بعد أن نشرت (الكلمة) التمهيد النظري لتناوله للرواية متعددة الرواة في العدد 99 ننشر هنا دراسته التطبيقية عن أولى روايات هذا النوع في الرواية العراقية، واستقصاءاته حول اختلافاتها عما سبقتها من روايات مماثلة بالعربية من ناحية، وكيف أصبح الشكل وموقع الراوي وتعدد الرواة فيها موضوعا من ناحية أخرى.

الشكل باعتباره موضوعا

الأولوية الفنية في (خمسة أصوات)

محمد رشيد السعيدي

مدخل:
ليست هي الرواية الثانية – للمؤلف ذاته – في ما حُسب على الرواية العراقية مكتملة الشروط الفنية فقط([1])، وليست استكمالا موفقا لمسار الواقعية الاجتماعية النقدية التي ارسى غائب طعمة فرمان مدرستها وهو خير ممثل لها([2])، فحسب؛ إنما هي شكل جديد – لم يُنتبَه له كثيرا([3]) – في الرواية العراقية، وهي "واحدة من افضل الروايات التي شهدها أدبنا العربي الحديث"([4]).

هي والأخريات:
صدرت رواية (خمسة أصوات)([5]) لغائب طعمة فرمان سنة 1967، في السنة عينها التي صدرت فيها رواية (ميرامار) لنجيب محفوظ، فلا يمكن أن يكون مؤلف الأولى قد تأثر بالثانية، فكتب ونشر رواية مشابهة لها - شكلا - في السنة ذاتها([6])، هذا اذا لم تكن الأولى قد نشرت قبل الثانية([7]). ولكنها صدرت بعد رواية عربية أخرى، قد تكون الأولى عربيا في هذا الجنس البنائي الروائي، بعيدة قليلا عن عيون النقاد، هي (الرجل الذي فقد ظله)؛ وتتكون من أربعة أجزاء، يحمل كل جزء منها اسم الشخصية التي تروي ذلك الجزء([8]).

واذا ما كان سؤال التأثر الخاص بـ (الرجل الذي فقد ظله) مفتقدا لجوابه الدقيق، فإن السؤال نفسه الذي تثيره (خمسة أصوات) يمكن الإجابة عليه بوجود وقت، وإمكانية اطلاع غائب طعمة فرمان على النماذج الثلاثة الأهم في هذا الشأن وهي: 1) الصخب والعنف([9]): وليم فوكنر. 2) رباعية الإسكندرية([10]): لورانس داريل. 3) الرجل الذي فقد ظله: فتحي غانم، من خلال ذهاب فرمان الى مصر للدراسة([11])، ولقائه واطلاعه على المنتديات الأدبية/ الروائية فيها، ومتابعته للنتاج الأدبي المؤلَّف والمترجَم القادم من القاهرة الى بغداد.

كما أن (خمسة أصوات) قدمت شكلا جديدا، بقصدية التأليف، ومن خلال "الإدراك المعماري للعمل. يعني فن الصياغة" (الرواية ص 137). فجاء مختلفا، ليس عن النماذج الثلاثة السابقات الذكر، بل وعن (ميرامار) أيضا؛ وكما في الجدول الآتي:

الرواية/ الفروق

عدد الرواة

تكرار الرواة

المرأة راوية

الصخب والعنف

3 + المؤلف

1

لا توجد

الرجل الذي فقد ظله

4

1

2

رباعية الإسكندرية

4

1

2

خمسة أصوات

5 + الخمسة

37

لا توجد

ميرامار([12])

4

واحدة، باستثناء

عامر وجدي مرتان

لا توجد

يوضح الجدول السابق ما يلي:
اختلاف (خمسة أصوات) مع جميع الروايات في عدد الرواة.
اختلافها مع اثنتين وتشابهها مع اثنتين في عدم وجود المرأة كراوية.
اختلفت مع جميع الروايات - فجاءت بشيء جديد - في مرات تكرار حكي الرواة.

موقع الراوي وشكله:
تميزت (خمسة أصوات) بطغيان سرديتها – وهي العنصر الذي لا يوجد نص سردي إلا بوجوده - على باقي عناصرها الفنية، مع وجود اهتمام ملحوظ بالأفكار، وعدم احتوائها على عدد كبير من الشخصيات، على الرغم من سعتها (حوالي 350 صفحة). وقام خمس من شخصياتها بسرد أحداثها؛ لذا فإن رواة (خمسة أصوات) هم بعض شخوصها، وأبطالها الرئيسيون. ولم تسمَّ الفصول بأسماء الرواة، بل بـ "صفات خاصة بالشخصيات مشتقة من اسماء العدد هي الأول، الثاني، الثالث، الرابع، والخامس"([13]).

وقد يثير مصطلح (رئيسيون) أكثر من سؤال، منها: ما هي الشخصية الرئيسية وما هي الشخصية الثانوية؟ وكيف يطلق على هذه الشخصية مصطلح رئيسية وعلى تلك مصطلح ثانوية؟ أي ما هي مواصفات كلٍّ من النوعين؟ وسوف تأتي إجابة هذا السؤال من خلال تحليل الشخوص/ الرواة في (خمسة أصوات)، على أساس إن هذه الدراسة تتعلق بموضوع (الرواة)، فقط، ومن خلال:

دور الشخصية:
وجد بعض النقاد أكثر من قاسم مشترك بين رواة النص، أهمها انتماؤهم الى الشريحة المثقفة، وشعورهم العام بالخيبة والانكسار على الصعيدين الشخصي والعام. وعلى الرغم من ذلك توجد فوارق بين أولئك الرواة، في ميزاتهم الذاتية وارتباطاتهم الاجتماعية. فاثنان منهم فاعلان من خلال عملهما في الصحافة، بسبب ما تقوم به الصحافة من دور اجتماعي. وإذ يقوم الثاني (ابراهيم) بمهمة رئاسة تحرير صحيفة (الناس)، فإن الأول (سعيد) يقوم بمتابعة شكاوى المواطنين، حتى ميدانيا، فقابل سيدة بعثت له برسالة تتعلق بمشكلتها الاجتماعية، وقام برحلة جوية لرؤية بغداد وهي تتعرض لفيضان نهر دجلة. أما الثالث (شريف) فقد ظهر في الرواية عاطلا عن العمل، وجوديا، ضجرا، حالما، رافضا للواقع بشكل سلبي. والرابع (عبد الخالق) يهتم بالشأن العام، ويحاول إن يقدم لبلده شيئا من خلال مشاركته في درء الفيضان. ذلك الحدث الذي لم تصوره الرواية كما يستحق، لما يحمل من صراع الإنسان مع الطبيعة، وما يترتب على ذلك، مما جاء في النص بشكل مختصر، وبقليل من الاهتمام. أما الخامس (حميد) فإنه يمثل السلبية الاجتماعية والأنانية الى حدود بعيدة، مما يجعله نقيضا لراو بطل آخر يمثل الايجابية هو (سعيد). وإذ تتعلق تلك الأدوار الاجتماعية بموضوع الرواية، والحكم عليها، وعلى أهمية أولئك الشخوص متعلق بالقراءات - الخارجية - المختلفة؛ فإن ما يهم هذه الدراسة هو ما قامت به كل شخصية في النص، وهو الوظيفة السردية، والتي ستشرحها الفقرتان التاليتان:

أولا: عدد مرات وتسلسل الحكي: يصعب إيجاد علاقة واضحة لعدد مرات حكي كل راو، ولتتابعها. وقد يحتاج رسم صورة هذا الأمر الى تقسيم الرواية الى قسمين، يبدأ الأول من الراوي الأول وينتهي بـ (الخمسة). وفي هذا القسم نال (الأول/ سعيد) حصة الأسد في عدد مرات الحكي (ست مرات)، وكان موقعه سابقا للثاني والثالث والرابع والثاني والثالث على التوالي مرة، ثم انسحب تاركا المجال للخامس والرابع والخامس ثانية، وجاء سابقا للثالث، لينتهي هذا القسم بـ "الخمسة" (ص151). فنلاحظ ثلاثة أشكال لتقديم الرواة، لا يجمع بينها سوى العشوائية. ويزداد الأمر عشوائية في القسم الثاني، وإن كان (الأول) فيه مسيطرا بالكمِّ نفسه الذي حصل في القسم الأول؛ فظهر ست مرات أخرى.

لا يعطي ذلك الترتيب أي تفسير، ولا يبدو محققا لأي هدف، باستثناء رؤية المؤلف، لأن "الشيء لا يسبق وجهة النظر، بل إن وجهة النظر، على ما يبدو هي التي تخلق الشيء"([14]). لكن عدد مرات حكي كل راو هو ما سيضفي على كل منهم أهميته، كما في الجدول التالي:

الراوي

الأول

الثاني

الثالث

الرابع

الخامس

الخمسة

عدد مرات

الحكي

12

5

7

5

6

2

والذي سيوضح لنا – أيضا – عشوائية وتعدد مرات الحكي؛ وهو ما لا يعطي أي تصور فني حول أهمية أولئك الأبطال/ الرواة، كما انه سيناقض بعض القراءات الموضوعية للشخصية/ الراوي، مثل: "الشخص الرابع هو (عبد الخالق) الذي هو اكثر الخمسة ثقافة وانفجهم واكثرهم وعيا"([15]).

ثانيا: امتدادها على جغرافية النص: لا تختلف هذه الفقرة في دلالاتها عن الفقرة التي سبقتها، لكن البحث عن مواصفات الشخوص/ الرواة يوجب الاطلاع على عدد الصفحات التي استغرقها كل راو في مجموع حكيه، وهو ما يوضحه الجدول التالي:

 

الأول

الثاني

الثالث

الرابع

الخامس

الخمسة

عدد الصفحات

124

45

64

32

41

29

التسلسل

1

3

2

5

4

6

وإذ لا يوجد أي نظام يفرض – في هذا الجنس السردي – عددا متساويا من الصفحات، فإن الخروج على نظام الأرقام واضح لأي قارئ، لأنه نظام منطقي عام، متعارف عليه. حيث يمكن أن يقوم ذلك - بأخذ الاثنين بنظر الاعتبار – على أساس وجود وجهة نظر ما سابقة، وقصدية في إيجاد هذه الطريقة في تقديم الرواة، أو انه متحقق اعتباطا. ويرينا الجدول التالي العشوائية، من خلال كسر منطقية التسلسل الرقمي (1، 2، 3، ...، الخ) وعدم التناسق بين تسلسل الرواة في عدد مرات حكيهم، وتسلسلهم في الصفحات التي استغرقها حكيهم:

الرواة

مرات الحكي

التسلسل

عدد الصفحات

التسلسل

الأول

12

1

124

1

الثاني

5

4

45

3

الثالث

7

2

64

2

الرابع

5

5

32

5

الخامس

6

3

41

4

الخمسة

2

6

29

6

باستثناء (الأول) الذي جاء أولا، و(الخمسة) – باعتباره راويا مفردا – الذي جاء أخيرا في الحالتين. وعلى الرغم من تشابه (الثالث) و (الرابع) مرة فإنهما مختلفان في تسلسل رقمي آخر. وحتى تشابه الثاني والرابع في عدد مرات الحكي لم يجعلهما متشابهين في مساحتي الحكي؛ لذا يصعب اعتبار حالات (الأول) و(الخمسة)، و(الثالث) و(الرابع)، و(الثاني) و(الرابع) ضمن قصدية متعلقة بمنطقية الأرقام، بل الاحتمال الأقوى وقوعها ضمن العشوائية أو قصديتها. أما الظاهرة الأوضح في ما سبق فهي أولوية (الأول)، وأخروية (الخمسة).

ويبقى موضوع ضمير الحكي هو الأهم في هذا الشكل السردي، وهو ما جعل بعض النقاد يقلل من أهمية تعدد الرواة في (خمسة أصوات)، فضلا عن التباس رؤية تعدد الروي باعتباره شكلا بنائيا.

 ومع الإقرار بأهمية الحكي بضمير المتكلم، بسبب كون الراوي شخصية في النص، وبسبب الارتباط الموضوعي والوظيفي بين الحكي ووجهة النظر، فإن عالم السرد الفرنسي جيرار جنيت يؤكد على أن "مصطلحي حكاية بضمير الغائب، وحكاية بضمير المتكلم ... ليس هو المشكل. فاختيار الروائي ليس اختيارا بين صيغتين نحويتين، بل بين موقفين سرديين ... وهذان الموقفان السرديان هما جعل القصة ترويها أما إحدى شخصياتها، وإما سارد غريب عن هذه القصة"، فيسمي الأول مثلي القصة، والثاني غيري القصة([16])؛ وهو بذلك يتجاوز إشكالية ضمير الحكي، ويركز على الموقع، ولا يربط التبئير به([17]). وبشكل عام "فإن تبني ضمير الغائب لا يعني أن السارد ليس شخصية"([18])، وهذا الإشكال بين ضمير الحكي والسارد الشخصية يرى على انه "سارد متباين – حكائيا بشكل زائف"([19]).

 كما أن استخدام ضمير الغائب في هذا الجنس السردي – في هذه الرواية وغيرها من الروايات العراقية – يتخذ في أغلب "حالاته ما يمكن تسميته بصيغة ضمير الـ(أنا الغائب)، وفي هذه الحالات تكاد الشخصية أن تكون هي المتكلمة وليس الراوي الحيادي"([20]). ونلاحظ أن صيغة (أنا الغائب) تشكيل نحوي – دلالي، بين ضمير الغائب وعلاقته بالمتحدث، كما في: "تذكر انه جائع. ولكن ما العمل أمام جبروت القلب. ظلت معدته تعوي. ظهر شمعدان يدها من جديد فعصرته معدته عصرا شديدا" (الرواية ص 108).

وقد يحسب عدم وجود امرأة راوية في (خمسة أصوات) ضمن قصدية التأليف، بدلالة الإشارة "المرأة تحتاج الى صوت" (ص92)، الواردة في سياق الحديث عن كتابة المرأة في الصحيفة، وما تبعها من إشارة الى أن "الرجل يفتقر اليه أحيانا" (ص92). إلا انه يبقى مؤشرا على عدم الاهتمام الفني - وربما الاجتماعي – بحكي المرأة. ويكشف السياق – في التمثيل السابق – عن دلالة مصطلح الصوت على الحكي أساسا؛ لأنه وسيلة التعبير عن الرأي، التي لا تستدعي الذهاب الى تأويلات أخرى في "ان الصوت يتجاوز عند الكاتب، الصياغة اللغوية، الى ما هو ابعد ليعني الرؤية البصرية والفكرية للعالم"([21])، وهو اللبس الذي أدى بالناقد شجاع العاني الى القول بـ "إن بناء الرواية، لم يختلف عن بناء (النخلة والجيران)"([22])، معتبرا الرؤية بنائية، أو في استبعاد الضرورة البنائية من خلال اعتباره "تعدد وجهات النظر أو الرؤى أو البؤر السردية من العوامل التي تساعد فنيا وبنائيا – وان لا تستلزمه – على تحقيق صوغ ناضج للرواية متعددة الأصوات، شريطة أن يقترن ذلك بتعدد المنظورات الايديولوجية لوجهات النظر المتعددة هذه"([23])، وهذان الرأيان ينطلقان من ناقد واحد، لم يستطع أن يغادر منطقة الايديولوجيا، هو اوزبنسكي([24])، ومن مصدر وسيط واحد لدى الباحثين([25]) كليهما. ويأتي حكي (الخمسة) و (خمسة أصوات) – عنوانان لشيء واحد – مؤكِّدا بقاء الرواية قريبة من صيغة السرد التقليدية، في الحكي بضمير الغائب، والالتصاق بمدرسة الواقعية الاجتماعية، ومغايرة لصيغة الحكي في (الصخب والعنف).

تكرار المسرود:
إن أهم مشكلات النقد التي لم تحل – ولا يبدو إنها ستحل – هي مشكلة المصطلح. ولها أكثر من جانب، فمرة تتعدد مفاهيم المصطلح الواحد، وثانية تتعدد مصطلحات المفهوم الواحد، وربما تكون الترجمة هي السبب الأول والرئيس لهذه المشكلة، يليها فهم الناقد ورؤيته، وحتى رغبته في الاجتراح. وبصدد هذا المصطلح، فإنه ورد لدى عدد من النقاد، وفي عدد من الموسوعات السردية بأكثر من مرادف. فقد استخدم جيرار جنيت مصطلح (التواتر) عنوانا رئيسا لفصل، ثم (الترددي) كعنوان فرعي للفصل ذاته، ومصطلح (التكرار) في متن الفصل عينه([26]). وقد يكون ذلك تابعا للناقد الفرنسي نفسه أو ناجما عن الترجمة.

والتواتر في القواميس اللغوية هو "التتابع، وقيل هو تتابع الأشياء وبينها فجوات وفترات. والخبر المتواتر أن يحدثه واحد عن واحد"([27]). فنلاحظ أن ميزتي هذا المصطلح، واللتين هما: 1. وجود فجوة زمنية بين حدوث الشيء في مراته المتعددة. 2. حكيه واحدا عن واحد؛ لا تسمحان له بالدلالة عما يراد به سرديا. أما التردد فهو "رد عن كذا: صرفه، أرجعه. وتردادا القول: كرره. ردد القول: بمعنى رده والتثقيل للكثرة. تردّد في الأمر: اشتبه فيه فلم يثبت، واليه: جاءه المرة بعد الأخرى"([28]). و "ردد: الرد: صرف الشيء ورجعه"([29]). فنلاحظ أن تردد تعني شيئا بعيدا عما نبحث، والأدق هو ترداد، المصطلح غير المستخدم في هذا الصدد.

أما كرّر فيعني: "الكر: الرجوع. وكرر الشيء وكركره: أعاده مرة بعد أخرى ... كررت الشيء تكريرا وتَكرارا ... تِفعال اسم، وتَفعال، بالفتح، مصدر"([30]). ويبدو مناسبا، من خلال إعادته مرة بعد أخرى، وجواز فتح أو كسر أوله.

وتعرف القواميس السردية (التردد) بأنه: "هو العلاقة بين معدل تكرار الحدث ومعدل تكرار رواية الحدث"([31]). كما تعرف (التواتر) بأنه: "العلاقة بين عدد مرات وقوع الحدث وعدد المرات التي يروى بها"([32]). ولأن المصطلحات في القواميس والموسوعات السردية آتية من المعاجم اللغوية؛ فإن الدلالات الأصيلة هي المؤسسة لما سيترتب عليها. وقد انتقاها المترجم أو الناقد منها حسب رؤيته؛ فلن تخرج عن المؤاخذات التي سبق تسجيلها على المصطلحات. كما أن الاستخدام النقدي لأكثر من مصطلح، ولأكثر من شكل سردي أضفى لبسا جديدا على الأمر. فقد استخدم جيرالد برنس – أو مترجم كتابه – مصطلح (تعدد الرواة) - الذي أفضّل استخدامه – بدلالة أخرى، مختلفة كثيرا عما يراد به هنا. وقصد به أن يروي راو حدثا عن شخص آخر([33])، أي إن الحدث المروي من قبل الراوي التالي هو حدث آخر. وهذا مختلف كثيرا، لأنه سيحكي أحداثا جديدة، وقصصا أخرى كما في النموذج الأشهر: شهرزاد ولياليها. ويطلق عليه مستويات حكي.

كما أن تعدد روي حدث واحد وبصيغ أو حتى كلمات فيها اختلاف، يشبه عملية نقل الحديث النبوي، أو نقل الأحداث التاريخية، وما يطلق عليه اصطلاحا بـ (العنعنة). لكنه هنا قائم على تتابع زمني، حتى أن جنيت وضع هذا المبحث في مقولة الزمن! ولكن الأمر في الرواية متعددة الرواة يقوم على ميزات خاصة بها، هي التي ستفرض اختيار المصطلح الذي يناسبها. وأهم تلك الميزات هي الاشتراك في الحدث، أو الاشتراك في مشاهدته على الأقل، ثم حكيه من قبل المشتركين أو المشاهدين. فالحدث واحد، يقع مرة واحدة، ويحكى مرات متعددة بواسطة أكثر من راو – لدى جنيت يحكى من قبل راو واحد – مشتركين فيه أو مشاهدين له. يختلف جذريا عن الحكي شخصا عن آخر، أو حكي قصص جديدة.

 وقد يكون المصطلح الأنسب مما استخدم في النقد العراقي والعربي هو (التعددية في السرد والساردين)([34])، وقد استبدلت الساردين بالرواة، ووضعت مفرده في المبحث الأول في العنوان (موقع الراوي وشكله)([35])؛ الأكثر تحديدا ودقة. أما لفظة السرد فقد تكون واسعة أكثر مما يجب؛ فاستخدمت لفظة المسرود، وهو: الحدث الذي يشترك فيه، أو يشاهده، عدد غير محدد من شخصيات النص، فيروونه. وقد يصعب إطلاق مصطلح رواية متعددة الرواة – أو الأصوات حسب المصطلح التقليدي المعترض عليه – على رواية لا تحتوي على فصول – كبرت أو صغرت – تحمل عناوين أو أي علامات دالة على من سيروي، ويقوم بعض شخوصها بحكي بعض أحداثها، باختلافات شتى في التبئير، مع تكرار حكي بعض الأحداث من قبل أكثر من راوٍ/ شخصية.

ولم يتوفر هذا الشرط من الطريقة البنائية للرواية متعددة الرواة في (خمسة أصوات) - كما انه اختلف في استخدامه بين (الصخب والعنف) و(الرجل الذي فقد ظله) و(ميرامار) التي استخدم فيها بكم أكبر، فكانت ذات بناء عمودي متميز – أو انه جاء بشكل غير واضح، ففقرة: "دخل الجريدة وصعد الدرج محمولا على جناح الأمل في شيء جديد. كان ابراهيم جالسا الى مكتبه. أدى سعيد السلام، وحمل جرائد الصباح من مكتب ابراهيم، وجلس الى مكتبه" (ص57)، التي جاءت في حكي (الأول)، تشبه "دخل سعيد لامع النظارة، وسلم رافعا ذراعا هزيلة. ولكنه يبدو منشرحا وعلى أساريره كلام يوشك أن ينطق به ... ونهض ليتناول الجرائد" (ص27- 28)، التي جاءت في حكي (الثاني)، معززة بدخول شريف "رفع سعيد بصره فرأى شريفا ... سار بخطوات جندي" (ص58)، "سار شريف بخطى ثقيلة كخطى جندي" (ص28)، فيمكن أن يكون الحدث نفسه محكيا من خلال راويين، أو إنهما حدثان متشابهان.

لكن – نلاحظ هنا أهمية هذه التقنية البنائية – استخدام ضمير الغائب، ومجيء فصل حكي (الخمسة) الذي يدل على راو خارجي، تسببا في حكي متزامن، أي الحكي عن أحداث متعلقة بكل راو على حدة، حدثت في وقت واحد. فكأنما انعكس الأمر مائة وثمانين درجة، من حدث واحد بحكي ورؤى متعددة، الى أحداث متعددة بحكي ورؤية واحدة!! "وقف ابراهيم في رأس زقاق في الحيدرخانة .. سيارات مجنونة" (ص151). ثم: "وقف عبد الخالق يحدق بها وهو ذاهب الى دائرته .. هذه السيارات" (ص152)، فنلاحظ (السيارات) هي العلاقة الموضوعية المضافة الى العلاقة الزمنية. فـ"ودق الجرس في غرفة التحرير. سمع شريف ... في الليل كان يتصور النهر قد طفح" (ص153)، تربطها علاقة النهر والسيارات بموضوع ووقت فيضان بغداد. ثم يصبح المكان – بناية الجريدة – سببا لالتقاء الخطوط السردية، فيعود الى "رفع ابراهيم رأسه الى فوق فرأى شريفا" (ص154). وفي الفقرة عينها، وللسبب السابق ذكره، يأتي خبر عن سعيد، في مكالمة هاتفية بين عبد الخالق وابراهيم. فينتقل الحكي الى سعيد "كانت طائرتا هيلوكوبتر مقرفصتين على أرض المطار. تقدم رجل من سعيد" (ص156). ثم الانتقالة الى الراوي الأخير: "كان حميد ... أبعد حميد السماعة عن أذنه لأن صوت عبد الخالق" (ص158- 159).

نلاحظ على ما سبق، أن الموضوع واحد، هو فيضان بغداد، والحكي عن دور الرواة الخمسة فيه ورؤيتهم له، لكن الأحداث مختلفة، والأماكن مختلفة، باستثناء الاثنين اللذين التقيا في بناية الجريدة، كما امتد الزمن على ساعات قليلة، لم يوضحها النص. أما الفصل الشبيه بهذا الفصل، والأخير في الرواية، فإنه يأتي بشكل أكثر عشوائية: "قعد على فراشه، وتعوذ من الشيطان. كان الآخرون نائمين بملابسهم الداخلية" (ص338)، متحدثا عن (الثالث/ شريف) دون ذكر اسمه. وبعد فقرة ينتقل الى: "وقال سعيد لنفسه" (ص339)، مفصحا عن اسمه، ثم "كان البار بعد الظهر صاخبا ... ولسيد حميد تعطيه؟" (ص341)، فجاء ذكر حميد في حوار بين شخصين آخرين. وانتقل الى "أستاذ عبد الخالق، تفضل" (ص342)، بعد مفتتح وصفي من خمسة أسطر. ثم يأتي ذكر سعيد في الفقرة السابقة، ليكون مبررا سرديا للانتقال الى (سعيد)، فتكرر الحكي عنه قبل أن يحكى عن باقي الخمسة! ثم يعود الحكي عن شريف (ص342). وفقرة أخرى بدون اسم، وتفتقد لأية دلالة واضحة تربطها براو، سوى (مقهى السويسرية) التي سبق لعبد الخالق أن ظهر فيها. وينتقل الى حميد دون ذكر اسمه، ويحكي عنه "في الليل عندما يستيقظ" (ص344). فلا يبدو على هذين الفصلين أنهما إضافة شكلية للرواية، بل هما عودة الى الراوي العليم، ولا ينتميان الى التجديد – الرواية متعددة الرواة – بقدر انتمائهما الى التجريب، وهي الفترة الستينية المهمة في الأدب العراقي، والتي كتبت ونشرت فيها هذه الرواية.

الخلاصة:
(خمسة أصوات) أول رواية عراقية مبنية بطريقة تعدد الرواة، الذين ظهروا بطريقة عشوائية، تؤدي الى كسر أفق توقع القارئ، ومنحه حرية إيجاد علاقات – سوف تختلف بين القراء – تربط كل فصل/ راو بالذي يليه. لكنها ذات مسار أفقي؛ بسبب عدم اعتمادها تكرار سرد الحدث الواحد من قبل الرواة المتعددين. واستخدم فيها ضمير الغائب، بديلا عن ضمير المتكلم المناسب أكثر. وهي – من جهة أخرى - رواية حوارية؛ لأنها قدمت وجهات نظر متعددة، ولو لأفكار ليست هي الكبيرة والمسيطرة على المناخ الفكري العام.



([1]) بعد صدور (رواية النخلة والجيران) سنة 1966. ينظر: الأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية اتجاهاته الفنية وقيمه الفكرية، د. عبد الإله احمد، ج1، منشورات وزارة الإعلام – الجمهورية العراقية، 1977، ص115.

([2]) ينظر: الرواية في العراق 1965- 1980 وتأثير الرواية الأمريكية فيها، د. نجم عبد الله كاظم، دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد، 1987، ص49. وينظر: الواقعية الاجتماعية النقدية في القصة العراقية، مؤيد الطلال، دار الرشيد للنشر – بغداد، 1982، ص101.

([3]) "ولقد توفرت لدينا القناعة بان رواية (خمسة أصوات) لغائب طعمة فرمان التي صدرت عام 1967 هي أول رواية بوليفونية (متعددة الأصوات) ناضجة". ينظر: الصوت الآخر الجوهر الحواري للخطاب الأدبي، فاضل ثامر، دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد، 1992، ص71.

([4]) مقالات فارس فارس كتابات ساخرة، غسان كنفاني، دار الآداب – بيروت، 1996، ص 49.

([5]) خمسة أصوات، غائب طعمة فرمان، دار المدى للثقافة والنشر – بغداد، ط2، 2008.

([6]) "لقد صادف صدور خمسة اصوات، صدور رواية ميرامار للكاتب العربي الكبير نجيب محفوظ في العام نفسه، ومن المحتمل ان تكون هذه الرواية احد الدوافع وراء كتابة خمسة اصوات". ينظر: البناء الفني في الرواية العربية في العراق – 3 – بناء المنظور، الدكتور شجاع مسلم العاني، دار الفراهيدي للنشر والتوزيع – بغداد، 2012، ص 88. و: "ان فرمان لم يكن بعيدا عن الافادة من تجارب روائية عربية... وبشكل خاص (ميرامار)". ينظر: الصوت الاخر، م. م، ص74.

([7]) إذ لا تتوفر لدى الباحث معطيات أرشيفية توثق الشهر الذي صدرت فيه كل من الروايتين. (ملاحظة من تحرير (الكلمة)، نشرت رواية ميرامار مسلسلة في جريدة الأهرام القاهرية عام 1966 قبل أن تصدر في كتاب عام1967)

([8]) نشرت طبعتها الأولى سنة 1962. ينظر: هيكل عاقب فتحي غانم.. جسد شخصيته في رواية (الرجل الذي فقد ظله)، أحمد رجب، جريدة المصري اليوم، العدد 2090، 4/ 3/ 2010.

([9]) صدرت باللغة العربية، وبترجمة جبرا ابراهيم جبرا سنة 1961. الرواية في العراق، م. م، ص 200.

([10]) ظهرت ترجمة سلمى الخضراء الجيوسي لجزأيها الأولين في بداية الستينيات. ينظر الموقع الالكتروني: ar.wikipedia.org/wiki.

([11]) ينظر: غائب طعمة فرمان روائيا، د., فاطمة عيسى جاسم، دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد، 2004، ص9& الرواية في العراق، م. م، ص 49.

([12]) تستبعد هذه الدراسة وجود أي تأثير لـ (ميرامار) على (خمسة أصوات)، وما وجودها في الجدول أعلاه إلا للإيضاح.

([13]) البناء الفني في الرواية العربية في العراق – 3 – بناء المنظور، م. م، ص85.

([14]) علم اللغة العام، فردينان دي سوسور، ت: الدكتور يوئيل يوسف عزيز، دار آفاق عربية – بغداد، 1985، ص 26.

([15]) الرواية في العراق، م. م، ص 60.

([16]) خطاب الحكاية بحث في المنهج، جيرار جنيت، ت: محمد معتصم وآخرين، المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة، ط2، 1997، ص 254، 255.

([17]) وهو المنهج الذي اتخذته هذه الدراسة في قراءة كل روايات هذا الكتاب، اتساقا من المنهج السردي الذي تطور كثيرا على يد جنيت.

([18]) السرديات، كريستيان انجلي & جان ايرمان، ضمن كتاب نظرية السرد من وجهة النظر الى التبئير، مجموعة باحثين، ت: ناجي مصطفى، منشورات الحوار الأكاديمي والجامعي، ط1، 1989، ص103.

([19]) م. ن، ص 103.

([20]) الرواية في العراق، م. م، ص 62.

([21]) البناء الفني في الرواية العربية في العراق – 3 – بناء المنظور، م. م، ص84.

([22]) م. ن، ص85.

([23]) الصوت الآخر، م. م، ص71.

([24]) ينظر: البناء الفني في الرواية العربية في العراق – 3 – بناء المنظور، م. م، ص 12، ويؤكدها الباحث بقوله "تقصر التعددية على المنظورات". و: الصوت الآخر، م. م، ص 69.

([25]) هو كتاب بناء الرواية للدكتورة سيزا قاسم.

([26]) خطاب الحكاية، م. م، ص 129، 130.

([27]) لسان العرب، ابن منظور، ضبط نصه وعلق حواشيه: د. خالد رشيد القاضي، دار الأبحاث – الجزائر، ط1، 2008، ج 15، ص 197، 198.

([28]) المنجد في اللغة والأعلام، دار المشرق – بيروت، ط43، 2008، ص 254.

([29]) لسان العرب، م. م، ج 5، ص178.

([30]) م. ن، ج12، ص 60.

([31]) معجم مصطلحات نقد الرواية، د. لطيف زيتوني، مكتبة لبنان ناشرون، ط1، 2002، ص52.

([32]) قاموس السرديات، جيرالد برنس، ت: السيد إمام، ميريت للنشر والمعلومات – القاهرة، ط1، 2003، ص78.

([33]) علم السرد الشكل والوظيفة في السرد، جيرالد برنس، ت: الدكتور باسم صالح، دار الكتب العلمية – بيروت، ط1، 2012، ص 26.

([34]) البناء الفني في الرواية العربية في العراق – 3 – بناء المنظور، م. م، ص 107.

([35]) الذي تحوير لعنوان كتاب الدكتورة يمنى العيد: الراوي الموقع والشكل.