يسلط الناقد الضوء على التيار الرومانسي وفضله في فتح باب التجديد بعد أن كان التفكير والإبداع منقادا للتصورات الكلاسيكية. وبهذا تكون الرومانسية قد أعادت الاعتبار للقيم الإنسانية ومجدت المشاعر النبيلة وثارت على الاستبداد والظلم والتقليد والتبعية.

مقدمة في المذهب الرومانسي الغربي

كـريم الطيـبـي

الرومانسيـة مذهب أدبي نبت في أحضان أوروبا في القرن الثامن عشر، كما أقرت أغلب الكتب النقدية، وقد ظهر هذا المذهب كرد فعل عنيف على التيار الكلاسيكي الذي كان سائدًا إذاك في أوروبا. وتجدر الإشارة أن التيار الرومانسي كان يرتبط بالحركة التنويرية التي سادت أوروبا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، التي سعت إلى تحرير الإنسان من العبودية وقيود الكنيسة وتسلطها؛ حيث كانت تستغل المعتقدات الدينية لتحقيق مآربها السياسية. يقول شيخ الفلاسفـة المعاصرين، برتراند رسل: "إن بين الحركة الرومانتيكية وحركة التنوير علاقة تذكرنا في نواحٍ معينة بالنظرة الديونيزية في مقابل الأبولونية. فجذورها ترجع إلى ذلك التصور المصطبغ بصبغة مثالية، والذي كوّنه عصر النهضة عن اليونان القديمة؛ وقد تطورت الحركة في فرنسا خلال القرن الثامن عشر بحيث أصبحت عبادة للانفعالات، وكانت في هذا التطور تمثل رد فعل على الموضوعية الباردة المترفعة لدى المفكرين العقليين"(1).

* * * *

عن المصطلح:
إذا قمنا بالتفتيش عن أصل لفظة "الرومانسية"، ألفينا أنها "مشتقة من كلمة رومانيوس romanius التي أطلقت على اللغات والآداب التي تفرعت عن اللغة اللاتينية القديمة، والتي كانت تعتبر في القرون الوسطى كلهجات عامية للغة روما القديمة أي اللغة اللاتينية"(2). بيد أننا نصادف في فرنسا كلمة: romantisme، وفي إنجلترا كلمـة: romanticism، وفي ألمانيا كلمة: romantik، ثم الإسبانية والإيطالية كلمة: romanticismo. وكل هذه الاشتقاقات والصيغ "ترجع في الأصل إلى كلمة roman والكلمة الأخيرة كلمة فرنسية قديمة كانت تدل في العصور الوسطى على قصة من قصص المخاطرات شعرًا ونثرًا، وكانت تكتب أحيانًا romant وانتقلت إلى اللغة الإنجليزية في شكل romaunt ثم نسب إليها في الإنجليزية romantic وهي صفة تدل على ما ينسب إلى قصص المخاطرات، أو مايثير في النفس خصائصها ومايتصل بها"(3).

يتضح لنا أن مدلول لفظة "الرومانسية" لم يستقر على معنًى معين، بل شهد تحولات عدة، ففي البدء كان لصيقًا بالحركة التنويرية، ليدل بعد هذا على اللغات المبتذلة التي تفرعت عن اللغة اللاتينية القديمة، وأخيرًا سيتخذ مدلولا آخر هو كل ما يرتبط بالخيال كما هو الأمر في الخرافات والأساطير والحكايات العجيبة.

* * * *

أسباب ظهور الرومانسية ومبادؤها
نشأت الكلاسيكية في أوروبا بإيحاء من الحضارة اليونانية والرومانية، وذلك انطلاقًا من تقليد آثار أعلام هاتين الحضارتين في المسرح والشعر والملاحم، وبناء على هذا، حاول أدباء وشعراء هاته الفترة إحياء الكلاسيكية عبر استلهام الماضي والقديم، وتقليده ومحاكاته، شكلا ومضمونًا. ومما لاشك فيه أن الكلاسيكية كانت تنطلق من منطلقات أساسية أولها سلطة العقل؛ إذ إن الأدب لدى هذا التيار، مقترن بالعقل وبالمنطق، و"إذا كان الأدب الكلاسيكي الغربي عقليًا فمن الطبيعي أن ينصرف إلى البحث عن الحقيقة في معناها العام الذي يتعرف عليه الناس جميعًا لذلك العهد، ويؤمنون به، متجنبًا متاهات المشاعر الفردية، والأخيلة الجامحة، التي تقود إلى الخروج عن المألوف، أو تمس ما اصطلح عليه من التقاليد والعادات"(4).

ومن ثم، كان للعقل السلطة الكاملة في تسيير مشاعر الشاعر، وخياله وناصية لغته. وعليه يمكننا حصر مبادئ المذهب الكلاسيكي الغربي في عنصرين اثنين، حولهما يدور مفهوم الأدب، وهما: العقل والذوق؛ إذ إن الأدب هو ما يقبله العقل ويصنفه الذوق؛ أي اتباع القدماء وفق النواميس التي وضعوها، مع الأخذ بعين الاعتبار خصائص المجتمع المتمثلة في التقاليد والأعراف والعادات التي وجب احترامها، وعدم المساس بها، لا من قريب ولا من بعيد، "إذ كان الكلاسيكيون يعيشون في مجتمع أرستقراطي النزعة، شديد الاعتزاز بما استقر فيه من قواعد، شديد المحافظة على ما يؤمن به من أخلاق لها فيه قداسة لا تنازع"(5).

هكذا يتبدى لنا مدى انتشار هذا المذهب في أوروبا، لذلك وجدت الرومانسية في المجتمع الغربي، حقلا خصيبا صالحا لتطورها وبروزها خلال هذه الفترة، سيما وهي تتلاءم مع الخصائص السياسية والاجتماعية التي كانت قائمة وقتئذ، حيث أصيب المجتمع الغربي بخيبة أمل، بسبب سيطرت الرأسمالية التي حملت استعبادًا للإنسان، علاوة على هذا الواقع الميئوس؛ ذيوع بعض الأعمال الأدبية المترجمة في أوروبا، كمسرحيات شكسبير، "وقد شهر شكسبير في القارة الأوروبية، بسبب حديث فولتير عنه؛ وما لبث أن أعجب المتطلعون إلى التجديد بما عابه عليه فولتير من مآخذ، لأنهم كانوا قد ضاقوا بقيود الكلاسيكية ذرعًا، فما لبثوا أن فضلوا مسرحياته على المسرحيات اليونانية التي كان يقلدها الكلاسيكيون"(6).

هكذا؛ إذًا، قامت الرومانسية، كرد فعل قوي لردع المحاكاة والتقليد، ورفض الظلم والخنوع وتفنيد التسلط والاستبداد، وتجدر الإشارة أن الرومانسية لم تبرز كمذهب -كما أشرنا سلفًا– بل نتجت، من قبل أن تصبح مذهبًا أدبيًا، بسبب الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فانبثقت، لتجعل من القلب إنجيلا للتمرد، والذات آداةً للتأمل والتفكر، وتدبر الكون، فثارت على الكلاسيكية ومنطلقاتها، "واتخذت الرومانسية من الشعر وسيلة للتعبير عن الذات، وكان طبيعيًا بعد ثورة حررت الفرد واعترفت للإنسان بحقوقه"(7).

ويمكن أن نجمل أفكار ومبادئ الرومانسية في مايلي:

الثورة على الكلاسيكية، والخروج عن تقاليدها، ورفض كل ماهو قديم، والسعي نحو كل جديد.

مناغاة ومناجاة الطبيعة، فهي لدى الرومانسيين مصدر آمان، وأصل الإنسان؛ في المقابل حاولوا الابتعاد عن مظاهر التحضر والتمدن، باعتبارهما مصدر صخب، وهرج ومرج.

جعل القلب والذات محورين أساسيين في الإبداع، والانصراف نحو التأمل والنظرة الفلسفية، للحياة والوجود، إلى جانب تفضيل العزلة والوحدة، فنتج عن هذا المبدأ، التمرد على العقل الأرسطوي الديكارتي الذي" كان قد حبس الإنسان وقيده، وأوثق رباطه ولم يدع له متنفسًا"(8).

رفض كل ماهو لصيق بالمنفعة والبرغماتية، ويقول برتراند رسل في هذا الصدد: "لقد ازدرى الرومانتكيون كل ماله علاقة بالمنفعة، وارتكزوا في كل شيء على المعايير الجمالية، وهذا ينطبق على آرائهم في السلوك والأخلاق، وكذلك في المسائل الإقتصادية، إن كانت هذه المسائل قد طافت بفكرهم وفيها يتعلق بأوجه الجمال في الطبيعة، كان ميلهم يتجه إلى الجمال العنيف والمترفع"(9). يتبدى لنا، من خلال هذا القول، مدى رفض الرومانسيين للمبدأ المنفعي الذي دعا إليه مكيافيلي، حيث "جعل الإنسان آداة للمنفعة والمصلحة، وعطل المشاعر الإنسانية، ورصدها للمصالح الدولية، بحيث يمتنع على الأمير أن يعاني أية عاطفة بصدق.. ميكيافيلي تنكر للعواطف الإنسانية وللمعاناة، وجعل الإنسان آداة وحسب لتدبير الدولة وأوهم أن العاطفة هي مظهر من مظاهر الفشل الإنساني"(10).

التجديد في كل المقومات الفنية، شكلا ومضمونًا، وإطلاق العنان لجموح الخيال، وملكة التصوير.

كانت هذه أهم المبادئ التي بنيت عليها الرومانسية في الغرب، وتحسن الإشارة أن الرومانسية "مارست تأثيرها من الوجهة الفلسفية"(11)، حيث ساهمت في بلورة أفكار فلسفية رومانسية أيضًا، مما يمكننا القول أن التيار الرومانسي لم يقتصر -في الغرب– فقط على كونه مذهبا أدبيا نقيضا للكلاسيكية، بل كان مذهبًا حياتيًا، اقتحم شتـى الميادين: الأدب، الدين، السياسة، الفلسفة، الثقافة...إلخ

ومن جهة أخرى برز رواد كثر حملوا لواء الرومانسية في الغرب، فكان لهم الفضل في ذيوع هذا المذهب في الأوساط الأوروبية، وسنقتصر على ثلاثة رواد كان لهم عظيم الأثر في بلورة هذا المذهب في أوروبا.

* * * *

غـوته والرومانسية الألمانية
يعتبر غوته من الأعلام البارزة في المذهب الرومانسي الذي انتشر في ألمانيا، وقد "ولد جوهان ولفجانج جوتي بمدينة فرنكفورت في الثامن والعشرين من شهر أغسطس لسنة 1749م"(12) وفي صغره بدأت تترعرع عبقريته، وتنمو موهبته، فتعلم اللاتينية، والإنجليزية، والإيطالية، والفرنسية، و"كان أبوه يتولى تعليمه في معظم الأحوال لأنه درسه علوم الحقوق وحصل فيها على لقب الدكتوراه"(13). وتولى منصب رئيس الوزراء، لكن لم يُعرف بذلك، فلا أحد منّا يعرف غوته سوى ذلك الشاعر الفذ، الذي يتميز بتأمله العميق، وشعره الشفاف كجوهرة البلور، وأسلوبه المدهش، المتقن الصنع، الرائع الحبك، وبخياله الجموح، الذي يتغلغل في غياهب الوجود، ويسبر أغوار الكون، ويكفينا شاهدًا على توكيد عظمة هذا الرجل، شهادة الفيلسوف الألماني نيتشه، إذ يقول متحدثًا عنه وعن مكانته: "إنه يشكل حدثًا بالنسبة لأوروبا كلها وليس فقط بالنسبة لألمانيا، ومحاولة لتجاوز القرن الثامن عشر، بالعودة إلى الطبيعة، متساميًا إلى عصر النهضة، كمجهود بذله هذا القرن لتجاوز نفسه، لقد كانت له أقوى الغرائز: العاطفة، والتدله بالطبيعة، ومضادة التاريخانية، والمثالية، واللاواقعية، والروح الثورية، وهاته الأخيرة مظهر من مظاهر اللاواقعية"(14).

ومن جهـة أخرى، كان غوته، إنسانًا عاشقًا ومولعًا -حد الجنون– بالمرأة، وهذه الأخيرة كانت محور الكثير من قصائده وأعماله الأدبية، كيف لا وهي تأخذ منه إلى الجنان وتُحْدِث فيه أثرًا عميقًا، وتجذبه إلى السماء، فكما يقول: "الأنوثة الأبدية تجذبنا إلى السماء"(15).

وتحسن الإشارة أن للثقافة العربية عظيم الأثر في سيرورة حياة غوته، ويحدثنا أحمد حامد عن تناغم روح غوته بالثقافة العربية الإسلامية بقوله: "قرأ غوته، شاعر ألمانيا، القرآن الكريم، قرأ حياة رسول الإسلام، تعرف بالإسلام كاملًا، كان إعجابه بالإسلام يفوق كل شيء، وبعد أن تعرف على الإسلام تعريفًا أقنعه، فقال: "بعد أن قرأت عن الإسلام، أشهد بأننا مسلمون"(16).

وتتمظهر مظاهر تأثر غوته بالثقافة العربية، في مؤلفاته الكثيرة، حيث تأثر بحكايات ألف ليلة وليلة، و"لقد استدعى غوته، في الكثير من أشعاره، شهرزاد وعبر على لسانها، عن بواعث معينة، وألبسها أدوارًا وأفعالًا مختلفة"(17). وعلى غرار ألف ليلة وليلة، كتب غوته، كتابًا سمّاه "نزوة العاشق".

وقد أغنى غوته، مكتبة الأدب الألماني، بمؤلفاته الكثيرة، التي نذكر منها تمثيلًا –لاحصرًا– مايلي: آلام فرتر، فوست، سنوات تجوال ولهلم ميستر، الديوان الشرقي، الأنساب الأخرى، أحاديث مهاجرين ألمان، باريس الجديد، ميلوسة الجديدة...إلخ(18)

كانت هذه فذلكة عن شخصية فذة أحدثت أثرًا عظيمًا، ليس فقط في الأدب الألماني فقط، إبّان ذيوع التيار الرومانسي، بل كذلك في أدب أوروبا، والآداب العالمية المختلفة، وهذا بفعل غطرفته الأدبية، وعبقريته الفكرية، ولقد توفي غوته سنة 1832، غير أن "موت الشاعر حياته" على حد تعبير جبران خليل، إذ بقي غوته العبقري يحيا في الأجيال، وبقيت عبقريته تتكلم دون صوت، وتنفجر تحت الجفن المسبل، فمثل هذا العقل الحر-كما قال نيتشه- ينتصب في قلب الكون بقدرية مرحة وواثقة من نفسها(19). ورغم مضي 178 سنة من غروب شمس غوته، فإن أفكاره لازالت مشرقة، تنير الآمال، وأشعاره لازالت حية، تضيئ النفوس، وتضرم آلامها وأوجاعها.

* * * *

شيلي والرومانسية الإنجليزية
يعد شيلي من الشعراء الرومانسيين البارزين، وكان من الشخصيات الفريدة من نوعها، حيث جمع بين الثورة والتمرد، والمغامرة والشاعرية، غير عابئ للنقد والسخط الذي لقيه وهذه الشخصية القوية التي تمكن منها شيلي تعود إلى ناحية تكوينه الفكري والثقافي فهو قد "درس الشعر اليوناني وتشبع بالفلسفة الأفلاطونية، وكتب وهو طالب في أوكسفورد أول كتاب وهو (ضرورة الإلحاد 1811)"(20). وتجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب كان سببا في نعت شيلي بعدة نعوت وألقاب، منها: (شيلي المجنون)، (شيلي الملحد)، كما تسبب الكتاب في فصله من جامعة أوكسفورد، وعلى الرغم من كل هذا، يعتبر شيلي أحد ركائز الرومانسية في إنجلترا، إذ إنه عمل على بلورة المبادئ الرومانسية في أعماله الفكرية ومنتخباته الأدبية. وقد كان شيلي رومانسيًا إلى أبعد الحدود، حيث جنّح في فضائه الإبداعي، وفق خياله الخلاق الذي أسعفه، في ما كان يصبو إليه من نشدان للمطلق والتعبير عنه، و"كان صاحب فلسفة اجتماعية مثالية، يؤمن بتقدم الإنسان وكماله، وأن الكون تنساب فيه روح الحب، وقد وقف ضدَّ الطغيان والقسوة والعنف، ومجَّد الطفل والحب"(21).

ومن حافة أخرى، تميزت أشعار شيلي بدقة التصوير، وجمالية السبك، فتوفرت فيها كل مظاهر الطبيعة، تتبدى في كلماته كل ذبذبة من ذبذبات روحه، فانسابت انتاجاته مزيجًا من الكلمة الموسيقية، والنغمة المنفعلة والصورة الحالمة، والخيال الجموح.

ومن مؤلفاته، نذكر تمثيلًا -لاحصرًا-: "بروميثيوس حرًا، وهي مسرحية غنائية 1819، وثورة الإسلام 1811، وأغنية للريح الغربية 1819، وأدونيس 1821، ودفاع عن الشعر 1821، وفيه يقرر أن الشعراء هم المشرّعون غير المعترف بهم في هذا العالم"(22).

كانت هذه لمحة طفيفة حول هذا الرائد الرومانسي التي خامرته رغبة أكيدة في التجديد، تجديد الموضوعات والأنماط التعبيرية، وهو ما أدى إلى ثورته على القيود والقواعد، وفتح آفاق الفن والإبداع إلى أفاق أوسع وأرحـب.

وقد مات شيلي غريقًا في شاطئ (لجهورن) بإيطاليا(23).

* * * *

جان جاك روسو والرومانسية الفرنسية
إذا كانت الرومانسية في ألمانيا وإنجلترا، قامت بسبب مؤثرات سياسية واجتماعية، وعوامل نفسية، ففي فرنسا الأمر يختلف إلى حد ما، ذلك أن الفرنسيين مالوا إلى الشعر الكلاسيكي الذي ورثوه عن ثقافاتهم اللاتينية، فبنوا نهضتهم الأدبية انطلاقًا من هذا الموروث، حتى انفتحوا على ثقافة جيرانهم واستوعبوها، فثاروا ضد المذهب الكلاسيكي، وأسسوا المدرسة الرومانسية على أنقاضه.

وكان جان جاك روسو (1712-1778)، رائد الرومانسية في فرنسا دون منازع، حيث استمد صفة "رومانسي" من إنجلترا، ليعبر بها عن روعة الطبيعة، ومظاهرها الحية، متوسلًا بالخيال واللاواقعية، ومن المميزات التي تميز بها روسو في كتاباته، نذكر على سبيل التمثيل: "التعبير عن الذات، حب الطبيعة والتغني بجمالها الذي هو أقوى برهان على وجود الله، كان رسولًا يجد السعادة في أحضان الطبيعة بعيدًا عن قسوة الإنسان.. لقد كان يؤمن أن الإنسان ولد خيرًا وطيبًا، ولكن المجتمع هو الذي أفسده"(24).

كان روسو، رمزًا من رموز الحركة الرومانسية الفرنسية، عبد الانفعالات والأحاسيس، وقدَّس العواطف، ومجَّد الطبيعة باعتبارها دار الخلد والمأوى الحقيقي للإنسان، فدعا إلى العودة للأصل، أي الطبيعة، فتمرد على العقلانية والمادية، وأخرج النفس الإنسانية من قمقم العقل، وأدخلها إلى جنـة العواطف، وقد دبَّج الفيلسوف برتراند رسل فصلًا طويلًا للحديث عن روسو، حيث أشاد بمكانة أعماله، وثمَّن آراءه، يقول: "كان دفاع روسو عن المشاعر في مقابل العقل واحدًا من المؤثرات القوية التي شكلت الحركة الرومانتيكية ... كان الطريق البروتستانتي الجديد يستغني عن براهين وجود الله، ويجعل الشعور بهذا الوجود نابعًا من قلب الإنسان من دون مساعدة من العقل. وبالمثل رأى روسو في ميدان الأخلاق، أن مشاعرنا الطبيعية تهدينا إلى الطريق الصحيح، على حين أن العقل يضللنا"(25).

وإلى جانب هذا، كانت الروح الرومانسية تجري في مؤلفات روسو مجرى الدم بالجسد، لأنه آمن بالخيال المطلق، الذي يحقق أحلامه، ويشجع آماله، وهوس بالطبيعة ومفاتنها، ومايكتنزها من جمال وحسن آخاذين، فاعتبرها أسٌّ من أسس حياته، ففيها يحس بالاطمئنان النفسي، وفيها يفر من كيد الناس وحسدهم وشرهم، وفي الطبيعة أيضًا، يصلي لربه، لأن الصلاة في نظره مستجابة، وهذا ما يعترف به في اعترافاته فيقول: "كنت أستيقظ قبل مشرق الشمس، في كل صباح فأمرق خلال بستان مجاور، إلى طريق جد بديعة، فوق حقول الكروم التي كانت تمتد بطول سفح الجبل حتى (شامبري). وهناك، وأنا أتمشى، كنت أتلو صلاتي، التي لم تكن تتألف من مجرد تحريك شفتي بتمتمة فارغة، وإنما كانت تتمثل في سمو صادق بالقلب إلى خالق هذه الطبيعة البديعة، التي كانت آيات جمالها، تنبسط أمام عيني. فما أحببت قط آداء الصلاة في الحجرة، فقد كانت الجدران وكل تلك الأشياء التي من صنع الإنسان، تبدو لي دائمًا وكأنها تحول بيني وبين الله. وإني لاحب أن أفكر فيه وأتأمل آياته، بينما يكون فؤادي متطلعًا إليه، وبوسعي أن اقول إن صلاتي كانت خلصة، وكانت جديرة، لهذا السبب، بأن تستجاب"(26).

ويلاحظ من المعروض هاهنـا، أن روسو يشكل مرحلة مهمة، في تاريخ الفلسفة بشكل عام، وفي الحركة الرومانسية على وجه التخصيص، حيث احتفظ بجلاء نواميس الرومانسية، وكان أنموذجا لها، فكال الازدراء للعقل، واتخذ الطبيعة ملاذًا له. وقد خلّف روسو آثارا مهمة، أهمهـا: إيميل، الاعترافات، أحلام المتجول الوحيد، ثم العقد الاجتماعي الذي "كتب بروح مختلفة، إذ نجد فيه روسو في أحسن حالات كتاباته النظرية"(27).

* * * *

خاتمة:
لقد حاولنا، في هذا المقال، تسليط الضياء على التيار الرومانسي الذي كان له الفضل العميم في فتح باب التجديد والتحديث بعد أن كان التفكير البشري بعامة منقادا للتصورات الكلاسيكية القديمة. وبهذا تكون الرومانسية قد أعادت الاعتبار للقيم الإنسانية ومجدت المشاعر النبيلة وثارت على الاستبداد والظلم والتقليد والتبعية.

(باحث من المغرب)

* * * *

الهوامش

(1) حكمة الغرب، ص127.

(2) مذاهب الأدب، محمد مندور، ص59.

(3) الرومانتيكية، محمد غنيمي هلال، ص5.

(4) الرومانتيكية، محمد غنيمي هلال، ص16.

(5) الرومانتيكية، محمد غنيمي هلال ، ص17.

(6) الرومانتيكية، محمد غنيمي هلال، ص40-41.

(7) المذاهب الأدبية، ص67.

(8) الرومنسية في الشعر الغربي والعربي، ص20.

(9) حكمة الغرب، ص129.

(10) الرومنسية في الشعر الغربي والعربي، ص19.

(11) حكمة الغرب، ص129.

(12) تذكار جيتي، العقاد، مطبعة المعاهد، الطبعة الأولى، سنة 1932، ص31.

(13) تذكار جيتي، العقاد، ص34.

(14) أفول الأصنام، نيتشه، ص104.

(15) تذكار جيتي، العقاد، ص46.

(16) الإسلام ورسوله في فكر هؤلاء، أحمد حامد، مطبوعات دار الشعب، ص96.

(17) جوته والعالم العربي، كاتارينا مومزن، ترجمة: د.عدنان عباس علي، ومراجعة: د.عبد الغفار مكاوي، سلسلة عالم المعرفة، العدد: 194، فبراير 1995، ص18.

(18) من نافلة القول، أننا استقينا أسماء هاته المؤلفات، من كتاب: جوته والعالم العربي.

(19) أفول الأصنام، نيتشه، ص105.

(20) المذاهب الأدبية لدى الغرب، عبد الرزاق الأصفر، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، سنة 1999، ص93.

(21) المذاهب الأدبية لدى الغرب، ص93.

(22) المذاهب الأدبية لدى الغرب، ص93.

(23) شيلي في الأدب المصري، جيهان صفوت رءوف، دار المعارف، ص63.

(24) الرومانسية في الأدب الفرنسي، دة. آمال فريد، دار المعارف، ص7.

(25) حكمة الغرب، ص135.

(26) اعترافات جان جاك روسو، الجزء الثاني، المؤسسة العربية الحديثة، ص184.

(27) حكمة الغرب، ص135.