يقدم المؤلف سرداً مهماً في تطور فن المنمنمات الإسلامية، باحثاً في تقديمه للكتاب عن رؤية الإسلام للتصوير وتحريمه. والمنمنمة ليست رسماً يتجاوز متن «الكتاب المصوَّر»، بل مدرَجة كجزء من النص ذاته، والمثال الأدنى قرباً منّا القصص الخرافية المرسومة.

فونتانا في كتابه «المنمنمات الإسلامية»

بحثاً عن جذور الفن، الأصول، والتحولات

صـفاء ذيـاب

يقدم الكاتب ماريا فيتوريا فونتانا سياحة تاريخية وفنية بحثاً عن تاريخ وتطور فن المنمنمات في الإسلام، ففي كتابه (المنمنمات الإسلامية) الذي ترجمه الدكتور عز الدين عناية، وصدر ضمن منشورات مجلة الكوفة المحكَّمة بالتعاون مع دار التنوير في بيروت، يشير فونتانا أن خلف هذا الفن يتوارى مفهومٌ عميقٌ، يسمح لنا بتقديم إجابات عدة، إذ يرتبط هذا الفن شديد الارتباط، بمختلف وظائفه وبشتى استعمالاته.

فونتانا يعرف المنمنمات بأنه فنّ توشيح النصوص بواسطة التصاوير، لكن ذلك ليس كل ما في الأمر: فالمنمنمة ليست رسماً يتجاوز متن «الكتاب المصوَّر»، بل هي مدرَجة- كما هو شأن الصور التي تصاحب المطويات لشرح كتالوغات المعارض- كجزء من النص ذاته، والمثال الأدنى قرباً منّا القصص الخرافية المرسومة.

المنمنمة، من وجهة نظر فونتانا، تعيد عرض مضمون النص بشكل مرئي، من خلال وظيفتيْ رسم النص وتأويله، بواسطة صورة تجعل المفاهيم المدرَجة أكثر إفادة، لكنها في الوقت ذاته تقيّد القارئ وتدفع به نحو مسار محدد في القراءة، وبالتالي تحدّ من قدرات التخيّل لديه… وبعبارة أخرى، تتيح المنمنمة إمكانيةً ثانيةً للتوسّط بين النص والقارئ، ففي الوقت الذي تتوسّط فيه العبارة وحدها مع الكاتب، فإن المصوِّر يمكن أن يتوسط- في مختلف طبعات الكتاب، وبتعاقب السنين وعلى مرّ القرون- عبر الصورة أيضاً: إذ تأخذ التصاوير وظائف التعليم والحكي في الوقت ذاته.

يقدم المؤلف سرداً مهماً في تطور فن المنمنمات الإسلامية، باحثاً في تقديمه للكتاب عن رؤية الإسلام للتصوير وتحريمه، خصوصاً أن الرؤية الإسلامية تنظر لكل رسم بإعتباره تصويراً، وهو يدخل ضمن الحرام والحلام، فكيفما كانت الأعمال، منمنمات أو رسوماً على الجدران، فإنه ينبغي تصنيفها في عداد التصاوير، لا سيما وأن الرسوم الجدارية المتبقية قليلة العدد، وهذه من وجهة نظر بعض علماء الإسلام، الذين يشيرون إلى أن المصوَّر، وعلى خلاف النحات، «لا يخلف وراءه ظلالاً»، وبالتالي لا يتمتع بميزة البعد الثلاثي، ما يجعله أقل خطورة من النحت، وهو ما يفسر سعة انتشاره في بلاد الإسلام مقارنة بالنحت.

أما عن مصادر المنمنمات الإسلامية فقد قدم المؤلف عرضاً للفتوحات الإسلامية، إذ أخذ العرب أفكار هذه المنمنمات من المواطنين الأصليين في دمشق والقدس ومصر، مبيناً أنه مما لا شك فيه أن كثيراً من المنمنمات الإسلامية استلهمت أصولها الفنية من التصوير الوارد من تلك الحضارات العريقة، فضلاً عن استلهام قسم منها التعبيرات الفنية الراقية لدى العرب أنفسهم، سواء القاطنين منهم في بعض نواحي شبه الجزيرة العربية أو من الذين هاجروا في اتجاه سوريا وبلاد الرافدين، حتى وإن كانت تلك التعبيرات الفنية محدودة الشهرة.

في الفصل الأول من الكتاب (أصول التصوير) يطرح فونتانا أهم الأصول المؤسسة للمنمنمات الإسلامية، فقد كانت الأدوات الأساسية المستعمَلة في تزويق المخطوط اثنتين: قلم القصب أو نصاب ريش الإوزّ والمرقاش، إذ تسمح الأداة الأولى للمصوّر بتنفيذ رسم الصورة، بقياسات متدرّجة الأحجام بحسب ما تمليه الحاجة، والثانية المتكونة من وبر الحيوان، فهي تمثل أداة التصوير الحقيقية والفعلية، وقد كانت متوفرة بأشكال وأحجام متنوعة. في حين اعتمدت تقنية التصوير المتّبعة، وبشكل عام، اعتماداً رئيسياً على الأصباغ، المستخلَصة من خلطِ مواد معدنية ممزوجة بلصق عضوي: حيث يُستخلص اللون الأحمر من أكسيد الكبريت والزئبق، والأزرق من حجر اللازورد، وعلى نحو مبالغ تُستَخدم بعض المدارس الذهبَ… وعادة ما تُستعمَل تلك الأصباغ على الورق، وهي تقنية شائعة الاستعمال في الغرب أيضاً، وتتمّ بواسطة تقنيات معقَّدة، حيث يُحوَّل المعدن إلى رقائق في منتهى الصغر جاهزة للاستعمال، وفي بعض الحالات يُطلى الذهب بالفرشاة بعد تذويبه.

أما المصورون أو المنمنمون الذين اشتغلوا في تنفيذ المنمنمات فما كانوا قلة، إذ شيّدت بعض الأسماء مدارس، لاسيما في الأوساط الفارسية التي حازت قصب السبق، في وقت شهدت فيه بلاد الرافدين تماثلاً تاريخياً نسبياً بما يوازي ما عرفته سوريا ومصر في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، لكن يبقى التنافس الحقيقي للمدرسة الفارسية قائماً مع نظيرتها العثمانية، التي استوحت منها براعة الإتقان دون أن تضاهيها… ويذكر فونتانا بعض الأسماء التي أطبقت شهرتها الآفاق مثل بهزاد ورضا عباسي ومحمد زمان، كما نجد توقيعاً آخر مدعاة لكثير من الجدل، يُرجَّح أنه عائد إلى فضاء آسيا الوسطى لسياه قلم، المعروف بمسحته الفنية المشحونة بطابع الاضطراب والحيرة.

وفي بحثه عن المخطوطات الأولى، يشير فونتانا إلى أن المخطوط الإسلامي الأول المصوَّر الذي وردتنا أخباره، ولم ينج من التلف، هو وصفٌ لملوك ساسان ولأعمالهم الواردة في تصاوير الملوك الخمسة والعشرين وفي رسمي الملكتين. النسخة ذاتها، أو النسختان، ورد حديث بشأنها لدى المسعودي والأصطخري… يروي لنا الأول أنه شاهد المصنّف في بيت أحد أعيان اصطخر خلال العام 915، يصف لنا المنمنمتين الأولى والأخيرة من جملة المنمنمات البالغ عددها سبعاً وعشرين (صُوِّرت بالاستعانة بتصاوير أخرى أُخذت لكل ملك على حدة ثم أُنجزت عقب وفاته) ويوضح أن العمل اعتمد في الأساس الوثائق التي تم العثور عليها في مخازن المحفوظات الفارسية للمدينة، التي تعود إلى العام 731، وقد تُرجمت من الفارسية إلى العربية بأمر من الخليفة هشام بن عبد الملك.

مدارس المنمنمات الإسلامية كثيرة، منها المدرسة المصرية: قبل الحقبة الفاطمية وأثناءها، والمدرسة الغربية: شمال أفريقيا وإسبانيا خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، والمدرسة العباسية: بغداد من أواخر القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر، ومدرسة الأراتقة، ومدرسة السلاجقة، والمدرسة السورية، المدرسة المملوكية، والمدرسة التركمانية: تبريز- شيراز- بغداد، والمدرسة الشيبانية في بخارى، والمدرسة الصفوية، والمدرسة العثمانية… وغيرها الكثير من المدارس.

بقي من المدرسة المصرية الفاطمية (على الورق وعلى الجدران على حدّ سواء) رسوم الكابيلا بلاتينا التي يعدها الدارسون أروع ما تبقى من الإنجازات الفاطمية. في حين كان في مدرسة بغداد ابن النديم، وهو ورّاق عاش في منتهى القرن العاشر، دوَّن فهرست بالمؤلفات التي بحوزته: «ما كانت المؤلفات في مجملها مخطوطات مصورة، غير أنه يذكر من بينها نسخة من (رسالة في الكواكب الثابتة) للصوفي، ولا يشير ابن النديم إلى المخطوط الأصلي المفقود اليوم، لكن بدون شك إلى مؤلّف معاصر له لا يتّفق مع النسخة التي سبق ذكرها، وهي الأقدم مما بحوزتنا»… حقبة طويلة من الزمن تفصل هذه الأخيرة، التي تعود إلى العقد الأول من القرن الحادي عشر، عن اللاحقة التي وصلت إلينا، والتي تنتمي إلى القرن الثاني عشر.

أعدّت مدرسة بغداد مصنفات علمية وأدبية كثيرة، فنجد في الصنف الأول نسخاً عًربية من كتاب (الحشائش والأدوية) لديوسقوريدس.. وهناك نسخة منقوصة موجودة في الوقت الحالي في المكتبة السليمانية في أسطنبول: «اُنتزعت منها وبيعت إحدى وثلاثون منمنمة، أشهرها تلك التي تصور الصيدلية، وهي في متحف متروبوليتان في نيويورك».

في حين أُعدَّت في ظلّ الحكم الأيوبي في ماردين سنة 1135، نسخةٌ من (كتاب صور الكواكب الثابتة) للصوفي، تعود لمدرسة الأراتقة، وهي اليوم مودعةٌ في المكتبة السليمانية في أسطنبول، يُرجَّح أن نصر الدين محمود من بني أرتق (1201- 1222)، حين أقام في ديار بكر، كلّف مهندسه الخاص الجزري وخادم بني أرتق منذ زمن، بين العام 1198- 1200، بتصنيف (كتاب في معرفة الحيل الهندسية) وقد بلغ إلينا من هذا المؤلَّف خمسة عشر مخطوطاً.

في حين تميزت إيران وبلاد الأناضول خلال القرن الثاني عشر بإنجاز المخطوط السلجوقي المصوَّر والأكثر قدماً المحتفظ به حتى أيامنا، وهو نسخة من كتاب (ورقه وكلشاه) لعيوقي، وهو النسخة الفارسية من قصة حبّ تراجيدية لشاعر مسلم، ورد ذكرها في المجلد العشرين من (كتاب الأغاني). المخطوط في الوقت الحالي محفوظ بمكتبة طوب قابو سراي في اسطنبول.

الحواضر الإسلامية التي كانت معنية بالمنمنمات كثيرة، وكانت مدينة الموصل خلال القرن الثالث عشر إحداها، ويؤكد فونتانا أن الشغل الشاغل لمدرسة الموصل كان حرصها الدائم على إنجاز تصاوير المخطوطات ذات الطابع العلمي، ومنها (كتاب الترياق) الذي ينتمي إلى أواخر القرن الثاني عشر، وهو من المؤلفات المنحولة المنسوبة إلى جالينوس، يعود تاريخ المخطوط إلى العام1199، وهو مودع حالياً في المكتبة الوطنية الفرنسية في باريس.

كما نعثر على نسخة أخرى من العمل يُرجَّح إنجازها في الموصل أيضاً، حوالي منتصف القرن الثالث عشر، وهي مودعة في المكتبة الوطنية في فيينا؛ نتابع في (الورقة 15ر) صوراً لأفراد وهم جلوس مشغولون بالتطلع في كتاب، تسعة صنّاع للترياق (علاج نهش الزواحف السامة). فضلاً عن أن مدرسة الموصل أنجزت، بين العام 1217 والعام 1219، النسخةَ المصورةَ التي بحوزتنا، وهي تضم عشرين مجلداً من (كتاب الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني «انتهى صاحبه من تدوينه في النصف الأول من القرن العاشر»، وقد أُعدَّ المخطوط لفائدة مكتبة بدر الدين لؤلؤ (أتابكة الموصل من 1222إلى 1259).

المدرسة العثمانية كانت من أكثر المدارس استمراراً في إنجاز التصاوير والمنمنمات الإسلامية، كان ذلك بسبب محمد الفاتح الذي يمثل شخصية محورية في تاريخ الإمبراطورية العثمانية، ليس في المجال السياسي فحسب، بل في المجال الثقافي أيضاً، إذ دفعه شغفه العميق بالفنون والآداب الأوروبية باتجاه هوس جارف، جعله يجلب إلى بلاطه حشوداً من الفنانين ومن صنّاع الأوسمة والنياشين، من بينهم جنتيلي بلليني، الموفد الرسمي إلى اسطنبول من جمهورية البندقية سنة 1479، وعلى يده تمّ رسم محمد الفاتح على هيئة ملك أوروبي، ما فتئ الرواق الوطني في لندن يحتفظ بأنموذج من تلك الرسوم من إعداد بلليني، وفي الواقع عَهَد بإنجاز صوره إلى رسامين عثمانيين أيضاً، مثل سنان بك الذي تبقى لنا من أعماله رسم لا يستلهم فيه الطراز الأوروبي، وهو ضمن موقع في مكتبة طوب قابو سراي في اسطنبول. الفاتح كان على غرار نظرائه من قادة الدول الأوروبية في عصره، مثل لورانسو دي ميديشي، كان يقرض الشعر ومولعاً بالأدب والتاريخ.

وفي أدرنه، العاصمة العثمانية الثانية بعد بورصة، فقد تم إنشاء مرسم احتضنه القصر السلطاني، تميّز بنشاطه الحثيث، وإليه تعود العديد من المؤلفات المصورة، من بينها رسالة في الموسيقى بعنوان (مقاصد

الألحان) تحمل تاريخ 1434- 1435، مهداة إلى مراد الثاني 1421- 1444؛ 1446- 1451، وهي مودعة في الوقت الحالي في مكتبة طوب قابو سراي في اسطنبول.

الكتاب كان سياحة في تاريخ الفنون الإسلامية والتصاوير التي عرف في الفن الإسلامي، وتحولات هذا الفن عبر المدن والممالك، وقد ختم الكتاب بملحق صور لمنمنمات من أزمنة مختلفة.

 

ماريا فيتوريا فونتانا: «المنمنمات الإسلامية»

ترجمة: د. عز الدين عناية

منشورات مجلة الكوفة، دار التنوير، 2015

212 صفحة