يكشف الناقد المصري من خلال تتبعه لعدد من الروايات المهمة من أمريكا اللاتينية دور هذه الرواية البارز في كتابة أهجية الدكتاتور والدكتاتورية في الأدب المعاصر. وكيف أن أهاجيها القوية استطاعت أن تضيف الكثير إلى الأدب من ناحية، وأن تدفع كتابا آخرين من ثقافات مغايرة إلى فضح الطاغية والطغيان.

أدباء ضد الطغاة

الكتب صانعة الثورات

محمـود قاسـم

تزدهر الرواية السياسية الضد، حيث يوجد الديكتاتور، وتتنامى أهمية هذه الروايات مع تصاعد حدة الديكتاتورية، وقسوتها، واستخدامها لكافة أشكال العنف، والقمع، من أجل ترويض معارضي الدكتاتور أو التخلص منهم. ولولا ظهور الديكتاتور، ما تنامت مكانة الرواية السياسية في مناطق بعينها من العالم، خاصة في أمريكا اللاتينية، وقد تباين الحديث عن هذا الديكتاتور، والوقوف ضده، حسب البلاد، ففي العالم العربي، تم التعامل أدبياً، مع الديكتاتور، باستخدام الرمز، أو اللجوء إلى الفانتازيا. وفى أمريكا اللاتينية، كان الديكتاتور، بشكله المرعب، المثير للجزع، موجوداً في الكثير من روايات كتاب، وضعوا أقدارهم بين كفوفهم، فتعرض الكاتب للكثير من المضايقات، بدأت بالمنفى، وانتهت بالسجن، أو الموت الغامض.

وسوف نتوقف هنا عند أبرز الحالات والنماذج، لعلها أهمها وأبرزها هو رواية "السيد الرئيس".. للروائى الجواتيمالى ميجيل انخل اوسترياس Miguel Angel Asturias الفائز بجائزة نوبل عام 1967 وهو الكاتب الذى قضى أغلب حياته يعمل بالسلك الدبلوماسي، وقد عرف بنشاطه السياسي الضخم، راح يدفع به إلى الولايات المتحدة، والكثير من العواصم في أمريكا اللاتينية، وعاش في متاعب سياسية مع زعماء بلاده بسبب مواقفه المتشددة من نظم الحكم، مما اضطره للرحيل إلى باريس عام 1962 وقد نشر الكاتب روايته "السيد الرئيس" وهى رواية استوحى أحداثها من الظروف التي جاءت للرئاسة بالرئيس خورخه اوبيكو بمساندة من الولايات المتحدة الأمريكية. وقد كتب اوسترياس روايته عام 1932، لكنه لم يتمكن من نشرها إلا بعد أربعة عشر عاما، وهى بمثابة رواية سياسية ملحمية حول الصمت الذى يسيطر على الديكتاتور الذى تحوطه بطانة من المنتفعين الذين يغلقون عينيه عما يدور حقيقة من حوله، ولا شك أن هذه الصورة تحدث دوماً لكل ديكتاتور في كافة الأوطان.

الديكتاتور الحقيقي "كابريرا"، حكم جواتيمالا لمدة عشرين سنة حكما ديكتاتوريا غاشماً، أما المؤلف فقد استخدم الصور البلاغية الجديدة في تصوير شخصياته، وغلف روايته بستار شفاف من السخرية، ممزوجة بالفولكلور الخاص بسكان البلاد الأصليين، فالديكتاتور مجنون مستبد ملئ بالطغيان، والشهوانية: شهوانية السلطة والبقاء فيها. مجنون بالمناصب والقتل، فهو يقتل خصومه بنفس السهولة التي يتناول بها طعام فطوره، وهو يصدر قراراته الدموية بالرقة نفسها، والهمس الذى يخاطب بهما النساء، وهو يستمع إلى نغمات الموسيقى، لقد حول هذا الديكتاتور وطنه إلى جحيم، ومأوى للصوص، والقتلة المأجورين، واختار معاونيه من مسخ البشر المشوهين، وهم من المرتشين، خربي الذمم، في الوقت نفسه الذى صار فيه المواطنون من المقهورين المذلين، الذين يحلمون بكل ما هو جميل.

انها المفردات نفسها التي نقرأها كل يوم حول أي ديكتاتور، لقد فتح السجون، كي يدخله رجال الفكر والابداع الذين وقفوا ضده، وايضا رجال الدين الذين نبهوا الرعية إلى ما يمارسه من طغيان. لقد رفضوا أن يحولوا هذا الديكتاتور إلى إله، وعندما يتم القبض على واحد من معارضيه، تتم محاكمته بشكل صوري، وسط غياب للعدالة، وكما جاء في موسوعة الويكبيديا انه "في هذه المحاكم من الافضل أن تكون مذنباً على أن تكون بريئاً ولا ترضى عنك الحكومة." كما تقول الموسوعة أيضاً أن أكثر ما يميز هذه الرواية التي فاز صاحبها بجائزة نوبل هو "الصدق الفني العالي الذى يجعل من العمل الفني عملاً أغرب ما يكون إلى متلقيه، حيث يستطيع نقلنا من عالمنا إلى عالمه فنعيش معه رطوبة السجن، وعفن الخبز والموت الحى الأبدي، والانتظار في زنازين مغلقة لا ترى فيها إلا وجه الموت القادم، وتحلق معه في عالمه. وتجري لتحتضن الشمس وتعانق طين الأرض".

تبدأ أحداث رواية "السيد الرئيس" بالحديث عن الشحاذين الذين ينامون في "رواق الرب" الرب القريب من الكاتدرائية بعد أن تدق أجراس الكنيسة، يجمعهم الشقاء، ينامون متباعدين، وقد وضعوا كل ممتلكاتهم أسفل الرؤوس، بعد أن قاموا بعد ما كسبوه خلال ساعات النهار، وقد أولوا الوجوه نحو الجدران، دون أن ينسوا التسليح بقطع من الحجارة وصور من التعاويذ. هذه صورة من المحكومين، يختارهم الكاتب من أفقر طبقات الشعب، علمتهم ظروفهم أن يكونوا شديدي القسوة، يفضلون إطعام الكلاب على اغاثة جائع بينهم، يتنابذون بالألقاب، يتسمون بالمشاكسة، لا تخلو أوقاتهم من ضحكات وقهقهة، يقوم رجال الديكتاتور بالقبض على شحاذ أعمى، هو نصف مخلوق، جسد بلا ساقين "أو رمة"، يذهبون به إلى السجن، هو ومجموعة من الشحاذين بتهمة قتل أحد كبار رجال الجيش، لقد أجمع الشحاذون على أن القاتل هو الأبلة الذى رأوه بالأمس يرتكب جريمته، ثم يغير الشحاذون أقوالهم بشأن الجريمة، ويعترفون أن القاتل ليس هو "العبيط" إلا أن السلطات تعدم هذا الرجل، وترمى به عربة القمامة، ويتم اطلاق بقية الشحاذين.

فى قصر الطاغية، فإن السيد الرئيس، يطلب من مستشاره القاء القبض على الجنرال "كاناليس" بتهمة ارتكاب جريمة الضابط العظيم، ويرى الرئيس أنه من غير المناسب القاء القبض على واحد من رجاله، فيساعده على الهرب. يقوم مستشار الرئيس، بعد منتصف الليل، بالاستعانة برجاله للهجوم على منزل الجنرال كاتاليس، ويستحل هذا المستشار لنفسه كل ممتلكات بيت الجنرال الهارب، كما أنه يستحوذ لنفسه على المرأة التي يحبها الجنرال الهارب.

ويحدث أن يرسل الرئيس مستشاره للسفر إلى نيويورك، في مهمة تتعلق بالمعارضة، يصور الكاتب أن الرئيس يعتمد في سلطاته على التوجهات الأمريكية، لاحظ أن الرواية مكتوبة عام 1932، أي في فترة الكساد الاقتصادي الكبير، ويصور اوسترياس مستشار الرئيس الطاغية، بأنه ذو وجه ملائكي. يتصرف كالكلب الذكي المتدرب جيداً، السعيد بنصيبه من العظم، والمتشبع بغريزة حب البقاء، فابتسم وهو يخفى عداءه. بينما يصور الكاتب مسيرة الزوجة كميلة وهى تبحث عن جنرالها الهارب الذى ترك لها طفلا ينمو في بطنها، ويحدث أن يتم القبض على مستشار الرئيس الذى يدخل السجن، وتأتيه الأخبار أن كميلة صارت عشيقة للرئيس.

ترك الكاتب اوسترياس ظله بروايته هذه على الكثيرين من الأدباء في أمريكا اللاتينية، خاصة رواية "خريف البطريرك" لجابرييل جارثيا ماركيز، وايضا "حفل التيس" لماريو فارجاس يوسا وكلا الكاتبين فازا فيما بعد بجائزة نوبل في الأدب. وإذا كان اوسترياس قد حدد شكل الرئيس الديكتاتور في روايته، فإن ماركيث قد تناول الطاغية عنده من طغاة أمريكا الوسطى، في كون لم يحدده المؤلف، كي يخفى عن نفسه حرج المباشرة، ومن أجل أن تكون صورة الطاغية بشكل عام في روايته هي صورة لكل طاغية في أي زمان، وفى كل الأمكنة التي يتولد فيها مثل هذا البطريرك، حيث ان المؤلف يتكلم عن سيرة حياة الطاغية منذ الطفولة وذلك أثناء فترة العهد الأخير لنظام النيابة الملكية لأسرة "جووس"، فبعد أن تنتهى حروب الاستقلال في أمريكا الوسطى، سرعان ما تقوم حرب أهلية شرسة بين طرفين، الأول يمثلهم المحافظون، والثاني هم الليبراليون، وتستمر هذه الحرب أحد عشر عاما، تناوب على الحكم فيها أربعة عشر جنرالا، لقد اختار ماركيث أن تكون دولته هنا أيضاً هي دولة جنرالات، مثلما سبق لأوسترياس أن فعل.

آخر هؤلاء الجنرالات يحمل كافة السمات المألوفة للطاغية، خاصة التي قرأناها في رواية "السيد الرئيس" فهو أيضاً رجل شره للسلطة، ولملذات الحياة، هذا الجنرال هو عميل للبريطانيين، الذين يحتلون الوطن، وهو يساعد البطريرك في أن يصبح فوق قمة السلطة، هذا البطريرك يملك من القسوة ما لم يملكه غيره من الطغاة، ويصفه ماركيث على أنه رجل جاهل، دموي، وليست له خبرة إلا بالأعمال الدموية، مما يجعل البلد الذى يحكمه يسير من سيئ لأسوأ، خاصة فيما يخص الجانب الاقتصادي. هذا الطاغية يستمد قوته من أصدقائه الأمريكيين، الذين يمنحونه المساعدات المالية، مقابل المزيد من التسهيلات لاستثمار الثروات الموجودة في بلاده، لذا فإن هذا الطاغية لديه حماية، وقد أكسب المؤلف الطاغية كافة سمات الطغاة الذين عرفهم التاريخ، خاصة في العصر الحديث، فهو قادر على قراءة خريطة وجوه خصومه، ويعرف كيف يتسرب من مكانه حين يأتيه الخطر، ومتى يأمر باغتيال خصومه، وكيف يدخلهم السجون دون محاكمة، كما أنه يبقى دوما في الحكم، من خلال ديمقراطية ينسجها هو لنفسه، حيث يبتدع ما يشبه اليانصيب، يقوم بسحب بطاقات اختياره اثنان من الأطفال، البطاقتان مكتوب عليهما اسم البطريرك، وبعد السحب، يتم القاء الطفلين في المعتقلات. يتحدث ماركيث أن اختفاء عدد كبير من الاطفال وراء غياهب السجون، قد أرق الأهالي، فلجأوا إلى الاحتجاج، والمناداة بإطلاق سراح الأطفال الذين دبر لهم الطاغية عملاً تخريبياً للتخلص منهم ويكتشف الطاغية أن مساعده الأول هو الذى يدبر المؤامرة ضده، فيأمر بالقبض عليه، ويوضع في فرن من أجل تحويله إلى لحم مشوي، يقدم فوق طبق من الفضة، ليأكل من اللحم كل الجنرالات الذين تورطوا مع الجنرال في ارتكاب فظائعه.

وقد تحدث الكاتب العراقي عبدالكريم كاظم حول هذه الرواية، قائلاً: "ثمة آلية، غريبة تحصل داخل الرواية تميز عهد هذا البطريرك تتمثل بعملية تقسيم وتوزيع الثروات بوصفها كما يعتقد ملكية خاصة لهم – أعنى الحاشية – ومن معهم، خصوصا أمه بنديتون الفارادو التي أعطاها بمرسوم ملكي صفة قديسة الوطن، على الرغم أنهم في لحظة من اللحظات الكثيرة كانوا يتمنون التخلص منه بشتى الطرق التي قد تتاح لهم بسبب عناده وتخلفه الذى يهدد – كما يتصورون – استقرار الحكومة الذى يجعل حدوث انفجار ما ممكنا، نتيجة حالة الاستياء العامة التي يشعر بها المدنيون والعسكريون على حد سواء، أو لنقل بصور متفاوتة.

وقد كتب عبدالستار ناصر مقالا آخر عن هذه الرواية، جاء فيه ان الجنرال ينتهى في خريفه الأخير إلى أن الكذب هو أنسب بكثير من الشك، كما أنه أنفع من الحب، وأبقى من الحقائق، وذاك "هو النشيد الذى صار يحكمه بعد عمر دام أبعد من قرنين من الزمن في أغرب عمل أبداعي كتبه ماركيث. وذلك حول الحاكم الذى لا يعرف أي شيء حول ظروف السياسة العالمية، وربما لا يفهم أبدا ما اذا كان ثمة في الكون بلاد غير بلاده، انه بمعنى آخر مجرد أحمق جاء إلى السلطة عن طريق المصادفة ثم عاش وصار سيدها من حيث كانت السلطة سيدة عليه، الكاتب فما يراه أن الطاغية لا يعرف سوى الإنجليز الذين يمنحهم التسهيلات، ويعطونه الأمان للبقاء.

مثل هذه الأجواء ارقت الكاتب الشيلي خوسيه دونوسوا 1924 - ، في العديد من الروايات منها "التتويج" عام 1957، و"طائر الليل القبيح" ثم "الاختفاء" وقد بدأ ذلك في رواية "منزل العسكر" حيث يصور جواً فانتازياً لم يعتد تقديمه من قبل، وان كان هذا اللون منتشراً في الغرب، خاصة في أمريكا اللاتينية، وهو ما أطلق عليه النقاد بالواقعية السحرية، فهناك طاغية يدعى "فنتورا" يعيش في قصر ضخم، مملوء بالسلاحف، وآكلة لحوم البشر، الذين ينهشون في أجساد سكان المنطقة، ويكون أبناء فنتورا هم أول من تنهشهم هذه المخلوقات المتوحشة، يجذبونهم من المدخنة، ويصعدون بهم إلى أعلى القصر، ثم يجذبونهم إلى ممرات الحديقة، لا يجرؤ أحد على مطاردتهم، لقد تمرد آل فنتورا على القانون، وعليهم أن يدفعوا الثمن.

تدور الأحداث في مدينة ماريلاند الخالية، حيث اعتاد حاكم المدينة أن يخرج من قصره في الخامسة مساء مصطحباً أطفالاً، انه رجل جاهل، لا يحب الشعر، لذا فإن مكتبة المدينة تخلو من الكتب، لكنها تضم مجموعة من الرسومات واللوحات المدون فيها الأوامر. أمر بالصمت أو أمر بمنع الطعام، أو بمنع التدخين، وعلى الأغلفة الأخيرة لبعض الكتب يمكن أن نقرأ حول بعض الأسماء المجهولة مثل كوبرنيكس، ونيوتن، وأفلاطون، ويؤمن هذا الديكتاتور أن الكتب هي صانعة الثورات. يرى فنتورا ان آكلة لحوم البشر ليسوا هم من سحبوا أبناءه من المدخنة، ونهشوا أجسادهم، بل هم الذين يأكلون الكتب، ترى ابنة صديقه انه من الشرف أن يتحول المرء إلى آكل لحوم البشر، وتطلب من أبيها أن يلحق بها، يفتح الرجل الفرن، ويخرج الطبق الذى يعلوه الجزر والخضراوات ورأس ابنته الكبرى بنجامين، يصاب الأب بحالة من الفزع، وعليه الآن أن يتحول إلى طاغية إلى آكل لحوم البشر، يأكل كل من نهشوا لحم ابنته، حبس نفسه في برج لعدة أيام، حملت الرياح صرخاته إلى كل أبناء المدينة، لقد صرخ منادياً: "ابعدوا هذه الطواويس"، رغم أن المدينة الخيالية لم تعرف قط مثل هذا الطير.

نفس هذه الأجواء تحدثت عنها ايزابيل الليندي (1942 - ) في أكثر من رواية لها، فمن المعروف أن الكاتبة هي ابنة شقيقة الرئيس التشيلى السابق سلفادور الليندي، وأغلب أعمالها حول الديكتاتور في بلادها، نشرت روايتها الأولى "منزل الأرواح"، وقد سافرت إلى فنزويلا منفية من رجال الطاغية آجوستينو بينوشيه، وتقول "هذه البلاد ساحرة جميلة، إلا أن الجنة تفقد بريقها لمن يغترب عن بلاده فالحنين يدفعها إلى الكتابة عن وطنها" فعندما تحمل عشرين كيلو من المتاع، فعليك أن تترك وراءك الصور القديمة، والموائد المستديرة، وكراسات الذكريات التي كانت الجدات تحبها. بيت الأرواح" نتاج مخيلة تحمل مشكلات بلاد برمتها، فشيلي ووضعها الساخن، وما الأرواح التي تتقافز في ذلك البيت الكبير الا ارواح الأرامل في اعادة ترتيب هذا البيت، بعيدا عن العنف والرعب.

وتروى الكاتبة عن وقوفها ضد الطاغية وتقول إنها بعد الانقلاب الفاشي الذى قام به بينوشيه فقد ذهبت إلى فنزويلا مع زوجها. وفى عام 1981 نشرت رواية "منزل الأرواح" وفيها تتحدث عن شيلي من خلال أربعة أجيال من النساء اللاتي تتابعن على تربيتها، انها تحكى عن البيت الذى عاشت فيه سنوات طويلة، لم تتحدث عن الديكتاتور بشكل مباشر، لكنها حكت عن الظروف التي يتولد فيها الديكتاتور، وهى ترى أن الروائيين هم وحدهم الذين يعرفون كتابة التاريخ.

ورغم أهمية تجربة اليزابيل الليندى مع الديكتاور، فإن هناك تجربة روائية سجلتها إحدى بنات عائلتها، تعتبر أكثر أهمية مما أشارت له الليندي في رواياتها عن الطغاة، هذه الكاتبة من كارمن كوستيللو، التي شهدت مثل ايزابيل وقائع الانقلاب الذى أحدثته الولايات المتحدة في شيلي عام 1973، ضد الرئيس سلفادور الليندي، هذا الانقلاب الدموي الذى جاء بالطاغية بينوشيه، وقد سجلت الكاتبة هذه الأحداث في كتاب يحمل عنوان "يومان من أكتوبر في سنتياجو" منشور عام 1980. وفى هذه الرواية – التسجيل، وهو واحد من أهم الكتب التي تندد بما حدث في شيلي في الحادي عشر من أكتوبر، حيث بدأت البلاد تشهد مجموعة من الحركات المتتالية من العنف، وتروى كارمن ما حدث في يوم عصيب، ظل محفوراً في ذاكرة كارمن، حين هاجم رجال الدنيا – الجستابو الشيلى – بيتها حيث تختفى مع زوجها ميجيل انريكث السكرتير العام للحزب الثوري، وقبضوا عليه، ثم قتلوه أمام عيني زوجته.

هذا الرجل ميجيل انركيث عضو الحزب الثوري كان أحد الذين بحثت عنهم سلطات بينوشيه منذ اللحظة الأولى للانقلاب، وقد مات على أيدى رجال الانقلاب وهو في الثلاثين من عمره، كان يقرأ فلوبير ودوستويفسكى، ويرتجل القصص من أجل الأطفال. كتبت كارمن كوستللو روايتها وهى في سن الخامسة والثلاثين، كي تحكى قصة دامية عاشتها قبل هذا التاريخ بسبع سنوات، تتكلم مباشرة عن الديكتاتور، وتقول إن حركة اليسار الثوري تأسست في شيلي عام 1964، وقامت بمناهضة الرئيس السابق السلفادور الليندي، وقد مثل هذا الحزب قوة معارضة، برلمانية له، وقد قام بينوشيه بأكبر حركة للتخلص من أكبر معارضيه، وهو الذى ظل يمثل الجهة الثورية الوحيدة التي تناضل ضد الديكتاتور.

تقول الكاتبة: في يوم السبت الخامس من أكتوبر 1973، في الساعة الواحدة بعد الظهر، وقفت ثلاث سيارات من الدينا في شارع سانتافيه، كانت تدور منذ صباح اليوم في حى سان ميجيل. هدفهم هو منزل أزرق وسيارة حمراء وامرأة حامل، استغرقت المواجهة بعد اتصالات عسكرية ساعتين ونصف. كنا أربعة في المنزل، بعد ربع ساعة من بداية المعركة ران صمت رهيب، هل راحوا يبحثون عن نجدة؟ حاولنا أن نبحث عن مخرج، وعبرنا التكعيبة، لاحقتني قنبلة يدوية أنا وزوجي "اصابته في جبهته وأصابتني في حلقى وذراعي الأيمن، نجح أصدقاؤنا في الهروب، قبل أن يغمى علىّ. سمعت أحدهم يقول: لقد نلنا منهم"، وفيما بعد، رأيت ميجيل واقفاً، وسلاحه في يده، انه يقاوم، يناضل وحده طيلة ساعتين، تصور رجال الدينا ان هناك على الأقل خمسة وعشرين مناضلا في المنزل، فطلبوا خمسمائة جنديا، وطائرات مروحية، ظلت تدور أعلى المنزل.

واستطاع عسكر الطاغية بينوشيه النيل من ميجيل انريكث: "نقلنى الجنود إلى المستشفى التي تقع عند تقاطع العناية الإلهية، حيث استجوبني أحد ضباط الدينا طوال شهر .. وبعد تحقيق طويل، اسئلة سخيفة وأجواء بالغة القتامة، ذات صباح، اصطحبني جنود الدينا إلى المطار الدولي، كنت حاملا وجريحة، وليس معي مليم واحد، ولا أوراق هوية، قال لي أحد الضباط "سوف يتركك الجنرال بينوشيه، بطيبة قلبه، ترحلين. ولكن لا توجد بلدة واحدة تريدك، لأنك ارهابية، ولذا سوف أصحبك إلى سجن المدينة، في هذه اللحظة وصلت إحدى قريباتي، ومعها جواز سفر حصلت عليه من القنصلية البريطانية، ووجدت نفسى على متن طائرة فرنسية دون أن أعرف إلى أين وجهتي.

ووصلت بها الطائرة إلى لندن، في أواخر أيام عام 1973، وبعد شهر واحد، ولد ابنها ميتاً، ومرت بحالة صحية بالغة السوء حيث فقدت الكثير من دمائها، ثم رحلت فيما بعد إلى منفاها في باريس، وعرفت هناك تحت اسم "الأرملة البطلة". وترى كارمن كوستيللو أن المنفى ليس الذهاب إلى بلاد يعذب فيها المرء، ولكن المنفى هو أن تبتعد عن الأرض التي اعتدت على اريجها وترابها وروائحها المتميزة، ولذا فإنها تسمى المنفى بالموت الصغير، فرغم أن وصولها إلى باريس قد أحاطها بالكثير من الأضواء والمؤتمرات الصحفية ووسائل الإعلام، إلا أنها كانت تشعر بالخواء، ووجدت كارمن أن عليها أن تعيش في ظل صورتها هي وليست صورة امرأة، أحد المناضلين الذين قتلتهم قوات الطاغية بينوشيه، وقررت أن تتكلم باسمها: "المنفى انه شيء داكن. رخو. هجران".

في عام 1977، انتحرت صديقتى بياتريث ابنة سلفادور الليندى، بسبب رحيل أبيها، لعلها كانت تشعر أيضاً أنها مذنبة لأنها على قيد الحياة، بينما كانت تود أن تبقى إلى جوار أبيها في مونيدا. لكنها كانت حامل وعليها الرحيل، "على المرأة أن تهب الحياة"، قالت رفيقتي التي ماتت في غياب السياسة أن انتحارها كان مشهداً سياسيا، حركة للتخلص من المنفى لم يكن في امكانها أن تتظاهر في اللقاءات كابنة بطل ميت، هذا الدور الذى تؤديه زوجات وبنات الثوار، انه الوعى الطيب لردود الفعل، والانفعالات العنيفة، للمناضلين، عندما ما يكفيني، يقولون "لقد مات ميجيل انركيث مثلما تمنى .. هذا خطأ، لأن ميجيل كان يتمنى أن يعيش، والطاغية يود أن يعبده الحكام، والثوار يودون أن يعيشوا لأن الحياة تحبهم. وقد أثرت تجربة انتحار بياتريث في كارمن، التي قررت أن تكتب روايتها "وددت أن أتكلم عن حياة الثوار وليس عن ميتتهم، نحن نؤدى خدمات عندما نتكلم دوما عن صوت الثوار، نحن نعطى الرجال والنساء للوجود، دون أن نفهم أن حياة كل منهم قد صنعت في لحظات ميلادهم".

كتبت كارمن كوستيللو روايتها بما يشبه التحقيق الروائي، على غرار ما فعله ماركيث في روايته "وقائع موت معلن عنه"، حين رجعت إلى مقولات كل شهود الحادث "لقد غزوت ذاكرتهم، بأقل قد رمن الألم، الجريمة هي الصمت، قال البعض إن هذه الرواية قد تسبب مشاكل للحزب، لأنها تحكى حياة الثوار، واننى اقدس الرجال، وثوراتهم على أحسن ما يكون التقديس، واننى مخلصة إلى أقصى حد لأصدقائي الذين يناضلون في شيلي، ومن أجلهم كتبت"، وتقول إن بينوشيه رجل جماهيري، يحب وسائل الاعلام، وان يتم تصويره بلا توقف، يود أن يرى الناس صورة واحدة فقط، هي صورته.

في أمريكا اللاتينية ايضا وقف الروائى الكوبى ارماندو فالادار ضد الديكتاتور، وكان ثمن ذلك هو أن اختفى في ظروف غامضة، بعد أن قضى في سجون كوبا قرابة اثنين وعشرين عاما، بين عامى 1959 و 1982، ففي عام 1986 نشر روايته "ذكريات السجن" التي ترجمت إلى لغات عديدة، وكأنما أحست السلطات الكوبية ان من الافضل التخلص منه، فقتلته في ظروف غامضة، بدأت الأحداث باختفاء الأديب في أوائل عام 1987، وتحدثت الصحف عن اختفاء الكاتب، ثم العثور على جثته. أرماندو رجل لم يعرف الجنة ذات يوم في حياته، فقد تم القبض عليه وهو في الثالثة والعشرين من العمر عام 1959، ثم صار عليه أن يقضى قرابة ربع قرن في السجن، سنوات طويلة دفعها، رغم أنه لم تكن هناك تهمة محددة سوى أنه كتب قصائد، ونصوص قصصية، ينتقد فيها النظام السياسي الجديد في كوبا آنذاك .. وجاء في التقارير الأمنية أن هذه الأبيات بالغة الخطورة على الأمن القومي في البلاد، وانه يجب ابعاد صاحبها عن الناس. بل وعليه أن يدفع الكثير لأنه تجرأ وكتب.

كان على الكاتب أن يعكف على كتابة روايته في السجن، في صورة رواية، وصف فيه كافة ألوان المهانة التي يمكن أن يلاقيها الكاتب في السجن، ثمنا لما كتب من قصائد يرددها الناس، وقد روى الكاتب أن زنزانته كانت بمثابة مقبرة حية، ذات نافذة مظلمة لا تطل سوى على مجهول، كان على سجانته أن يتركوه عاريا ساعات طويلة، ويمارسون عليه سادية خاصة، فهم يوقظونه وسط الليل، ويجبرونه أن يتجرع بوله. قضى الكاتب السنوات التسع الأولى من سجنه، دون أن يرى أحداً من أهله، حيث منعت عنه الزيارات خشية أن يتسرب نبض قصائده وكتاباته خارج السجن، لكنه مع ذلك نجح في أن يسرب كتاباته إلى إحدى الصحف الأمريكية، ويستكمل في مذكراته التي دونها عن السجن: "فى ديسمبر عام 1960 قبضت الشرطة السياسية الكوبية علىّ، ولم أكن قد ارتكبت أي جريمة يعاقب عليها القانون، فتشوا منزلي، فلم يجدوا شيئاً، لا متفجرات ولا أسلحة، ولا وثائق سرية، ومع ذلك، فقد راح الضباط يطرحون عليّ الأسئلة، وأعلنوا لي أنه رغم غياب الادلة، فإنهم مقتنعون انني عدو لدود للثورة. في الواقع كان الدافع الأول لدخولي السجن هو أنني أحرض بكتابتي ابناء وطني ضد شمولية الديكتاتور، وإنني استخدم حقي الفكري، كي أعبر عن آرائي، وقضيت اثنين وعشرين عاما في السجن السياسي، لأنهم رفضوا دوما أن يتجاهلوا هذه الأفكار. كان علىّ أن أعيش في السجن داخل عزلة موحشة، وكان على روحي ويداي أن تحتفظا بآثار الماضي، وكنت الشاهد والضحية لنظام سيأسى عنيف، لا يعرف الرحمة.

"منذ أن استولت قوات كاسترو على السلطة في عام 1959، خضعت كوبا لقانون سلطوي، وسار الدستور الشمولي في كوبا. فى كوبا، يحكم الديكتاتور منذ قرابة ربع قرن، قبيح وقاس، ويسيطر على المكان بالدبابات والرعب الذى يلهم الشرطة السياسية. يقول فالادار في روايته "فيما يخصني": "قضيت أغلب أوقاتي في حراسة مشددة، في سجن كاباتا، الذى نقلت إليه في يناير 1961، وهناك كان يتم اعدام مجموعات المساجين السياسيين. لم أظل في هذا السجن سوى بضعة أيام، قبل أن أنتقل إلى سجن آخر في جنوب كوبا، يحمل اسم "جزيرة الصنوبر". عملت ردحاً طويلاً من الزمن في معسكرات الزراعة، وهناك عانينا كضحايا للضباط المسئولين، وبعد سنوات عديدة نقلوني إلى سجن بونيا توفى الاقليم الشرقي، كانت كل الأبواب والنوافذ مسيجة بالحديد، أمر من زنزانة لأخرى، وأنا آمل أن أطويها، كانت هذه أصعب فترات حياتي، لم أحس أنني معزول، لأنني شعرت أن الله معي في هذا الجحيم، كنت على صلة مباشرة به، كان يكفيني أن أغلق عيني كي أملأ نفسى بضياء، ولأكتشف الشمس التي لا يمكن أن تختفى، والأفق الذى لا يصل إليه أحد. فحالة كهذه لا تحدث سوى بالحب، حب الله.

وإذا تركنا امريكا الجنوبية، فإن تجربة الكاتبة الايطالية اوريانا فالاتشى تستحق الاهتمام، وذلك في روايتها المشهورة "انسان"، التي تروى فيها قصة وفاة حبيبها اليوناني الذى وقف ضد الديكتاتور الذى قام بانقلاب عسكري في اليونان. هذه الرواية بمثابة سيرة ذاتية للغاية، تروى فيها قصة ارتباطها بالمناضل اليوناني اليكو باتاجوليس، وهو الرجل الذى جابه الديكتاتور، وهذه الرواية، يضعها العديد من النقاد ضمن الأدب السياسي، فالرجل هنا شخصية سياسية، والمرأة لها فكرها السياسي المتبلور تجاه قضايا العالم الحديث، وفيها لقاء بين مناضل وامرأة تؤمن به. يتم زواج كل منهما بوحدة الآخر، لكن الآخر يموت، وتبقى المرأة تروى قصة حبها، تكتب كل وقائع قصتها مع الرجل "عندما مات اليكو، شعرت أنني مدانة، انها أول مرة أتركه وحده، لو كنت معه لاستطعت أن أمنع الموت من الاقتراب منه".

وتصوغ الكاتبة روايتها في صورة خطاب موجه إلى حبيبها الذى مات، وتهاجم فيها نظام بابا دوبلوس الذى أصدر حكمه بالإعدام على حبيبها، ثم قرار الرجل أن ينتحر لأنه لم يعد يجد لنفسه مكانا، لقد مات رجل كى يتكلم، لكن المؤلفة تقول له: "حبيبي لقد أخطأت، فالموتى يسكنون دائماً، وعندما نشعر أنهم يتكلمون فإن الأحياء هم الذين يجعلونهم يتكلمون". التقت أوريانا فالاتشى بألكو لأول مرة في أغسطس 1973 عقب خروجه من السجن، حيث ذهبت لتعقد معه لقاء صحفيا في اليونان، ضمن لقاءاتها الصحفية المعنونة "لقاء مع التاريخ"، "كان له وجه مسيح تم صلبه عشر مرات، وكان يبدو أكبر سناً من عمره الحقيقي. كان في الرابعة والثلاثين من عمره، على جبينه الشاحب، وبين عيونه السوداء تبدو خصلات بيضاء، وتبدو عيناه مليئتين بالكآبة والثورة".

اليكو باتاجوليس ينتمى إلى أسرة يونانية مناضلة، لم تتوقف عن افراز الأبطال، كان أبوه كولونيلا حاملا لأوسمة الشرف، أخوه جورج قبطان، درس اليكو في مدرسة الصناعات، وهو يحب علم الرياضيات مثلما يحب الشعر، يكتب أغنيات المقاومة اليونانية التي لحنها تيودوراكس، لم يكن يمكنه أن يحتمل النظام الديكتاتورى للكولونيلات، واشترك في تنظيم أول محاولة اغتيال ضد بابا دوبولوس، وقد كلفته هذه المحاولة الكثير، فحكم عليه بالموت، مثل أمام المشنقة أكثر من مرة، وفى فترة انتظار الاعدام كتب الكثير من القصائد وهو مكبل اليدين، حاول الهرب أكثر من مرة، ونجح في إحدى المرات، لكنه عاد إلى السجن من جديد بعد أن وشى به من اختبأ عندهم.

"لو كنت رجلاً، لكتبت نفس الرواية، فالوقائع قد حدثت كما سردتها، بالأسماء والتواريخ، ولكنني وصفت الأحداث في بناء روائي، طريقة الحكى، كنت أريد أن أظهر الظروف الإنسانية والتاريخية لاليكو، والحياة اليومية التي جعلته شخصاً عالمياً. وتقول الكاتبة إن اليكو "كان يعيش في السجن في حلم، عندما خرج منه، اكتشف الحقيقة ود أن يبدأ الكفاح المسلح، فهمت انه سوف يسافر إلى اليونان. "عندما سقطت الحكومة عاد الجميع إلى اليونان، كل المعارضين والذين عرفوا المنفى في أوروبا والولايات المتحدة، تم استقبالهم استقبال المنتصرين، كان هو ينتظر يوم الثالث عشر من أغسطس، عيد ميلاد اغتياله، لم أكن أود أن أحضر معه، كانت أختى في مطار أثينا، لم يكن أحد كى ينتظرها، لقد نسى، فقد تحطمت رأسه فوق أرض الواقع يوم مصرعه.

وفى هذا الصدد أيضا هناك روايات كثيرة كتبها أدباء في مختلف أنحاء العالم، مثل السيناريو الذى كتبه جان بول سارتر عام 1947 تحت عنوان "تاريخ حياة طاغية"، والذى استوحى منه الروائى جون شتاينبك سيناريو فيلم "فيفا زاباتا"، وأيضا رواية "ابنة برجر" للكاتبة نادين جورديمر، ورواية "العنف والسخرية" تاليف البير قصيرى، وغيرها، والكثير من هذه النصوص مترجم إلى اللغة العربية.

وإذا كان الكاتب نفسه قد وقف ضد الطغاة، فإن هناك أدباء سعوا وراء السلطة، أي أنهم رأوا أن السلطة بمثابة وسيلة لتحقيق الطوبوية التي حلموا بها، وهناك في الأدب المعاصر بعض الحالات القليلة لأدباء اعتلوا المناصب السلطوية، وكانوا نموذجين، مثلما حدث في دولة التشيك، حيث تم اختيار الكاتب المسرحي فاتسلاف هافل ليكون رئيساً للبلاد، دورتين، بعد أن كان رئيساً لدولة تشيكوسلوفاكيا الموحدة، كما أن الكاتب البيروفى ماريو بارجاس يوسا قد رشح نفسه عام 1989 ليكون رئيساً لبلاده، وعندما فشل، أثر الرحيل إلى اسبانيا، والحصول على الجنسية الاسبانية، دون أن يبتعد كثيرا عن السياسة. لقد رسخ في مفاهيم الناس أن الأديب هو المدافع الأول عن حقوقهم، ولأنه لا توجد حكومة نموذجية في تواريخ البشر، فإن الكاتب يعتبر مرآة يحاول أن يعكس في مؤلفاته، خاصة رواياته، مطالب الناس، وأفكارهم كى تصل إلى الحكومة، من أجل تحقيقها بشكل أو بآخر.

ولذا، فعندما سعى بعض الأدباء والروائيين إلى مقاعد السلطة، تنهد البعض في ارتياح، باعتبار أنه أولى لهذا المبدع أن يوجه نفسه نحو تشكيل حكومة طوبوية، باعتبار أن الكثير من الكتاب قد جربوا السجن، والامتهان من الطغاة، خاصة هؤلاء الذين عارضوا حكوماتهم، وقد تمثل هذا في المنفى، والاغتيال، أو الاعتقال، أو اليهم جميعا، كما رأينا في حالات تحدثنا عنها.

والغريب أنه رغم سعى بعض الروائيين إلى السلطة، إلا أنهم لم يستمروا فيها، وكان عمرهم السلطوى قصير للغاية، وفى تاريخنا العربي هناك تجربة ابو فراس الحمداني الشاعر الذى ما لبث أن غضب عليه الحاكم، لكن في التاريخ الحديث هناك في القرن التاسع عشر تجارب قليلة منها أن الشاعر الفرنسي الفونس دو لامارتين تولى أحد مناصب الوزارة عقب ثورة 1848، فلم يظل مقامه طويلا في المنصب، وعاد لامارتين إلى قصر الابداع، بعد أن وجد أن قصر الاليزيه لن يضيف اليه كثيرا.

وفى القرن العشرين اقترب أدباء عديدون من رؤساء بلادهم، منهم الروائى فرانسوا مورياك، أما الكاتب الذى جلس بالفعل على مقعد الوزارة لفترة طويلة نسبيا، فهو الروائي اندريه مالرو، وقد كان من الغريب على كاتب ناهض سياسات بلاده في الهند الصينية، وكتب عن مغامرات فرنسا الاستعمارية، هذه البلاد موجودة في رواياته مثل "الأمل"، "القدر الإنساني"، أن يكون جزءاً من السلطة التي هاجمها. وقد كان ارتباط مالرو بالوزارة هو اعجاب شخصي بالرئيس شارل ديجول، اكثر منه ايمانا بأن ذلك يمكنه أن يصبح وزيراً، وقد بقى الروائي في وظيفته كوزير للثقافة طالما استمر ديجول في قصر الاليزيه، وحدث أن استقال مالرو ذات مرة من المنصب، لكنه عاد ثانية تحت الحاح من صديقه، وقد ظل مالرو ينظر إلى ديجول باعتباره مناضلا، حتى وهو في قصر الاليزيه.

في عام 1990 تم تعيين روائى اسبانى شهير وزيرا للثقافة، وقد ظل في المنصب أربعة أعوام، انه خورجه سمبرون، الذى أثار تعيينه ارتياحا ودهشة، الارتياح لأنه ظل خارج اسبانيا سنوات طويلة ابان حكم الجنرال الطاغية فرانكو، أما الدهشة فقد جاءت أن رئيس الوزراء جونزاليس آنذاك أن يكتسب المزيد من المؤيدين، فسمبرون هو من أبرز الأدباء المناضلين، وقد هرب إلى باريس عام 1957، وهناك ظل يناهض حكومة فرانكو فكتب الروايات وقصص الأفلام التي تناهض الطغاة في العالم، ومنها فيلم "زد"، "الاعتراف"، "حالة حصار"، "انتهت الحرب". والغريب أن سمبرون الذى كان اسمه يملأ الأسماع في زمن الكتابة، أصبح وزيراً يرسم السياسات ويوقع القرارات، ولم تعرف دول النشر طريقا لكتاباته الجديدة، وهو الذى عرف بغزارة انتاجه في الرواية والسيناريو.