رقة، وستبدو الأصوات عذبة ولها موسيقى لينة، وستتردد نداءات أهل كاف الحمام من بعيد كما لو كانت أصداء لصراخ معركة حامية ــ كما يقال ــ أما اللغة الثانية هذه التي تعشش في الضفاف والحواشي فهي أشبه بلغة المدن، لها أذيال ولها توجع، وفيها الكثير من لغة النصارى.

كانت أوراق الخريف تمنح منظرا للوحة كئيبة مرسومة على وجه الأرض، بصفرتها الباهتة وسوادها الممزوج بخضرة داكنة ، دليل النهاية الموجع، وبعضها دخل مرحلة متقدمة من التعفن، تهاوت باعثة قدرا معتبرا من الحزن الذي تضفيه الطبيعة على العالم ، والسماء رمادية تعلن عن شتاء يتأهب لتعليق معاطفه وصوفه وأغطيته، شتاء مخاتل، كما هي السنوات الأخيرة، يهبنا البرد ويخفي بقية عطاياه الأخرى، ولا يبدو أن المطر مستعجل، أما الفلاحون فبلى هم على عجلة. وتبعا لساعة الفصول التي تقود الناس غريزيا فقد شرعت الجرارات في الحرث وتوزعت في الحقول كأنها الحشرات، مخلفة مساحات من السواد في صدر الأرض. ووفاء للغريزة ذاتها، تدثرت الغريبة بكنزة بنية من الصوف الخشن، امتدت ياقتها العالية في شكل دائري مغطية أعلى عنقها، فوقها سترة جلدية تمتد فوق سروال من الجينز،وهي علاوة على ذلك، تضع يديها في جيب السترة، ربما لرشوة العيون المتطلعة بحيرة وخوف، ولتبني ستارا رقيقا من الثقة: من تكون؟ ماذا تريد؟ فيما راحت شفتاها الورديتان ترتعشان بحثا عن بداية ما، الجملة الأولى في السطر هي أهم ما يقرأ، هل سيواصلون القراءة؟ هل سيستمرون بالإنصات؟ كل نهاية تحددها الجملة الأولى المجنونة أم العاقلة، الذكية أم الحمقاء، هي لا شك تعرف أسرار البدايات و تفاصيلها الصغيرة، مهنتها وفرت لها مثل هذه الخبرة المهمة وهي لم تعد مهرة غرة على كل حال، ومع ذلك فهاهي مثل فأر خائف تبحث بعينين حادتين لا تكفان عن الحركة والدوران عن هدف ما، أو بالأحرى هي تبدو للعين المحايدة كمن لم تجد الشخص المناسب، لتقول له كلاما في غاية الأهمية وفي غاية الخطورة أيضا، وبتعبير مباشر الكلام الذي جاءت من أجله، لتقول ما يجب أن يقال، قد تكون الحقيقة وقد يكون مجرد هراء وخزعبلات، لا أحد يعرف لحد الساعة، لأن الفتاة أطلقت لعينيها الحرية المشروطة بشرط الحذر لتتنقلا بين الوجوه، السياج الذي تتحركان داخله، ثمة حواجز لا يجب تجاوزها، استمعت إلى تحذير أحمد كما تستمع إلى جرس إنذار السيارات، وذلك الجرس بأعماقها عليه أن يرن في اللحظة الحاسمة.

كان الرجال والأطفال قد حاصروهما بنظراتهم المتسائلة، المبطنة بالخوف كنوع من الدروع المقاومة للخطر، أو هو ضرب من المعاملة بالمثل لا أكثر، بينما تسترت النساء خلف النوافذ والأبواب كالفاكهة بين الأوراق، وكما هو حال القرى وفي مثل لمح البصر، انتشر الخبر كطفح جلدي في القرية، من أسفلها إلى أعلاها كما لو أن نارا التهبت في أحد البيوت، وهو ما حدا بالعجائز للوقوف في الأزقة الضيقة ومراقبة المشهد من الأعلى ووضع أيديهن فوق الجباه لتضييق نطاق الرؤية وإزالة احتمالات التشويش أو النظر المضبب، تأهبا لأي طارئ.

 ــ ماذا يعني أن يصل هذان الغريبان إلى قرية كاف الحمام في هذا الوقت بالذات؟ إذ لا أحد ــ باستثناء أهلها ــ يعرف أنه في الخريطة توجد قرية اسمها كاف الحمام، وبها الموت والحياة كما في بقية النقاط الأخرى من العالم، وبها بشر وليس أكلة لحوم البشرــ تساءل عمي لعرج في سره.

 ــ إنهم غرباء؟!

 ــ بل غريبة بوجه، بمظهر أنيق وعطر تجرأ على التسرب إلى زوايا القرية ومنافسة أزهارها، ولا يبدو أنه سيغادر على عجل، عطر حاد لاذع.

سقطت النظرات على الغريبة صعودا ونزولا، من رأسها إلى أقدامها ومن أقدامها إلى رأسها في عملية مسح شامل، كما بالتصوير البطيء، لا شك أن حذاءها اللامع بلون القهوة المحمصة من الجلد الخالص، وأن وجهها لم يخضع لتلك التمارين القاسية تحت حرارة الشمس والهواء البارد، وهذا يعني أن الشابة ورفيقها ليس نزيلي الجبل ــ على كل حال ــ وهو الاحتمال الأسوأ الذي تبادر إلى الأذهان. ولم يدر بخلد أهل القرية، أن حجبا كثيرة ستنقشع، لا لتكشف عن سماء صافية، بل لتكشف عن سماوات أخرى غائمة وملبدة ونحاسية أيضا، طبقات يركب بعضها بعضا، فقط عندما ستتكلم هذه الشابة ويترجم مرافقها الذي لم نلتفت إليه إلا حين شرع في الترجمة، كأن عين الكاميرا تعمدت إخفاءه لتظهره في اللحظة المناسبة ــ كما أبطال السينما ــ وتصب دفقا من النور، على شاب أسمر ممتلئ يقارب سن صاحبته، بمعطف رمادي طويل، لا شك أنه أقرب إلى دور الربان الذي سيدير دفة الحديث، بوجهه الطلق وابتسامته الخفيفة التي حاول من خلالها مد جسور الألفة من جهة لتكشف هوية الوجه الأسمر، ومن جهة أخرى لتضع العيون أمام الفارق بين العربي وغير العربي.

قال الشاب الأسمر: اسمي أحمد وهذه حورية زوجتي، جئنا من أجل قضية مهمة جدا، قضية مصيرية، نتمنى أن تمدوا لنا يد العون؛ جئنا من فرنسا خصيصا للبحث عن أمها؛ المرأة التي ألقت بها فوق عتبة الحياة، وأدارت ظهرها، تاركة طفلتها تصرخ في العراء.

 ساد صمت ثقيل، على إثر القنبلة التي ألقاها أحمد، وفي لحظة ما خيل إليه أن الناس من حوله قد تبددوا وتلاشوا في الفراغ، أو شرعوا في لملمة أشلاء الضحايا، جراء تلك القنبلة اللعينة التي ألقاها، بل بدا له أنه سمع زعيقا وصراخا وأبواق نجدة، وسيارات إسعاف، خيل إليه ذلك، لكن الأكيد أنه لمح سحابا داكنا يعبر الوجوه، وشمسا تغيم في الأفق، وأنفاسا ترتعش، وريحا باردة تهب على القلوب.

 خرجت الكلمات بصعوبة من فم حورية التي فتحت شفتين ثقيلتين، متابعة حركة تموج الوجوه المصدومة، إنها الوجوه وليست خشبا مصقولا أعد مسبقا للنقش، فعلت ذلك لتخفف من وقع الصدمة الهائل على نفسها أولا وعلى مستمعيها، كانت تسمع صوتها الغريب، صوتها المنطلق من البؤرة الموجعة، من منطقة النبع الحار مركز البركان، وترجم أحمد ناقلا ذلك الوجل المعلق في صدر رفيقته، إن صوته الخافت الشبيه باعتراف تحت ضوء شمعة في ليل شتوي، وحده كفيل بترجمة ذلك الإحساس الذي يحاول الانفلات من دائرة اللوالب الداخلية:

 ــ لا تريد حورية من أمها شيئا، يكفيها أن ترى وجهها، قبل أن تنزلق أقدامها في هوة الظلام والتراب، لتعرف أنها مرت ولو في مثل طرفة العين، ولو مثل غيمة خفيفة بخاطر امرأة في كوة من زوايا العالم المظلمة، وقد تكون بشقاوتها وربما بطالعها السيء أحدثت خدشا خفيفا على جدار ضميرها، موجة توتر، خربشة على صفحة قلبها، خشخشة زهر يابس، كل ذلك كثير عليها، وأن تلك اللحظة عندها تساوي حياة بأكملها. ليس من شأنها الاعتراض، لا نعلم الأسباب التي تدفع الأمهات لرفض أبنائهن أو قبولهم، لا أحد اختار لون عينيه أو شعره أو شكل أنفه الأصلي، وبالطبع والديه، لا تعلم بل ولا تريد أن تعرف ما هي الظروف التي جعلتها تدير ظهرها، تاركة صراخ ابنتها خلفها ينأى ويدنو في الوقت نفسه، تعرف ما تفعله الحرب بالإنسان ــ أضاف أحمد بتأكيد وبنبرة حزينة هي صدى لصوت زوجته ــ إنها ما جاءت لتنبش أرض الماضي، ولا لتوقظ سلام الموتى وتفتح المقابر القديمة، ولا لتزرع أشواكا في الحديقة التي زرعتها أمها بيديها الدافئتين، ولا لتنكأ الجرح الذي يكون الزمن بحكمته قد رممه. فقط تريد أن تراها، تعرفون معنى أن يطلب الشخص رؤية أمه؛ أنتم تعرفون هذا لا شك أكثر مما تعرفون عن بقية الأمور الأخرى، جرعة الماء الأخيرة، هي أمنية تعادل حياة بأكملها، حياة صاخبة وزاخرة بالأفراح الدسمة وبالملذات وبالضحكات المفرقعة.

لطالما تساءلت حورية في كوات الليل المشبعة بالبرودة والوحدة والفراغ وفي النهارات الصفراء القاتمة المتمددة على شاطئ الوقت في لا مبالاة، تلوك علكة الإهمال والنسيان المتعمد، بذلك المذاق المطاطي، تغمض عينيها الطافحة بالرفض. وخصوصا في أيام المرض، نعم أيام الإذلال الحقيقي .

تقول لكم حورية إن ألمها تأجج عندما ذهبت إلى المستشفى لتضع طفلتها الأولى، طفلة خالية من الضغينة والحقد، بين ثنايا الصراخ رأت وجهها، أجل رأت الطفلة الصغيرة الوردية القدمين ملفوفة في قطعة قماش رخيص، بينما امتدت أربعة أيدي في الظلام، في مؤامرة محبوكة، لتسلم وتستلم، أيد مجهولة لا تعرف عنها حورية أي خبر، فقط تحسست ملمس يدي راشيل بنجامين، وألفت رائحة صدرها وتصالحت مع غموضها، لحد بدا لها أن تلك الأشباح التي راحت السيدة تحاورها هي من صميم الحياة الواقعية، لعلها هي الأخرى كانت ترى تلك الأشباح، ولكم أن تتصوروا طفلة اقتلعت من حجر والدتها لتعيش مع سيدة تتحدث مع الموتى والأشباح، تقول حورية إنها طالما رأتها تحدث التمثال الشمعي للسيد جوزيف:

 ــ آه أيها العزيز، كيف حالك هناك؟ مازلت أحتفظ ببزتك العسكرية وبالنجوم الذهبية، بالأمس رتقت الزر الأوسط، لقد سقط، لا أدري الأسباب. ربما الأمر مرتبط بحادث آخر أيها العزيز لقد رأيت في الحلم سقوط ثلاث ذبابات في قدر الطعام، أجل سقطت ثلاث ذبابات في قدر الطعام، وأنا أكلت منه والطفلة أيضا.

ــ أية طفلة؟

ــ ابنتنا ألا تعرف؟ لقد سميتها سارا كما وددت.

طبعا كنت أملأ الفراغات، كمن يكتب سيناريو فيلم، فلم يكن صوتها يصلني أبدا كانت حركة شفتيها فقط هي التي توحي لي بالكلمات ، لا بأس أستطيع القول بأني كنت أقوم بفعل الدبلجة.)

في لحظات الوضع ملأني وجه الطفلة المهملة على قارعة النسيان ــ تقول لكم حورية تعني النساء بالتحديد ــ : هل ستلقاها؟ هل سترى وجه أمها؟ إنها تتخيلها كنجمة بعيدة هاربة، وفي ساعات الحمى قالت لي أنها رأت حمامة رأت ذلك ــ مرارا ــ رأت نفسها تطارد حمامة بعينين جميلتين، الحمامة تنتقل من نافذة الغرفة إلى الحديقة ومن الحديقة إلى شجرة التفاح، ومن الشجرة إلى السياج، كانت قريبة، قريبة جدا، كأنها تريد منها تقبلها مثل هدية في متناول اليد، حبة حلوى على المائدة، وعندما كانت تمد يدها لتمسك بحمامة الحلم تطير بعيدا، فتنزلق قدمها وتسقط في الفراغ. وعندها تهتز مفجوعة، وتصدر عنها تلك الصرخة المفزعة الباحثة عن الأمان و التي يعرفها جميع البشر: أميييييييييييييييييييي!

ــ هل تشبه أمها؟ــ تسألني حورية ــ

ــ كيف هو الإحساس أن تشبه أمك؟

ــ أهو إحساس عذب ؟ أن تسمع الناس يهتفون: كم تشبه أمك! وأن وجهيكما في المرآة يتماهيان، حتى إن الناظر يراكما في صورة وجه واحد، يتوالد بتعدد المرايا كما هي حالات الانقسام الخلوي، دوائر فوق سطح الماء، هذه الوجوه التي يقف الزمن حاجزا بينها، كفاصل حقيقي من فواصل الحياة، تتفاوت عبره مستويات الإضاءة مراعية مبدأ التدرج.

ــ الوجوه لها هوية تعرفون ذلك، على مدى الأجيال تنتقل الأسرار والهالات من الأجداد إلى الأحفاد، حدقوا في هذه المرأة، ألا توجد صورة لها مرت بذاكرتكم، ألم تروا مثل هذا الوجه، ألا ترون ظلالا ساكنة فيه، حدقوا فيها جيدا، وجهها يكتنز الأسرار، أليس كذلك؟

 ــ انظروا إلى عديم الحياء، انظروا إلى الديوث يدعونا للتحديق في وجه زوجته، "جيل صحيح الوجه ،الرومي، بايع دينو" تفوه، وهي أيضا تدعونا لنبحث في وجهها عن أمها، الوقاحة: عش تشوف، آخر الزمان، أين أنت يا المرحومة التي لم ير وجهك أحد من الغرباء. كان رأس عمي لعرج يمور، فمسح شفتيه المبللتين، واستدار بظهره، مواريا خجله، لقد أحس حرارة في خدوده وتعرقا في أطرافه، فغض بصره نحو الأرض.

ــ قد يكون بعضكم يعرفها، أليس كذلك؟

 قلب عمي لعرج بصره بين الوجوه؛ من جديد خيم الصمت القلق الممزوج بالحيرة ولف المكان، ورانت على الوجوه سحابة داكنة، وتعلقت العيون مشدوهة بشفاه الشابين، لأن ما ستقوله المرأة ويترجمه زوجها، يبدو أمرا غير قابل للتصديق. تمدد الفراغ بين الضفتين فتقدم الشتاء بضع خطوات، وخشخشت أغصان الأشجار، ومرت سحابة داكنة وتساقطت حبات خفيفة من المطر.

 ــ لمن يكون هذا الوجه؟ هذا الوجه من هنا، الشابان على حق ولكن إلى من ينتمي؟ تنهد عمي لعرج دون أن يجد الشجاعة ليعلن عن هواجسه، الحقيقة أن المسألة لا تتعلق بالشجاعة وحدها، ولكن ما يراه الآن وما يعتقده هو مجرد تخمينات، احتمالات، وربما تضليل بصري، فالبشر يتشابهون في كل مكان، من يدري قد تكون ابنة أحد المهاجرين: مسعود بن العربي، الطاهر بن محمد، أحمد بن علي، أيكون أحد هؤلاء؟ أستغفر الله، لم تأت للبحث عن أبيها، جاءت تبحث عن أمها؟ هل تكون أمها من هنا؟ من تكون؟ إحدى بناتي؟ من ؟ نصيرة؟ فاطمة؟ أم وردة؟ مستحيل! وما أدراك ؟ كنت في الجبل؛ والعسكر فعلوا ما فعلوا في القرى، هذا أمر معروف، من تكون؟ يبدو الشاب واثقا من كلامه والمرأة أيضا، ينقصهما فقط التحديد الإشارة بالأصبع: إنها فلانة. من تكون إذن ؟ كنتي؟! لكن لم يشر أهلها إلى ذلك، وقد أطلقنا رنات البارود ليلة زفافها، وبدا ابني مبتهجا لم أر مسحة الحزن الكابي على وجهه، بدا أنه فارس الليلة عن جدارة، وهو سعيد إلى يومنا هذا، سعيد للغاية ولها سبعة من الأطفال. ماذا قال الشاب؟ يارحمان يا رحيم لطفك!. اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه، يارب استرنا حتى يسترنا التراب". لم أعد أعرف، ربما حدث التباس، خطأ في الاسم، الأسماء تتشابه، أنا نفسي أخطئ، أنادي نصيرة وأريد سليمة، قد تكون زلة لسان أخذها الشباب على محمل الجدية. يا لطيف يا ستار بعض الصباحات تفتح عينيها على الشر، وكما قال الأسلاف:" مصيبة تمشي ليك وواحدة تمشي ليها" وهاهي المصيبة تسير نحونا، تتقدم بخطى جريئة. من تكون؟ لا أذكر فتاة بهذه المواصفات، لم تخرج أي من نسائنا من قريتها لتخلف بنتا وتعود، هذا الخبر لا يقفل عليه داخل مزود الدقيق ولا في كيس القمح، إنه يتعلق بحياة بأكملها، بروح خلقها الله وأخرجها إلى الأرض، فمن لديه القوة ليخفي هذا السر؟ لا، لا، هناك خطأ بالتأكيد، الشابان مخطئان، أنا تاريخ هذه القرية، أعرف كل أبنائها، أخزن حكاياتها واحدة واحدة، الشابان مخطئان، أمها ليست من هنا، إنها غريبة، وهي لا تعرف حتى العربية فكيف تستطيع حفظ أسماء القرى؟ لا أحد استطاع مس شعرة من بناتنا، كنا نحرس ليل نهار، فمن يكون تسلل إلى عرين الأسد؟.

ــ وإن قدر وغادرت إلى العالم الآخر ــ واصل أحمد حديثه الذي تردد مثل صدى مختلطا بصوت رفيقته ــ فهي لا تريد منكم أكثر من صورة لها، تحملها تذكارا في جيبها، صورة تريها لأبنائها، تتحداهم بها، مؤكدة أنها لم تأت من رحم غيمة، وإنما من رحم امرأة من لحم ودم ،إذا أمكن ذلك، أنتم أهل خير، هل ستبخلون على طفلة رؤية وجه أمها؟ من منكم سيكون ملاك الرحمة ليقدم هدية العيد لليتيمة، للطفلة المعذبة؟ إن لم تكن صورة فحكاية تستمع إليها عن قامتها ولونها، عن ضحكاتها، لا شك تعرفون تلك المرأة الجميلة إنها منكم، إنها إحدى بناتكم، وهذه المرأة الواقفة هنا قبالتكم أيضا هي منكم ومن دمكم ولحمكم.

ــ هؤلاء لا يهمهم، إن جاء الإنسان بالحلال أم بالحرام، إنهم يخلطون الأمور ، ما يهمهم هو تسجيل الهدف: لا يهمها، إن كانت ابنة حرام، وهاهي أتت لتغرس الفضيحة في كاف الحمام، كاف الحمام طاهرة وليست لهذه الأفعال.

 لا شك أن أحمد ــ استنادا إلى بلاغته وإلى تحكمه في رأس الخيط بحكم التفويض المطلق الذي وهبته زوجته ــ قد أضاف بعض الجمل من عنده، وهو يرى الخطوط والألوان تلوح على الوجوه، يتابع حركاتها القلقة، طرفة العيون، ضيق الأحداق واتساعها، هاهو يشد خيط الصنارة، في محاولة جدية للإيقاع بالسمكة، كأنه يمسك لجام الحصان غير المروض، ويرى أن هذا النافر سيستسلم أخيرا لحركة يديه الطرية، يمسد جسده في حنان، أجل يريد الوصول إلى نتيجة، يريد الوقوف على أرض صلبة، تمكنه من تحريك أغصان الشجرة بارتياح، لتكون قبضته شديدة فيحرك ماء البحيرة ويلتقط سمكة النهر الذهبية، هل هذا ممكن؟ ولم لا؟.

 ــ حسنا إن لم يكن كل هذا ممكنا، فالأفضل أن تدلوها على قبر أمها لتزوره، لتلمس تربته التي امتزجت برائحة الأمومة، إنه أدنى حق وآخر رجاء ــ وهو أضعف الإيمان ــ لتضع وردة فوقه وتتأمل الشاهدة الحجرية بارتياح "هنا ترقد المرحومة أمي"، قد تكون دفنت في مكان آخر، رجاء دلونا عليه، مهما كان بعيدا سنصل إليه، المهم أن تقوموا بالواجب نرجو ذلك، لا تتستروا على الحقيقة، كل شئ قد مضى الآن، لم يبق غير الزمن، وهاهي الحياة تمضي وتخلفنا. اسمعوا زوجتي لم تتنكر لأصلها والدليل أنها سمت طفلها أوراس، وفاء لوصية والدي رحمه الله.

 ــ ابن الكلب ما زال يتحدث باسم الأمومة، أكاد أصرخ في وجهه : خذ عاهرتك وارحل من هنا، اذهب لتتسول في فرنسا، والعق الأقدام إذا شئت. اللعين يحمل اسما مجيدا: أحمد، وابنه أوراس، وهل تساوي ذرة من هذا الاسم؟ أنت لا تساوي ساق نبتة فقيرة منه، مسكين أبوه سماه أوراسا تيمنا ببركة الأوراس، وهاهي النتيجة:" تفو النارتولد الرماد". همهم عمي لعرج: أوراش ، أوراش، الأوراس للرجال وليس لمخنث مثلك تقوده زوجته من أذنيه كالبهيمة، تنقصك البردعة فقط، وهي لا تحتاج إلى لجام أو ركاب، لأنك لست حصانا، إنك مجرد حمار تضع رأسك بين رجليك وتمشي.

 ظلت الحيرة ترتسم على وجوه المتحلقين من الرجال والشباب والأطفال الذين اتسعت دائرة حضورهم، دون أن يجرؤ أحد منهم على سؤاله عن اسمها واسم أبيها، وسنها، كان الجميع يتفادى حمل التهمة التي بدأت تتخلق بين أضلاعه مثل نبيتة سوء، قد تكون ابنة أو عمة أو خالة، من يدري؟ فالرحم في لحظة ما، لحظة سهو، لحظة غواية، لحظة غفلة، لحظة قسر يأتي بالأعاجيب، والشيطان لا يطير بجناحين ولكنه يمشي على رجليه، حاملا القوس والسهم، وبغض النظر عن الأسباب والظروف والملابسات، وتلك وظيفة الشرطة والقضاة والمحامين، ولا دخل للناس العاديين فيها، وما يهم هؤلاء هو اسم العائلة الذي سيصيرــ لمجرد زلة تافهة، أو لمجرد شبهة وقعت في فجر التاريخ ــ على كل لسان، ولا أحد يقدم دليل الإدانة هدية. والشرف مثل الزجاج من اليسير خدشه كما من اليسير كسره أو على الأقل ترك بصمات الأصابع فوق سطحه. وعندها يصبح ذلك المجد الذي طالما اجتهد هؤلاء المتحلقون حول الشابين في بناء صرحه بالاستقامة والعفاف تارة وبالتستر تارة أخرى، مجرد ذكرى، ولن يشفع أي ظرف عندها مهما كان موضوعيا ومعقولا في جبر ما انكسر، ولن يتوانى الناس من حولهم عن الإشارة إليهم بأصابع الريبة، وعندها سيتحول الماضي الناصع إلى علكة رخيصة، تكفي لطخة واحدة في الثوب، وسيغيم الحاضر والمستقبل، لأن الماضي سيظل مستحكما في الرقاب كما اللجام في فم الفرس، كإحدى نقاط الضعف الأنثوي البارزة.

ــ اسمها نوارة ، ويوم ولدت حورية، أي في جويلية من عام1961، كانت بين الرابعة عشر و الخامسة عشر، إنها مجرد طفلة لا تتحمل مسؤولية ما حصل، هل هناك من يعرف هذه السيدة؟ إنها من هنا من قرية كاف الحمام، لهذا نرجو مساعدتنا للتعرف عليها، أهناك امرأة بهذا الاسم؟

 2 -
 مثل كبة من الصوف انحدرت العجوز ذهبية تمشي على وجهها، متكورة تتدحرج نحو الأسفل، وقد هزها الخبر، فدفعها للانحدار نحو البؤرة المتأججة، حيث التهبت ألسنة النار فجأة، هاهو اللهب يشتعل في قلب كاف الحمام، تعرف ذهبية بالخبرة أن النار تنام فحسب، وفجأة تنفخ الريح في الجمر النائم فتشتعل لتلتهم كل ما تجده في طريقها.

 كانت قريبة من بوابة الاعتراف، واقفة عند الشرفة الطينية لمنزلها، متوكئة على عصاها، التي كادت تلامس جبهتها، تصغي بكامل قواها حتى آخر شعرة في رأسها، كما أهل القرية جميعا، لقد توقفت الحياة في هذه الساعات، وعلا صوت أحمد مثل خرير الساقية في الوادي، يشد ويرخي الشعرة، فيقتلع قلوبهم ثم يعيدها...

 اقتربت من الشابة إلى الحد الذي خلنا فيه أنها ستعانقها، تفرست في وجهها، حدقت فيها بعينين نصف مغمضتين، كمن يفتش عن علامة خاصة، كأنها تطبق نصيحة أحمد تطبيقا حرفيا، فدنت لتفتش عن الأسرار المكتنزة في وجه الفتاة. لدرجة أن هذه الأخيرة ابتسمت كما ابتسم الحاضرون رغما عنهم.

ــ عمن تبحث يا ابني؟

 ــ جاءت تبحث عن أمها يا الحاجة ــ أجاب أحمد ــ

 ــ آه، لم أسمعك.

ــ يبحث عن أمه؟! رددت العجوز.

ــ ومن هي أمك؟

ــ ليست أمي، بل أم زوجتي.

ــ ومن تكون؟

ــ اسمها نوارة.

ــ نوارة؟!

ــ نوارة بنت من ؟ أو زوجة من؟ النساء بآبائهن أو أزواجهن؟

ــ لا أعرف بالضبط اسم أبيها، نوارة من قرية كاف الحمام، هذا ما نتوفر عليه من معلومات لحد الساعة، في سيسي لفوcessey lefeu) ) كانت في الرابعة عشر أو الخامسة عشر على الأرجح، ليس لدينا تاريخ دقيق. ربما تعرفينها يا الحاجة.

ــ بعد أربعين سنة تأتي للبحث عن أمك؟ أنت ولد بار، صحيح!

ــ ما اسم أبيها؟

ــ لا نعرف، كل شيء غامض في حياتها، وهذا يسبب لها ألما، تريد أن تعرف من هي ومن أي شجرة تفرغ غصنها.

 ــ سترك يا رب لا تعرف أمها ولا تعرف أباها. ربما ماتا في الحرب، مسكينة يا بنتي.

همست المرأة في أذن زوجها:

ــ تقول لك أريد رؤيتها قبل موتي يا الحاجةــ أضاف أحمد ــ

ــ وأين كنت طيلة هذا التاريخ؟

ــ لم أعرف إلا لاحقا.

ــ هل تعرفينها يا جدتي؟

ــ بووووه،وكيف لي أن أعرف؟ والدنيا مليئة بنوارات وليس نوارة واحدة، بعضهن تزوج وأنجب وبعضهن سافر وبعضهن مات، لا تتعب نفسك يا ابني، لم تعش أمك هنا، لعلها في مكان آخر.وإلا كنا سنعرفها، مثل هذه الحوادث لا تموت هنا، تظل خضراء إلى الأبد. اسألني أنا، اسأل جدتك ذهبية، هي من استقبلت في راحتيها كل مواليد القرية، أترى هذين الكفين المتعرقين لا تضحك يا ابني، أترى هذه العيون الضيقة، هي التي كانت ترى المولود ذكرا أم أنثى، لا تسأل هنا، قد تكون أمك في مكان آخر غير قريتنا.

ــ لا لا معلوماتي مؤكدة، إنها من قرية كاف الحمام واسمها نوارة.

 ــ من أعطاك هذا الخبر؟

 ــ امرأة تسمى سارا بنجامين.

 ــ رومية؟ ضربت العجوز كفيها: من تكون؟

 ــ هي التي ربتها.

 ــ وأسمتها حورية؟! كيف ؟!

 ــ قصة طويلة، لا أستطيع شرحها الآن، ربما ستحكيها حورية بنفسها ذات يوم.

ــ اسمع يا ابني، أعرف جميع مواليد القرية أعرف أسماءهم وسنهم، وحتى الشامات فوق أجسادهم،أعرف من مرض بالحصبة ومن مرض بالحل، ومن مرض بالجدري، أعرف من شبع من حليب أمه ومن شرب حليب العنزة... كما أعرف آباءهم وأمهاتهم، أنا أم الجميع، كلهم أفطروا من ثدي العجوز قبل أن يجف ويضمر، أترى هاتين الراحتين المعروقتين، نعم كان لهما حظ استقبال كل مواليد القرية، هل ستعرفني بأبنائي أيها الشاب الغريب؟ قلت لي ما اسمك:

ــ أحمد يا جدتي.

ــ خيل إلي أن سمعتك تقول أوراس.

ــ ذاك ابني

ــ ابتسمت العجوز : من سماه بهذا الاسم الجليل؟

ــ أبي أوصى أمي بتسمية ابني أوراس ليرضى عني، أوصاها قبل وفاته، كان غاضبا مني.

ــ وماذا فعلت ليغضب منك؟

ــ تزوجت الرومية وحين مات أبي كانت زوجتي حاملا ، وهو قال لها: إن مت وجاء المولود ذكرا فقولي له أن يسميه أوراس، لأسامحه.

ــ أنت إذن من الأوراس؟

ــ نعم .

ــ تلك أجل البقاع، فليغفر لي الله، في أيامنا كانت تشبه مكة.

 انسحبت بحركة بطيئة كما السلحفاة والأغنية على لسانها، كأن ذلك الصوت القوي لا ينتمي لهذا الجسد النحيف: زوج ذراري طلعو لجبال هزوا سبتة وزادو رافال.

نظر الشابان بحيرة إلى العجوز، كأنهما ينظران إلى قطعة أثرية عتيقة.

ــ هذا هو دفتر السجلات، وهو يقول: لا يوجد لدينا هذا الاسم ــ قال أحمد ساخرا ــ

ــ هي هي...

ــ جدتي جدتي...

التفتت العجوز نحوهما دون أن تغير من حركتها البطيئة، انتظرت قليلا : " أمك ليست من هنا " ثم توكأت على عكازها، واستدارت إلى اليسار، صاعدة نحو البيت بخطوات وئيدة أثقل من تلك التي قادتها نحو الأسفل، كانت همهمتها تصل إلى الجموع في الأسفل: لا توجد أمك هنا،هذا التربة ما فيها ميمة. تنحنحت ملتفتة إليهم. كأنما تشي حركتها تلك بألا جدوى من البحث. وعندما بلغت عتبة الباب طاب لها أن تجلس على العتبة لتسترد أنفاسها، لقد تسلقت إلى البيت كما الحلزون بخطاها الوئيدة المسترخية المتحايلة على النهاية. وهاهي تستريح مادة رجليها ببطء إلى الأمام، بينما امتدت يداها بنفس تلك الحركة المتأنية إلى أعلى رأسها حيث حكت جلدة رأسها، ثم شرعت في ترتيب المناديل الشامي التي انزلقت عن شعرها الأبيض كاشفة عن ضفيرتين مجعدتين هزيلتين لم تلتقيا منذ زمن بعيد .

ــ قل له أن يذهب من هناــ همهمت العجوز بصوت خشن غليظ ــ ليس لدينا حاجته لنقضيها.

نبح الكلب راكس ضاربا ذيله يمنة ويسرة أمامها، مقدما واجب الطاعة والخضوع لسيدته، لاعقا عصاها البيضاء.

ــ اذهب أنت من هنا، ليس علي إطعامك كل يوم، اذهب لتصطاد العصافير.

نهرته بغضب ولوحت بعصاها في الهواء، فانتحى جانبا وقد طأطأ رأسه، وعقف ذيله بين رجليه، مداريا خجله بمتابعة حركة ذبابة بفمه المفتوح. فيما تسرب عمي لعرج بين الجموع :

 ــ الكلام هو ما قالته الحاجة ذهبية، زوجة أخي هي جدة الجميع وأم الجميع، تعرف أكثر مما نعرف، كل المواليد سقطوا في راحتيها ورضعوا من صدرها، لا أعتقد أنها تجهل مثل هذا الحادث، كما قالت مثل هذه الحوادث تبقى خضراء لا تموت هنا في قريتنا.

 ومن ثم انسل عمي لعرج بمشيته التي تشبه الكنغر، منحدرا باتجاه البستان فانفض الحضور وتلاشوا بين الأزقة الترابية الضيقة، الشباب ناحية البستان حيث سيستندون إلى جداره الحجري، وعمي رابح فتح البوابة وتحسس شجرة الرمان الضخمة: ورأى من بعيد أخوه محمد يدنو ها هو ببرنوسه الصوفي الأبيض، ها هو ينزع البرنوس، ويضعه فوق كومة الحجر التي اقتلعوها من الأرض، وهاهي يده اليمنى تمتد لتنتزع الفأس من يد الأب، كان رابح الصغير ينظر بإعجاب إلى حركات أخيه وإلى يديه القويتين تنهلان على الأرض، وها هو يرى الحفرة تتسع، ومحمد يغرس شتلة الرمان الفتية، ملتفتا نحو أبيه، إن اخضر هذا العود، سأعود إليكم سالما وإن يبس فاقرأوا علي الفاتحة ". وانحنى مقبلا يد والدي وجبينه. ضرب جذع الشجرة بكفه وحرك رأسه بأسى: هاهي الشجرة التي غرسها أخوه، قبل التجنيد في الحرب الكبرى ما زالت تقاوم الزمن شاهدا آخر.

وقف الشابان وحيدين تحت رحمة الفضاء الشاسع، ينظران نحو الأفق الرمادي، وإلى ضجيج العصافير وصراخ الأطفال والحيوانات من بعيد، لقد عادت الحياة إلى القرية بعد الصدمة العنيفة التي تلقتها، لقد استعادت وعيها متجاوزة قسوة الصفعة التي ألقاها أحمد وزوجته على خدها، ولكنها الحياة هكذا سقوط وقيام. وعلى إثر ذلك سمع صوت محرك، فهب راكس يعدو ملاحقا الغبار الذي انبعث خلف السيارة، فتفرق سرب الدجاج الذي راح ينبش أمام بيت ذهبية، وتطاير ريشه، وعلت وقوقته. ما دفع ذهبية لولوج الدار، لاعنة: الله يعطيكم المنحي والوباء والطاعون.

 3 -
 منذ أن رأت الجدة ذهبية وجه حورية المكسو بغلالة من الأسى الرقيق، وهي لا تكف عن الشكوى من الطنين المفاجئ الذي ملأ أذنيها، لكأن خلية نحل قد انتقلت من بستان عمي لعرج إلى أذنيها، الطنين الذي يوقظها في منتصف الليل، كما في ساعات الصباح، ووقت ما قبل العصر، لا تدري كيف بدأ بالتحديد، وهي تصعد نحو البيت محملة بوجه الشابة الغريبة الذي يشبه غيمة واعدة، أحست حركة مفاجئة في أذنها اليسرى، فدست السبابة لتلاحق الحشرة اللعينة التي رفرفت بجناحيها داخل أذنها،وتوقفت عن اقتفاء أثر الدرب الترابي الضيق المرسوم بخط أعوج ، كأظفار رقيقة مخترقا ساحات ضيقة اصطفت عليها البيوت: باب حضرية ذو اللون الأزرق وباب مريم بلون أخضر وباب حمامة بلونه البني الحديث ثم باب ذهبية الذي نسي لونه الأصلي بعد أن تعرت ألواحه الغليظة.

 بعض الشبان ــ ومنهم عاطف حفيد ذهبية ــ يسمون هذا الصف من البيوت الواقفة على خط واحد برود الهجاجل أي حي الأرامل، بالنظر إلى الوضعية الاجتماعية لقاطناته، ولكن هذا الكلام يتداول ككلمة سر بين الشبان كدليل على العضوية داخل المنظمة الشبابية الصاعدة نحو غدها، وإذا حدث واخترقت المنظمة أو تسربت رائحة الكواليس، فستقوم الحرب بين أهل القرية الذين هم في الغالب أبناء شجرة واحدة تفرعت أغصانها وامتدت، لن تسكت العجائز الواقفات على شرفات الساحة ذات الحواشي الطينية مثل أوركسترا سمفونية، سترددن دون كلل ــ كما لو كن يمضغن فاكهة من الجنة ــ تلك التضحيات الهائلة التي تفوق الاحتمال، كيف لبشر أن يتحمل طيلة حياته كل ذلك العذاب؛ دم الرجال الذي فار في الساحات وفي الجبال، جوع الرجال وإخلاصهم، قهر الرجال، وانحناء ظهورهم، ستذكرن كل ذلك والدموع تغرورق في الأحداق، ستذكرن تلك الأحزان الهائلة والدموع والأمراض: الجدري والعوعايشة والحصبة. ستروي ذهبية النمرة: كيف كانت تكوي الأطفال بجذور الفجل، كيف كانت تنقر على بطونهم، وكيف كانت تنقط جباههم بالقطران وتدهن معاصمهم بزيت الكانكي، إن كان عليها فهي لم تفرط، كم مرة وضعت كمادات أم قرمان والمريوت على الدمامل والجروح في أوقات الصيف، وكم مرة قامت من فراشها لتستقبل مولودا جديدا، وكم من المرات أغمضت عيني صبي وغسلته وكفنته.و مازالت إلى اليوم تفعل ذلك، هي لا تطلب شيئا سوى رضى الله، إنها مسؤولية أن تكون أم القرية ، والقرية كلها أمانة في عنقك لا تبدو ذهبية ضجرة من وظيفتها، إنها امتداد طبيعي لتكوينها النفسي، وهي تمارس هواية على ما يبدو، لا تتوانى أبدا عن الانزلاق من فراشها في ليالي الشتاء القارسة لاستقبال مولود جديد، ولا لإغاثة مريض حتى في أوقات الشدة كتلك الأزمات التي تصيب ابنتها...

ولكن الزمن تغير ومجالس الشبان لن تخلو من مثل هذا الكلام كما لن تخلو من الدخان وأسماء الفتيات وأشياء أخرى، وذهبية النمرة ليس بيدها خاتم آمر يفعل لتغير مسار النهر؛ فالحياة ستمضي بها أو بدونها ولا أحد يمكنه أن يوقف هديرها، إننا جميعا طمي على ضفافها شئنا أم لم نشأ ــ تقول ذهبية و غصة الأسى تتردد في أصداء حديثهاــ " لقد قالت إن الفتاة ماتت في ساعتها هكذا قالوا لها، هل خدعوا الفتاة الغرة، كنت أريد الاحتفاظ بها كشاهد على الجريمة، ولكنها ماتت فهل كانت مجرد كذبة أخرى من أكاذيبهم، لا أدري هل كانت أختي وناسة تعرف أم لا، ومن سيأتيني بوناسة من قبرها لتسرد علي الحقيقة، لم تعد إلي غير نوارة أخرى كانت ابنتي مثل النحلة واعدة بحياة خصبة، فعادت إلي تحمل جنونا غريبا. هل مازالت الفتاة على قيد الحياة تدرج في الأرض، ولا أعرف أنها شاهدي على الجريمة لأقاضي المجرم".

دفعت خنصرها الأيمن بانزعاج داخل أذنها، كأن معركة بين الحشرات قامت هناك، سحبت نفسا طويلا بلسانها مرة ومرتين ضاغطة على شفتيها، دون أن تتمكن من إيقاف الجنون الراقص في الداخل، وبعد محاولات مستميتة هدأت العاصفة قليلا، فاستعادت توازنها ممعنة التحديق في طرف خنصرها إلى فتات الحشرة المرجوة، بعين المنتصر نظرت مهمهمة، دون أن ترى أشلاء غريمتها. هدأت رفرفة الجناحين، وأحست ببلل، فاعتقدت العجوز أنها سحقتها وأن عدوها قد تحول إلى سائل باهت اللون، وما عليها سوى تنظيف الفتحة المتسخة، وإن قدر لها ونسيت ستتوضأ لصلاة الظهر وتمسح القذارة نهائيا.

وفيما كانت تتهيأ لصلاة العصر مترقبة صوت الآذان وارتجاف الظلال الواهنة فوق الجدران الحجرية، تحت شجرة التين العارية، حيث امتدت أغصانها الرمادية كهيكل حيوان خرافي، أو شبح تجسد في باحة بيت ذهبية، أعلنت مقدمة الطنين عن نفسها في صورة قطرة باردة لسائل لزج: بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله الرحمان الرحيم، لعنة الله على إبليس النحيس، إنه هو لقد بال الشيطان داخل أذني، أحس البلل، ومدت خنصرها في استجابة آلية لحاجة العضو للحك، تلك كانت المؤشرات الأولى للطنين، الذي انتشر بسرعة، وعلى الرغم من اجتهاد ابنتها نوارة التي صبت بحرص شديد قطرات من الزيت الدافئ والنعناع في أذنيها، قبيل النوم، إلا أن الطنين عرف حالة من الهياج عند منتصف الليل، وهو ما أعاق ــ صباحا بل طيلة النهار الموالي ــ حركتها عن القيام بدورتها الاعتيادية حول المنزل لتفقد دجاجاتها وإطعامها وجمع البيض، ومن ثم تشييع البقرة إلى العين بمرافقة راكس كلبها الأحمر الأثير، ولأن الأم لزمت الفراش مستسلمة لقهر ذلك الجن الذي يرقص داخل أذنها، فقد انتقلت المسؤولية بصورة تلقائية وتحت طائلة الظرف الطارئ وتبعا للسلم الاجتماعي إلى ابنتها نوارة، وبما أن القرية عارية من الأسرار فقد أدى ظهور نوارة خلف البقرة وبمرافقة راكس إلى طرح العديد من الأسئلة حول غياب العجوز في صحتها أو سفرها: لم لم تخرج أمك لقيادة البقرة نحو العين ؟ ما الذي حل بها؟ أهي في الفراش؟ لم لم تذهب إلى الطبيب؟ لا يبدو أنه مرض الطبيب!.

بعد أسبوع انحدرت العجوز إلى القرية المجاورة حيث المستوصف الوحيد ، في سيارة قديمة للنقل الجماعي، مخضتها عدة مرات واهتز جلد بطنها وصدرها الضامر وأحست أن عظامها تخلخلت على إثر ذلك، وقبل أن تنزل العجوز وتضع قدميها على الأرض الإسفلتية القاسية استدارت نحو السائق الشاب: يا ويح زوجتك! ضحك السائق ويبدو أنه فهم الرسالة جيدا.

ــ خذ الشاحنة بلين لتعرفها ــ أضافت العجوز ضاحكة.

ــ بالتأكيد يا خالتي.

وهناك وقفت تنظر في الفراغ ، حيث تتبدد الغيوم في صباح عبوس، يشي بطرف عينه أن الهدنة مع الطنين انقضت، وما عليها إلا البحث عن حل عاجل كأن يكون الارتكاز على الجدار، إن استطاعت التقدم أكثر بعشر خطوات حسبتها بذهن مشوش، غير متخلية عن شجاعتها، كان قلبها من حديد في تلك اللحظة كما لو أنها تستقبل النهاية: صباح الخير أيها الموت، مرحبا بحضورك، لولا أن غيمة رمادية عبرت سماءها، وداخل تلك الغيمة الرمادية الشفافة كانت نوارة هناك مثل الحسناء النائمة، داخل الغلالة الشفافة مسدلة العينين، نوارة ابنتها التي حملها خطاف العرائس، وطار بها خلف سبع جبال تتناطح، ثم دخل بها بيضة في بطن الحمامة والحمامة في بطن الجمل، فمن يحرر ابنتها منه، إلى يومنا هذا مازالت نوارة داخل البيضة، تنتظر من يحررها، لا يعلم أهل القرية إلا بالقليل من الحكاية حكاية خطاف العرايس بلباسه الأحمر القاني الذي سطا على نوارة فحرمها منذئذ نعمة الزواج والذرية.

من الحظ أن بصرها بقي يقاوم شتى أشكال الضعف إلى هذه اللحظة، يمكنها أن تضع الخيط في الإبرة بارتياح، متحديا باستماتة أثقال سنواتها السبعين ونيف، لهذا عندما لمحت فتاة شابة ــ ابنة الصدفة ــ لم تفوت فرصة سؤالها عن الطريق، والحق أن الطريق ليست جديدة عليها، ولكن أعمال الحفر والبناء خادعتها، فالتبس عليها الأمر، الواجهات والدكاكين والبنايات كلها شتت ذهنها، وضعت ذاكرتها أمام اختبار حقيقي، لم تبد الفتاة أي اعتراض . وقادتها بخطوات صغيرة متعاطفة نحو الهدف، مثل عكاز جديد، وهناك وبعد ما انتظرت لساعات رفقة وجوه أخرى كالحة لوحتها شمس الخريف وحمى الفواكه الفاسدة، وقفت مع النساء والأطفال في الصالة المخصصة، مترقبة كما لو كانت تترقب ليلة القدر، حيث ستلبى كل طلباتها وأمانيها المعلقة، حتى تلك التي تبدو لها اليوم تافهة وعديمة الجدوى، تضحك من أمانيها، لقد كانت تحلم ككل من حولها بليلة القدر وبرؤية النور الذي سينبثق من السماء، فاتحا كفيه لأمانيها الجميلة مثلما تتفتح أزهار اللوز ومثلما يتفتح ثغر الفجر الأبيض كحليب بقرتها وهي تناديها. عندما كانت فتاة يافعة كانت لها أمنية واحدة أن يصير شعرها المجعد أملس كالحرير، لكن نور ليلة القدر لم ينبثق فبقي شعرها على حاله راضيا بذلك الانكماش كلما حلت ضفائرها ودهنتها بزيت الزيتون.

الأماني تتدرج كالألوان تبعا لصعود الشمس في الجدار، لهذا غيرت لونها في الربيع الموالي، لقد ارتفعت قامتها و ذهب محمد إلى الحربــ كان مجرد فتى يناوش أحلامها ــ فدعت في سرها، أجل دعت بخجل أن يعود سالما، ونظرت حولها قد يكون أحد ما، أمها مثلا سمعت سر دعائها، إنها تخاف أن يتسرب سر قلبها، فيتبدد حلمها، وتنافسها قلوب أخرى، لم يكن محمد سوى ابن خالتها، ولكنه ابن رجل القرية وسيدها، يملك قطعة أرض وبستان، صحيح أن الأرض ليست جيدة تماما، وهل هو فالي أو غوست لتكون له أراض خصبة ومزارع عنب وتفاح؟ كلا، كانت قطعة صغيرة وبستانا به عين وله بقرتان وحصان و بغلان و ثلاثة أحمرة، إنه رزق كثير بالنظر إلى ما يملك بقية الناس، وفوق هذا له رجال، أما هي فوحيدة، كالجدار المنهد، ثم إن خالها مالك رجل يحفظ القرآن وأبناؤه أيضا، يحفظون ما تيسر والقرية تناديه سيدي الطالب، لأنه يعرف القراءة والكتابة ويحفظ كتاب الله، لهذا هي تنادي ابن خالتها محمد بسيدي أيضا لا عيب في ذلك أن تنادي المرأة الرجل سيدي كل حملة العلم هم أسياد،، ولكن هذا ليس حاجزا أبدا، نعم لقد ترعرعت في ذلك البيت الكبير ذي الغرف الأربعة المستديرة على حوش واسع، والمبني بالحجارة والقرميد المحلي، كانت تنظر إلى الحصان الأزرق بشغف، هو حصان محمد الذي سيأخذها لتزور والدها، هناك في البيت المنزوي لترى أختها حفصة وفاطمة وأخاها البكوش، أجل لم تعد مثل الجدار المنهد منذ تزوج والدها، في الغرفة الوحيدة من الطين والديس نظرت إلى النجوم عبر السقف المخروم كثوب أختها، وسمعت، أجل لم يخيل إليها فحسب، أنها سمعت بل حدث فعلا، كما نرى اليوم صورا في التلفزيون؛ انبعثت صرخات قوية مثل صرخات العنزة، تقول خالتها: إن أمها قطعت الليل بكامله مستيقظة، أمضته في الصراخ، بعد يومين من الألم المكتوم، صارت تتقلب في المكان لدرجة أصابت معها القابلة الزهرة بالارتباك، وفي عمق الليل انفجرت صرخات الطلق المروعة، كانت تلك الصرخة الرهيبة في القرية، كل الأحياء يومها رجالا ونساء يبكون كلما ذكروا ذاك الصراخ " كأنها القلية في الطاجين"وعلمنا من وجه لالة الزهرة أنها لحظة التقاطع بين الحياة والموت، وأن الفاصل بينهما شعرة، و يمكن أن تنقطع تلك الشعرة في أي لحظة، لم تقل لالة الزهرة ذلك ولكن تعابير وجهها خانتها على غير العادة. ومع بزوغ خيوط الفجرالأولى، صاحت الديكة، وأيقظ المؤذن سيدي مالك الناس للصلاة، خفتت الصرخات واستنفدت طاقاتها، مثل قنديل يوشك على الانطفاء، واستحالت أنات خافتة، هي في النهاية اللغة المشتركة بين البشر، راحت في إغفاءة خفيفة بين أيدي النساء، فانسل بعضهن لإعداد فطور الفلاحين وحلب الأغنام والأبقار، لقد سرحتهن القابلة، فيما مكثت العجائز وخالتي، مسدت القابلة وجهها ورأسها بيدها اليمنى تالية أدعية الخلاص، مسحت العرق المتصبب، وقامت لتصلي الفجر، وخلف ثوبها الشتوي الخشن مثل خيمة الشعر اجتمعت سحابة كثيفة من الأسى الخاص الذي تحتكره النساء وحدهن، زاغت نظراتهن المفجوعة في طلعة الأفق الأشهب، تفيض بالتساؤل والحيرة.

ــ حكم ربي ــ قالت خالتي فطومة ــ

بينما راحت النساء تنقلن أبصارهن بين بعضهن وبين الجثة الممدة في الوسط كما قصعة الكسكس في الجامع، الجسد الممد الملفوف في قطعة من غطاء صوفي حائل، متيبس كقطعة الخشب يأبى أن يعود، حيث العيون مسدلة والأنفاس خافتة تدفع خالتي لوضع أصبعها على منخاري المرأة، لتتأكد أنها مازالت وسط المجلس، لكن المرأة أطلقت صرخة مدوية فجأة مخترقة جدران الصمت التي راحت تعلو وتعلو ثم عادت إلى حفرتها.

 في الصباح أطلت شمس واهنة، نثرت ورودها على عجل واختفت، ثم فسحت المجال لسحب داكنة ورعود وبروق وأنفاس ريح سامة، كان الشتاء يتهيأ غاضبا، فانكمشت النساء في الظلام الذي لم يقو القنديل على مقاومته.

 توردت خدود المرأة من شدة الحرارة، وعادت للأنين من جديد، فوثبت لالة مسعودة وأسندتها، كانت امرأة قوية، ولكن الطاوس أيضا كانت شابة قوية، تضاهي الرجال صحة، وهاهي ممدة في أول حمل لها.

ــ ليتها تنجو ــ تقول خالتي في سرهاــ وليذهب الولد، الولد مثل التين الشوكي يتكاثر كلما قطعت أجزاء منه.

ــ شدة وتزول ان شا الله، حال النساء، ومن ولد كل هؤلاء البشر، يخزيك، لا تخافي، كلنا لم نصدق بالحياة، ولكن الأولاد مثل التمر، لهم حلاوة، هذا العام تقولين لن أنجب بعد هذا مجددا ولكننا سنجدك السنة القادمة حامل والتي بعدها والأخرى.

كانت المرأة تتلوى، ثم تعلو الغشاوة عينيها، فتتشنج أطرافها ويصفر وجهها وتغرق في موجة من العرق البارد، لتسقط مغشيا عليها، فتبلل القابلة مناديلها وتمررها على وجهها فتستفيق، ثم فجأة تصرخ صرختها المدوية، الصرخة الرهيبة التي وقف لها شعر الدواب، وكفت الكلاب فيها عن النباح، لقد صارت امرأة رهيبة، فاستنفرت القابلة مساعداتها:

ــ الفجل الفجل يا بنات الكلاب، البخور البخور ، الدفلة ، هيا الماء الساخن.

سقيناها "قنوشا" من القرفة الساخنة، سال على أطراف شفاهها، فمسحتها العجوز دثرتها بالغطاء الصوفي، وراتكات على كتفيها، في محاولة لتخفيف حدة الحمى، كنا نسمع أسنانها تصطك ونرى الغطاء يهتز فوقها فنحاول تدثيرها، وبما ندثرها؟ أطلقت عيني في المكان أفتش عن غطاء، لا غطاء، البيت شبه خال وما تملكه هو ذاك الذي وضعناه فوق ظهرها، ذاك الغطاء الحائل.

ــ انطلقي يا فلانة واجلبي غطاء، المرأة تكاد تموت من البرد.

ــ نعم يا لالة.

انطلقت المرأة على عجل إلى البيت المجاور وعادت محملة بحايك من الصوف، حملته على ظهرها وعادت لاهثة.

ــ إنها أنثى ــ صاحت القابلة ــ

 ــ الحمد لله على سلامتك، ألم تسمعي ؟

 مالت المرأة على جنبها الأيمن ونامت بسلام، تلاشت كل آلامها إلى الأبد، فقط تدفق الدم عنيفا من رحمها، وأبى التوقف. كانت المرأة قد انزلقت إلى أعماق حفرة الموت في اللحظة ذاتها، وانطفأ الكانكي الذي بات يقاوم طيلة الليالي الثلاث المنصرمة، ولاح الأفق شفاف أبيض، لم نعرف بياضه ذاك أضوء الفجر أم نور القمر أم خيوط السحاب الهاربة نحو سمائنا. وفي الصباح رأينا الأرض تكتسي البياض اللامع الممتد وتستوي من بعيد : إنه الثلج

 مسدت المرأة جسد الصبية ودهنت شعرها بزيت الزيتون الدافئ ثم أعادتها إلى لفائفها البالية بحرص، واستسلمت الملامح الملائكية للمداعبة ولدفء الجمر المتورد فنامت.

 ــ سبحان الله فولة وتقسمت كأن الطاوس ولدت نفسها.

 ــ البنت أمانة في عنقك، هي من لحمك ودمك، أم أن سيدي مالك لن يقبلها.

ــ حاشا ، يا خالتي الزهرة، ولكن أختي المسكينة ماتت وهي عروس والحناء مازالت في أظفارها لم تهنأ بشبابها.

ــ لا تبك يا بنتي، هذا حكم الله ربي يرحمها، النفساء في الجنة كالشهداء ــ هكذا يقولون ــ

 دخل محمود الحجرة فقامت القابلة والحماه بتقبيل جبينه في صمت.

ــ سنرسل لتسميتها يا سيدي، مر أسبوع ولم نسم الفتاة، ستغضب علينا الملائكة، لنحمي الفتاة من المس ومن الشيطان، الله يسترنا، بسم الله الرحمان الرحيم ، بعيد الشر على أهل الدار.

ــ كلمتك مسموعة خالتي الزهرة، سأذهب عند سي المكي وأرى ما يقترح.

ــ لا تنس قل له يعطيك كتابا ليحمي الفتاة ، ولا تنس خذ المعروف معك.

خرج الرجل بخطى ثقيلة واهنة تشي بالهم الذي يرزح تحت ثقله، مع أنه مازال في منتصف العمر.

ــ رجل منكود يأكل رأس نسائه.

ــ كنت سأقول له لنسميها حدة للحد من الشؤم في هذا البيت.

ــ سنرى ما يقترح سيدي المكي .

ولكن سي المكي خيب أملهن في الحد من الشؤم و اقترح اسم ذهبية، لذهاب النحس، ثبته مع كتاب وبعض الحنتيت والكمون، قال لهم أن يجلدوه ويعلقوه على صدر الفتاة الصغيرة.

 نعم إنها هي الجالسة في طابور الانتظار في هذا الأربعاء أحد أيام نحسها، إنها ثمرة ذاك التقاطع، ثمرة اجتماع الماء والنار، ففي اللحظة التي انزلقت هي فيها نحو ساحة الحياة خرجت أمها من بابها الخلفي، مخلفة صراخها المروع. لذلك فمن الطبيعي أن تكون ثقتها في الأربعاء واهية، منذ روايات المرحومة خالتها:" الأربعاء يذكرني بالرماد والموت والخريف، حيث السماء غامضة الملامح، والغبار المتطاير وخشخشة الأوراق اليابسة وهجرة الطيور، مات كثير من الأهل في مثل هذا اليوم وهو ما حدا بها للتطير من الأربعاء واليوم هاهي تنقض ميثاق القاعدة التي دأبت على احترامها زهاء السبعين سنة، وتخرج من بيتها صبيحة الأربعاء، لقد مر أسبوع كامل على وفود الفتاة الغريبة التي أهدتها الطنين، دسته في أذنها ودفعتها للخروج في غير يومها، إنها هي فتاة الأربعاء الغامضة...

ــ هل حان دوري يا ابنتي؟

ــ مازال ياالحاجة.

ــ ومتى يحين؟ هل سنبات هنا؟

ــ قريبا يا جدتي اصبري.

 تحملق في الوجوه المتغضنة، تعبث بعصاها، تمرر يدها على الخمار الأبيض الذي يغطي صدرها، تضع يدها على أذنها، تتحسس أزيز الدبور الذي سكن طبلتها، تفكر في نوارة وفي البقرة، لقد تأخرت، ورفيقتها تناديها إلى الحليب وإلى الماء، ولا شك أن خوارها يملأ الحوش، هي أوصت نوارة، لكن البقرة لا تعرف رائحتها، ستشم رائحة الفتاة المتعبة، وستنفر منها، لا شك ستحرن البقرة كما الفتاة ، شعور متبادل بينهما، تقول ابنتي إن النساء هجرن هذه المهنة، أنا أقول لها إن عيشنا هكذا ، قدر علينا رزقنا بهذه الطريقة، قدر علينا أن نقد خبزنا من صخرة الشقاء، ماذا نفعل يا ابنتي ؟ نرضى بالمكتوب ، هل وجدت الحناء ولم أخضب يدي ورجلي، ولا بأس أن نضعها في كل موضع إن وجدناها، يوم كانت الحناء عزيزة ، أما اليوم فسال عليها، مهملة في قاع الصحون، يوم كان لها شأن كانت الفتيات الشابات يتحلقن حول العروس ويمددن أكفهن بفرح من أجل رائحتها ولونها وبركتها " راحت الدنيا، زهو الدنيا شقاها، الله الحد جيل مجلجل قسام الكسرة بالمنجل ياكل بلرطال ويشرب بالسطال، ويقول ما شبعتش ، يا رب استرنا حتى يسترنا التراب"

4 -
 ــ صباح جديد ...
فستانك المورد، لونه السماوي الرقيق، ألق عينيك،ضفائرك اللامعة بالزيت المعطر بالطيب، والحناء في كفك وأقدامك، تقول إن دعاء ليلة القدر قد استجيب: هاهو محمد يعود من الحرب سالما، وهاهي أمه تزغرد، وهي تعد العشاء للرجال: كسكس القمح باللحم والقديد لقد نحر الطالب كبشا، لعودة محمد بالسلامة من الحرب، وهاهو ينظر إليها من تحت حاجبيه الكثين نظرة جديدة ،تفوح برائحة الشيح والزعتر وطراوة المروج، الرائحة التي غطاها غبار الغربة تنضح من جديد من جسدها هي ذهبية التي لا تطمع كثيرا في ما ستعطيه الحياة. يكفيها فقط أن ينظر محمد بطرف عينه نحوها،وأن ترى أمه ذلك أولا تراها، من المهم أن تنتبه العجوز إلى جسد الفتاة الفائر، ومن المهم كذلك أن تنتبه للشعر الذي غطى وجه ابنها، وعليها أن تعجل بجني المحصول قبل أن ييبس، وتذروه الرياح في الخلاء وعندها يكون الأوان قد فات.

 كان الشعير قد طاب في موسمه تماما مع بداية الصيف، وعليه الانتظار حتى نهاية الحصاد. وجمع الحبوب وخزنها،وستخرج أمه المطحنة الحجرية وتديرها وهي تغني:

 الغرارة تمشي بلا كرعين بلا شي.

بينما ينساب دقيق الشعير الأبيض مثل سلك الفضة، فتغربله ، ومن ثم تشرع في إعداد الكسكس والتحضير للعرس، عرس حبة عينها، إنه محمد زينة الشباب، أهذا كثير عليه؟ بعض الكسكس باللحم، عليها أن تخرج الجفان الطينية التي أعدتها الربيع الماضي للضيوف فالعرس يتهيأ في أفقها وهي في منتصف الصيف تعد العدة. فموسم الأعراس لا يفتتح إلا مع بداية الخريف، حين يضمن الناس قوت العام ويجمعون غلة الموسم.ولا شك أنه رآها مثلما رأى التربة البنية والأفق النحاسي يتوهج وتتدلى منه غيمات تدنو من السقف. وكان متشبثا بحركة رأسه نحوها ،ولا شك أن أمه قد رأت ما بداخل الصرة. وهي امرأة محظوظة إذ كان لها ابنة أخت ربتها بيدها مشبعة بالماء والحمرة وبرائحة الأرض.

 أجل لقد عاد من الحرب وهذا هو الأهم ، وهي تحمد الله على ذلك ، تجلت لها ليلة القدر بيضاء متلالئة بالأنوار. وسيعود إلى الكوشة ليعمل، إن سواعده قوية وهذا يفي بالغرض. سيمنحه خالها مالك كوشة صغيرة، يصنع فيها القرميد المحلي، ومحمد هو من يتولى أمرها، يرفس برجليه الطين ويشكل القرميد ويطهوه في الفرن، إنه يرسل الشبان والعجائز للاحتطاب، هي نفسها شاركت في عملية الاحتطاب، كل خريف على الرجال برم حبال الديس والاتجاه نحو الجبل للاحتطاب، أما النساء ففي الربيع حيث يكون روث الحيوانات قد تشرب ماء الشتاء، وقبل أن يبدأ موسم صنع الأواني،يكن قد خبزن الروث بشكل أقراص تبسط على الأرض أو تطلى بها الجدران لتجف، وقد كانت خالتي تعمل تويزة لأجل ذلك، صحيح أنها كثيرا ما استدعتني لنخبز روث البقر، إنه سهل الصنع، هذا لنفسها، لأجل الشتاء القادم، ولأجل ضيوف زوجها. أما روث البغال والغنم، فتدعو إليه النساء الفقيرات مقابل صدقة، طعام يوم، وقفة من الوقود، وهذا تدخر بعضه للاحتياط والآخر للكوشة، وبعضه للصدقة، عندما تمل خالتي من كنس الروث وخبزه تدعو النساء الفقيرات لأخذه. لم تكن لخالتي بنت وكانت تحبني، لهذا حرصت على إعدادي كامرأة للحياة، وماذا تعني الحياة يومها سوى الحصول على رجل بغض النظر إن كانت جميلة أم لا، فقيرة أم غنية ، كل هذه الاعتبارات تافهة، لأن ما يحكم القرية ليس مصلحة الفرد، وإنما مصلحة الجماعة حياة الجماعة أو موتها، يقول الشيوخ : "هذا بهذا وهذا بربي" ومن ثم يتاح للجميع توسيع نطاق العائلة بإنجاب أكبر قدر من الأبناء، أجل إن إنجاب أكبر قدر من الأبناء هو في حد ذاته عمل عظيم، لمواجهة آلة الموت، لقد كان الموت يحصد الأطفال، الموت المجاني والموت غير المجاني، كان فمه مفتوحا على الدوام في سنوات الجوع والمرض والحرب، لهذا كانت العجائز تنصحن النساء بالولادة ، مثل الشجرة المرة، لأن ذلك هو نوع من الاحتياط، مثلا أنا ذهبية كم أنجبت سبعة أولاد وكم بقي منهم: اثنان، نعم كنا نلد للموت، والفضلة التي يعافها يتركها ويرحل نحو بيت آخر، وكان الشتاء موسم الموت المفضل. لذلك قلت إن الأماني تتلون وتصعد مثل الشمس في الجدار، فلما رزقت بالذرية وتجرعت جراح الأمومة دعوت أن يحفظ الله ذريتي المتساقطة مثل الذباب في رحبة الموت الشاسعة، لقد دعوت بإخلاص وذرفت الدموع الساخنة ، وكانت تلك أصعب عاطفة جربتها، عاطفة الأم الثكلى التي تزرع أبناءها في باطن الأرض مثلما تزرع بذور الشعير ، تدخرهم للغد.

5 -
ــ ذهبية حاج عمر ... نادت الممرضة المتعبة الجالسة قبالة الباب، بوجهها الهزيل ومئزرها الأبيض ذي الكمين القصيرين:

ــ ذهبية حاج عمر...

 كانت بحاجة إلى حبال متينة لتعود من عمق البئر التي نزلت إليها، لتتسلق حواشيها الزلقة مثل علقة، وبالكاد نهضت متثاقلة وتقدمت نحو الباب،على وقع نقرات عصاها في البلاط، وأفسحت لها الممرضة الطريق وأخذت بيدها وأجلستها على الكرسي، وهناك قابلت وجه ليلة القدر.

 نظرت في وجه الطبيبة الشابة، هذه التي شرعت في الكتابة

ــ ماذا تكتبين يا فتاة ؟ مازلت لم أعلن عن آلامي بعد.

 ــ لا شيء ، لا شيء ، ردت الفتاة مبتسمة.

 ــ ما اسمك ؟

 ــ آه ، لم أسمعك ؟

 ــ قلت لك ما اسمك ؟

ــ يا ... ذهبية حاج عمر بنت الشيخ مسعود.

ــ كم عمرك ؟

ــ عمري؟! سبعة وسبعون.

ــ الله يبارك، ربي يطول في عمرك.

طلبت منها أن تنزع ملابسها وتستلقي على السرير ، في البداية استنكرت ذهبية هذا الفعل، لكن الطبيبة ألحت وبدت مستعجلة، فاستسلمت لأوامرها، جست نبضها ومررت آلتها على صدرها وبطنها وظهرها، ثم قاست ضغطها، قالت لها :

ــ كل شيء بخير، إنه العمر

ــ كيف تقولين إنه العمر، هل الطنين الذي في أذني سببه العمر؟

ــ نعم يمكن أن يكون العمر.

ــ اسمعي يا فتاة، أنا أقول لك ، أني لم أسمع مثل هذا الطنين طيلة حياتي، إن ذبابة ترقص داخل أذني وأنت تقولين العمر، أقول لك أني سمعت غريبين يتحدثان عن معركة كاف الحمام، هل تسمعين بمعركة كاف الحمام؟

ــ لا، لا أعرف.

ــ لا ، لا أعرف، يخزيك، أهذا ما تعلمت في المدرسة؟

ــ نعم منذ جاء الغريبان ليذكراني بمعركة كاف الحمام، فجأة أحسست بقشعريرة واعترتني حمى من أصابع رجلي إلى آخر شعرة في رأسي، حسبتها ساعتي دنت والله، ثم اعترتني البرودة وهكذا إلى اليوم، وأنا أتقلب بين موجة حر وموجة برد، موجة حر وموجة برد حتى طلع النهار وأشرقت الشمس، وحن الله علي وأغمضت عيني لبعض الدقائق. لو كنت قادرة على سماعي، ولو أن الصالة خالية من المرضى، لكنت ملأت يومك بحكايات معركة كاف الحمام، إيه الأبطال الذين قتلوا شايب الراس، لا أحد من القرى المجاورة استطاع قتل شايب الراس غير محمد بن مالك ، أنت لا تسمعين بهذا الرجل أكيد ، ومن أين لك أن تسمعي ، ذاك الرجل هو زوجي، نعم لقد قتل شايب الراس، بليس النحيس، نعم شايب الراس هو الشيطان، كان له ذيل وقرون ، وكلما كان لاراف تحت قيادته، كلما كانت الأيام تشتد علينا، مع ذلك قتله الرجال الأحرار: حزب الثوار الله تنصر.

 ــ ياه... أولئك هم الرجال! لكن فرنسا أحرقت القرية كلها، حولتها إلى رماد.

 وأعطتها الطبيبة الشابة بعض الحبوب والسوائل، التي راوغت بها الطنين وعقد هو الآخر معها هدنة بدت لها في بعض الأوقات اللطيفة أنها معاهدة صلح... ولكنه كان عنيدا لا يستجيب، فاضطرت للتعايش معه لا حقا أياما وليالي وشهورا.

 6 -
 موهبة الزمن أنه لا يشيخ...
 بلا مبالاة متعمدة، يمد سلطان شبابه على المدى المفتوح، ومن ثم وفي لعبة مراوغة ــ لعبة غير نزيهة لكن البشر يتقبلونها كما لو كانوا في جلسة سكر ــ تغوص أصابعه الناعمة في أجساد ضحاياه، إنه يلهو، يعبث، يقتنص المتعة وهو يشكل الوجوه على طريقته، يضع الخطوط والتجاعيد بعناية الفنان،كما يشكل الفواكه وينقلها من النضارة والماء إلى الانكماش والجفاف والتجعد، والناس سواسية أمام سلطته وفي مملكته يؤدي أعماله بإتقان، وإن كان للأغنياء بعض الامتيازات والحيل الصغيرة لرشوته مؤقتا. وموهبة الزمن الأخرى أنه يمن على ضحاياه بهبة النسيان، والحق أن النسيان نعمة ــ أضافت ذهبية النمرة في فراشها، لقد قرر النوم هجرها اليوم ــ هذا إن قدر للناس أن يحتفظوا بكامل قواهم العقلية تحت ضربات هواياته المتعددة الأوجه،وهكذا تصير الجروح تلك الأزهار الدامية التي تفتحت في صباحات العمر مجرد خطوط واهية ودروب مهجورة، إن كف الزمن ستمتد بسريةــ ولا بأس في بعض الأحيان إن اعتمد الطريقة المكشوفة ــ لتمسد على ذلك الجرح طازجا أو يابسا، وبالطريقة السحرية تمرر أصابعها الرهيفة كما لو كانت تعزف قطعة موسيقية حزينة لينام الصبي أو العجوز أوتنسى الفتاة الشابة مساء الهجر الكئيب، مثلما نسيت نوارة بنت ذهبية. كما لو أن ريح النسيان تهب من كوة صغيرة مفتوحة على الجنة. الغريب أن الأفراح والأحزان والمحاسن والمساوئ والجروح تتساوى في ميزان تلك الكف، وستعلو طبقة رقيقة من الغبار لتغمر تلك الأحداث التي بكينا أو ضحكنا لأجلها.

 لولا أن ذاكرة ذهبية النمرة كانت في حالة استنفار قصوى، ونهر الزمن يسري مسويا طبقات التراب، رادما الحفر والتشعبات والثقوب، ولولا وميض قلبها المتقد، لولا جمره المتوهج في الليالي الحالكة، لانخدعت بتلك الكف الملساء، تمر فوق جرحها، تذرذر مسحوق النسيان العجيب، ترياق الزمن، لدرجة التسوية بين الضحية وجلادها وبين القاتل والمقتول، أما هي ذهبية النمرة فليست مثل الآخرين ، إن قلبها حي بين أضلعها ، وهو ما يزال ينبض بلحظاتها جميعا كما لو كانت مكتوبة في لوح أمامها وهي تقرأ حروفه؛ وهاهي كما تشاهد التلفزيون ترى الدودة التي تسكن قلبها تتحرك، في بعض الأحيان، في أوقات الرخاء والتصالح بين الذات والحياة، تبدو وكأن حركتها همدت، لدرجة تخالها ماتت، أما في أوقات الغضب والضيق والإهمال، فكانت تحس وكأنها ستشتعل، مثلما هي اليوم، إنها حية تلك الدودة، وهاهي تتحرك في كل الجهات، وهي تحس ملمس أظفارها، وسخونتها تصعد نحو صدغيها، مخلفة بين خصلات شعرها المطلية بالحناء خيطا من العرق ينحدر نحو رقبتها وأذنيها، وترتفع حرارة صدرها، كأنها واقعة تحت صهد فرن ، لدرجة تحس أنها ستتلاشى نهائيا، وهاهي حورية تبرز بين ثنايا النسيان فاتحة طيات الثوب النائم في الخزانة العتيقة، فتفوح الروائح التي طالما داعبت أنفها، فتأهبت جميع حواسها منذ زمن لتحرك الدودة وهي تغرس أرجلها فتخربش في صدرها بطريقة موجعة.

 عاشت طيلة حياتها امرأة مباشرة وواضحة مثل أزهار الربيع ــ كما هم أهل القرى الجبلية ــ ولكنها اليوم وعلى غير العادة تندفع نحو الاختباء، كثمرة تين في ظل الورقة، تضع قناعا لا ينسجم وتقاسيم وجهها الصريحة. ومع هذا الوضوح فلم تستطع النظر المباشر في وجه ابنتها منذ الحادث اللعين،وقايضتها نوارة ذلك الإحساس، كأن قدر المرأتين أن تشيحا بوجهيهما عن الحقيقة المخبوءة كما الألغام، تحت جلدهما، وذات ستنفرد تلك الألغام في جسد ما.لا تستطيع إحداهما النظر في عيني الأخرى، إنه التواطؤ، التواطؤ الرخيص، الخوف من فتح العيون تحت أشعة الشمس، لقد كانت ذهبية قوية وشجاعة وإلا ما لقبوها بالنمرة يوم حملت على ظهرها عمار ولد عبد الرحمان وقد أنهكته الجراح وسالت الدماء من رأسه وكامل جسده، رأته النساء بين الحياة والموت، هناك قرب ساقية الماء، كانت القرية خالية من الرجال الذين اقتادهم شايب الراس للعذاب، وكان الدور على عمار ولد عبد الرحمان: أين محمد بن مالك ؟

ــ لا أعرف.

ــ هل يعود في الليل؟

ــ لا يعود، منذ أن رحل عن القرية لم يعد.

ــ أين زوجته وأولاده؟

 لا أعرف، لا أعرف، لقد أخذهم معه.

 رفعته على ظهرها كما الطفل الصغير، أسندته جارتها الزهرة عن اليمين ومسعودة بنت السعدي على اليسار، كم المسافة التي قطعت؟ لا تدري، ولكنها راحت تحث الخطى وتسابق ظهور العساكر، كانت قوية، وهذا صحيح، مما جعل أهل القرية يعترفون لها بهذه الهبة ، لكنها كانت شجاعة أكثر مما كانت قوية، اخترقت حقول القمح والسنابل القادمة نحو موعدها تتلفع بين رجليها وتلتصق بثوبها، ولكنها كانت تندفع نحو الأمام قبل ظهور القافلة، وربما الطيارة الصفراء، تعرف إن ظهرت فإن حياتها ستنتهي بضربات دقيقة، والطيارة هذه الأيام كثرت طلعاتها وخرجاتها، كانت تفتش عن رائحة بشر يتخفى، خطوات تتحرك بريبة، حتى السحالى صارت حركتها محسوبة فوق الرمل. بلغت البيت لاهثة، فأنزلت الرجل في الركن ، وطلبت من ابنتها نوارة أن تستدعي أمه في سرية، وهناك مسحت الجراح بثوب نظيف وذرذرت الزعتر المسحوق و الحناء عليها، ثم أعدت له البوغلية بالزبدة والبيض وقدمته له.

سحبت يدها، والعجوز حمامة تحاول تقبيلها.

ــ احملوه معي إلى بيته سنغطيه جيدا، قد يعود العسكر، تفقدن المكان جيدا.

 كان الرجل يهذي وأسنانه تصطك من الحمى، والنساء يتحلقن حوله، صاحت ذهبية : ابتعدن، دعوا الهواء يتسرب نحوه.

وضعت بعض الجذور ولحايا الأشجار وقرصا من فضلات البقر اليابس وأوقدت النار، ثم راحت تنفخ فيها ،بأنفاسها القوية مرة ومرتين وثلاث وأربع ، كانت أوداجها منتفخة وخدودها محمرة حتى أنها تكاد تنفجر،وعيونها تدمع، نفخت من جديد وأتبعتها بسعال حاد جراء دخول الدخان في حلقها وصدرها ، حتى ارتفع اللهب وعلا الدخان:

ــ قربوا إليه آنية النار، سيعود لن نخسر عمار ، انظروا أبناء الكلب هرسوا رأسه كما رأس الثعبان. سيحل الدفء .وسيتحسن.

ــ عمار، تشجع، كل الرجال ذاقوا العذاب.

ــ راني صابر يا أختي ذهبية، راني صابر.

 لكنها اليوم عند هذه التخوم، وقفت خلف السياج خائرة القوة ، لم تدر كيف أتتها الضربة على قفاها، في لحظة سهو أو جنون أو موت، لا تدري بالتحديد كيف انفلتت يد ابنتها من يدها، في تلك القيامة، التي قادها شايب الراس اللعين جوزيف رومان، كان مثل الخنزير يدهس كل شيء الحجر والبشر والشجر ، الأخضر واليابس، يأتي على كل شيء من الماء إلى الماء. عندما يقود جوزيف رومان التمشيط ( لاراف ) فهي النهاية ، سيكتسح كل شيء : البيوت والغرف والخزائن، وسيطلق العنان لكلابه لتعيث فسادا في كل شيء، حتى الدجاجات التي تحضن بيضها لا تنجو من شره، كانوا يكسرون البيض ويشربونه نيئا، ويخنقون الدجاج ثم يشوونه فوق النار، أكلة الجيفة أكلة الخنازير ، تفوه اللعنة عليكم يخزيكم.

 في التمشيط السابق منذ أسبوعين ــ صارت القرية مستهدفة منذ سرت أخبار بأن جماعة ابن مالك يرابطون هناك وبأن الكازمة في بيته ــ كان قد نظر إلى ابنتها مثل الكلب الجائع، أجل نظر إلى الطفلة الواقفة على أسوار الشباب السامقة، نظر دون أن يشبع كانت هي ترقبه من بعيد، ترقب الذئب الجائع وتحرس الحمل، وعلى الرغم من أنها اجتهدت مثل نساء القرية في صبغ وجهها ووجه ابنتها بالدخان الأسود من بقايا رماد الطاجين،ومن روث الحيوانات ، وعلى الرغم من قشابية أبيها الصوفية المهترئة ذات اللون البني الكالح ، فقد انتبه إليها، كان شبابها طافحا مع بدايات الإشارات الأولى للبلوغ، كانت فورة الطبيعة تتجاوز كل حيلها، وعندما رأت اللعاب يسيل من فم الكلب نحو قطعة اللحم، في مثل هذه الساعات تشتغل حواسها في الدرجة القصوى لذلك عندما توهجت نظرة الشيطان في عيني جوزيف رومان، كانت هي الأخرى قد شغلت آلة حواسها، فشقت الصفوف مندفعة حيث سقطت تلك النظرة، كما الأسد الجائع على الفريسة، وقفت مثل الجدار وحالت بينهما، وكأنما قرأ أفكارها من بعيد، رآها تقيم السد بينه وبين الفريسة فصفعها اللعين صفعة قوية أسقطتها أرضا، لكنها قامت ودفعته بعيدا بيديها الطويلتين، ونظرت إلى وجهه الأشيب وإلى الأخاديد التي تشق صفحته، كأنه تعرض لعملية تشويه مقصودة، خبأتها نظرته القاسية، من عينيه الخضراوين الضيقتين كان الشر يتدفق، لقد رأت ذلك بوضوح، رأت الشر يسكن هناك في أحداقه، إنه ينظر إليهم نظرة الخبير،ونظرة المصمم، لا يمكنه تصور أن آباء هؤلاء البنات وأن إخوانهن، وأن أزواج هاته النساء القذرات الفقيرات، قد هزموه ، لا يستطيع الاعتراف بذلك، حتى في مرآة النفس الداخلية، تخونه الجرأة كلما طافت الصورة بذهنه، إنه يطارد كائنا خرافيا لا يرى، فقط يشتم رائحته في كل مكان، في الشعاب والوديان وبين كوات البيوت وفي أشجار الصبار، الكائن يختبئ في كل مكان ، لكنه لا يراه أو بالأحرى يراه ولا يراه، يلمع مثل السراب ويختفي، يغريه بالتقدم وعندما يمد يده ليضغط على الزناد يرقص خيال الشمس في عينيه، لا يمكنه القبض على غريمه، هذه القرية اللعينة تحرق أعصابه وعليه أن يحرقها، نعم عليه أن يحرقها، كلما جاء إليها فقد جنوده، إنها أشبه بمغارة مجهولة ذات جيوب خرافية تطوى وتنبسط بطريقة سحرية، لا يبدو أنها تستجيب للعذاب، العذاب يبعث فيها الحياة، العذاب هو جمرة الحياة بل إن آلة العذاب هي التي تدعوهم للتشبث بالحياة أكثر وأي حياة؟ هؤلاء التعساء يضعونه في موقف محرج مع رؤسائه، وعليه أن يقدم البرهان ليس لرؤسائه ولكن لنفسه، لا شيء يدفع العربي للجنون كالشرف، عليه أن يسلط جنوده على هذا القطيع ليشفي غليله، الجنود متعبون، والبلاد خالية من النساء الجميلات ماعدا ذوات الأسمال هؤلاء الموشمات كساحرات القرون الوسطى، لكني سأنال من الفلاقة سأنال منهم وسأذل نساءهم، علي اللعنة إن لم أفعل ، إنها فرصتهم الأخيرة إن لم يعترف الرجال سأنفذ خطتي، سأطلق الكلاب الجائعة وسط القطيع، وماذا سيفعلن، سيستسلمن وربما سيتذوقن القليل من السعادة هاهاها،تنسيهن الجوع المزمن، على الرجال أن يعترفوا بمكان الفلاقة وبالكازمة وبالمؤونة المخبأة، هذا هو السلاح ستتعرض القرية لعملية جماعية لم يعرفها التاريخ، سأحرقهم جميعا بعد أن أعيث فسادا فيهن، لن يهدأ لي بال حتى أفعل ما أفعل في نسائها. وعندها سنرى ما يفعلون.

 فكرت ذهبية النمرة؛ لقد نجحت اليوم في زحزحة الخطر عن العش، فهل سأنجح غدا، اليوم شايب الراس وغدا من يا ترى؟ السلغان؟ القومية؟ الفرنسيون؟ كلهم جائعون وأجساد النساء هي وقود الحرب منذ خلقت الدنيا، ومنذ سالت أول قطرة دم على وجه الأرض. هل هذا اليهودي مأمون، وماذا لو أطلق كلابه علينا ماذا نفعل ؟ كان علينا تحصين الفتيات، إنه كالخنزير لا يفرق بين فتاة وامرأة وعجوز ويا خوفي إذا سود هذه الشيبة.

 لو اقتصر الأمر على القومي عيسى أو على جوزيف رومان، لكانت عصرت أسلحته تلك بيديها ، نعم إنها الطوارئ، وعلى المرأة أن تدافع عن نفسها ، نحن في حرب يا ابنتي ، لا تقفي كالقطة عليك أن تقتلي أو تموتي ، ولا شيء بين الموت والموت غير الضياع، عليك أن تعصري آلاتهم كما حبات التين أوصيك يا ابنتي، لا تخافي، لأن ذلك الأمر أشد من القتل وأمرّ من الموت ، إنه يشبه جهنم ، أوصيك، انظري في عيني، هاهي عيني حمراء،ووضعت سبابتها تحت عينها وجذبتها،فبرزت عروق حمراء داخل عينها، كوني حريصة، المرأة مثل البيضة،هل فهمت، نحن في حرب،والنساء هن الوقود الساخن.

 وماذا تفعل فتاة أمام جدار من الدبابات والأسلحة وتحت أزيز الرصاص والطيارة الصفرا. وهكذا استقرت تلك السهام الطائشة للجنود الجائعين في منطقتها الحساسة منطقة المرأة الخطرة الواعدة بالويلات.

 في أوقات الحرب ، تصبح المرأة منطقة ألغام، منطقة خطرة، يمكنها الانفجار في أي لحظة.

 فات الأوان يا ذهبية، تدفقت المياة القذرة نحو رحم ابنتك، ماء مهين تدفق في رحم الفتاة التي بالكاد تعرف جسدها الجديد.

 علا الطنين حتى خيل إلى ذهبية النمرة أنه بلغ مسامع الجيران ، وضعت رأسها بين راحتيها ضاغطة بأصابعها المعروقة، وزحفت ببطء لتوصد الباب، عليها أن تدفن الحقيقة هنا ، إنها مثل سدادة الفلين الهشة تمسك لسانها بقهر، ولكنه يتململ مثل كائن خرافي، يتحرك كآلة حادة ، وهي خائفة أن تندفع السدادة فلا يوقف النهر الغاضب أي حاجز، هي تعرف أن السدادة ستنطلق ذات يوم بالتأكيد ستندفع بعيدا على الرغم من إرادتها ، إنه منطق الحياة وليس منطقها هي، مثل زخات الرصاص، ستندفع تلك الحقيقة المخبوءة بين ضلوعها، وحينها ستقف أمام الملأ ، وسط ساحة القرية، لتروي الحكاية الكاملة، إن حق التاريخ عليها أن تقول الحقيقة حتى لو كانت مخبأة في رحمها، في السمعة الهشة مثل بيض العصافير للمرأة العزلاء.

 الطنين الذي رافق مجيء السيدة سارة بنجامين أو حورية بنت نوارة... لاشيء غير الطنين وإن قدر لها ونطقت ذات يوم فهي مدينة له وحده، إنه مثل صفارة الإنذار يكز في قلبها. لما سقطت عينها على الفتاة الشابة، أحست وخزا مفاجئا في صدرها، أشبه بوخز الإبرة، ثم تلته دقة عنيفة كادت تفقدها توازنها فتسقط على الأرض منذ اللحظة الأولى، منذ وفود الغريبين إنها القوانين ، قوانين الجسد ونظمه ، ذلك أن الدم لا يتوانى عن إفشاء أسرار السلالات، والحق أنها ظلت تخشى تململ هذا اليوم، هي هكذا تخشى البذور المطمورة منذ زمن، تخشى هبات الريح ، لولا أن أختها وناسة أكدت موت الطفلة، وموت الحقيقة. أجل ، لقد رحلت نوارة عند خالتها في قسنطينة ريثما يسوى الوضع وينظر في الأمر، ودعتها عند الفجر، كانت المرأتان تركبان بغلا في غلالة الفجر الأشهب ... انحدرتا نحو البلدة لركوب الحافلة، وهناك بعد سبعة أشهر عادت نوارة وخالتها ، وقالت وناسة لأختها في عمق الليل، همست في أذنها بعد أن أوصدت الباب:

 ــ إنها فتاة.

 ــ وأين هي الآن؟ ردت ذهبية هامسة بصوت مفجوع.

 ــ لقد ماتت ، قالوا لنا لقد ماتت.

 ــ هل ولدت ميتة؟.

 ــ لا، ولدت حية، وأسميناها حورية ، أنا قلت لها . ثم في الغد قالوا لنا إن الفتاة قد ماتت، أجل أخبرتنا امرأة، وكانت نوارة بين الحياة والموت.

 قالوا إن حورية ماتت، وبعد أربعين سنة، تأتي هذه المرأة سارة بنجامين، لتحرك البركة الراكدة، بيديها الرفيعتين تقذف الحجر تلو الحجر لتحرك البركة، تدفعني للكلام، ولكن هل هذا صحيح؟ هل هناك نوارة واحدة في هذا العالم؟ قد تكون امرأة أخرى، لكنها أكدت أنها من كاف الحمام، سنة 1961، هل تتشابه التواريخ والأسماء إلى هذا الحد؟ لا أدري. لا أدري إنه الطنين يا سارة بنجامين أو ربما يا حورية بنت نوارة،أو ربما لا أحد...

 هاهي الساحرة تطلق كلمات غامضة مثل الرصاص الطائش وتغادر في السيارة. قذفت السهم في خاصرة كاف الحمام، وتركت أهلها يحرثون بذرها في أرض صخرية عصية. سرقت النوم وخبأته في صرتها ورحلت. قالت إنها ستعود، ومنذ ذلك التاريخ لم تنم ذهبية النمرة، خان النوم أجفانها ونأى.

 وهل نامت سارة بنجامين أو حورية بنت نوارة هي الأخرى؟

 7 -
ــ هل نامت سارة بنجامين؟
 لم تنم سارة بنجامين استلقت على السرير في الغرفة، وانعزلت عن عالم الدار حيث حماتها، بهذا الفعل أثبتت أنها غريبة وأنها لا تقوى بين يوم وليلة على هدم الحاجز القائم بين غرفتها وبين بقية الغرف الأخرى، كل ما عليها الآن هو أن تبتسم، هذه هي اللغة التي تستطيع إتقانها، إنها وسيلتها الوحيدة للتواصل عندما يكون أحمد غائبا.

ثبتت عينيها في السقف، فتحت الباب لهواجسها وراحت تفكر في القرية العتيقة المسماة كاف الحمام، فكرت فيما قاله رابح لعرج وفيما قالته ذهبية،وجه ذهبية مطرز بالأوشام ، هل يحمل الوشم تاريخا يناوش الذاكرة؟ في وجهها نقاط وخطوط، أكانت مجرد نزوات تمارسها النساء لتثبيت الجمال، لإكراهه على عدم التراجع،وإطالة إقامته المؤقتة أم هي بحكم العادة وحدها أم للتفريج عن مخزون في القلب؟ ألا تكون ذهبية وشمت تاريخا ما، تاريخا مروعا يحرق ذاكرتها؟ نعم هذا وارد، علينا أن نعود إلى كاف الحمام، لقد أخطأنا الطريق إليها، كان علينا أن نؤجر بيتا بالجوار، الثقة عامل مهم لاستكشاف الحقائق، كنا مجانين يا أحمد، حين ذهبنا لنضع رقاب الناس على مذبح الحقيقة الموجعة، وكأننا نعلن عن حالة مستعصية، حالة ميئوس منها سلفا.

 ــ لا تيأسي يا سارة، جئنا من أجل هذا، لا أريد لإرادتك أن تتراخى.

 ــ متى نحل مثل هذه المشكلة لنتصالح مع ذواتنا ونعيش بسلام.

ــ أفي هذا العالم نعيش بسلام ؟ يبتسم أحمد هل صرت ساذجة وبريئة ؟ لعل مشاعرك رقت حين صرت تفكرين بأمك.

تكف سارة عن الكلام، تدير وجهها ناحية الطريق، يسود صمت.

ــ هل أثرت غضبك؟

ــ ...........

ــ أهذا صحيح؟ عجيب كنت أمزح.

ــ المزاح ليس في هذه الأمور

ــ إنها أمي.

ــ أعرف.

ــ علي أن أعرف الحقيقة.

ــ هناك حقائق كثيرة ، لا بد أن تظهر أمام العالم، ثمة أناس كثيرون احترقوا هل قلت احترقوا فقط؟ إيه رأسي عامر بالحكايات، لو سردتها ما كفاني العمر بطوله لروايتها، إنها حكايات الآباء والأجداد، حكاية سوداء في الضمير الإنساني، أنت تذكرين الأبارتيد، طبعا أنتم الغربيون تتباهون بالقيم العظمى خصوصا أنتم الفرنسيون: الحرية العدالة الأخوة حقوق الإنسان، تتكلم ألسنتكم وأيديكم مغموسة في القذارة والدم، ودماء الشعوب تسفح على عتبات بيوتكم، لا أريد أن أفتح هذا الكتاب الأسود الآن ، وإن كان لا بد أن يفتح، ذات يوم، ولو فتحته الآن ما أكملنا أنا وأنت ثانية أخرى مع بعضنا، هناك بحر من الدماء سيقف بيننا وسنغوص في لجته إلى الأعناق.

ــ هذا من الماضي.

ــ لكنه ماض طازج ودم الجريمة مازال على الجدران، مازال الناس أحياء، يتكومون على الألم، للذاكرة تجاويف تتخفى بين طياتها الحكايات المروعة ، وعلينا أن نفرغها من هذا المخزون وننبش في تفاصيلها حتى نشفى، هذا هو الحل برأي.

ــ ربما أنت على حق، ولا تنس أني ضحية هذه الحرب أنا الأخرى وربما أكثر منك وعلينا أن نتكلم بتجرد، لنعرف المجرم، وكيف تسلل مثل الذئب نحو الحظيرة وروع الحمل الوديع، عليك ألا تنس هذا، نحن شركاء في البحث عن الحقيقة الموجعة كالجرح في المعصم.

ــ معك حق، علينا اليوم أن نعرف، لهذا لا بد من وضع خطة.

ــ ماذا تقترح؟

ــ لا أدري، ربما نذهب إلى بيت ذهبية، تلك العجوز ترقد على جميع الحقائق ونستمع لحكاياتها فقط ، لن نذكر قصتنا، لا أظن أنها ستطردنا، العجائز في بلادنا يرحبون بسامعي حكاياتهم ، لعله قهر الشيخوخة.

ــ نعم ممكن، العجوز ترقد على مئات الحكايات، قالت لنا إنها أم القرية، ولا شك رأيت كيف أمن رابح لعرج على كلامها، يبدو أن الكلام الذي تقوله لا يعلو عليه كلام آخر، وهذا بحد ذاته غنيمة، إنه أشبه بالحصول على مخطوط ثمين، من يدري فقد تظهر إشارة ما في ثنايا حديثها، لعلها تقودنا نحو بداية ما، قد ترفع الغطاء عن حادث قد يبدو لها هامشيا وعديم القيمة ولكنه في عرف التاريخ يحيل إلى الدليل.

ــ حسنا سنعتمد هذه الخطة، وكما في روايات أغاثا كريستي، فالمجرم دائما يكون تحت أعيننا ، لكنه مغطى بقشرة ناعمة من البراءة الكاذبة.

ــ ما رأيك أن نبحث عن كل امرأة تحمل اسم نوارة؟

ــ جيد ، شرط ألا نظهر ذلك.

ــ كيف ؟

ــ طريقة من يراقب جارته من خلف الشباك.

ــ من خلف الستائر؟

ــ ربما ؟

ــ أكيد وليس ربما.

ــ يحتاج الأمر إلى وقت، كيف نؤمن المبيت؟

ــ لا يؤجرون البيوت هناك؟

ــ لا أعرف.

ــ حسنا يمكن تأجير غرفة في فندق البلدة؟.

ــ نعم فكرة جيدة. المسافة لا تتعدى الساعة والنصف، بينها وبين القرية. تعرفت إلى شاب مثقف هناك يدعى خالد قال إنه سيقدم المساعدة اللازمة.

ــ وإن يكن، فقط علينا أن نصبر، الحقيقة لا تقدّ إلا من الصخر وعلينا أن ننحتها بأظفارنا.

ــ وهل أنت مستعدة.

ــ أجل كل الاستعداد.

ــ حتى ولو أعادت لك أحوال سنوات الطاعون، والطبيب النفسي.

ــ أعتقد أن لدي بعض الحصانة لأتلقاها، على كل هي كالدواء المر وعلي أن أتجرعها.

ــ أنت على حق، هكذا يمكننا التقدم.

8 -
 تنفرج تجاعيد وجهها، تتحرك طيات ما كان خدودا قبل أن تتحول إلى خطوط عشوائية مثل خربشات الأطفال، تتحرك شفتاها وتضيق أحداقها ثم تتسع :

 لو أن عابرا ما أي عابرـ متخفيا بين أشجار التين الشوكي ـ حاول دس مائه في رحمها لكانت نوارة استلت شوكة وفقأت عينيه. ولكن حدث أن زغردت الروح وطقطقت في جدار الحنجرة، كانت النار قد التهمت كل شيء: البساتين والحقول وأتت على قطعان الماعز والبغال والحمير، لم ترحم راجمات الموت أي أثر يدل على الحياة، البشر والحيوان وحتى الحجارة صهدت وانفجرت من هول جهنم، تلك أرض الدم والدموع؛ كيف ينسى الناس حجم الألم الذي عشش في صدورنا؟ كيف ينسوا أوشام السفود المخطوطة فوق أجسادنا؟ عندي أن النسيان هو خيانة للأسلاف، لمحمد ورفقائه لعيشة ولنوارة وفتيحة ولمصطفى وقويدر، كلهم ذهبوا هكذا لمجرد نزوة، الطائرة الصفراء اللعينة، ردمتهم جميعا في الحفرة، ردمتهم فحسب، هكذا كما لو كان قائدها يمارس هواية، نزوة قمار لعبت برأسه، كأس لعبت بمخيلته. مازالت الحفرة قائمة مثل قبة سماوية متلألئة. انظروا إليها هنا ردم نصف أهل القرية. أترى تلك الآلة الحدباء الصدئة، تلك هي آلة الموت الرهيبة التي نسفتهم أحياء تحت التراب، لم ينج غير لخضر ولد الدراجي، كانت تلك معجزة أخرجها الله على الأرض، اذهبوا إليه ليقص عليكم القصة، قصة الميت الذي عاد إلى قلب الحياة، وكيف انتفض داخل القبر، وبدأ التراب يهتز بعد ثلاثة أيام من الهجوم المجنون، لا أحد صدق أن التراب يهتز ، كنت أنا الطفل خالد ألعب في الجوار فلمحت التراب يهتز، تأملته فرأيته يتحرك من جديد ويسقط من الأعلى كما المطر، ثم فجأة أطلت أصابع ... وحينها ركضت إلى البيت، إلى أمي المكلومة، عدت نحو المكان مثل المهرة، كنا نرتعش، وكانت أمي تصرخ، وجاء أهل القرية أو بالأحرى من بقي حيا من أهلها، كانت أمي تتجاوز حالتها العادية، الآن أفهم سر اندفاعها ،بعد أن صرت زوجا وأبا، أعرف تماما ترجمة مثل ذلك الإحساس، كيف يمكن للأمل أن يبعث ميتا من قبره ، كيف يستحيل نجمة باسمة في قلب السماء، اندفعت أمي كالسهم، قد تكون يد محمد بن مالك هي التي ترتعش بين ركام التراب، في النهاية عرينا القبر فكان لخضر ولد الدراجي مردوما هناك، ومنذ ذلك الحين ونحن نسميه الميت الحي.

 ــ إذا قدر لي ونسيت لحظة من تلك اللحظات حتما ستكون إشارة نهايتي؛أعمال شايب الراس محفورة هنا في قلبي، ربي يشوي لحمه في جهنم، أعمال تفوق أعمال الشيطان، وكلما كان هو قائد حملة التمشيط تضاءل أمل النجاة، ويصبح ضيقا مثل عين الإبرة، والمحظوظ من ينجو من قهره؛ سيأخذ الرجال إلى آلة العذاب فهي النهاية المحتومة التي عليهم أن يعرجوا نحوها، مهما كانت الأسباب التي يختلقها، ولكن أحمد الله أن محمد بن مالك هو من وضع حدا لجنونه، هو من قال له إن الرجال لا يمكن أن ينقرضوا من فوق هذه الأرض الحرة.

 كانت الإشارات الأولى قد انطلقت منذ يومين، حيث اكتسحت القوات الفرنسية كامل القرى في الجوار، حمارة وعرب الواد والفايحة والمرابطين، لقد جاء الانتقام عن عملية مركز الشرطة وبعد مقر الشنابط، وكان دخان الحقد يصل إلينا مثل لحم بشري نتن. وعندما جاء دورنا استوت الأرض رمادا، كأننا لم نكن، لم يبق منا غير قلة من الرجال، والنساء، بعد أسبوع ماتت الطفلة فتيحة بنت لخضر ولد الدراجي، المسكينة وجدناها بين أشجار الصبار كما ولدتها أمها، لم تكن سوى طفلة ، حبة مشمش نيئة، ومع ذلك لم تنج من أفعالهم، ماتت تحت سوط عذابهم، لقد قال شايب الراس بأنه سينتقم من كاف الحمام بطريقته، سيشفي غيظه من الرجال الذين قهروه بالعودة إلى نسائهم.      

ــ كيف بدأت تلك القصة التي تجعل الولدان شيبا؟ اذهب إلى عمك لعرج سيعطيك التفاصيل اللازمة. اذهب إلى عمك لعرج يا ابني خالد ،قل له أن يعيد لك حكاية الرجل الذي عاد من القبر، قل له يحكي لك قصة بونيف ــ تضحك ــ وكيف قصت الثورة أنفه لأنه لم يسمع الكلام، أصر على تناول الشمة ، أرأيت حتى وجدناه عائدا من المدينة ذات يوم بلا أنف، لقد كانت الثورة تحتاج لتلك الصرامة، لتستمر. اذهب إلى عمك هو يعرف أكثر مني، رأى ما لم أر وسمع ما لم أسمع ، قل له أمي تريدك.

9 -
 بتثاقل شديد، فتحت عيينين واهنتين تسبح مقلتاهما في ماء تشوبه حمرة القلق والإعياء، ثم عدت وأسدلتهما على عجل فيما يشبه الصدمة ، للحظات بقيت على تلك الوضعية مثل هر خائف ، وبشيء من الشجاعة،عدت لأفتحهما من جديد دون حماس ببطء متخاذل، أعدت المحاولة، هاربا من الحقيقة الموجعة الساكنة في قلبي، تلك الحقيقة التي تجسدت لي في صورة الضوء الهزيل المنبعث من الكوة الوحيدة. أغمضت عيني بحركة عنيفة، شددتهما بقوة متجنبا مواجهة غبار زوبعة تهاجمني، كانت تلوح في أفقي،خيل إلي أن الغبار سيملأ أحداقي وفمي، إنما بعد لحظات فتحتهما عن آخرهما متحسسا رطوبة الهواء حولي؛ ؟ ولويت شفتي بامتعاض: عن أي زوبعة تتحدث يا رابح؟ الزوبعة في خيالك وحده، حركت رأسي في العتمة باندهاش: ها أنا ما زلت على قيد الحياة أم أنني أحلم؟

 انكمشت على نفسي مسدلا قلنسوة قشابيتي البيضاء الحائلة مخادعا آثار الحمى التي عصفت بي، ثم فتحت عيني تحت عتمتها، فعلت ذلك ببطء. هذه المرة وجدت الشجاعة الكافية لفتح عينيي الإثنتين السوداوين، فركتهما بظاهر قبضتي وأزحت القلنسوة قليلا نحو الخلف. أدرت بصري في العتمة ثم أسندت ظهري بتثاقل للجدار، ها أنا مثل الفأر في ظلام التبن؛ جذبت رجلي ، فأحسست بألم مزعج في يمناي، تململت في مكاني عاجزا عن تحريكها، حدقت في الأفق، عبر الكوة، فتمدد العراء هائلا ، وعربد الصمت ، لم يكن الصمت ملكا كما هو اليوم، فاتكأت على جدار الكهف وحاولت أن أقوم، لكن رجلي خذلتني، لم أجرؤ على النظر إليها، أيقنت أني محاصر بهذا الجرح الذي مثل مسمار صدئ يغرز في ضميري، لم يكن ألمي سهل الاحتمال، ولكن الألم قد يتضاءل عندما يقارن بالموت، كان ثمة ثقل آخر، ألم لم أجربه من قبل طيلة الثلاثين سنة التي مضت، هذا الألم أقسى من الجوع وأقسى من الحزن، أقسى حتى من يوم وفاة والدي السي الطالب، أقسى حتى من وفاة زوجتي خدوجة. بدت لي مرارة هذا الألم غريبة وذات رائحة عفنة، أختبرها للمرة الأولى في حياتي. تنهدت بأسى في محيط الصمت المخيم حولي؛كأني المخلوق الوحيد في العالم والعالم صامت لا يعرب عن حضوره، ، صدقوني ما زالت تلك الغصة إلى اليوم، مازلت أصرخ في نومي، لا، لا أعرف، لا أعر....ف. أتساءل بمرارة ولكن كيف حدث ذلك؟ كانت معجزة من الله الذي وضعني تحت الاختبار، لقد منحني سبحانه، فرصة أخرى، حياة أخرى لا تقدر بثمن، لقد امتدت يد العناية الإلهية لتمنحني من عطائها، فجأة وقد سمعت نداء ملاك الموت ورأيت كفني الأبيض من بعيد، وسمعت نواح أمي ودقات المعاول في الأرض العصية ، ولاحظت صمت الرجال وسحناتهم الكابية، تحت ثقل الحواجب الكثة في جباه أثقلتها الأيام، رأيت كل ذلك وسمعته بوضوح كما لو كان داخل أذني، الأدهى أني رأيت روحي تنفصل عن جسدي الهالك المثخن بالجراح، حيث راحت الدماء تنز من كل مكان، من رأسي ومن بطني ومن دبري ، لم يكن كابوسا، على كل حال ، كان حقيقة مثلما كنت أرى النهار وشروق الشمس ومثلما أرى الليل تأهب الظلام ، كان كل شيء واضحا ومرتبا ، ها هو الموت يدنو ويمد يده الخشنة نحوي ، هاهي أقدامه الغليظة عند قدمي، هاهو يدنو، هاهي أنفاسه تلفحني ساخنة مثل ريح الشيلي فتنتصب شعيرات رأسي مثل جرو خائف.

 فجأة وقبل شروع الروح في الارتقاء نحو السماء، حدثت المعجزة، في صورة عكسية إذ في اللحظة التي كان عليها الشروع في الارتقاء نحو السماء، ضربت جناحيها مثل الطائر وانحدرت نحو الأرض، زاحفة على مهل عادت نحو الخيمة الممزقة ، التي كانت على هيئة جسد هو جسدي بالتحديد، مثل طائر صغير خائف اندست في العش المتهالك. في تلك اللحظة التي كنت أتأرجح فيها بين الحياة والموت، بزغ نور، للمرة الأولى في حياتي أرى مثل ذاك الوميض، رأيته مثل خيط رفيع أبيض ، ومثل سلك فضي لامع ، تابعته بعينين ذاهلتين كيف راح ينسل من الظلام، وكيف بدأ يقتحم العتمة، ثم يتلألأ في الأفق ويتبدد عند عتبات الفجر الرمادي، وكيف اندس داخل غيمة بيضاء .

 تساءل فجأة :

ــ أين أنا ؟

 ــ في أي يوم من أيام الله نحن ؟

ــ ماذا أفعل هنا ؟

 ــ من جاء بي إلى هذا المكان؟

 لاشيء غير برودة الصباح، وضوء خجول يتسلل نحو المغارة، منحني فرصة التعرف عما حولي؛ جدار رطب، سقف واطئ، ثياب متآكلة، بقايا دم على الجدار الترابي. كسرة شعير سوداء يابسة.

 استندت بيدي الواهنتين إلى الجدار وسحبت رجلي اليسرى، لقد تمكنت من الوقوف على تلك الرجل الوحيدة الرجل اليسرى التي لا يعول عليها في أوقات الرخاء والعافية،وعلي الآن أن أجرجر الأخرى، تلك الرجل الهالكة التي أصابها الطلق الناري المنبعث من جهة مجهولة،كأن كوة انفتحت في جنب الأرض وأرسلت الطلق الناري، علي أن أخرج إلى النور لأسدد الدين ،علي أن أطهر ضميري ولو كلفني حياتي، وما قيمة هذه الحياة الرخيصة التي تفوح منها رائحة الخيانة، ورائحة الضعف، لم أعد رجلا بين الرجال، كيف سأرفع رأسي كل صباح ، مستحيل لا أقدر، سيظل رأسي مطأطأً بين رجلي كذيل الكلب ،أية حياة سأحيا بعد اليوم؟. لا أريد أن أموت مثل الكلب، أريد أن أموت كما يموت الرجال، أريد أن يبتسم أبنائي بين الدموع، والأهم أن ألق الله بقلب نقي.

 الآن لا هم لي سوى محو لحظة الضعف تلك،محو آثارها بكل أصابعي. وقفت من جديد، لا شك أنها فرصتي الأخيرة، لأتذوق لذة الحياة الجديدة، لذة أن أرى الأرض خضراء وأن أرى شروق الشمس، والأهم أن أرى عيون أعدائي دامعة ، عيون جوزيف رومان وعيون فالي وغوست تترك السهول الخصبة وتولي هاربة، هناك من فوق الربوة حيث تبدو بساتين العنب والتفاح والبرتقال في الأسفل كأنها الجنة، الملاعين لقد أخذوا كل شيء؛ الأرض والهواء والماء، أخذوا السهول الممتدة ذات المياه الجارية وطردونا نحو الجبال لنأكل الحجارة ونسف التراب. يا الله هل من حقي أن أحلم ؟ يوم ينبسط ذلك اليوم ككتاب ملون أمام عيني وعيون الجزائريين، يوم تشرق الشمس غير هذه الشمس، وعندها ستعود الجنة من مخالب إبليس، ستفلت الجنة من قبضة الشيطان، وحينها يحق لأطفالنا الابتسام وتزغرد الأمهات من خلف الدموع. ذلك اليوم الموعود! هل سيأتي؟

 مددت خطواتي مستندا بيدي اليسرى إلى الجدار الطيني البارد، بين الحين والآخر تعتريني لحظات الشجاعة النادرة، أن أواجه ذاتي ومقاومة موجات الإغماء التي تذهب وتجيء مثل السحاب، أحاول التملص من الجدار، أحاول الابتعاد عن كتفه، لا حق لي في ذلك، علي أن أواجه النور كما واجهت الظلام، وهذا يعني أن أتدرب على السير برجل واحدة إن استدعى الأمر، استنفدت خياراتي يوم كنت سليما، آكل خبزتي باللبن وأنام، كنت في صحة الثور، فقلت له يا محمد يا أخي قدني نحو الجبل معك، ولكنه طلب أن أتمهل، فتمهلت ويوم جاء شايب الراس مع زبانيته للمرة العشرين، أخذني نحو آلة العذاب الرهيبة، ينسى الإنسان فيها أمه وأخته وأبناءه، ينسى حتى نفسه، وتبقى تلك الحروق اللعينة والآلام وحدها تصرخ، في المرة الأخيرة كان العذاب يتجاوز طاقتي على الاحتمال،أقوى حتى من الموت نفسه، بل إن الموت يبدو رحيما مقارنة مع ذلك العذاب، وكل أهل القرية شهدوا بذلك، كنت مكرها، نعم تلك أبشع أشكال الإكراه، مع ذلك فأنا محظوظ، يكفي أني ما زلت أتنفس فوق سطح الأرض، مازلت على قيد الحياة، وها هي رحمة الله تمد لي حبل الأمل، لا شك لأصحح مساري، وأنا أحمد الله ألف مرة على هذا الميلاد الجديد، لقد شهدت بعثي وقيامتي.

 ارتكزت ببطء على رجلي اليسرى، ثم وبمساعدة يدي ثبتت قدمي على الأرض ثم استندت على الجدار عكازي الواقف قبالتي، حاولت أن أمد خطواتي بالارتكاز على الرجل المصابة، وضعتها فوق الأرض ثم حاولت الوقوف، راح الألم يتضخم مثل كرة من النار في قلبي، ففقدت توازني تأرجحت ثم تهاويت على الجدار مثل الفزاعة اليابسة.

 لا أدري كم مر من الوقت ، لا أدري متى دخلت هذا المكان ، الذي لا يعدو أن يكون مغارة، ولكني أدركت تماما ، تلك اللحظات التي سبقت موتي، كان صوت القومي عيسى المعربد في الفراغ يصلني من بعيد ، يعلن ببرودة أن: الرجل قد مات ، وأن جسده لم يعد يأبه لإشارات الحياة حتى في صورها الخافتة، لقد صب عليّ دلوا من الماء البارد، دون أن تتجرأ عضلة واحدة على الاستجابة ، حتى الذباب وجد الحرية الكافية ليرقص حول فمي وفوق عيني، كعلامة على انطفاء جمرة الحياة، ومع أن أنفاسي بدت هامدة إلا أن الجندي رفسني بجزمته العسكرية الثقيلة ،على بطني وبعدها لم أعد أعرف شيئا. يمكن أن تكمل لالة ذهبية الحكاية هي تعرف بقية التفاصيل. ارتشف جرعة صغيرة من الشاي البارد منذ ساعات، ثم خرج بخطوات وئيدة وظهر منحن يئن تحت أثقال ذلك اليوم المروع.

 لا تذكر شيئا عما حدث؟ ومن أين لك أن تذكر" حتى أمي في قبرها يمكنها أن تذكر، الله الحد ــ حركت ذهبية رأسها وأغمضت عينيها ومسحت دمعة انحدرت على مهل من خدها الأيمن ــ لا يمكنه أن ينسى ذلك اليوم، الحمد لله أنه لم يفقد صوابه، لقد كان على حافة الجنون، مثلما حدث لإسماعيل، تعرفون إسماعيل؟ لم يكن سوى طفلا في الثالثة عشر حين بدأ القصف، وهو يرعى عنزات أمه، لقد روعوه، ومنذ ذلك اليوم لم يستعد عافيته، إنه على مشارف الستين، ولن يسترد عافيته، يقتات على الأدوية وحدها. تلك قصة أخرى، قد نجد الفرصة لنعود إليها، ماذا أقول إنها حكاية في قلب حكاية.

 عندئذ فتح عمك رابح جفنيه نصف فتحة ، بدا كأنه يعود من عالم بعيد دون أن يقوى على دق الباب، وهاهو يحملق شاردا في وجه الجندي ببلاهة ،كأنما يحاول التعرف على العالم من حوله ومن ثم تلمس طريقه.

 تأوه وهو يحدق في الجندي الواقف عند رأسه، وحينها ابتسم هذا الأخير بمرارة ، ومسح زوايا فمه بطرف كمه، وأدرك أن غريمه عاد لمقاومته. صر على أسنانه:

ــ هؤلاء العرب القذرون كالقطط لهم سبعة أرواح ، اللعنة ! بصق الجندي على وجهه ، مثلما يبصق على التراب ، ثم شرع في أداء واجب الولاء للأمة الفرنسية التي حملته أعباء تعذيب هؤلاء الجزائريين، واستئصال أرواحهم. أشعل سيجارة وأخذ نفسا عميقا ثم رماها داخل سروال الرجل الفاقد لوعيه، فانتفض بقوة . ضحك الجنود وجاراهم عيسى القومي ، مقلدا أصداء ضحكاتهم ، فبدت ضحكته فارغة وجافة وخالية من أي معنى.

ــ إنه حي ، قلت لكم ــ صاح الجندي ــ

 ــ عنيد كالصخرة، تبا لك .

ــ الزجاجة يا فرنسوا، الزجاجة هي التي تعرف أسرار العناد.

ــ إذن أنت لا تعرف مكان الفلاقة ؟ ولا تعرف أين أخوك محمد؟ ومن أحرق مزرعة فالي؟! أنا ؟! قل أيها القملة اللعينة التي تقتات من دمنا و تأكل جلودنا، دون أن تجد الشجاعة لتعترف بالنعمة.

ــ حسنا ، أنت لا تعرف ، القارورة هي التي ستجعلك تعرف .

ــ الزجاجة يا فرنسوا ــ كان ذلك صوت رومان اللعين باردا وعاريا من المشاعر، لا يحن ولا يرحم.

ــ حاضر سيدي.

 كان عمك مخدرا، وقد استنفد جسده كل قوة للمقاومة، وبدا مثل كومة من العظام، ولكنه عند ما سمع كلمة الزجاجة، فتح عينيه عن آخرهما دون أن يقوى على إصدار ردة فعل مناسبة في صورة صرخة خافتة أو أنين، بل مجرد حالة رفض تتشبث بحركة يده أو برأسه أو بطرفة عينه، لا شيء من هذا ، كان ميتا على كل حال.

ــ صب الماء البارد عليه يا فرنسوا حتى يتلذذ بدغدغة الزجاجة .

ــ حاضر سيدي.

 انتفض، وأصدر أنة خافتة استجمع لها كل قواه، وبين الحياة والموت رأى التماع الساعة في معصم الجندي فرنسوا وهو يحمل الزجاجة اللعينة، جرب كثيرا من أنواع العذاب،كما جرب الرجال عند كل عملية تمشيط؛ الضرب والشتم و الركل ويعرف تماما مذاق الجلد بالسوط الذي بدا له بمثابة التربيت على الأكتاف، التجويع والعطش، صب الماء والصابون في فمه بواسطة الشاش، التعليق في شجرة الكافور، لكن الزجاجة هي أشبه بعذاب جهنم ، أستغفر الله، هناك النار وليس الزجاجة. التمعت مرة أخرى كالوعيد في يد الجندي الذي صاح في وجهه:

ــ من أحرق مزرعة فالي؟

ــ من أحرق مزرعة فالي ؟

ــ ...............

ــ ...............

ــ لا تعرف أيها اللعين ، أنت لا تعرف إذن أيها القذر، إليك الزجاجة لتعرف، إليك الألم الحقيقي لتعرف، أنت لا تعرف إذن ، هل ستعرف ؟ قل إن كنت ستعرف ، ستعرف ، ستعرف ، ستعرف، الزجاجة وحدها ستجعلك تعرف.

ــ .................

دفع الجندي الزجاجة المكسورة العنق في دبر الرجل.

 ــ هل صرت تعرف الآن؟

 ــ لا أعرف ،لا لا لا....لا..............

 ــ لا تعرف ، خذ إذن لتعرف.

 سال الدم على الأرض ، حين جذب الجندي الزجاجة ثم أعاد دفع عنقها ، بينما انتفض الرجل تحت العذاب، حاول رفع رجليه المكتوفتين، لوح بيديه المقيدتين دون جدوى ، مضت الزجاجة تمزق أحشاءه في لا مبالاة، فلم يعد يحس بوجوده، لقد انتهى وتلاشى، غام مثل سماء الصيف ثم وقع في الحفرة، لاشيء الآن سوى الظلام الدافئ ، لاشيء سوى العدم . إنها ساعته قد دنت. والزجاجة تمضي في داخله لتمزق أحشاءه ، بحياد تمضي الزجاجة حادة وباردة مثل قلب الفرنسي رومان الذي جاء صوته من حفرة عميقة :

ــ اسحب الزجاجة الآن يا فرنسوا.

 تناثرت قطرات الدم على وجه الأرض الظمأى، التي لا ترتوي عروقها إلا بالدم ولا يخضر عشبها إلا بالدم ولا تسقى أشجارها إلا به، لتخضر الأرض عليك أن تسقيها بالدم، هذا هو منطقها العنيد .

ــ جس نبضه .

ــ لا يزال على قيد الحياة .

اللعنة، قلت لك إن قلوب هؤلاء قدت من صخر.

ــ سنرى ... سنرى...

 ارتفعت أنفاس جوزيف رومان وبدلا من إصدار الأوامر صار ينفذها، وانتفض بعصبية واقفا، ثم التقط الزجاجة بيأس ودفعها في دبر الرجل، الذي اهتز كما لو كان تحت تأثير صدمة الكهرباء ، راح جسده يعلو وينخفض، تأوه بوهن،أطلق صرخة مكتومة، لكن الزجاجة مضت بعيدا في داخله، اخترقته كإبر مسمومة نفذت نحو قلبه، كز أسنانه، عض شفتيه، تلوى ،ثم انهار فوق التراب. تواطأ الألم مع الأعداء، عقد هدنة سرية معهم. ورأى الجنود اليائسون المجتمعون حول جسد بال في الغرفة المعتمة يدا واهنة ترتفع نحو الأعلى، قفز رومان نحوه :

 ــ هل ستعترف أيها اللعين ؟

 ــ ................

 ــ هل ستعترف ؟

 ....................

 ــ خذ أيها الثعلب ، كنت أعرف أنك تسرق اللحظات.

 ركله على بطنه وبين رجليه وفوق ظهره، كأنما يركل كومة من الأثواب البالية ركله بحقد القرون، بأنفاس متقطعة وصوت متحشرج من الغضب مثل انكسار آلية وعواء كلب مسعور:

ــ الكماشة يا فرنسوا هذا اللعين عليه أن يعترف أو يموت ــ صاح الجندي ــ

ــ سنقتلع أظفاره، الكلاب لا عمل لها غير تلقي العذاب،أليس صحيحا؟

 بعد ثلاثة أيام يكون رابح قد جرب كل أنواع العذاب : السوط ، وغطس رأسه في الماء والصابون والزجاجة والكهرباء ، طبعا بالنسبة للضرب والشتم والإهانة، فهي نوع رقيق من العذاب على المرء أن يضغط على صدره عند تلقيها حتى لا ينفجر. لم يعد رابح إنسانا في تلك اللحظات، لا شك أنه تحول إلى كائن آخر ، إلى وحش قذر، وغول فتاك يهدد أمن البشرية، ولكنه لم ير تلك الصورة، بل الصورة العكسية المقلوبة، لقد رأى الجنود مثل مخلوقات خرافية تقتات على لحمه وتمتص دمه، رآهم على تلك الصورة البشعة، رأى وجوها زرقاء بارزة العظام، بأنوف طويلة مدببة وأسنان حادة تقطع لحمه، لقد رآهم جميعا، وبدا له وجه جوزيف رومان مثل مسخ أسود بأسنان طويلة متآكلة الحواف، الأدهى أنه رآه بما يشبه المنقار ولكن منقار من نوع آخر لامتصاص الدم يشبه خرطوم البعوض، وبدا له أنه سيغمض عينيه إلى الأبد على هذا المنظر الرهيب. على كل حال لم يكن رابح وحده هو من ذاق ذاك العذاب ولا وحده من رأى تلك الوحوش، فقد شهدت عليها الأرض والسماء ، الأشجار والحجارة، الغابة المجاورة مازالت سوداء وأنين أشجار الزيتون والسرو مازال يبلغ مسامعه والنار تطقطق في سيقانها.

ها قد عاد لقد تجاوزنا الفصل المحرج يمكنه أن ينهي بقية القصة، من الصعب عليه سماع تلك التفاصيل المحرجة، أنا سمعتها من الزهرة زوجها أيضا عذب في الغرفة المظلمة ذاتها، ولكن عذاب رابح كان منكرا، لقد علقوه عارياــ تهمس ذهبية ــ إنه قادم.

 ــ أي فصل بلغتم ؟

 ــ خطواتك في المغارة.

 ــ أمممم.

 حسنا مددت خطواتي الوئيدة نحو المخرج الموصد، وبدأت أدنو، ورجلي تتبعني ، رحت أجرجرها فوق التراب، لا يمكن الارتكاز عليها، ولكنها تستجيب، تلبي نداء أختها بطريقة ما. علي الآن أن أدنو من الصخرة وأحاول دحرجتها، علي أن أرد الدين، أن أتدبر بندقية، كز على أسنانه، وأقعى على الأرض محاولا زحزحة الصخرة التي تسد المدخل، علي أن أقتل الوحوش التي سرقت روحي، نعم علي قتلها، علي قتلها، لكن الصخرة ظلت تعاند وأبت أن تتزحزح من مكانها .

 بدت الصورة قريبة جدا ومكبرة ، دمعت عيني، وسمعت صوتا يخرج من بين شفتين زرقاوين شاحبتين، هل كان صوتي فعلا ؟ لا أعرف، كان الصوت يأتيني واهنا ، لم يكن بكاء بالتحديد ، لم يكن عواء على كل حال، كان شيئا آخر غير قابل للتفسير، إذ خيل إلي في تلك اللحظة أني لست وحدي من كان يتأوه ، بل كان صوت الضمير الإنساني هو الذي يتأوه، كان قلب البشرية ينزف مع جراحي تحت وطأة التعذيب ، كانت الكرامة الإنسانية هي المذبوحة تحت أقدام الطغاة، هي تلك الآلام التي دفعتني لأرفع يدي للمرة الثالثة:

 ــ هل تعترف ؟

 حركت رأسي نحو الأسفل ــ يطرق عمي رابح لعرج يسقط في عمق البئر المهجورة، تتوقف عيناه عند نقطة في الأرض ــ تصور أنني لم أجرؤ على قول نعم اللعينة كانت طريقتي في خداع العدو وتضليل الطغاة، وطريقتي أيضا في ترويض جسدي على العذاب ، لئن حركت رأسي إيجابا فلأن فكرة جهنمية قد خطرت ببالي ، ولكن كيف سأبلغها لإخواني؟ إنني أعرف مغارة الذئب وهي خاوية منذ عرفتها في طفولتي المبكرة تشبه هذه التي تضم أنفاسه الآن، سيقودهم إليها، ولكن من يبلغ الإخوان بأن الأعداء هنا في وادي الغفلة؟ إنه ليس جنديا ، إنه لا يقوم إلا بإيصال الطعام والمئونة، ماذا يفعل؟ آه لو أن محمدا سيحضر، ولكن القرية محاصرة منذ ثلاثة أيام .

 توقفت آلة العذاب، وأخذ الجنود أنفاسهم وأشعل جوزيف سيجارة وراح ينظر إليه بطرف عينه وينفث دخانه السام في وجهه:

 ــ كان خصما عنيدا ، لكن هاهي قطعة الجليد تذوب تحت صهد النارــ ضحك جوزيف بشماتة ــ

 ــ ستتحطم الصخرة عما قليل، ألم أقل لك يا فرنسوا.

 ــ نعم يا جوزيف ، إن هؤلاء العبيد يتلذذون بالعذاب، لا أدري لماذا؟

 وقف رابح بين الحياة والموت، راح أهل القرية يتابعون المنظر بعيون دامعة، ثلاثة أيام من العذاب تهد الجبال، ران الصمت ، لفت الكآبة المكان، مرت سحب سوداء فوق رأسه، غمغمت طيور مهاجرة من برد الشتاء ، هبت ريح باردة ، تحسس رابح لفحاتها، فوقف في مكانه منكس الرأس. صرخت امرأة من بين الجموع، كانت تلك لالة ذهبية:

 ــ اثبت مكانك يا ولدي.

 ــ مت حرا.

 خرج صوت رجولي خشن من وسط الجموع ، وتبعته طلقات رصاص وسقط رابح على الأرض وإلى جانبه جوزيف رومان رأس الشر كما يسميه أهل القرية .ومنذ ذلك اليوم لم ير أحدا ولم يسمع صوتا ماعدا أصوات الغربان التي تناهت إليه هذا الصباح.

 كان علي أن أزحف لأدحرج الصخرة، فجلست على الأرض ومددت بهدوء رجلي المصابة، حملتها بيدي ثم ألقيتها على الأرض بعناية لتستريح، كما لو كنت أحمل رضيعا، وفيما راحت ذراعاي تتمددان نحو الصخر، انفلت ضوء غامر وملأ عيني، فأيقنت أنها النهاية، لقد عرفوا مخبئي.

 ــ لا بأس عليك ، لقد نجوت، كان هذا صوت محمد في القشابية الصوفية السوداء.

 ــ ولكن جرحي لا شفاء منه.

 ــ ستشفى .

ــ كنت سآخذهم إلى المغارة الفارغة. لم يكن في نيتي البيعة مطلقا .

ــ نحن نعرف .

ــ لكني أريد التكفير عن الذنب يا محمد .

ــ في الوقت المناسب ، أما الآن فعلينا مغادرة هذا المكان على عجل ، قبل حلول الظلام علينا أن نكون خلف الربوة، ثمة عملية تمشيط وحرق ، لأنك تسببت بقتل جوزيف، مات الكلب مثل الجيفة صرعه أخوك محمد ، مد رجلك لنضمدها، لا شك أن الرصاصة تغلغلت في قدمك ، من الحظ أنك حي، لقد وهبك الله حياة أخرى كي تثبت .

 كانت تلك آخر الكلمات التي نطق بها أخي محمد، افترقنا نحن الثلاثة، أنا صعدت إلى الجبل ومعي كلمة السر التي وهبني ، وأمك انحدرت نحو القرية وأبوك اتخذ اتجاها وسط المنحدرات الجانبية. ومنذ ذلك التاريخ تلاشى ظله، كأنما ذاب في الأفق وتبدد مثل الضوء في الأفق.

10ــ

ــ ستعودين يا أمي لتتمرغي على بساط الحياة، لا بأس عليك.

ــ وهل عاد أبوك؟

.............

ــ إنها النهاية، أشم رائحة الموت كل فجر، رائحته الحادة لا تعلو عليها رائحة أخرى،تشبه رائحة الذئاب المبتلة بالمطر.خبرها أنفي منذ سنين. وكم سيطول بي العمر، هل سأخلد في الدنيا؟هذا كثير علي، البركة فيما عشت، ألا يكفي أني شهدت الاستقلال أهذا قليل على عجوز واهنة مثلي؟ ماذا تبقى لي " الما يحمى "؟ لقد قال ناس زمان : " يكذب اللوز وما يكذبش المشماش، يكذب الشيب وما يكذبش التكماش". على كل، لم يعد هناك ما أقوم به، لقد ولى زمني و استنفدت قوتي، وهاهي دماء سواعدنا تنتقل إلى سواعدكم.تقول لي ما زال الوقت مبكرا، اسألني أنا عن تلك الرائحة،اسأل أمك كم ادخرت تحت التراب؛ الأب والأم والزوج و ثلاثة من الإخوة،عبد القادر وإبراهيم وأحمد، ومن الأبناء زهية ومصطفى وعبد الرحمان والعكري ومحمد الشريف، كان الرجال يدثرونهم تحت التراب كما لو كانوا يطمرون بذور القمح، كما لو كان البليوني سينتصب عند أوائل الصيف القادم بسنابله الواعدة. غصة واحدة علقت بصدري، غصة نوارة، لو كنت مرتاحة من جهتها، كنت مت مطمئنة البال، أديت ما علي من حق للحياة، ومنحتها زهرة العمر المتفتحة، وحكمة الشيخوخة، ولكن تلك القطعة من الفؤاد تهد روحي هدا، كيف سأرحل وأخلفها بعدي، و لا أعرف حتى إن كانت تعد عدتها وتتهيأ لتحلق بعيدا كما الحمامة، مسكينة ابنتي عاشت معذبة، وهاهي تصافح الموت معذبة، الله يعوض عنها بالجنة. منذ الأربعاء اللعين، لم تبصر النور، غامت السماء في عينيها وولجت الكهف المظلم بقدميها، كانت قد دخلته منذ تاريخ بعيد، والدم إلى الركاب، وحيث كان جرحها طازجا، ومكورا كوردة دامية دقت فيها المسامير، ولولا أن رقاها سيدي عبد المجيد ــ عليه الرحمة ــ لكانت تهيم على وجهها في الشوارع ،محلولة الضفائر حافية القدمين، طعنة الفؤاد تغلغلت في روحها إلى سويداء القلب، نحمد الله أنها استعادت بعضا من نور العقل، كأن عينا لعينة فجرتها مثل البارود،العين تنفذ في الحجر، من لا يعرف حورية لا يصدق أنها زينة ذريتي، حورية وهي حورية، حكمتك يا رب، لا راد لقضائك،الدنيا الغرارة، أستغفر الله العظيم. لو بقيت عين المرحوم حية ما حدث الذي حدث. والآن أنت ترى أختك ممددة كقطعة الخشب، أنا أدعو لها الليل مع النهار، أقول له يا رب خفف عنها، أنزل عليها من ورود رحمتك وحنانك ، لقد تعذبت المخلوقة الصغيرة أكثر من كل الناس، بكت حين زغردت الشابات في ربيع الاستقلال، عوت كما الذئبة المفجوعة يا أمي، أقسمت ألا تضع الحناء في كفيها إلى الممات، في العيدين وفي عاشوراء وفي المولد، كنت أرى الدموع تحفر تحت عينيها، أشهد ذبولها الواعد لحظة بلحظة، لم تفلح تمائم سيدي المكي في زرع البسمة بين شفتيها كما في سالف عهدها، كانت مياه النهر الغاضب قد جرفتها بعيدا عني وعن نفسها، فقدَ وجهها من حجر الصوان، وجهها الصقيل مثل المرآة صار كأوراق الدالية الذابلة، وخدودها التي مثل التفاح ضمرت، ضمرت كل معالم الجمال في جسدها، وجف ماء شبابها مبكرا، وداهمتها الشيخوخة، إلى أن صارت شبحا تتوعد به النساء أطفالهن، حتى أسنانها التي مثل الجواهر انسلت من منبتها وتعرت من جذورها، فبدت كأسنان الغولة. سبحان الله الحمد لله والله أكبر. سبحان الله والحمد لله والله أكبر.

 تدير أمي حبات سبحتها اللامعة وتمسح دمعة هزيلة لمعت تحت خدها، انحدرت من عين صغيرة أطل منها خوف عارم، مثل عاصفة تتهيأ للهبوب، وهي تتأرجح في قلبها، ذبابة صغيرة علقت في شباك العنكبوت.

ــ الله يطول في عمرك يا أمي لتري نوارة واقفة على قدميها، إلى أن تدفنك.

ــ لهذا أدعو الليل مع النهار، أنتظر تلك اللحظة، أنتظرها في الضحى وفي القيلولة، أترقبها في الفجر وعند الغروب، أترقبها عندما أسمع أنفاس الليل الهادئة تتردد. فيخيل إلي أنها تتململ في فراشها، وتكاد تطلب مني جرعة ماء، وحين أشعل الضوء أجدها ساكنة كما الحجر، لولا اهتزاز صدرها، لقلت أنها رحلت وقد غدر بي النوم. لليل عيون يا ابني، وأنا أخشى الليل، أخشى عيونه المنبثقة من كل الجهات من الجدران والسقف، أخشى النجوم التي تحدثني بالويل، وذاك القمر الذي يرقب الفجيعة بحياد، والحزن يتناثر في دربي كما أوراق الكرم في الخريف، كما اللقالق المهاجرة التي بنت بيتها في بيتي ثم رحلت دون وداع. أراه في عيون البقرة الحميرة والحمار بو الوذنين، وفي عيون راكس المقعي بجانبي ، في عويل الريح التي تكنس الرحبة، في شح الماء وقسوة الشتاء وتجبر الصيف، في فقر الربيع ، أرى كل هذا وأكثر، أرى الذئاب التي تخلت عن كبريائها، وصارت تجرجر أذيالها بتثاقل، تغير الزمن، والزمن لا يشيخ فراحت طاحونته الحجرية تمضغ أيامنا،كما تمضغ الحميرة الحشيش وكما يتلهى راكس بعظم قديم، وأنا أقلب حوريتي على جنبها، بعد أن كانت تقلبني على جنبي، أحمل عنها طاحونة أيامها كما حملت عني طاحونة أيامي.

ــ انظر إليها لا يرف لها جفن، حتى الطبيب، طبيب آخر الزمن ، قال خذوها إلى البيت واتركوها، ألا توجد مستشفيات لتداوي ابنتي التي مات أبوها من أجل هذه البلاد وأهل هذه البلاد، أكثير على دمه العزيز جرعة دواء لتتخلى ابنته عن هذا الفراش البائس.

 لم أقدر على البوح، كيف أصارح أما بأن وضع ابنتها ميئوس منه، كيف أقول لها بأن ابنتك لن تقوم لها قائمة بعد اليوم، ولكني لا أريد تشويه أملها، لا أريد أن يصيب سهمي ضوء حلمها بخسوف قاتل. أقول لها كلميها يا أمي حدثيها بالحكايات لعلها تستفيق، دغدغي ذاكرتها بأريج حكاياتك التي أضاءت ليالينا في ظلمة الشتاء.

 ــ تقول أمي:

 عند هذه العتبة، نضجت ثمار القلب، نضجت على مهل تحت شموس السنوات القاحلة، لكن تلك الثمرة الأخيرة كانت ثقيلة المرارة، بحيث لم يقو قلب حورية الرهيف على تلمض عسلها ، فسقطت مغشيا عليها.

الجسد الممد كما لو كان يتمرن على الموت، والوجه الكابي، وجه العانس الخرقاء، بدا اليوم صافيا، يتألق كنجمة هائمة في الأفق، هل تصالح مع ذاته ومع العالم حوله؟ ــ أقول في نفسي ــ في عمرها كله لم تتصالح أختي مع ذاتها ولا مع العالم ، كانت غاضبة على الدوام. كأن أمي قرأت أفكاري:

ــ لا تحملها الذنب ، ما فيها يكفيها.

ــ هل أبوح لك بسر؟ وهل تعدني بتنفيذه؟ مد يدك إذن وعاهدني، اسمع، أنا نذرت لله نذرا، إذا رحلت قبلي إلى سماء رحمته تعالى فسأخضب يديها ورجليها وشعرها بالحناء، وأقسمت أن أزغرد في ذلك اليوم، لأني سأزفها إلى الجنة. أما إذا سبقتها إلى تلك المدينة ، وانزلقت التربة في عيني، لا أوصيك إلا بهذا.

 ــ مازالت البركة يا الحاجة، ما زلت كالغزالة.

ــ الموت حق، وعلينا جميعا أن نشرب من تلك الحشيشة المرة، هذا هو نصيبنا من الدنيا، سعدك يا فاعل الخير.

ــ إذا سبقتها إلى دار الحق، فقل لريحانة أن تنفذ وصيتي، قل لها هي وصية أمي، ليس عليها أن تأبه لما يقوله الناس، عليها أن تجهز نوارة كما العروس، في صندوقي الأخضر ثوب جديد أخبئه لها مع كفني، قل لها أن تلبسها إياه، وأن تخضب يديها ورجليها بالحناء لا تنس هذا ، دعوة خير إن فعلت، أختك شهيدة، وستعرف ذات يوم أن كلامي ليس تخريف عجوز، إنه الكلام الصحيح، ما يجب أن تحفظه وتنفذه، لأرضى عنك دنيا وآخرة.

ــ الطريق إلى قبة النور
1 ــ
 جاءني نداء أمي من بعيد ، هاهي ترسل المراسيل لأوافيها وتلح في الطلب، منذ عرفتها لم تطلبني أمي بتلك الحدة، كانت مكتفية بذاتها، على العكس أنا من كنت بحاجة إليها ، ماذا تريد أمي؟ اقتسام ميراث أبي بين أبنائه، عن أي ميراث تتحدثين يا أمي؟ وعن أي أبناء، أنت ترين الفرخين الصغيرين؛ نوارة وأنا.

ــ اليوم فقط آمنت بأنه لن يعود، أنا التي سأركب للحاق به، لقد رأيت الطائر الأخضر فجر أمس، لم أره منذ رحيل المرحوم، واليوم عاد المرسول، لقد جاء إلي، عرفت سره من نظرته المثبتة علي.

 ــ هل سألقاه ؟

 طفا وجه أبي المنبسط كالبحر، قال سنبلغ القمة ، سنرقى إليها بأقدامنا وأيدينا وأظفارنا، إذا لزم الأمر سنعض عليها بالنواجد، لا تخف ، قال أبي شعلة النور قريبة من هنا ، قريبا ستنال البركة وترتقي القمة .

 على مد البصر وفي القمة الشاهقة حيث تلألأ القمر وضحكت النجوم في سماء صيفية خالية من الشوائب وانتشر رذاذ الضوء عند حوافها، وفي قلبي الواجف طفح بياض ناصع ، ذلك البياض لا يوجد في مكان آخر غير قلوب الأنبياء والملائكة والأطفال . أشار أبي بيده ــ مخترقا عالم الطفل الحالم ــ هاهي القمة ، تبدو في غاية الهدوء ، سأوصي الشيخ بك .

 تحسس العمارة ( كيس الشعر ) المعلقة فوق كتفه الأيمن ثم ناولني قطعة من كسرة الشعير، خذ لعلك جائع . دون أن يمد يده نحو فمه، ودون أن يزيد كلاما آخر كنا سنكسر به رتابة الليل وعواء الذئاب والطريق الترابية المتعرجة بين الوهاد والمرتفعات كأنها متاهة غريبة تلتف حولنا .

 من جديد شرعنا في الانحدار نحو قاع الوادي الحجري منزلقين في التربة الرملية الناعمة بحنان، كائنان وحيدان تحت عين القمر، ظلانا يكبران ويصغران، يمتدان كأغوال تتسع أفواهها لالتهامنا ، أشباح تتبدى لي بمحاذاة الهوة الجبلية الزرقاء، لم يتفطن أبي لذلك، هو لا يرى ما أرى، يمضي مخترقا الظلال الهاربة من نور القمر يقفز قفز المتمرس بأسرار الطريق إلى الزاوية كمن يتأمل كف يده . ثم عدنا لنتسلق صدر الجبل ، الدفة الأخرى من الكتاب، مخترقين الحريجات الصغيرة، نتوارى بين شجيرات الصنوبر الهزيلة، فيما راحت النباتات اليابسة تخشخش تحت أقدامنا. كان أبي يتحسس الأرض بعصاه ممسكا بيدي داخل قبضته الرجولية القوية، فيما كنت أحمل كيس اللوح الخشبي على كتفي .

 ــ لم لم نأت بالبغل يا أبي ؟

 ــ لقد أخذه السي الصالح، يريد الذهاب به إلى السوق، لبيع القمح.

 ــ وحماره ؟

 ــ سيأخذ الاثنين معا .

ــ هل سيبيع كل المحصول؟.

ــ لا، طبعا! وماذا يأكل في الشتاء ؟ ألا تعلم أن " غبار الصيف يا كلوه الليالي ".

سيأخذ صاعين أو أكثر ، تليس فوق بغلنا وآخر فوق بغله .

 تعثرت بجذر من الديس المحروق، تقدمت خطوتين مستعجلتين كما لو كنت أفرد جناحي للطيران، ثم انطرحت على وجهي في الأرض الجنابي التي سنطل منها بعد قليل على السهل الصغير ذي التربة السوداء، ومن هناك سنمر عبر الجنان ونبلغ باب الزاوية . ضحك أبي بجفاف " اللي يخاف من الطيحة ما يركبش" نفضت ما علق من تربة وحصيات دقيقة من كفي وصدري وركبتي ، ومسحت وجهي تفاديا لكلمة أبي ، ومحوا لهذا الخجل الذي جعل وجنتي تحمران في الظلام . أتساءل: هل سأصير عالما ؟ هنا سأختم القرآن العظيم مثل سيدي عبد المجيد؟ وربما سيكون لي حظ آخر.

لا أعرف ما الأمر الذي استقر في قلب أبي ؛ فقد بدأ تحفيظي كتاب الله منذ ثلاث سنوات، بلغت سورة الدخان، وأنا بعد في السادسة ، ولكنه يحجم اليوم عن إكمال المسيرة، الأدهى أنه يسلمني للشيخ عبد المجيد لأكمل الحفظ . يقول إن لديه أعمالا كثيرة وعمي رابح منشغل بالزراعة وبشؤونه الأخرى، بينما تقول أمي بأني تقدمت على رفقتي وقد لزم جدي الفراش لذا عليه أن يسافر لأجل العمل،لا خيار أمامه.

 في وسط المنحدر توقف أبي، وضع يديه على خاصرته، واستنفر حاسة شمه، جذب نفسا عميقا والتفت إلي: إنه هنا، لاشك أنه نائم الآن ، أعرف أنه ليس ببعيد، لقد وصلت رسالتك يا صاحبي . لكن دعنا نؤجل الموعد ليوم آخر.

 ــ هل تشم رائحته ؟

 ــ من يا أبي ؟

ــ صاحبنا ، ومن غيره ؟ زغماش ! .

منذ عرفت أبي وهو يروي لنا قصة الذئب الرمادي الأزغم " زغماش" قائد قومه إلى زريبة الغنم، يضحك أبي ، لقد خذلني ذات مرة واصطاد أحد خرفاني، وكلفني ذلك فلقة وليلة قاسية ومنذ ذلك اليوم وأنا أمتهن مهنة ترصد الذئاب؛ الذئاب مخلوقات حرة يا ابني لا ترضى بالغدر هي كالأبطال تفضل المواجهة بشرف وليس الطعن في الظهر كما هو حال الثعالب مثلا . في مشيته شيء من خيلاء ولكنها ليس مغرورا، أنت لا تعرف زغماش، لقد التقينا مرارا، وتحدثنا، وعقدنا هدنة، لقد قتلت جرائه لعقاب السلالة ، وانتقمت لكرامتي المهدورة، وظلت الحرب قائمة بيننا، وحين ولد أخوك البكر عبد الرحمان، قذف الله شيء من الرقة في صدري ، تخيلت الرضيع جروا صغيرا وأنا أجهز عليه بحجر على رأسه، والدم الحار يتفجر كالينبوع، بكيت في تلك الليلة بينما كنت ألاعب أخاك، سمعته من عمق السنوات يعوي عواء يقطع نياط القلب، وبت تلك الليلة يقظا أتقلب في فراشي، وقلت لأمك إن لي دينا وعلي أن أقضيه، ولكني لا أعرف كيف أسدده؟ قالت ومن صاحب الدين؟ قلت : إنه عند الذئب، تعرفين صاحبي زغماش. ضحكت وقالت كيف لا أعرف، وفلقة سيدي الطالب في أقدامك، وحين كنت أنت تصرخ ، كنت أنا أبكي في الظلام. ما لعمل إذن. كف عن مطاردته واهده دجاجة ميتة. كلا إن زغماش صاحب كبرياء ولا يحب الجيفة. وما لعمل إذن ؟ اعقد معه هدنة، قدم له هدية عن طيب خاطر. منذ ذلك التاريخ كففت عن مطاردته وملاحقة سلالته، صدقني لقد أحسست بجرحه، وأدركت عمق الجرم لما قتلت فلذة كبده . ويبدو أنه فهم الرسالة، هو أيضا صار ينظر إلي بنظرة ملؤها الانكسار والرجاء، نظرة تتسع لي وله. في الميناء حدثني أحدهم وقال بأن هناك ذئاب أخرى ، أضاف أن ذئاب الآخرين شرسة وغدارة وليس لها أخلاق كما هو حال ذئابنا .

 بلغنا السهل الأسود الممتد فيما راح هواء بارد يلسع وجهي وأطرافي ، لم أرتد القشابية ، لأن الخريف بدأ يومئ من بعيد ، ولم يحن موسم البرد على كل حال، لم يبق في السماء غير نجيمات قليلة تلوح بحياء ، فيما نحن الاثنين ــ ملكي الليل ــ نخترق الأرض الطرية المفتوحة أمامنا كبساط رقيق يلمع تحت ضوء الفجر الرمادي الباهت ، هاهي النجمة القطبية ترقب خطانا، لعلها هي، صحيح نحن في أواخر الصيف ، وقت نضوج الرمان الذي سيحل بعد أيام ، لهذا يشتد الحر في النهار بينما تلوح نسمات باردة لتذكرنا بالشتاءات القادمة وبالاحتطاب وبتوفير العولة اللازمة لمواجهة الأيام الباردة، حيث سنهجع أياما وليالي دون عمل ودون خروج ، حتى الحيوانات ستستريح في البيت، و لن تخرج إلى المراعي لأن الثلج سيسد الأبواب كالمعتاد . آه من تلك الأيام التي تحتجب فيها الشمس لأسابيع ويتبارى البرد كالسيف ، وعندها يموت الشيوخ والأطفال . في السنة الماضية مات أخي الصغير عبد القادر ذات برد... زغماش لقد أنقذ حياتي، حين سمع من بعيد أزيز الطائرة فراح يعوي بانكسار، وفهمت رسالته، قلت : شكرا يا صديقي

 أعادني صوت أبي بهمهمته إلى الأرض السهلية السوداء ، أحسست فيها بألم في ساقي وبوخز يخترق "القاعة" الجلدية التي صنعها خصيصا لهذه الرحلة ويتسلل الألم إلى كف رجلي ألم الأشواك والحجارة المسننة والحشائش اليابسة التي قطعت في الربيع . أكد أبي أننا سنبلغ القمة في وقت وجيز " سندركها بعد الفجر إن حثثنا الخطى " صمت قليلا ثم أضاف " خلق الرجال للمشقة ". ضمدت كلماته بعض جروح قدمي إلى حين ، كأن هواء خفيفا مر على صدري ؛ ومن يفعل ذلك غير الكلمات ، الكلمات تنزل علينا بردا وسلاما ومنا وسلوى إن أردنا .

 أردت أن أقول لأبي بأنني سأقطف نجمة عندما نبلغ القمة ، لكني أحجمت في اللحظة الأخيرة . كان ينأى بخطواته الواسعة مثل شبح أسود في عتمة الفجر، يمخر الأرض بعزم وقوة لا تعرف التراجع أو التأجيل، ما دفعني لحث الخطى والهرولة في أثره حتى لا أضيع الخيط السري الذي يربطني به . ولكن هيهات هاهي خطواته تتسع لتنأى، فلا يبقى منه غير طيف ملتف في السواد ، ما يضطرني للعدو من أجل اللحاق به لاهثا .

 التفت نحوي : لقد وصلنا .

هاهي القمة تبرز بيضاء كما في المقدمة تتلألأ في الأفق حيث ارتسم غبش الفجر الشفاف بحياء، سينجلي بعد حين تحت ضربات الشمس الموجعة ، بدت لي القمة كما لو أنها اغتسلت في بحيرة من نور.

 ــ كيف اختار سيدي عثمان هذه الذروة مرقدا له ؟ انفلت السؤال مني فجأة .

 ــ الكلمة ، رد أبي باقتضاب ــ رد من أجبر على الكلام عنوة ــ إنها قصة طويلة ، قصة الإنسان مع الكلمة ؛ الكلمة الحق كحد السيف قاطعة ، رأسمال الرجل كلمته ، وهي قد تقوده إلى الجنة أو نحو جهنم ، إذا شئت الحياة هي الكلمات . وهو ما سيؤكده سيدنا الشيخ عبد المجيد في إصرار غريب: الكلمات وحدها زرعت الشيب في رأسي ثروة الرجل كلمته، الكلمة تخرج مع الروح من المكان ذاته أرأيت ؟ وما لسلاح الذي شهره الأنبياء في أعين خصومهم الماكرة غير سلاح الكلمة ؟.

 ها نحن ندنو من البناية الحجرية ، التي رأتها عين الطفل شاهقة مثل الصفصاف، كأعلى بناية في الوجود، ما هو الوجود يومئذ غير القرية الصغيرة المقعية بين الجبال ذات البيوت الطينية الواطئة المغطاة بالديس ؟. أما هذه البناية الشامخة التي لا تصل إليها عين الطفل إلا بجهد فكانت من الحجارة البيضاء، وهنا سيضع أولى خطواته في طريق النور .

 لقد سلمه أبوه كالأمانة إلى سيدنا الشيخ، وعهد إليه أن يرعاه كأحد أولاده ، وقد رآه ينتحي به نحو الزاوية و يمهره بعض المال، واعدا إياه بأنه ريثما يعود سيهديه صاعا من الشعير، لأن البغل لدى السي الصالح ، سيعود قبل نهاية الخريف، بعد رمضان، عندما يحل موسم البذر.

 ــ لا أوصيك يا سيدي الشيخ أن تقيس الولد ، فقد يكون بلغ موعد الصوم ، عليك أن تقيسه لا تنس هذا، قامته طالت ونحن لم ننتبه، لا أريد كفارة في عنقي .

 ــ في الغد سأقيس كل الفتيان الذين بلغهم والذين لم يبلغهم موعد الصوم، كن مرتاحا، لا تقلق، ابنك في أمان ، قل كم حفظ ؟ هل بلغ النصف ؟

 ــ ليس بعد يا سيدي ، انقطع منذ مرض الطالب سيدي أحمد ، أنت تعرف لقد طال مرضه ، منذ أصابه البرد الرقيق وإلى غاية وفاته، لم نستطع استبداله وهو على وجه الأرض ، من العيب أن نفعل ذلك، ومع أنه ألح علينا بالبحث عن طالب شاب إلا أننا رفضنا بقينا نؤدي إليه الواجب إلى أن أخذ الله أمانته. ليرحمه الله .

ــ ليرحمه الله ويوسع عليه وينير قبره . أمن الشيخ سيدي عبد المجيد على كلام أبي الذي أحنى رأسه قليلا ثم قبل يد الشيخ واستدار إلى الجهة التي جئنا منها دون أن يلتفت إلي .

 تبعت الشيخ سيدنا الذي سلمني لخالتي عيشة امرأة قصيرة في منتصف العمر، بدورها قادتني نحو المطبخ . وهناك رأيت وجوها أخرى لنساء وأطفال سيصيرون إخوتي وزملائي ــ كما نقول اليوم ــ كان الأولاد يتحلقون حول جفنة صغيرة من الطين حيث كورت بها كويرات من بو خمر الأسود بزيت الزيتون، ناولتني كويرة منها ، وأجلستني على الحصير البالي وقالت ــ بصوت فيه بعض الخشونة ــ كل ، لعلك جائع : بعض الحلاوة تبدأ بها درسك بعد قليل، عند نهاية الصلاة .

 فيما كنا نأكل بدأ الضوء يتسرب على مهل نحو المطبخ ذي الجدران الطينية السوداء ، بينما بقيت خالتي عيشة تدور هنا وهناك، وقلت لنفسي ، من تكون هذه المرأة ذات الأنف الصغير الحاد؟ إنها تشبه الحمامة .

 بعد ما أنهينا الفطور أخذتنا خالتي عيشة نحو حجرة أخرى أوسع ، نزع من كان ينتعل القاعة ، أما الحفاة فمروا مباشرة نحو الحصير وجلسوا القرفصاء وأخرجوا ألواحهم الخشبية وشرعوا في التلاوة . بينما بقي الصبيان الأقل سنا ينتظرون قدوم الشيخ سواء لمحو اللوح أو للكتابة . أما أنا فبقيت أحملق في الوجوه ، ثم أخرجت دواة الصمغ وقطعة الصلصال عملا بنصيحة أبي.

 كان لوحي فارغاً إلا من بقايا خط وآثار صمغ منذ السنة الماضية قبل مرض الشيخ سيدي أحمد عليه رحمة الله، وكان هذا الاستثناء بحد ذاته يشكل نوعا من الحرج ، إنه الفراغ الذي لا نعرف كيف نسده عندما نكون مرتبكين أو خائفين أو في غير مكاننا.

 رحت أنظر إلى زملائي ، وأسمع أصواتهم كأنها طنين النحل . وكزني شاب في ذراعي :

 ــ ماذا تفعل أنت ؟ أتريد فلقة عند حضور سيدي الشيخ ؟

ــ لا ولكني جديد ، لا أدري من أين أبدأ .

 وضعت اللوح في حجري وانكببت عليه، هاربا من الفراغ المحرج، والوجوه الغريبة التي ترمقني بفضول ، العيون المتلصصة التي ترنو إلي، ناظرة في وجهي بجرأة ، وأنا لا أقوى على مجابهتها . لقد تركني أبي على قارعة الطريق وانسل في خفاء، دون أن يلتفت ، ورأيته ينأى مثل الغيم ويتلاشى كخيط الدخان، ثم يختفي في المنحدر عائدا عبر الطريق الترابية البيضاء الرفيعة، التي سلكنا حيث بدت من بعيد مثل خط واهن أو أثر جرح تماثل نحو الشفاء، هل سيلتقي برفيقه ؟ قلت في سري . كان أبي هو ملك الليل والكون يتسع بين يديه، بعصاه الغليظة يتحسس الطريق ، كما لو كان يعرفها بالفطرة ، وهي تنبسط أمامه كما لو كانت تهرق أسرارها و تفتح جيوبها وطياتها. تعرف عن أي طريق يفتش طريق غريمه القديم ، طريق الذئب . يصدح أبي في غبش الفجر بصوته المتمزق :

واش بلادي

بلادي الشوك والقرنينة .

نروح لبلادي زينة

واش بلادي

بلادي الذيب والثعلوبة

نروح لبلادي محبوبة.

2 -
 تدمع عيناه تحت ضوء الكانكي الشاحب ، ونحن نتحلق حول الحكاية : أبي في مركزها وأختي نوارة تدير مغزل الصوف ، وأمي وعمتي ورد البها من خلف المنسج تدقان الخلالة بينما تتدثر جدتي بغطاء صوفي ثقيل تحت الفراش. والمطر يهمي خارج البيت الحجري المنتصب بوهن على الأرض ونحن نتراقص في الجدار . يقول أبي مستعيدا تنهيدة عتيقة: برد الغربة قاس، تحت دثار الثلج الغربي، ثلج النصارى خال من رحمة الله، يذبح مثل حد السكين، يقطع الأنوف، قاس كقلوبهم . وأنت يا محمد ماذا تفعل في هذا العراء؟ ما الذي جاء بك إلى هنا، نحو الأرض الغريبة التي لن تدفئ عظامك، وإن قدر لك أن تموت هنا ، فستلفظك أحشاؤها، أواه يا محمد ، يا العربي يا كحل الراس . كيف هم الرفاق هناك في تلة الحمام ؟ كيف زغماش ، أمازال يطالبني بدينه؟ السماح السماح دنيا وآخرة، يا أهل الخير. كان الجليد قد بسط نفوذه على كامل الأرض، وكنا قد قضينا الليل الحافي سيرا على الأقدام، ثم توغلنا في الغابة نلوذ بأنفاس أشجارها، لكن هيهات! فالأشجار العتيقة التي غطى الثلج رؤوسها لم يعد بمقدورها أن تهدي الدفء. بين الفينة والأخرى تتأوه الأمعاء، لم تحصل سوى على قطعة يابسة من الخبز، أنا الذي كنت أطحن ربع خبزة من كسرة الشعير مع طاس من الماء ، وفي أيام الرخاء طاس من اللبن ، الله الله ! ما الذي جاء بك يا محمد يا الغريب إلى هذه الأرض التي لا تعرف رائحتها؛ هناك في كاف الحمام حيث تحرث الأرض بقلبك قبل أن تخترقها الآلة الخشبية الحدباء، قبل أن تستسلم البغال للنير تكون أنت قد عقدت الصفقة مع الأرض ومع الغلة، لم تكن سوى قطعة عصية ، ولكن تربتها تمنحك نفسها بسخاء، أنا أدفع المحراث وأبي بمحاذاتي يرقب خطوات الفتى القادم نحو الأرض، ليبذر الحب فيها،قبل أي بذرة أخرى.

 وفجأة استفاق الفتى محمد، ليجد نفسه منتصبا يحمل على كتفه بندقية، لماذا جئت إلى هنا يا محمد ؟ جئت لأحارب . من تحارب يا محمد ؟ أناسا لا أعرفهم ، أناسا يشبهون أولئك الذين أقاتل في صفوفهم .

فجأة استطالت قامتي ولفتت الانتباه، لم يكن أحد يراها سوى أمي وأهل القرية التي ولدت وعشت فيها إلى غاية ذلك اليوم من17 أكتوبر 1939 . حيث سرت همسات وهمهمات في القرية : إنهم يجندون الشبان إلى العسكر ويرحلون بهم إلى البلاد البعيدة وإلى بلاد النصارى خلف البحر . فكيف عرفوا اسمي وقيدوه ضمن القافلة الراحلة بصدورها العارية نحو الموت الجزافي الذي لا ترجى منفعة من ورائه؟.

 بكت أمي في صمت من تحت السواد والدخان والرماد، وترجت الله في سرها أن يعيدني حيا إلى الديار لتفرح بي، وتقر عينها المشتاقة وقلبها الملتاع :

ــ ستموت كالخنزير،إن نسيت دينك وأجدادك.

ــ سيدي عثمان يحفظك، يا سيدي عبد القادر كن معاه يا الصالحين اسيادي أشفقوا على روحه ــ قالت جدتي مغمغمة ــ

 لو كنت كما أنا اليوم لهربت إلى أي مكان، لاختبأت في القبوشة أو المطمور، لشرقت نحو الجبل أو الغابة ،لكنت رافقت زغماش إلى حيث يرحل . من كان سيعبأ لو أن كائنا مجهولا مغموسا في السواد ، قد تأخر عن اللحاق بالجيش الذي سيذهب ليكسر غرور هتلر؟ لكن ذلك لم يحدث. انحشرت مع الوجوه البائسة في الشاحنة العسكرية ومنها إلى الميناء، ومن ثم إلى البحر. هل قلت البحر؟ ذلك الكائن الخرافي المغموس في الملح ، كطعم القديد ، حيث الدوار اللعين والقيء، حيث الوجوه الباردة والنظرات المتلاشية. وودعت قمر كاف الحمام ، حيث لا قمر يشبهه، تبادلنا الحكايات؛ محمد بن السلطان العاشق الساعي خلف رداح، لم يكن قد رأى رداح، فقط سمع اسمها لأن ستوت أم البهوت أرادت كسر غروره، قالت له: ما هذا التطاول كأنك ستأخذ رداح؟ وحينها صعق السلطان الصغير : من تكون رداح ؟ أمسك العجوز الشمطاء من يدها، فلم ترد، أفلتت يدها وولت هاربة نحو بيتها، فرجاها أبوه ، من تكون رداح ؟ لأن السلطان الواعد قد مرض من عشق هذا الاسم، قالت له عليك أن تبحث عنها، ولكنها غير موجودة هنا، إنها في مكان بعيد من ما من الأرض ، لعلك لم تعرفها فجمالها يشبه طلوع الشمس. سعى الأب المحتار لعلاج فلذة كبده فعرض عليه بنات البلاد الجميلات، فجئنا واثقات متزينات، لكن الشاب خذل جمالهن وكسر غرورهن الأنثوي، رفع رأسه عن مخدة الريش، وقال: لو كنت أريد بنات بلادي، ما تغربت أنا وجوادي. شهقت البنات وسقطن مغشيا عليهن. لم ترجع إلا بنات الحداد إلى أبيهن سألهن : مالخبريا بنات أراكن عدتن ضاحكات من هي سعيدة الحظ؟ قلن له : يا أبي ماتت جميع الفتيات إلا نحن، لسنا ندري لم سقطن على الأرض لمجرد تلك الجملة الوحيدة التي نطق بها السلطان الصغير: لو كنت أريد بنات بلادي ما تغربت أنا وجوادي.

ــ ألا لعنة الله عليكن ــ صرخ الحداد. وقذف بناته بالآلة التي كان يحمل في يده: بنات الناس يموتوا بالكلام وبنات الحداد يموتو بالرزام. خذن

 يركب ابن السلطان حصانه ويهاجر بحثا عن حبه المجهول، والداء ينخر قلبه مثل السوس، عند الغروب، يصل إلى منزل فخيم ويلمح عبر نافذته امرأة تمشط شعرها الطويل بمشط ذهبي فيرتعش قلبه، لا شك أنها هي، جمالها وضاء، وضفائرها تتمدد خلفها مثل الثعبان، دق الباب طالبا جرعة ماء، يشرب ماسحا شواربه بمنديل معطر، تعرف المرأة أنه عطر الملوك ، فتدعوه للمبيت، فيسألها:

 ــ هل أنت رداح؟

 ــ إذا كنت تريد جنات بات، وإن كنت تريد رداح روح الحال راح.

فيشد رحاله ويرحل، لا مكان لغير الحب، أتراها ذهبية ستكون من نصيبه؟ ماذا لو جاءها خاطب، هل سيقول له أبي: أهلا وسهلا مبروك عليك؟ ولكن أمي تحب ابنة أختها، وعين قلبها ساهرة، تعد الحركات عليها، أتراها ستقول له: لا يا ابن عمي، ذهبية لمحمد. وهل سيذعن الرجل، لا أبدا: أعطيت الكلمة يا امرأة الكلمة تخرج مع الروح، لا أريد أن تسقط كلمتي بين الرجال، أتريدين أن يقولوا أن السي مالك نقض عهده، لا الأفضل أن أحلق هذا ــ مشيرا إلى شواربه السوداء الكثة التي يحط عليها الطير لصلابتها.

 ــ أين أنتم أيها الرفاق تحت قمر كاف الحمام الساهر على البيادر في ليالي الصيف، مسكين قويدر أكلته الغولة و سقط في الحفرة السوداء، لعنة الله على الحرب، سقطت عليه شظية فأحرقت جسده، سارت الروح إلى ربها، كنا اثنين في الفيلق من قرية كاف الحمام: قويدر وأنا. أما حميدة فذهب في فيلق آخر، افترقنا في الميناء: أين أنت يا حميدة يا صاحب الأحجيات؟ وحدك أفحمت فطنتي:

ــ حاجيتك لوما هما ما جيتك؟

ــ بيض بيوض حاكم لفيوض شليغمات البلدي يا ولدي؟ ما هو؟

ــ القط؟

ــ لا

ــ الكلب؟

ــ لا، ابحث

ــ يدمى؟!

ــ لا

ــ يؤكل ؟

ــ نعم

ــ ما لونه؟

ــ لن أقول ، فكر قليلا.

ــ هل أعرفه ؟

ــ نعم

ــ أممممممممممممممممم، وجدته: الحلزون.

ــ لا أقدر على هزمك أيها الذئب، تشم رائحة كل شيء من بعيد.

 آه يا خويا حميدة أين أنت؟ كيف انزلقت الحكايات من بين شفتيك، واندست هنا في صدري لترافق غربتي، الله يكثر خيرك، ما كنت أظن أن حكاياتك ستكون لي زادا، الله الله يا لدنيا الغرارة! أين أنت؟ أفي قلب البحور أم بين مخالب الطيور؟ أي بر حمل خطاك؟ أي ريح هبت برائحتك، آآآآآآه يا ريحة الأحباب، ويا ريحة البلاد، وريحة كاف الحمام، يافرخ الحمام سلم لي على أهلي ومالي.

3 -
 الدليل على وجود الحياة فوق هذه البقعة من الأرض هو هذا التآلف بين أصوات المخلوقات، خوار البقر و نهيق الحمير وصياح الديكة ونباح الكلاب وضجيج الأطفال ونداءات النساء. لا أدري كيف تتجاوب رسائل هذه المخلوقات لتشكل فسيفساء كاف الحمام ولوحتها الملونة،أما الغبار والمزابل والبيادر الصقيلة والصبار فهي سيدة الأدلة على حياة تنام في هذه التفاصيل.

 هنا ولدت أنا وأختي نوارة، وهنا ولدت أمي ومازالت تدب بظهرها المحدودب ساعية خلف بقرتها العجوز، فوق أرض تراها أولى بالحياة، أرض الطيب والحناء والزعتر. وهنا ولد أبي أيضا مفعما بالحب، فتح عينيه على خضرة بساتينها وزرقة منحدراتها، وهنا تشمم رائحة غريمه "زغماش" ، في الشعبة المسماة باسمه شعبة الذيب .

 هنا قدر له أن يستنشق عطر الحياة الأول، وهنا أيضا ترتب المخلوقات بمنطق المنفعة والجمال، القانون الذي يسري في حياة الناس كما الدم كل صباح.

 عاش أبي منتصف القرن الماضي ، أعني في تلك الفترة المشبعة بالجوع والغناء وحيث كان الناس يقسمون بحرمة الخبز والماء، ويحلفون بالنعمة، وإذا سقطت القطعة الصغيرة من يد الرجل أو المرأة أو الطفل قبلها ووضعها فوق جبينه معتذرا بإذعان وخوف، فعهود الجوع ليست بعيدة، ومن ينس عهودها المظلمة جاحد للنعمة ما في ذلك شك، وستعاقبه عيون الجهات وعيون الشمس وهمسات النبع، كما سيلعنه القمر والنجوم، وستتفل الريح على لحيته وشواربه، ذاك جاحد لحكم التاريخ وقوانين الذاكرة وتضحيات الأجيال على مذبح الحرية.

ــ لن تحيا الشجرة بلا جذورــ قلت لابني عاطف ــ إذ نهرته جدته، حين تغافل عن رفع قطعة الكسرة القمحية الهشة كخدود أمي في شبابها المندثر، نظر نحوي بحيرة أهل المدينة.

ــ لا تدعس النعمة تحت أقدامك.

ــ لو أن جدك حي لكان صفعك ــ قالت أمي ــ

ــ ألم تحك له قصة الجوع ؟ ــ أضافت ــ

ــ بلى ، وكيف لا أرويها له ، وهل أنا جاحد، أعرف طعمه، أعرف جبروته...

أرى دموع جدي، أسمع أناته، أرى كومة العظام تتململ في الأسمال البالية، وفما مفتوحا كفم العصفور، فما متهدما، أراه كما في حكاياتك، يئن: أنا جائع ، أنا جائع.

 تلتفت جدتي إلى زوايا البيت الخالية، تدمع عيناه، بحياء تقدم له كسرة الشعير اليابسة:

ــ لا أقدر عليها يا امرأة، هي التي ستأكلني وليس أنا، يغمغم، ثم يغطي رأسه ببرنوسه، ولا نسمع غير نشيجه الحزين، كانت اللحظات تتمدد، لأن الجوع كان يصرخ وجدتي المرحزمة زوجته،تقلب عينيها بين سقف الديس المخروم والأرضية الطينية المحدودبة الزلقة بفعل قطرات المطر المتسربة، عبر الثقوب.

ــ آه آه آه آه...

 لا يكف الشيخ عن الأنين، بينما ينظر الصبية في وجوم، منذ أشهر والوالد ينادي الموت الذي يطل عليه من ثقوب الكوخ، لقد رآه هناك ينتظر، بل ناداه أن يصطحبه، ولكن الأخير كان متمهلا، فاستسلم الشيخ للمشيئة وأيقن أن ساعته تتأرجح. كان يغفو في بداية الليل، إذا حضرت العجوز عصيدة أو بوغلية، تكفيه ملعقتان أو ثلاث، صار يأكل بقدر صبي صغير، ثم يستيقظ، منتظرا ملاك الموت، كان يحسه قريبا منه، قريبا لدرجة أن شيئا يشبه ملمس الشعر قد لامسه مرارا، لكن الساعة ظلت تتأرجح.

 في ذلك الصباح، ارتفع أنينه، وأرسلت لالة سلطانة ــ زوجته ــ تطلب حضور سيدي الطالب،فرافقته، إنه أبي.

 حضرت قنوشا صغيرا من العصيدة بالزبدة وذهبت أعوده. رفع رأسه من تحت قلنسوة برنوسه المهترئ وابتسم بوهن، كانت ابتسامته غامضة وواهية، كأنها ليست ابتسامته، أو لعله كان يبتسم لملك الموت وليس لي. قبله سيدي الطالب وربت على كتفه: كيف هذا، ألم تعد قادرا على مغادرة هذا الفراش؟ هيا تشجع يا رجل. بدوري قبلت يده، ووسع سيدي الطالب المجلس وبيدي أطعمته العصيدة، ثلاث ملاعق، كانت لحيته الضعيفة ذات الشعر المشوش الضعيف كسيقان الشعير ترتجف ويداه أيضا، أمسكه سيدي الطالب من كتفيه، وثبته إلى الجدار مستندا على مخدة خاوية، أربع ملاعق خمس...

 ــ الحمد لله، أراك حجيت يا الطالب ،وأنت يا ابنتي، أخذت دعوتي كاملة، رضاي عليك، ربي يصلح لك في ضنايتك.

 قضينا اليوم كله هناك، وتوردت خدوده ولمعت شفاهه بفعل الزبدة الطرية، وبدت يداه النحيفتان الصفروان متحررتين من أغلال المرض، تحدث إلى سيدي الطالب عن شبابهما، وعن أيام الحرب الأولى، وسأله عن محمد ودعا أن يعود سالما معافى، وعندما اتكأ على المخدة وغاص في النوم كالرضيع، غادرنا نحو البيت، وعند المغرب أبلغونا أنه مات.

 علق سيدي الطالب :" من مات على شبعة مات مرحوم "

4 -
ــ هاه!
 تنهدت أمي تحت ثقل سنواتها المتأرجحة عند عتبة السبعين، مثقل كاهلها، بارزة عروق يديها، مطوية بشرة وجهها، لكنها ابتسمت وجلست تحت الكرمة، كان الصيف قد تربع على عرش الأرض ضاحكا باطمئنان، مشرعا أجنحته بالشمس والفواكه، وقد اندفعت رائحة حليب التين من أوراقه العريضة الخضراء، فيما حبات كبيرة في الإناء، تحدق أمي نحوها بحياء وتحرك رأسها متمهلة تتريث الكلمات بين شفتيها:اختفى أبوك قبل أن تثمر هذه التينة، كان يسميها باسمك. مات مشتاقا إلى الخبز، إلى قطعة من كسرة القمح، إلى اليوم مازلت أبكي أنين جوعه، تمسح أمي دمعة حارقة تنحدر بإصرار على خدها الأيمن. تضيف أن أباها قضى من الجوع : " في عام الشر مات أبي، أتدري ما معنى أن يموت أبوك من الجوع؟ لا أنت لا تدري، ما كان بوسعك أن ترى جلده الأصفر المتراخي، ما كان بإمكانك أن ترى نظرته الزائغة، وما سمعت نواحه لأجل بوغلية طري، الله يرحم أيام جدك، حين عاده في مرضه الأخير وأحضر منية القلب، العصيدة، التي ختم عليها جدك؛ أعني أبي، كان على مشارف الستين،ولم يبق منه غير جلد على عظم، فلم يقدر على صد أنياب الجوع التي راحت تنهشه، كان عام البرد والجوع والحرب، كان ذلك أبي، أما أبوك، أعني عندما كان محمد بن مالك فحسب، كان يومها قد ركب السفينة وسار إلى الحرب، تاركا قلب أمه معلقا على حافة الانتظار، عامرا بذكره، فلم تطاوعها يدها السوداء على الاقتراب من اللقمة حرام في عينيها لأن محمدا لم يمد يده نحوها، تسأل: أين أنت يا ابن أمك، أحي ترزق تحت سماء أخرى، أم أخذتك البحار واختطفت روحك الأطيار يا قلب أمك؟ لاشك استلت قلبك ذئاب النصارى ذات الأظافر الغليظة.

 أما أبوك فيروي حكاياته عن الجوع كل ليلة، حتى أنه دهس الطاجين بحذائه الخشن، لأني ذكرت الطمينة أمامه ذات رمضان، كان جائعا وإلى آخر يوم وقف أمامي: كان جوعا كافرا، جوعا بين الذئاب، جوع الغابة الأول،يضيف: رحت أجلد سنواتي العشرين المتأرجحة بين الموت والحياة بين الأمل واليأس، شمس هزيلة وسط غيوم سوداء، مثل كتاب أبيض وأسود، أجلدها بالحلم ، بوجه أمي برائحة الكسكس، ببرنوس أبي الدافئ ، برائحة قهوة العيد، بلحم العيد الكبير. خمس سنوات في جهنم، كيف أملأ فراغاتها الرهيبة،كيف أرتق تمزقاتها، كيف أصل فجاجها المظلمة؟ أنا الغريب في الأرض الغريبة ، القاتل والمقتول بلا أفق؟ يتأفف، تدمع عيناه يستغفر الله الذي قيض له عمرا جديدا ليرى والديه ويتزوج وينجب الذرية هذا من الحظ! أنا بحاجة إلى عمر جديد لأروي تلك السنوات الخمس المفتوحة على الظلام، المتكئة على الهاوية.

 عدت نحو الداخل منكفئا على كنوزي، وعلى قمر كاف الحمام الضاحك والرفاق إذ يهزجون في موسم الحصاد والبغل الأزرق وذهبية ، لم أكن موجودا إلا في داخلي، أما خارج هذا المكان الشاسع ــ أعني القلب ــ فلاشيء غير الفراغ السديمي الهائل مجرد ذبابة ضلت طريقها، أفتش عن نجومي المبعثرة، ألملم أشلاءها، تلك النجوم التي توهجت في داخلي، نجوم الذكريات وحدها قدمت لي هدية لا تقدر بثمن دفء الحياة، وكان هذا الدفء يتوهج في وجه أمي وابتسامة ذهبية، وفي شهيق الأزرق وصوت أبي وأغاني الحصاد، ووحدها كانت كفيلة بمقاومة الجليد الذي زحف من كل الجهات، الجليد بالنكهة الرومية؛ الجوع والبرد والخوف، مدين لك يا وجه أمي بالحياة، حين أضأت مثل منارة الميناء، ووجه ذهبية بحيائه الغامض اللذيذ بحمرة الخجل الوضاءة. أدين لهذه المخلوقات بالحياة ، وفي الداخل أتآلف مع كائناتي الجميلة وقططي المدللة. لمقاومة الموت الذي تأهب لابتلاعنا جميعا عربا ونصارى. لولا ذلك السلك الفضي اللامع الرفيع سلك الذكرى الخيط الذي امتد بيني وبين الأحباب من خلف البحار، وفوق ذلك السلك الرفيع وقفت عليه عصافير قلبي لتهبه الدفء

 ــ هل أتاك حديث الجوع؟

 المواقد مطفأة والموائد خاوية وصدور النساء جافة. والعراء يمتد، عراء ليس لي، وحدي بلا عراء، عرائي ينأى عن حدود القلب، عراء غريب يسيج روحي، لا يستكين لرائحة أنفاسي، يتفرس في عيني بوقاحة" وانا بري وين"، ولا أقوى على رد الصاع صاعين، أنا المنسي في كوات الكون المظلمة، الرقم التائه في الفراغ، الدم المستباح والصدر العاري، لولا رحمة أمي التي أثثت تلك الفجوات اللعينة، فاستوى عش العصفور.

 راح الشتاء يلتف والجوع يتضخم، فصرت أداريه بالذكريات، أبتلع ريقي وأتحسس حرارة نار الوقيد من فضلات الغنم والأبقار ومن لحاء الشجر وأغصانه اليابسة، هاهي أمي تحضر عجين الفطير تدهنه بالزيت ترفعه فوق ذراعها نحو طاجين النمرة، وهاهو أبي يسن السكين، وهاهم الأطفال يطاردون الدجاج، أراهم وأسمع ضجيج ضحكاتهم وصراخهم، وطيران الديك الأحمر ووقوقة الدجاجات خلفه، كل كاف الحمام صنعت الفطير وذبحت الدجاج، كله مر تحت سكين أبي ــ احتفالا براس العام : ينايرــ الريح تعبث بالريش ورائحة الدم تفوح، والقدور تغلي معلنة أنهم سيتعشون عشاء طيبا الفقراء والأغنياء سيتقاسمون خبزهم ولحمهم، وفاكهتهم هي الحب، شرابهم هو المودة، وحدها أمي ستنزوي في الركن المعتم بعيدا عن لهب النار المنبعثة من الحطب الذاوي دون أن تقوى على مد يدها إلى جفنة الطعام، لأن يدي هنا تعوم في الصقيع، وستسيل دمعة حارقة فوق خدها، تسارع لمسحها بكمها الخشن مخافة افتضاح سرها .

 لهذا جرت العادة أن يقسم الناس بحرمة الخبز والملح الذي تقاسموه أيام الشدائد والمحن ومن خان عهد الخبز والملح فلا عهد له، فالخبز للوفاء والملح للمحبة والماء للوصل.

2 - حمام راجل
1 -
 سكن سيدي عثمان بيت البركة. وقف عند قمة الجبل ذرة تتراقص تحت ضوء الشمس تزرع بصرها في المخلوقات التي تتضاءل أمام النظر من بعيد.

 من هذه الذروة راح يتلو القرآن بصوت تتزعزع أمامه الجبال وتردد الشعاب والوديان والمنحدرات أصداءه ، فتتحلق الطيور بكل أصنافها حوله ، الغربان من كوات الجبل والبوم من الشقوق والحمام من الجسر القديم والحجل والبوعمايرة والنسور والهداهد والحساسين وعبد الله الأزرق والدرويس والقبرة ، كلها تتحلق حول مائدته العامرة حيث تعود ، وهو يتلو القرآن أو يسبح الرحمن أن ينثر الحب عند أقدامه فتأتي إليه طائعة ، بعضها يحط على كتفه وبعضها يخمش أنفه وبعضها يمرح في كفه ، ما إن يكف عن القراءة حتى تفرد أجنحتها وتطير محدثة صفيقا جميلا ، كأنها مأمورة من رب العزة ، تأخذ رزقها وتنصرف .

 ومن هنا تكون الشمس قد ألقت بخيوطها الأولى ، فيصعد فوق الصخرة البيضاء الضخمة يتفقد أحوال الناس عن بعد ؛ البيت الذي لا يصعد منه الدخان أهله جياع وإذا لم تنبح الكلاب ، فالناس بخير . لهذا كان كل فجر ينادي الفقراء بأسمائهم ، الفقراء أحباب الله، هكذا كان يصدح :

 ــ يا أحباب الله اقبلوا ، التبكير التبكير يا أحباب الله .

 ــ الرزق دواؤه التبكير. قبل أن تنقضي ساعة البركة والخير.

 ــ افتحوا أكفكم قبل أن يمضي مقسم الأرزاق .

 ثم يرمي إليهم بصرر الطعام مناديا كلا باسمه حتى لا يتعارك الناس ، هو يعرف أن الجوع كافر ، وأنه أخو الشيطان، يقول يخرج الشيطان مع ريح الأمعاء الخاوية، الشيطان يسكن الفرج، فسدوا الفرج، البطن فرجة منها فسدوها ولو بالماء .

 ــ من أين يأتيه الطعام وهو في تلك الخلوة؟

 يضحك أبي ، الله يرزق عباده بغير حساب، والعباد الصالحون أقرب إلى الملائكة يكتفون بما يسد الرمق ،الشيخ سيدي عبد المجيد قال هي سبع حبات من التمر يتبلع بها قبيل الفجر وجرعات من الماء إلى المغرب ، حيث يتناول كسرة من الشعير مع قنوش من حليب الماعز.

 ــ من كان يحضر له الطعام وهو وحيد في المرتفع؟

 ــ لم يكن وحيدا ، الوحدة ألا تعطي الناس، أما هو فكان يحمل الكائنات في قلبه من أهله وغير أهله. أما قلت لك أن الطيور والحشرات كانت تتحلق حوله. دعني أخبرك أنه لم يكن نقي الكفين ــ كما تعتقد ــ " الراقد ما عطاتو مو الكسرة" ، ذلك ولي ، يتساقط التين من شجرته لأن الله يعلم أنه سيهديه لعباده ومخلوقاته، لهذا كانت أشجاره تثمر، وعندما أقول أشجاره فهذا يعني أنها نبتت حيث أقام .

 كان رجلا من رجال الله، صاحب علم ، فلما رأى إعراض الناس عنه تسلق المرتفع كأنه مأمور يصدع بأمر خفي ، وهناك في تلك القمة أطلق عنزتين وتيس وشاة ، أطلقها تسيم في الخلاء، دون أن تجرؤ الذئاب على لمس شعرة منها، لأنها كانت منذورة لعباد الله لأحبابه من الفقراء وعابري السبيل ، للأرامل والأيتام والشيوخ .

 تبدأ الحياة لديه عند الفجر، وبعد الصلاة وتلاوة القرآن وقراءة الأدعية والأوراد ، وعندها ستكون حنجرته قد تمرنت على برودة الهواء ، وبعد أن يلين أوتار حلقه ببعض الزيت والتمر يصدح صوته كأنه أوتي مزمارا من مزامير داود ، بحيث يخترق البرية وينحدر في الأرض الجنابي ويتمدد في السهل ويتردد صداه في الوادي وفي فج جبل كاف الحمام :

 ــ إن الساعة قريبة فأعدوا العدة .

 ــ إن الساعة آتية لا ريب فيها .

ــ إن الساعة آتية لا تبقي ولا تذر .

 لقد احتار الناس ، ووجفوا من صيحته، ولم يقدروا على تفسير فحوى خطابه : إنها الساعة، وراحوا يتساءلون أثناء ليلهم الثقيل : متى الساعة ؟

 وصاروا يبكرون نحو المرتفع قبل صياح الديكة، يرافقون أطفالهم الذين عادة تكون أعينهم نصف مغمضة ، في البدء يسيرون شبه نائمين وبعد أن يصفق الهواء وجوههم الطرية يستيقظون ، يفتحون أعينهم وآذانهم عن أخرها لأخذ القرآن، الأمانة التي علقها الله في رقابهم ، عليهم أن يأخذوها بالقوة قبل أن تنزع من الصدور والأرواح والألواح .

 في المساء تعود ماشيته عامرة بالحليب ، فيحلبها بيديه، لا يستحي أبدا أن يمد يده نحو أثدائها ــ على عادة الرجال ــ ويتحسس موضع الحليب الذي ينحدر دافئا بسخاء ، لا ينسى أبدا أن يكنس روثها ويسكت جوعها و يسقي عطشها .

 حفر البئر المسماة باسم " بئر الشفاء " وغرس تينا وزيتونا وعنبا عرشت دواليه فوق الرمان واللوز، ولسبب خفي أحجمت الطيور عن أكل ثمرها ، تلك من الأسرار التي يودعها رب العزة في صدور خلقه ؛ لعلها فهمت الإشارة : " هذا زاد الفقراء " كانت المخلوقات تتواصل فيما بينها بلغة إشارية لا يفهمها أحد ولكنها على ما يبدو وسيلة اتصال جيدة بين المخلوقات ، إنها تسبح ونحن لا نفقه تسبيحها ، وإنها تتنادى للرزق والتكاثر، كما تتنادى عند تحول الفصول فكيف لا تتلقى الإشارات المحذرة ؟ ثم جاء العمل الأكبر الذي استهلك عمر سيدنا، شق الطريق ، مازالت آثاره مرسومة ؛ "طريق الثعبان " ، في البداية راح يحفر الأرض الصماء بيديه ، ولكن العناية هدته نحو حل سحري، لقد عرف من الأسرار أن كل بشر إلا ويشق طريقه في الحياة عبر مسار يبدأ من الولادة ، ذلك المسار الذي تبدأ الخطوات في رسمه من الميلاد إلى الموت، وبين الزمنين عليه أن يخط آثار أقدامه نحو القبر، لذلك راح يعدو بين منزله وبين الوادي ساعيا ليل نهار لاهثا من الفجر إلى الضحى، حتى ارتسم خيط وهمي واهن تكفل مريدوه بتطريزه على وجه الأرض، ومن ثم صارت قوافل الطلاب والمحتاجين تصعد نحو المرتفع دون أن تضل الطريق في الغابة عبر تعرجاتها الخطرة .

 وعندئذ أحس كأن رسالته ستتزين بتاج النهاية ، فقد بلغ الأمانة، وأدى ما عليه من دين إزاء الحياة ، واستنفد ما له من وقت ومن زاد ، وما عليه سوى أن يخلي المكان لغيره وأن يهجع إلى جوار ربه قرير العين ساكن الفؤاد . وجاءه ملك الموت يحمل إزارا أخضر من حرير، معطرا بالمسك والطيب والكافور، بسط كفيه إليه واستل أمانته كما تسل الشعرة من العجين ، ولف الروح التي اغتسلت في أنوار الله بعناية وطار نحو السماء.

 ــ هل مرض ؟

 ــ لا لم يمرض أبدا، كان مازال ممتطيا صهوة الشباب ، يستل سيفه ويقاتل فلول الظلام، ويطلق كلماته مع الريح ، كما بذور أول الربيع اللواقح كما نسميها، كانت تلك الريح الناعمة تحمل كلماته إلى كل مكان، بما في ذلك عيون المستعمر وآذانه، حتى جاءته ، كتيبة من الفرسان ذات يوم.

 ــ قالوا له على لسان القايد :

 ــ أأنت سيدي عثمان بن محمد بن الشافعي .

 ــ قال لهم : نعم ، أنا هو .

 ــ قالوا له : أأنت قلت : الكلمة الحرة كالمرأة الحرة عصية ولها أجنحة ؟ ولم يدر بقلبه أبدا أنه وضع حد السيف على رقبته .

ــ قال : نعم . فربطوا يديه بحبل وجروه معهم، لا أحد يدري إلى أين.

 في اليوم الموالي نصبوا له مشنقة في قلب البلدة ، قال لهم عندي طلب أخير.

ــ ما هو ؟

ــ إيتوني بماء .

فلما أحضروا له الماء توضأ واستقبل القبلة وصلى ركعتين في الضحى . وكان الناس يراقبون المشهد وجلين ، بل هناك من يقول إن الطيور قد تشبثت بأغصان الأشجار دون أن تقوى على الحركة ، بينما نعبت بعض أسراب البوم واحتجت الغربان بصوت غاضب .

 ولما أنهى صلاته رفع يده اليمنى إلى الجماهير المتحلقة بخشوع : " إن الساعة آتية لا ريب فيها " و" إن زلزلة الساعة لشيء عظيم " ثم ابتسم كما لو أن شمسه تشرق إلى الأبد. وعندئذ سحبوا الحبل فارتفع جسده في الهواء ثم بدأ يتراخى منزلقا نحو الأسفل .

 في الليل تسلل الرجال إلى الساحة وحملوا الجثة على أكتافهم، ومن ثم ارتأى سادة القرية أن يكرموه فدفنوه هناك في أعلى المرتفع كأنما ليحرس القرية قرية كاف الحمام .

 بينما تسلل أحد الشبان وغرس خنجره في قلب ابن الحاكم ....

 وفي الغد أحرقت القرية بكل ما فيها من بشر و شجر وحجر. وبقيت قمة سيدي عثمان وحيدة في المرتفع، غير أن الحكاية تسللت عبر السهول والوديان والجبال متنقلة من قرية إلى أخرى متسللة عبر الأغاني والحكايات في ليالي الشتاء الباردة . 2

أنهت خالتي عيشة الحكاية ومسحنا عيوننا من الدمع، فقامت من مكانها، قالت سأنحدر اليوم إلى كاف الحمام، لأرى ذهبية النمرة، سأرى أمك اشتقت إليها، أنت أيضا سترافقني في الرحلة ، لن نركب البغل سنسير على أقدامنا. انتعلت حذاءها من الكاوتشو هذه المرة، إنها المرأة الوحيدة التي لم أرها حافية أبدا، هم يقولون أن أرجلها مريضة ، وإذا سارت حافية فستتورم قدماها وتلزم الفراش ولن تشفى أبدا، حتى سيدي عبد القادر غير قادر على شفائها حينئذ، ولكني أراها سليمة تجري كالفرس، وزيادة على ذلك فهي لا تقوى على التوقف عن سرد الحكايات، لعلها امرأة وحيدة في هذه النواحي، لا أحد يدري من أين أتت، تبدو في مثل عمر أمي، ولم تتزوج أبدا بقيت في خدمة سيدي الشيخ، تطبخ الطعام للطلاب غالبا، وتصنع الصمغ والصلصال، دائما تفوح من أثوابها رائحة الصوف المحروق، ، تروي الحكايات كثيرا، امرأة باسمة، لعلها الإشراقة الوحيدة بين الوجوه العابسة التي كنا نحن الطلاب خصوصا الغرباء نحبها، فيها شيء من رائحة الأمومة، كأن الله خصها بهذه النعمة لتكون أما بغير أمومة، كانت راحتها دافئة ووجها منبسط مثل المرج وقامتها قصيرة، ومن ضفائرها الحمراء تنحدر رائحة الحناء والزعتر، غير أن الامتياز الآخرــ لعله ما جعلها تحظى بالتقدير في أعين الرجال إذ جعلوها أختا ولم تداعب أنوثتها خيالهم ــ هو حفظها لكتاب الله ومعرفة القراءة والكتابة، والحق أن ثمة حكايات كثيرة تدور حولها، إنها أشبه بحكاية عشبة خضار ورداح ولونجة بنت الغولة مع أنها تعيش بيننا بلحمها وشحمها وتتنقل كالنحلة من مكان إلى آخر بين كاف الحمام إلى العزلة الحمرا وإلى الكاف لكحل. لا تمل مرتدية حذاءها الذي غالبا من الكاوتشو .يمكن أن تتنقل خالتي عيشة في الفجر كما في المساء دون خوف، الخوف الأبدي الذي تحمله النساء في صدورهن غالبا. لم لا تخاف خالتي عيشة كما تخاف النساء؟ لم لا تطلي وجهها بالرماد عندما يأتي العسكر؟ هذا أمر عجيب حيرني! لولا أن أغاثني بعض الطلاب بإجابة قد لا تكون صحيحة ولكنها أسكتت فضولي:خنثى، وما معنى خنثى؟ إنها ذكر أنثى، يا غبي ألا تعرف؟ لكزني عمار الجالس بجواري. هل هذا صحيح؟ ربما! لم أسمع بهذا من قبل، قال سيدي الشيخ توجد منطقة وسطى بين الجنة والنار، وهي مؤقتة، ولكنه لم يقل هناك رجال ونساء ولم يضف جنسا آخر، القرآن ذكر النساء والرجال وذكر الجن والشياطين وذكر يأجوج ومأجوج ولم يذكر الخنثى، أستغفر الله ، قد يكون هذا من علامات الساعة. خالتي عيشة لها شوارب قصيرة فوق شفاهها كما الرجال وهذا أمر لا تنكره العين. عبد القادر كبير الطلاب قال هذا ، لا أعرف. وإذا جاءت الإجابة من عبد القادر فعلى بقية الطلاب أن يتقبلوها.

 على كل حال، اليوم انحدرت خالتي عيشة نحو الكاف لتزور أمي، وكنت سعيدا لمرافقتها، إنه الامتياز أن ترافق خالتي عيشة إلى بيت أمك، وهذا يعني أنك تلقى العناية الكافية، وإن الطلاب ينظرون إليك كما لو كنت تحظى بحماية خاصة فلا تقوى أيديهم أو ألسنتهم على الامتداد إليك.

 انحدرنا خالتي عيشة وأنا، بعد أن تجهزت تماما، انتعلت حذاءها من الكاوتشو ذا اللون الأسود ، وهذه المرة ويا للعجب لبست جوربا، أتكون خالتي عيشة غنية لترتدي جوربا مثل زوجة القايد؟

في الطريق كانت تتوقف وتلقي نظرها نحو الأسفل بعيدا سهول الكرم والتفاح الممتدة إلى آخر البصر، انظر تلك الجنة التي سرق فالي منا،تقول بصوتها الخشن، ثم تضيف ملوحة بالعصا: لقد تركنا نأكل الخرشوف وتلغودة، ياه ماذا تعرف يا ابني؟ مات أبي وأنا صغيرة، فامتهن أخي بيع الخرشوف، وكان يلتقي بالمعمرين، أترى هناااااااااااااك، ذلك البيت ذا القرميد الأحمر، بلغ أخي إلى ذلك المكان ، كان مجرد صبي صغير قادته قدماه نحو ساحة فالي، يحمل قفته المتآكلة، أتدري ماذا فعلوا به؟ سلطوا عليه الكلاب.

ــ هل مات؟

ــ نعم ، لقد نهشته الكلاب، كان اسمه علي وكان رجل البيت القادم، وهكذا ماتت بعده أمي حسرة عليه، فجئنا أنا وأختي نستجير بسيدي عثمان، بعد أشهر تزوجت أختي، زوجها سيدي عبد المجيد لابن أخته، وبقيت أنا في خدمته إلى اليوم، وإن شاء الله إلى يوم أدفن.

 توقفت قليلا ناظرة إلى البعيد، على مد البصر، حيث السهول المترامية تحت الضباب الشفيف، ذات صيف تزداد شمسه تألقا، ومرة أخرى تحسست حذاءها، ولم أجرؤ على سؤالها إن كان الحذاء يضايقها، فيمكنها التخلص منه، يمكنها أن تسير حافية أو ترتدي القاعة كما يفعل بقية الناس، كأنما فهمت نظرتي المتساقطة على قدميها الصغيرتين، أنت تعرف لا أستطيع أن أسير دون حذاء، رجلاي مريضتان ولولا هذه النعمة لكنت لزمت مكاني وصرت مقعدة.

 كان الوقت ضحى عندما بلغنا البيت، ضمتها أمي إليها وقبلتها من جبينها، واختلت بها بعد دقائق في الغرفة المجاورة، وسمعت همسهما مثل حفيف أوراق المشمش اليابس تحت هبات النسيم. وحين خرجت خالتي من الغرفة تلكأت أمي هناك على غير العادة ، ورأيت وجهها متغيرا.

ــ أتركك بالسلامة يالالة ذهبية.

ــ ما زال الحال، تناولي الغداء وخذي قيلولة وبعدها توكلي على الله، أتعودين هكذا وما زال التعب في رجليك.

ــ مسامحة خالتي ذهبية، لقد أوصاني الشيخ سيدي ألا أتأخر، تعرفين الأحوال هذه الأيام، الله يستر.

ــ ربي يسترنا ويستر المومنين.

ــ أن شاء الله وينصرنا.

ــ آمين.. آمين.

 شربت خالتي عيشة قنوش اللبن، وحملت قطعة من كسرة الشعير في يدها وخرجت عائدة ملتفتة نحوي، ستعود في المساء، سيصطحبك عبد القادر، سيمر علي، لدي عمل في القرية المجاورة، سأذهب إلى "حمارة " لزيارة الخونية ربيحة، سيدي الطالب أوصاني بزيارتها.

ــ اذهبي رافقتك السلامة، بلغيها سلامي وسلام الخونية الزهرة.

 بينما عادت أمي إلى الغرفة على عجل وأخذت ترتب الأغراض، وتجمع المؤونة، في القبوشة، وتضع ملابس أبي في المطمور القديم، وتخبئ ما تبقى لها من قطع الفضة في الأواني الفخارية وتضعها في المطمور ثم ترد عليها الغطاء، وتخرج إلى الجوار وأرى النساء يفعلن ذلك.

 ــ ما يحصل يا أمي؟

ــ أسسسس. لا شيء.

ــ كيف تقولين لاشيء، وأنا أرى وجهك متغيرا منذ مجيء خالتي عيشة، لست طفلا يا أمي، لقد صمت أياما من رمضان هذه السنة.

ــ اسمع سيبدأ لاراف(التمشيط) في هذين اليومين، أراهم باعونا، وعليك أن تغادر إلى سيدي عثمان حالا، لا تقل شيئا، حذار، إن سألك أحد عن خالتي عيشة ، قل إنك لا تعرف، عليك أن تعجل الخطى ، سيعرج عبد القادر عليك، اسمع عليك أن تتخفى ، الطيارة الصفرا ستحوم كالنسر فوقنا، ربما بدءا من اليوم لا أدري الوقت بالتحديد ، لكن التهديدات وصلتنا، أتمنى أن تتمكن عيشة من العودة إلى دار الشيخ قبل بدء العاصفة ، رب يستر.

 3-
 عند العصر بلغنا عبد القادر وأنا الدار، كانت الظلال القاتمة تتراقص وتلتهم المدى، وكان الرعد قد بدأ يقصف والدخان يلف المكان،يزحف من بعيد على مد البصر ويتقد نحونا فلزم الطلاب أماكنهم مبكرا، ورأيت سيدي عبد المجيد يعصر كفيه بقلق: متسائلا كل ساعة:

 ــ ألم تعد عيشة بعد؟

 ــ لا يا سيدي ــ تجيبه لالة الضاوية ــ

 ـــ لقد بدأ القصف، ألم تري الدخان؟

 ـــ عيشة ، عيشة ، أين أنت ؟

 ظل سيدي عبد المجيد يفرك كفيه، منتظرا تحت شجرة الدردار، متمتما، لا شك أنه يسبح.

 ــ حل الليل ولم تعد ـــ قال محدثا نفسه ـــ

 أدينا صلاة المغرب وخرج سيدي عبد المجيد من جديد تحت شجرة الدردار، يرقب عودة عيشة ، ربما تكون وصلت عند الخونية ربيحة ، قد تكون هناك ، يا رب. وماذا لو لم تصل؟ هل يكون القصف قد التهمها؟ كانت مثل نقطة ضئيلة فوق الأرض، فكيف يمكن رؤيتها، الظلال تسوي بين جميع المخلوقات، والطيارة الصفرا كذلك لا تفرق بين البشر والشجر والحجر، الطيارة الصفر لا تعرف غير القتل، تحرق الحشيش وتفتت الحجر وتأكل الأطفال، هل نسيت السنة الماضية ، كيف أحرقت الأغنام والبغال؟ متى عاد الولدان؟ عند العصر تقول لالا الضاوية، هل تكون عيشة قد تأخرت في كاف الحمام، قلت لها لا تتأخري ، البيعة وصلت والعسكر سيهجم عند العصر أو المغرب....

 التف الظلام حولنا، وفجأة وبين خشخشة الأوراق تحت نسيم المساء سمعنا نداء خافتا، يبدو من نبرته وكأنه نداء نجدة:

 ــ سيدي عبد المجيد، سيدي عبد الجيد.

 ــ نعم، نعم من المنادي؟

ــ خوك موسى؟

ــ مرحبا.

 ترجل موسى عن بغلته على عجل ، وسار بضع خطوات ملاقيا سيدي عبد المجيد. كان موسى رجلا معروفا لدينا من قرية حمارة ، ولا شك أن صلات وثيقة تربطه بشيخنا.

 سلم موسى بصوت خافت بالكاد خرج من بين شفاهه ، ثم همس في أذن الشيخ ببعض الكلمات، واعتلى على عجل ظهر البغلة السوداء واقتحم الظلام.

 دخل سيدي عبد المجيد يجر خطاه جرا، منحني الظهر إلى غرفة لالة الضاوية، التي سمعناها تجهش بالبكاء، لم نفهم ماذا حصل، لكن عبد القادر: انتفض، ربما خالتي عيشة، وتسلل حافي القدمين بجوار الغرفة، وهناك رأى النساء يبكين، الجدة يامنة، و الضاوية وابنتها خوخة وسلطانة.

ــ لقد ماتت عيشة، قصفتها الطيارة الصفرا.

ــ إنا لله وإنا إليه راجعون.

ــ عظم الله أجرك يا الطالب.

ــ لقد أنهد كتفي يا موسى، ذهبت عيشة عند ربها، عليها ألف رحمة عاشت نقطة ضئيلة وماتت كذلك.

ــ عليها الرحمة.

ـ عودة إلى سفود الذاكرة
1 -
 أعدت الرسالة، إذن يريدون مني إعداد ورقة عن شخصية مجاهدة عاشت في المنطقة. سيعقد ملتقى وطني هنا في البلدة حول بعض رجال الثورة. حسنا أنا مختص في التاريخ، أعني حياة العالم الخارجي، الحياة التي لا تعبأ بالأحزان والأفراح، ولا بالدموع والضحكات، ولا تقاس بالأيام والليالي ولكن بالأحداث والتحولات، وأولئك الرجال الذين اصطلح على تسميتهم الأبطال، والذين غالبا ما تضيق بهم الأرض فينتقلون إلى الذاكرة والخيال والتاريخ.

 وضعت الورقة داخل الظرف الممزق، و أفكار مثل الغيوم العامرة تحوم في ذهني ، ترى ما الموضوع الذي ستدور حوله ورقتي؟ لا بأس سيعتدل الجو، بعد أيام ويتضح اتجاه البوصلة. كنت أريد موضوعا جديدا يتماهى مع ذاتي ، ولكن من أين لي بهذا الموضوع؟ ، ثم هل مدة الشهرين المحددة كافية لإنجاز بحث في المستوى مع كثرة انشغالاتي ؟

 تخصصت في التاريخ من أجل روح أبي ، أبي الذي اختفى منذ ما يزيد عن الأربعين سنة، شق طريقه في الضباب، فضلً طريق العودة، لم يبق منه غير الذكريات المنثورة في صدر أمي في الغالب، تتوهج حينا وتخبو أحيانا أخرى . لم يعد عندما نزل المجاهدون من الجبل وعندما خرجت جموع الشعب تحمل الأعلام وتزغرد وترقص في الساحات العامة، لم يعد أبي، من الإثم أن تحزن يوم الاستقلال، أمي انخرطت في الزغاريد كما تنخرط في البكاء وأبي لم يعد ، بقينا عند عتبة الباب ننتظر طلته، إلى اليوم مازلت قبل ولوج الباب أتريث عند العتبة قليلا،ألتفت،أحدق في الطريق لبعض الدقائق ثم آخذ نفسا عميقا وأدخل ، للوهلة الأولى وبدافع لا شعوري أتفرس في الوجوه، حتى لو كانت وجوه زوجتي وأبنائي ، حتى وإن كان وجه أمي وأختي ، وإن كانت وجوه أعمامي وأخوالي وطبعا لم أستثن وجوه أصدقائي، أبحث مدفوعا بتلك القوة اللامرئية عن وجه سيندس بين الوجوه، ذات يوم سيتصدر رأس المجلس ، وسيقص علينا قصة الغياب الطويل، وبالتأكيد سنصغي إليه بكامل أرواحنا ، وسنعذره حينئذ لأنه لم يشهد عيد الاستقلال، ولا فكر في كسوة العيد، ولا في طريق المدرسة الممتد كحبل العمر.

 ــ من أكون لأعذره أو لا أعذره؟ ربما يحق ذلك لأمك هي من تحمل العذابات من بعده، هي من قادتك نحو طريق النور عبر الدرب الطيني حافية القدمين إلا من غطاء بائس مسدل على رأسها و كتفيها النحيفين . هي من أودعك المدرسة، قالت : أجوع ويتعلم كبدي ، ليرى بقلبه، كم أن الدنيا واسعة، وأنها أكبر من كاف الحمام.

2 -
 في تلك الليلة الأخيرة التي رأيت فيها وجه أبي، مد يده من تحت قشابية الصوف البنية الغامقة، ومسد على شعري بحنان، لا أذكر أنه فعل ذلك من قبل، من العيب أن يبدي الرجل عواطفه، على الرجل أن يفرض الوقار ، ثم نحن في حالة حرب ولا مكان للحب في قلوبنا علينا أن نتصرف بحكمة، لعل الحكمة في تصرف خالتي عيشة التي رافقتني إلى البيت أمن أجل رؤية أبي؟ ربما؟ هل اشتاق إلينا؟ جائز ، ما أعرفه أنه قليلا ما يتسلل في الليالي الحالكة نحو البيت دون أن يدق الباب الخشبي العتيق، فأرى أمي تنسل من الفراش على رؤؤس أصابعها لتفتح الباب. بالله عليك كيف كنت تعرفين نداءه؟

 ــ صياح الديك ثلاث مرات.

 ــ وهل كان الديك يرافقه يا أمي ؟

 ــ لا ، ألا تعرف أن أباك مقلد أصوات بارع.

 ــ إذن هو نفسه الديك.

 الحق أني لم أشهد حضوره غير مرات قليلة، حيث أخذتني الدراسة وحكايات خالتي عيشة.

 في ذلك اليوم جاء مبكرا مع حلول المغرب مباشرة، صلى في البيت على غير العادة،وتناول العشاء على عجل، ثم رأيته يهمس مع خالتي عيشة وأمي تعد الفراش، وينظر في ورقة ، من أين أتت تلك الورقة يا أمي ؟

ــ خالتك عيشة يا ابني.

ــ إذن جاءت لأجل تلك الورقة.

ــ وماذا كان فيها؟

ــ رسالة ؟

ــ ممن؟

ــ من إخواننا في كاف بودرقة؟

ــ كانت تحمل تحذيرا، بتحرك العسكر نحو القرية وبحملة تمشيط ، كانوا يشكون في نزول أبيك ورفاقه هنا. لحسن الحظ أن تلك الليلة مرت بسلام في بيتنا افترقنا أنا وخالتي عيشة، عدت إلى دار الشيخ، حيث كانت لتحرق الصوف وتملس الصلصال وتدرب الأولاد على محو الألواح، وعلى الكتابة أحيانا في غياب سيدي الشيخ عبد المجيد، امرأة برائحة الصمغ والصلصال، وكأن الطبيعة عوضتها عن الحرمان العاطفي بتعدد المواهب، إنها تعد الطعام وتكتب في الألواح، أهذا قليل؟ من من النساء تفعل ذلك، سبحان الله يضع سره في أضعف خلقه، منحها قلبا محبا، قلب أم دون جسدها.

 مسكينة خالتك عيشة ماتت في الغارة، وهي في طريق العودة ذات عصر من قرية حمارة، بعدما بلغت الأمانة انحدرت نحو شعبة الذئب ثم عادت لتصعد الأرض الجنابي، كانت تسير وكأنها تتدحرج وعند نهاية المرتفع ومثل ثمرة ناضجة سقطت تحت القصف. كانت القوة المهاجمة كثيفة بحيث لم نشهد مثلها منذ بداية الحرب، الدبابات والطائرات، مثل الجراد ملأت سماءنا، كانت تلك أعمال القومي عيسى، الله لا يرحم منه عظما، الخبيث هو من باع القرية، احترقت خالتي عيشة تحت القصف ، لم نعثر على أي أثر يدل عليها ما عدا خاتما من الفضة ورثته عن أمها وجدناه بعيدا، يموت الإنسان ويبقى معدنه وخالتي عيشة كانت صافية مثل الفضة.

 ومنذ تلك الصبيحة لم يظهر أبوك، لم يظهر أبدا انتظرناه، رجونا إخوانه، علمنا أن نطاق القصف كان واسعا وبالتأكيد غطى المنطقة التي بلغها ولكن لا أحد من إخوانه ظهر، لا شك أنهم ردموا جميعا في الحفرة، لم يكن أبوك وحده كان معه أيضا مسعود و سالم ، ابن عمك رابح ...

ــ خطيب نوارة؟

ــ أجل

ــ ألأجل ذلك مرضت نوارة

ــ نعم ، ولكن ليس بسبب ذلك فقط.

ــ ثمة سبب آخر

ــ ما هو؟

ــ لا أقدر على ذكره.

ــ كيف لا تقدرين؟ نحن نسجل ما تقولين ، هذا تاريخ وكل سر فيه له معنى يا أمي، إنها أمانة هل فهمت أمانة وسيحاسبك الله على كل حرف تكتمينه.

ــ لست مستعدة الآن، سأخبرك في وقت لا حق. لم أذكره حتى لنفسي، الله وحده يعلمه، هذا ما هدم حياة أختك، كانت قادرة على تجاوز محنة أبيك ومحنة سالم، لكنها وقفت عند تلك العتبة التي ملأت صدرها بالصديد، آه لو أن شايب الراس أمامي لأكلت لحمه، لا أستطيع أن أنسى الألم الذي أكل ابنتي مثل النار، الحمد لله قتله أبوك في المنعطف، عندما كان عمك رابح على وشك الانهيار ظهر أبوك مثل الملاك الحارس وقتل اللعين جوزيف رومان أو شايب الراس كما نسميه، يد الله، يد الله، هي التي رمت الرصاصة في صدر المجرم، لم يكن أبوك على علم بما فعله بابنته ، الحمد لله على كل حال.

 كنت موقنة أني أعرف تلك الرمية، أعرف دقتها، لم تكن سوى رمية محمد، ولم تكن رميته يوما طائشة تخطئ الهدف، فجأة وعمك رابح يقف فوق الشعرة الرفيعة انطلق طلق ناري من فجوة ما في بطن القرية، من بين سطور التين الشوكي، حيث سال دم الصغيرة فتيحة ودم أختك على أيدي الوحوش، من بين جذوع التينة العتيقة، من مغارة الطين حيث تجلب النساء مادتهن لصنع الأواني، من مكان ما قريب، انطلقت زخات الرصاص.

 كانت تلك قذفته، أعرف هويتها، أعرفها منذ زمن المقلاع، منذ أيام الثلج الطويلة، منذ صيد الأرانب والحمام، أعرف رميته كما أعرف ملمس أصابعه الخشنة، وأعرف نظرة عينه نصف المغمضة، أعرف كيف يصوب نحو الهدف، وكيف أردى جرو زغماش.

 فوق بساط الثلج السميك، تقدمت أسراب الحمام الجائع بأقدامها الصغيرة الحمراء، وبأعينها الدقيقة، كانت مدفوعة بغريزة الجوع القاتلة، نحو حبات الشعير المنثورة بعناية. كان محمد رابضا بين أغصان شجرة التين العارية ويده اليسرى على الحامل الخشبي واليمنى تحكم إمساك الجلدة التي تغطي الحجر، راح يجذب الخيط المطاطي بقوة، بقوة أكبر، كنا نكتم أنفاسنا، إنه اختباره، اختبار الرجولة، فجأة طار السرب في الأفق محدثا حركة وصوت خفق الأجنحة، وقهقه محمد بصوت عال وعدا الكلب سحاب، يتبعه محمد : حمامتان، حمامتان بضربة واحدة، الموس الموس.

 تطرق أمي نحو الأرض، ترفع رأسها ببطء نحو شجرة التين،حيث تعلقت آمالها منذ زمن بعيد، تطلق بصرها نحو الأفق، نحو جبل فالي أو ما كان يسمى بجبل فالي، حيث النباتات الكثيفة، واللوز البري، إن المسافة بعيدة ولكن أمي تقرأ خارطة المكان، هناك في قلب الحجر أشجار من اللوز المر وتحتها شجيرات التين البري، عند أقدام الجبل تتدلى حبات عنب الذئب الحمراء الطازجة، آه لو كنت أقدر على جولة في ذاك الجبل العتيد، وأعدو مثل مهرة، الحمد لله لقد شبعنا، لم يعد الجوع يربض عند عتبات بيوتنا، صار الأطفال يذهبون نحو المدارس، بعض الأجيال محظوظة، لأنها لم تعش تلك الآلام.

 ــ لكل جيل آلامه يا أمي.

 ــ نعم ولكن الألم طبقات.

 أستغرب الآن كيف قدرنا على استنزاف تلك السنوات في الألم ، هل نحن قادرون على مضغ تلك المرارة ؟ هل نحن قادرون على النسيان؟ أنا لا لن أنسى حتى يضمني التراب، وحتى أقف بين يدي الله وأطلب منه أن يحرق جوزيف رومان الذي أحرق ابنتي، هل فهمت الآن يا خالد؟ هل فهمت الآن يا ابني؟ نحن نخجل بمثل هذا الحديث، ولكني في الوقت ذاته أخاف أن أدفن الحقيقة معي، فأكون قد خنت محمدا، وخنت نفسي في وقت الرخاء.

 أتساءل ما الذي يمنعها من تعرية الحقيقة؟ وهل هناك ما يمنع الثمار الناضجة من السقوط؟ دعها تسقط من تلقاء نفسها، دع المشمش الأصفر يسقط من تلقاء نفسه، لا تتعب نفسك باعتلاء أغصان الشجرة، إلى أن يحين الحين. ثم إلى متى تستطيع أمي حماية سرها ومقاومته في الوقت ذاته؟ هي من أرسلت في طلبي، ولم تقل شيئا ذا بال ماعدا حكاياتها وقد سمعتها كذا مرة. لا ، لا ، لن تضمن حماية سرها، وأنا أرى الآلة الرهيبة التي في فمها صارت تتحرك، طبعا يتعلق الأمر بحورية ، يمكنني ربط أجزاء القصة. لكن الأهم أن تواجه أمي المرآة التي تقبع بداخلها ولا شيء سيمنعها من الإضاءة.

 3 -
 في ذلك اليوم كان البكاء عملا مضادا للطبيعة.
في ذلك اليوم الضاحك المكلل بندى طازج، غنت الطيور ورقصت الأشجار وأمالت أعناقها فتجاوبت الفواكه استجابة للرقص والغناء والزغاريد التي اكتسحت الوطن نعم لقد سمعنا الغناء الهادر ورقصات الخيل ورنات البارود، كل شيء غنى، حتى الحجارة. فكيف يعن لها البكاء؟ في مثل هذه الحالة يبدو البكاء عملا مضادا للحياة، في مثل هذا اليوم الذي غنى فيه كل شيء، كل شيء البر والبحر والأرض والسماء.

 صحيح أن البكاء حق مكفول بالطبيعة إلا أنه في مثل هذه الحالة صار أشبه بعمل تخريبي يشوه لذة الإحساس بالنصر، وكان عزاء ذهبية النمرة:" لقد فقدنا الأحبة واستعدنا الوطن"، وبدا لها القمر بين الأشجار وكأنه تأذى وظهرت على وجهه الجروح والخدوش، كأنما ظهر فقط لأنه مجبر على الحضور، وليس ليزين وجوده أو يشرق فحسب، طردت الهاجس اللعين ونظرت إلى القمر المتلألئ يرنو نحوها. همست ذهبية لنفسها : " اليوم هناك ما هو أهم من الحزن ومن الدموع ومن كل العاهات الأخرى التي خلفتها الحرب، هناك درب مرسوم بالنور، وهاهو يبتسم للعابرين، درب من نور يفرد جناحيه للعابرين . هتفت ذهبية أعطوني الراية يا إخوان، وتقدمت الصفوف هاتفة :

 إخواني لا تنساو شهداكم

 في البيت تمتمت ذهبية النمرة : ليس الاستقلال بعقيم، فهو فضلا عن كونه استقلالا نور تبدد في الأفق، وهو سيمنح طفليها ــ كما بقية الناس ــ الشفاء والفرح، اليتم ليس في الوطن الحر. لا شك سيتكفل الاستقلال ببقية المهام الأخرى: تدفق نهر الحياة يسري أمامها:هاهو محمد يعود متسللا إلى البيت، لقد عاد اليوم وحده، عاد لأجلها هي، وهاهي تعد الفراش وتضع قليلا من الكحل في عينيها، لن تخبره بما حدث لابنته، لن تخبره أبدا، يكفي أنه قتل شايب الراس اللعين، لقد أخذ بثأره دون أن يدري، قلب المؤمن دليله. عندما افترقوا عند أقدام الجبل رابح نحو الأعلى وهي نحو القرية ، أما هو فاتخذ سبيلا آخر، عمل دورة كاملة تحسس فيها أنفاس العدو وهدير آلياته، رافق الليل، وبين الظلال الخافتة وفي عمق شعبة الذئب برز غريمه، بدا هرما وأشيب الشعر وبالكاد يقوى على مد رجليه، الزمن أيضا عبث بقامته المديدة صار مثل وسادة خاوية، نظر إلي بعينين ضارعتين وسمعته يهمس:

 ــ انظر يا صاحبي ما فعلته بنا الحرب، نحن نهلك من الجوع، لقد انقرضت السلالة، وهاهو زغماش ، نعم زغماش الذي تعرف، عار من الكبرياء، قهرتني المسافات تحت الريح والمطر، أذلني الجوع يا صاحبي وأنهك قواي، لم أعد سيد الجبل والغابة كما تعرف، أنا اليوم أذل من نعجة، صرت أخاف من ظلي.

ــ قلت له : ستفرج قريبا، وعندما تعود أرضنا ستنعم أنت أيضا بالدفء والحرية، ألست ابن هذه الأرض؟

ــ بلى، ولكن أخاف ألا أرى ذلك اليوم، أجل أخاف ألا أبلغ يوم الفرح، وأخاف أن أموت من السعادة، ومن شدة سطوع الشمس. لقد أجبرتني الحرب على العيش في الظلام، فأنهكت بصري. سامحني يا صاحبي، لقد غدرت بك، وامتدت يدي إلى قطيعك، كان ذلك طيش الشباب، سامحني أرجوك. ومد خطمه ولامس رجلي.

ــ سامحني أنت أيضا، لقد قتلت فلذة كبدك، كنت بلا رحمة وبلا قلب، وصدقني يوم ولد طفلي الأول ذكرت دموعك، ذكرت حرقة قلبك ذكرت عواءك، سامحني إنه طيش الشباب.

 همس أبوك في أذني:

ــ لاشك أنها الساعة، لا أدري إن كنت سألقاكم بعد اليوم، لقد ودعني زغماش، قال إنه لم يعد قادرا على الانتظار، وقال إن نداء خفيا يناديه، أتعلمين أنا وهو متعادلان، لئن رحل زغماش فلن تقوم لي قائمة، لقد عرفته قبل زمن طويل ، قبل حتى ذهابي إلى الحرب لقتال الألمان، وكانت سلالاته، تعرف رائحتي بالفطرة، فلم تعترض سبيلي منذ الهدنة التي أبرمناها، لقد لقيته يا ذهبية، إنه هو زغماش رفيقي، لا شك عاد ليأخذني، لقد عاش حرا، أتعلمين لقد عاش حرا، بين السهول والجبال، نعم عاش حرا وأنا أيضا.

 ودعني عند منتصف الليل وشق طريق الجبل، تلك الطريق التي يعرفها كما يعرف بيته، وكما يعرف كيس الكسرة ومربط البقرة وشكوة اللبن، يعرف تلك الطريق كما يعرف أبناءه واحدا واحدا نوارة بظفائرها الطويلة وعينيها اللوزيتين وخالد بقامته المديدة وحاجبيه الكثين وعينيه السوداوين، يقول لي : إن خالد مثل جده، أبي الطالب، أتمنى أن يكون بمثل ذكائه وكرمه، كان أبي سيد الرجال وأتمنى أن يكون ابني كذلك، فأقول وأنت سيد الرجال، لا لست مثل أبي، سيدي الطالب كان رجلا حقا.

 كنت أعرف أنه يسير على حد السكين، بين النار والنار، فوق الحافة المسننة مثل الشعرة ومثل حدة الصراط ، وأن روحه تهوم فوق كتفه تارة وفوق الأشجار تارة أخرى وفي السماء، كنت في كل وقت أرى كفنه الأخضر يهتز أمامي عند ساعات الفجر الأولى، ويهب نسيم المسك فتلفح وجهي أنفاس معطرة، ويخيل لي أني رأيت محمدا، أجل رأيته، لكن عصفورا أخضر يحط فوق شجرة التين وينفض جناحيه بخفة ثم يحلق في السماء، وكان وجهه مثل وجه محمد ومنقاره الدقيق كأنه أنفه. ولكن الأعمار بيد الله والموت حق، ومحمد مازال حي يرزق، لم يخبرنا أحد عن إصابته أو مقتله، منذ غادر بعد مقتل شايب الراس وبعد التمشيط الكاسح والدخان واللهيب الذي التهم القرية، لم يظهر محمد بعدها أبدا، منذ لقائه زغماش.

ــ قال لي : لقد جاءني بالبشرى. وابتسم

ــ سألقى الله شهيدا.

ــ إذا حصل ذلك زغردي ملء حلقك وملء فمك، لعلعي كأنما شربت عسل النحل، لا تنسي هذا، إنها وصيتي.

 أطلقت زغرودة طويلة طويلة بين الدموع والذكريات والجراح، كانت صافية مثل جدول جبل كاف الحمام قادمة من مرتفعات الثلج.، تخترق الأفق،بحيث التفت أهل القرية وابتسموا : إنها زغرودة ذهبية، ومن لا يعرف تلك الزغرودة فهو لا يعرف كاف الحمام.

 حورية بنت نوارة.

 1 ــ

تلقى أحمد و سارة بنجامين مكالمة من خالد، يدعوهما للذهاب إلى كاف الحمام ثمة امرأة تريد مقابلتها.

في بيت ذهبية التي كانت طريحة الفراش تشكو من صداع حاد ومن ارتفاع الطنين، قاد خالد امرأة في منتصف العمر، نظرت سارة بإمعان إلى المرأة التي تفي بمواصفات العانس، طويلة مثل شجيرة سرو وفارغة كأن الزمن جردها من علامات الأنوثة، لو سمعت ذهبية هذه الجملة لصححتها على الفور إن رومان وعصبته هم من جردها من علامات الأنوثة، قطفوا زهرة شبابها ولاذوا بالفرار وخلفوها في مواجهة الموت، نظرت إلينا كالسائرة في نومها وقد احتضنت بين ذراعيها دمية من قماش. أجلسها أخوها على المطرح الصوفي. ــ هذه هي نوارة، منذ روت لها أمي قصتك ازدادت حالتها تدهورا، المسكينة منذ الحادث اللعين ــ بالمناسبة هل استمعتم للتسجيل؟ ــ

ــ بالتأكيد

 قلت منذ الحادث اللعين وحالتها تتدهور تعاني من حالة فصام، الشيزوفرانيا، سببها لها جرحان اعتداء رومان وجنوده، ثم موت سالم خطيبها وابن عمنا، لقد ردم في الحفرة هو الآخر، قد يكون أبي أيضا ردم هناك ،لأنه لا أحد استطاع التعرف على بقايا الأعضاء المتناثرة، الحقيقة أنه يمكننا إرسال طلب لوزارة المجاهدين بفحص الحمض النووي لنتأكد أنه ردم هناك، ونحدد هوية الضحايا الذين طمروا في التراب.

 ــ إذن هذه هي أمي.

ــ نعم، بالكاد اعترفت أمي، ليس من السهل أن تطعن امرأة مثلها تلك الطعنة، لكن حالة نوارة تدهورت تماما،انظروا إليها، أترين هذه الدمية التي تحملها، إنها تستعين بها في أوقات المرض ، أما في الأيام العادية عندما تستعيد بعضا من توازنها، فإنها تعود لحالتها الطبيعية، وتصوري أنها تقوم بأشغال البيت كأي امرأة عادية، ولا أحد يكاد يصدق أنها تكلم دمية القماش منذ زمن طويل.

 تبدأ حالتها بهبوط حاد ومفاجئ في درجة التعاطي مع الحياة، ويصبح إخراج الكلمات من لسانها مثل اقتلاع ضرس، فتزم شفتيها وتنزوي في الظلام دون أن تتمكن من غلق الباب، عادة يبدأ هذا الهبوط مثل درجة الحرارة في شكل صمت رقيق، ثم يبدأ الظلام زحفه المقدس مسجلا الدرجة الصفر، عندها تتأرجح نوارة بين الوعي واللاوعي، بل قل إنها تكلم الدمية بصوت عال وتضربها وتضمها في الوقت ذاته كأنها تحبها وترفضها، تبكي وتضحك في اللحظة ذاتها. وكان أهم ما يثير مرضها مثل النار الأعراس، كانت لديها حساسية مفرطة من هذه المناسبات وستلاحظ، أن جسدها يتصلب لو أردنا وضع الحناء في يديها. لقد تحولت إلى نوع من الفطريات مخلوق غريب يخشى الضوء كما يخشى الفرح.

 تدخلت أمي بحياء: قد تطول حالتها أسبوع وأسبوعان، في بعض الأحيان تبقى رهينة لحظتها القاتمة، اللحظة التي جعلتها تختبئ مثل القنفد داخل أشواك الظلام، متأهبة دائما للانقضاض، كما لو أن ابنتي الهادئة تحولت إلى قطة شرسة أصابها السعار، وفي مثل تلك الأوقات العصيبة، يبدو له كل من يقف بجوارها أو قبالتها هو عدو بالجوار، هو عدو لأن طيفه لامس كتفها، وعلى الرغم مما سجلته الحياة من تغير، السيارات والمدارس والطرقات والانتخابات والتلفزيون، لقد تغير الزمن ــ أضفت ــ أما في الداخل حيث يقبع أناها الجوهري، حيث يمتد زمانها الحقيقي، فهي مازالت هناك متخفية بين أشجار التين الشوكي، بين ركام القنابل والرصاص، هاهي تنتظر لحظتها الأخيرة ، لاشك أنها استعدت، شهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، رفعت سبابتها اليمنى إلى الأعلى وبقيت تنتظر اللحظة الحاسمة عندما يلمع بريق بين عينيها ويتحول جسدها إلى رماد، مر شريط حياتها القصيرة كاملا، فكرت بأمها وأبيها وأخيها: هل ماتوا؟ بكت بحرقة: وسالم؟ أيكون على قيد الحياة؟ فجأة همد كل شيء، توقف القصف وهدأ أزيز الآلات الملعلة، وخيم صمت وجل، إنه الموت الذي زحف نحو القرية والتهم كل علامات الحياة فيها. بقيت منكمشة مثل هرة مفجوعة، تصطك أسنانها ويرتجف جسدها من أسفله إلى أعلاه، بعد الصمت القاتل سمعت خليطا من الأصوات الغريبة ترطن باللغة الغريبة، ما يشبه خشخشة ثعبان بجانبها، همس يدنو ووقع خطى لئيمة تدنو، لقد شم الثعلب رائحة الحمامة الجريحة، رائحة الأنثى المهجورة، الأنثى التي طالها النسيان بين أشجار التين الشوكي. هل غفت ؟ كم المدة؟ ها هي تربض بين الظلال، وترى بين الأشجار الخطوات وتسمع الأصوات فتكتم أنفاسها. ثم توقف كل شيء فجأة؟ الرصاص والصراخ وطقطقة النار و أزيز الطائرات، لا شك أن القرية استوت بالأرض، وقد همدت الحياة إلا من هذه الخطوات التي تدنو من أنفاسها، وهاهي تتقدم في لا مبالاة نحو عرينها... لا شيء بعدها.

 عندما استفقت من الصدمة بحثت عنها، خيل إلي أنها ميتة، وعندما عثرنا على فتيحة كانت هي هناك على بعد شجيرات تئن بين الحياة والموت، أفبعد هذا يمكن الغفران؟

 ساد صمت ومر سحاب ثقيل وانفجرت قنابل في الذاكرة وعلا أزيز الرصاص وهدير الآليات مصحوبا بالصراخ والعويل والأنات، وانتشرت رائحة الجثث المشوية، ورائحة الرماد وزحف الموت...

 حاولت إسكات صوت الإبادة الطاغي على كل الأصوات، قلت إن نوارة عاشت أبشع أشكال الإكراه، الإكراه بمفهومه المذل للضمير الإنساني، الإكراه بمعناه المخزي، ذاك هو وضعها في الحقيقة وضع الفتاة القاصر. في تلك الظهيرة الواهنة ماتت أحلامها، أعني النور الذي يتسلل وسط الظلام مخترقا حواجز البؤس والحاجة والخوف، قبل تلك الظهيرة، لا شك أنها فكرت وهي تحت وابل الرصاص فكرت فيه، هو بالتحديد سالم، لتحتمي من الخوف سيعلن أهلهما الخطوبة مع فجر الاستقلال، وسينزل والدها من الجبال متوجا بتاج النصر والبطولة وستزغرد أمها طويلا طويلا، وزوجة عمها أيضا، لها زغرودة حارة وحنجرة صداحة، هل سيأتي ذلك اليوم؟ وسيربطون حناء ابن العم في ليلة مقمرة بعد نهاية الحصاد وخزن المحصول، وفي ليلة مقمرة سيرقصون، وسيتوقف صوت الرصاص، وسيرحل الخوف، وينزاح الكابوس عن صدورهم...

ــ هذه هي نوارة.

 ظلت نوارة تقلب عينيها في الفراغ دون أن تحس بوجودنا، تتحسس يداها وجه الدمية، بقلق، تضغط جسدها تارة وتضمها تارة أخرى.

 كانت تلك نوارة، أمي، أبشع دليل على الجريمة. فهل بعد هذا يجتاحنا النسيان؟

 بإمكان الزمن أن يغفر، وهل يحقد البحر على أسماكه، أما نوارة فلا لا يمكنها الغفران، أبدا أبدا، وذاكرة ذهبية النمرة ستظل فائرة مدى الحياة.

ــ فيم تفكرين، سيدة سارة؟

ــ أفكر بالذهاب بعيدا في القضية ، سأطرق جميع الأبواب، سأفتح القبور المنسية، وأدق أبواب المحاكم، على شمس الحق أن تبزغ. في النهاية أنا ابنة وغد وعلي إثبات هذه الحقيقة، لقد ماتت راشيل دون أن تترك آثار قدمي زوجها علي العودة إلى بيتها الريفي والنبش في أوراقها، هل سأصير نسخة عنها، أغرس رأسي في حقيبتها، لأرى أين دفن الرجل الذي لم يبق منه غير تمثال الشمع ، علي فتح علبة التاريخ ، صندوق بنادورا عامرة، آه يا سارة بنجامين وحورية بنت نوارة، من أنت؟ لقاء النار بالنار؟ قدح الحجر بالحجر والرصاص بالرصاص؟ تناطح الجبال كما تقول الجدة ذهبية، لقاء الدم بالدم. الذاكرة الموجوعة، المشحونة مثل قنبلة موقوتة .

ـ

 عزيزي خالد الآن نحن مرغمون على فتح صندوق الذاكرة ، وفتح كثير من القبور المنسية، على الرغم من رائحتها النتنة، أجل بعض القبور على الرغم من تقادم العهد بها ما زالت تفوح منها الرائحة النتنة ، ألتبعد البشر عن النبش فيها ؟ العلم لا يعاف الحقيقة حتى ولو كانت في الفرائس، لهذا لتطمئن يا جوزيف رومان أبي الافتراضي، بأن عظامك ستخرج إلى العراء تحت الشمس، هو قال عن نفسه سجل بأصابعه القذرة في مذكراته، غير المكتملة مشروعه، لا يبدو أسفا،على ما جنت يداه، المجرم، لم يكمل عمله، وكأن الموت كان مستعجلا وقلقا لحضوره على خارطة الحياة، لهذا لم يمهله ليدون تاريخه القذر، ربما لحكمة في ذلك ، رأفة بالناس مثلا من الكوابيس ومن الصدمات النفسية القاتلة، لذلك لم يمهله، كان يجب أن يموت، قبل أن يسفح حبر أفعاله، تلك الأفعال التي تدخله دائرة الانتماء لأكلة لحوم البشر هذه نظرتي أنا ابنته المفترضة، لا هذا لا يجوز، أنا لست ابنته، بل حصيلة قذارته.

 سأتصل بليزا بالبون، لتقدم للمحكمة طلب فحص الحمض النووي، لتقديم الدليل العلمي القاطع ، وإن جاءت النتيجة إيجابية سأعلن تبرئي منه، أجل لأني سأعيش مقهورة بذكرى هذا الأب، إنها أعمال الماء اللعين الذي لم يعرف كيف يضعه في رحم راشيل، ووضعه في أماكن كثيرة. إني أتساءل لعلي لست الوحيدة فربما لدي إخوة وأخوات من يدري، ولا شك هناك حالات مشابهة كثيرة ، ولعلي سأعرض هذا الموضوع في مدونتي أو في منتديات لها صلة .هذا لعلنا سنؤسس جمعية عالمية نسميها " أبناء الحرب، أو إخوة الحرب"

 لقد ذهبت إلى المنزل الريفي، توجهت توا نحو تمثال الشمع، قلبته على وجهه، دفعه محمد حتى سقط، كنت موقنة أن سرا ما يرقد هناك، أتدري علام حصلت؟ يمكنك أن تخمن، لقد حصلت على دفتر مذكرات، دفتر غير مكتمل بخط يده الأعوج المشوش، يعترف فيه بكل تلك الجرائم التي اقترفها، إنها سلسلة غير منتهية، وكما ذكرت لك فالموت لم يمهله ليكمل تدوين بقية الجرائم الأخرى رأفة بأمثالنا ربما.

 أعتقد أنني قد وجدت كل أدلة الإدانة، على الذاكرة أن تشفى من أوجاعها المزمنة.

 ماذا أقول ؟ كان أعسر الدروب وأيسر الدروب، كان أقصر الدروب وأطول الدروب، ذاك الدرب المفضي إلى الذات، أليس كذلك يا خالد؟

 مع تحياتي: حورية بنت نوارة.

 مارسييليا 15 / 1/ 2003 .

 

خالـــــد
ــ الآن أعترف أنا خالد بن محمد بن مالك وذهبية النمرة، الأستاذ بجامعة قسنطينة ، بأن تخصصي في التاريخ لم يكن نزوة فحسب، ولكنه وفاء لخطى أبي وأمي وأختي نوارة وابنتها حورية وخالتي عيشة وعمي رابح وابنه سالم والطفلة فتيحة وغيرهم وغيرهم من الأبطال والشهداء من الأسماء المعلنة والمجهولة، لقد وهبتني كل هذه الأرواح المادة الكافية لا لتغطية الملتقى ولكن لإنجاز سلسلة من الكتب تحت عنوان: سلسلة سفود الذاكرة.

 هذا أقل دين أسدده لهم ولكل الذين سقطوا عندما هبت رياح الحرية على أرض الجزائر.

 همست أمي : تسلقنا صخرة الصبر ألا نستحق الجنة؟ ثم راحت تدندن أغنيتها المفضلة، في الوقت الذي كنت أخط فيه هذا الكلام:

 إخواني لاتنساو شهداكم.

 إخواني لا تنساو شهداكم.

 بينما حدقت نوارة في الفراغ، وابتسمت.