يشير الناقد إلى أن قصيدة الشاعرة مشتبكة بالإنسان (الذات والآخر)، همها الجملة الشعرية كبنية موسيقية مكتفية بذاتها، وتتميز بتفاعل السمعي مع البصري، والتلاعب مع الصمت والصوت إلى أن انقسمت في زمن الكتابة إلى أبيات مضادة تشكلها فراغات تبادل المكتوب غواية وإغراء متماديين.

أمينة غتامي صوت شعري نسائي مغربي متميز

محمد محقق

تعتبر أمينة غتامي من الأصوات الشعرية النسائية المغربية التي بدأت تلفت إليها الأنظار. وقد أغنت مؤخرا الساحة المغربية بديوانها الجديد (تغاريد الروح) الصادر عن دار الوطن، والذي يضم بين دفتيه 41 قصيدة من قصيدة النثر. موزعة ما بين البوح وسؤال الذات، والشكوى، ومناجاة الآخر. ولا تخلو هذه القصائد من نفس وحس شعريين، وصور شعرية جميلة.

وقصائد الشاعرة أمينة غتامي تبرز صورة الإنسان من جانبين: صورة الإنسان (الذات)، وصورة الإنسان (الآخر). فقصيدة النثر عندها كقصيدة شعرية اقتربت من ذاتها ومن واقع الإنسان، فنقلت عبرها همومها وهمومه، وآلامها وآلامه، وقضاياه عبر لوحات شعرية لا تخلو من عذوبة وفنية. كما أن قصائدها قيلت في أغلبها بضمير المتكلم، وهذا الضمير تشعبت نواته ليحمل عمقا ذاتيا وإنسانيا.

والشاعرة أمينة غتامي اهتمت بالجملة الشعرية، والتي هي:" بنية موسيقية أكبر من السطر وإن ظلت محتفظة بكل خصائصه، وقد تمتد أحيانا إلى خمسة أسطر أو أكثر. لكنها تظل بنية موسيقية مكتفية بذاتها"(1).

كما أن هذه الجملة الشعرية تميزت بلعبة البياض والسواد، فالبياض يمثل الصمت، والسواد يرمز إلى الصوت.والقصيدة في زمن الكتابة انقسمت " إلى أبيات مضادة تشكلها فراغات تبادل المكتوب غواية وإغراء متماديين في إعادة بناء نص له التوازي بين البياض والسواد"(2). وبذلك أصبح البياض في الصفحة عنصرا أساسيا في إنتاج دلالة النص الشعري.ذلك أن القارئ يعيد في كل مرة يقرأ فيها النص ملء الفراغ بما يراه. فليس هذا الفراغ بريئا أو عملا محايدا أو فضاء مفروضا على النص بقدر ما هو عمل واع ومظهر من مظاهر الإبداع، وسبب لوجود النص وحياته، و"وقفة البياض في نهاية سطر الصفحة، أو في وسطها إعلان عن تفاعل الصمت مع الكلام وتفاعل البصري مع السمعي في بناء إيقاع النص"(3).

الأمر يبدو متناقضا حين الادعاء بأن هذا الصمت هو رفض للكلام ولكنه في الوقت نفسه نوع من الكلام.الا يعد البياض الذي يرمز إلى الصمت " في التجربة الشعرية المعاصرة وسيلة من وسائل توفير الإيحاء وتوصيل الدلالة عن طريق الصراع الحاد القائم بين الخط والفراغ، أي بين الأسود والأبيض"(4).

إن شاعرتنا أمينة غتامي من خلال لعبة البياض والسواد وجدليتهما، تعيش قلقا وجوديا يتمثل في هذه الجدلية المتنوعة والمتعددة. ومن ثمة يتمدد السواد أو يتقلص، فلا تجد شاعرتنا غير القيام في ظل هذا القلق بتوزيعية فنية وجمالية لهذه الجدلية، وبالتالي تتحكم في توزيع الدلالة بين البياض والسواد، والتوغل بهذا التوزيع اللامتناهي إلى أعماق القارئ كي تزلزل فيه مكامن الاطمئنان وتدفعه إلى القلق معها.

ما أنها بلعبة البياض والسواد هذه، غيبت بدايات البيت الشعري ونهاياته. وهذا ما أعطى لشعرها فنية وجمالية مقولتين.

ما أنها في شعرها لم تعبأ بالقافية لأنها تعتبرها نوعا من الرتابة والتكلف والتصنع، الذي يمس القصيدة الشعرية، وهذا أفقد مجموعة من المزايا الموسيقية في شعرها، وأغرقها في نثرية باردة.

لكن في مقابل ذلك، اعتمدت على القافية المسترسلة المتحررة من أي التزام قافوي، لتحقيق الإيقاع الداخلي.

ولذا اعتمدت الشاعرة أمينة غتامي في شعرها أسلوبا فنيا يعتمد على تخير اللفظ، وتجنب الحوشي الغليظ منه. ومن ثمة اهتمت في قصائدها ببنية اللفظ الصوتية، وهذا خلق نوعا من الانسجام الإيقاعي والتجانس الصوتي.

إن العوم في شعر أمينة غتامي هو نوع من المتعة واللذة الشعريتين الجملتين.

ففي قصيدة (غرق) والتي تقول فيها:

تلاحقني غيوم المدينة

أياد عارية

تقرأ روائح الأرض

مزيجا من تبغ ونعناع

وعرق دبق

يبتكر فضاءه ليتنفس

يتقرفص

المجهول فوق اللامجهول

كألواح ثلج

تتماهى في كتلة الصمت

تستلني من يقيني

لأغرق

في صهيرة الملح واليود

فالتشكيل الشعري يتحرك في هذا المقطع وقف مسار زمني يتحدد بالأفعال (تلاحقني، تقرأ، يبتكر، يتقرفص، تتماهى، أغرق، أقطع)، والمرتبطة في دلالتها بالحاضر وهذا الاستهلال بأفعال في بداية القصيدة يتم عن حركة انفعالية سارية في جسدها.

كما تبين الأفعال التالية (أغرق، أقطع، تطويني، يتسللون، تتدافع، أضيع) الشعور بالضياع، والاضطراب الداخلي الذي تعانيه الذات الشاعرة.

وفي قصيدة (يقين الشك)، والتي تقول فيها:

كم أنست من شذاك يقينا

يحملني معراجه المتوهج

فوق عتمة الأوهام

أعرف أين ألقاك

كلما أنكرني ظلي

وأصابني هاجس الحرف

بمس

يستلني من شكي

فأستقوي

بما انشق منك عني

وأمضي..

صرخة شمس

آيلة للبوح

وفي مطلع هذه القصيدة تنتقل الذات الشاعرة إلى الذهول والاندحار إلى مباطن الشك والسؤال والتردي. وتبدأ الحركة في وجهها الثاني والآخر، عبر أفعال مادية وظفت كردة فعل، وتجلت في الأفعال (أنست، يحملني، أنكرني، أصابني، يستلني، أمضي) وكلها تدل على حركة فيها وجع وجراح للذات الشاعرة تثير القلق والغضب، والتفاعل مع الواقع ومجرياته.

وما يميز شعر المبدعة أمينة غتامي هو الصورة الكلية التي تشكل في شعرها بنية متغيرة ومتحركة. فهي في قصائدها " مجموعة من الصور الجزئية التي تطل علينا من خلال تشبيه أو استعارة أو مجاز أو إيحاءات كلمة رامزة أو أصوات متناغمة، كل ذلك ينتظم بواسطة علاقات حية نابضة بإيقاع يقوم على التقابل أو التوازن أو التضاد أو التدرج"(5).

وقد عملت على انتظام وتنظيم هذه العلاقات وترسيخها بواسطة الخيال واللغة الحالمة، والظلال الدلالية والحي الشعري.

وهذا ما جعل القصيدة عند أمينة غتامي تتميز بالثراء الحركي، والتحول والدينامية. وهذا ما يحقق لفن القصيدة وجمالها "تلاؤمه الكامل وانسجامه التام مع حركة القصيدة التي تولد في تناميها المستمر طاقات جديدة، وتتكشف عن رؤى وأفكار وأخيلة يرتفع بها الإيقاع إلى مرتبة نموذجية في قيمتها الشعرية"(6).

وفي قصيدتها (شرفات دافئة) تتجلى حيوية الصورية وحركيتها، حيث نسمعها تقول:

حين ركبنا صهوة الطيش

أسلمتك تفاحة قلبي

ندية

وصدري كرمة

محملة بالطيب

كالصبح المبتهج

بوداعة الطفل في عينيك

ينتشي رعشة الصقيع

إن دلالات هذا المقطع تغرق في عوالم الخيال لتشكل رموزا تؤدي وظيفتها الشعرية والجمالية. فكل من (الطيش، تفاحة، كرمة، الصبح، الطفل، الصقيع) كلها تسهم فيهدم الحدود الدلالية لتشكل أخرى، ذات بنية مجازية تتغيى منها الذات الشاعرة إعطاء صورة لما يختلج الذات من مشاعر وأحاسيس.

هكذا نخلص إلى أن المجموعة الشعرية (تغاريد الروح) لأمينة غتامي جديرة بالقراءة والمتابعة لما توفر فيها من فنية وجمالية.

* * *

الهوامش

(1) د. عز الدين اسماعيل، الشعر العربي المعاصر، دار العودة ودار الثقافة، بيروت، ط3، 1981، ص:108.

(2) محمد بنيس، الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاته، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 1990، ص:128.

(3) المرجع نفسه، ص:127.

(4) محمد بنيس، ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، ط2، 1985، ص:103.

(5) ابتسام أحمد حمدان، الأسس الجمالية للإيقاع البلاغي في العصر العباسي، دار القلم العربي، سورية، ط1، 1998، ص:257.

(6) محمد صابر عبيد، القصيدة العربية الحديثة بين البنية الإيقاعية والبنية الدلالية، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001، ص:42.