يقدم الباحث السوري في هذه الدراسة لما يدعوه بشعرية المتحولة النصية تحليله لكيف أن قصائد الشاعر العراقي المرموق قصائد متحولة الدلالات والعلائق والبنى والرؤى والدلالات، والمرجعيات النصية والمثيولوجية، نظراً إلى ما تملكه من انفتاح نصي على عالم تعبيري خصب لا تستنفده كثرة القراءات والمتابعات النقدية.

شعرية المتحولة النصية الوسطى

«الجملة- المقطع» في شعر حميد سعيد

عـصام شـرتح

مدخل:
إن الشاعر ربيب اللغة – إن جاز التعبير- يخلق متعتها، ويصنع مزاجها، تبعاً لمقدرته؛ ومهارته على ترويض اللغة؛ ودرجة تحثثه للكلمات؛ ومدى مهارته في نقل ما في داخله من إحساسات على أجنحة الكلمات المموسقة؛ لتحمل ما في باطنه من شحنات انفعالية بريشة نبضه وإحساسه العميق، لتكون ترجماناً أميناً عما يحسه، ويتأمله، ويشعر به، ويتلجلج في داخله، ومن هذا المنطلق، فإن للكلمة، أو الجملة في الشعر ناموسها الخاص، وفرادتها المميزة إذا ما قورنت بمثيلتها من أنواع الخطابات الأخرى، يقول الناقد الجمالي سعيد توفيق: "إن الجمل التي تظهر في العمل الأدبي تتخذ صوراً وأنماطاً عديدة، فحتى الجمل الناقصة يمكن أن تظهر في العمل الأدبي، كما هو الحال في الحوار المسرحي على سبيل المثال. وعادة ما تصنف هذه الجمل المتنوعة وفقاً لما تعبر عنه، وهكذا يمكن أن نجد في العمل الأدبي جملاً " تعبر" عن أحكام؛ أو تساؤلات؛ أو رغبات؛ أو أوامر.. إلخ. كذلك فإن الجمل يمكن أن تظهر في أساليب متنوعة، كأن ترد في حوار مباشر أو غير مباشر على سبيل المثال. ومع ذلك فإن إنجاردن يميز الطابع العام المميز للجملة على أساس أنها" وحدة معنى وظيفته قصدية"؛ وهي وظيفية، لأنها تعين قواعد التركيب اللغوي التي بها تتحدد معاني الكلمات التي ترد في سياق الجملة، ومن ثم؛فإنها تحدد الدلالة القصدية لمعاني الكلمات الواردة فيها. وهي قصدية، لأنها تشير إلى شيء ما بخلاف ذاتها، فهي تشير إلى وقائع، أو تسقط وقائع أو أحداث متمثلة"([i]).

إن ما أشار إليه الباحث سعيد توفيق لجوهري دقيق؛ فالجملة الشعرية في العمل الأدبي لها خصوصيتها؛ ولها وقعها المؤثر المغاير لماهي في الجملة النثرية؛ فهي حتى وإن جاءت مبتورة أو ناقصة فإنها لا تنم على عجز أو قصور من الشاعر بقدر ما تشي بدلالات مقصودة، بعيدة المرامي والمسارب الرؤيوية، لدرجة أن القارئ لا يدركها؛ إذ يجد صعوبة في إدراك أبعادها ومراميها الفنية؛ وهذا دليل أن للجملة الشعرية خصوصيتها في التركيب الشعري، وهذه الخصوصية تتحكم فيها نظرية النظم أو ما يسمى أسلوب النظم، وما يقتضيه من تقديم أو تأخير؛ أو فصل أو وصل، وهذا ما أشارت إليه الناقدة خلود ترمانيني بقولها: "تكمن جمالية القصيدة في كيفية النظم، ذلك أن إبداع الشاعر لا يعزى إلى الكلمات فحسب، وإنما إلى نظم الكلمات وترتيبها، واستغلال خواصها الصوتية والصرفية في سبيل تنسيقها في تراكيب متجانسة يضفي عليها الشاعر الكثير من مشاعره؛ وههنا؛ تتحقق جمالية النظم عن طريق التلاحم القائم بين التركيب المبدع والشعور الخاص، أي بين الوسيلة الفنية والرؤيوية الداخلية لدى الشاعر. وعلى هذا الأساس، فإن الشاعر لا يعتمد في بناء قصيدته على انتقاء المفردات، واختيار الأساليب النحوية الملائمة بقدر، ما يركز على الناحية الفنية، والإيحاءات الفكرية، ووقع الكلمات موسيقياً؛ فهناك مفردات تأتلف مع مفردات من دون غيرها. وهناك أساليب لغوية تتجاوز العرف الشائع إلى الإبداع الخاص. وهذا كله، يحتاج إلى مقدرة إبداعية يمكنها تركيب المفردات والتنسيق بينها، فلغة الشعر أغنى وأعمق لا بالكلمات فحسب، وإنما في الصياغة وطرق التركيب، فكل عنصر لغوي في الشعر يستخدم في تطوير قدرة العنصر الآخر. ومن هنا، تقوم لغة الشعر على أساس تنظيمي يشارك فيه الشكل الشعري المعنى الشعري في انسجام لا قرين له خارج الشعر"([ii]).

وما ينبغي ملاحظته أنه بقدر ما يتجاوز الشاعر المألوف في تشكيل لغته الشعرية بقدر ما تغتني لغته؛ وتجذر إبداعها الفني المثير؛ يقول أدونيس: "الكتابة الشعرية عمل مزدوج: تفجر اللغة الشعرية المثقلة، المشحونة باللغة والإيديولوجية التقليدية؛ وتفجر بنيتها التركيبية وأشكالها. إنها تحرر اللغة الشعرية من مناخها الفني التقليدي، وتدخلها في مناخ آخر"([iii]). وهذا المناخ الآخر هو المناخ الإبداعي. الذي حصيلته روح وثابة، تتحثث الأشياء بحدقة جديدة، ومنظور مغاير، وما المبدع إلا عدسة متغيرة للواقع؛ ورؤيا متجددة للوجود والعالم؛ ومن هنا؛يأتي تلاعبه بالأشياء والوجود محايثاً لتلاعب الطفل بالأشياء قصدَ اكتشاف ذاته والعالم المحيط من حوله، مؤكداً تفاعله معه؛ يقول أدونيس: "الشعر كاللعب، ليس استعادة بل شهوة. وكما أن الطفل يلعب لكي يبطل أن يكون طفلاً، كذلك الشاعر يكتب ليكون ما يشتهي، وليمتلك حياته الحاضرة والشعر كاللعب يضعنا دائماً على عتبة زمن آخر، بدء جديد لحياة مختلفة. وهو كاللعب مغامرة، لكنها مغامرة فرح ورجاء. وكل مغامرة تربطك بالمستقبل"([iv]). وبهذا التصور، يرى أدونيس: أن الشعر لعب ومغامرة؛ وهنا، تكمن لذته، حين تدفعك المغامرة إلى لذة الاكتشاف؛ وتجاوز ما هو آني إلى ما هو مستقبلي، لاستشراق آفاق المستقبل، بعين متجددة، تتحثث، ماهو جديد؛ وتسعى إلى نسف ما هو قديم؛ وهنا، يكمن الجدل الإبداعي؛ حين تحايث اللغة الواقع وتتجاوزه؛ لذلك؛ يقال عن الشاعر: "أنه كيميائي الواقع؛ يصهره في بوتقة حساسيته ورؤياه، يحوله إلى إيقاع، مانحاً كل شيء فيه فرادة خاصة، في ما يصل كل شيء بكل شيء. ويأتي واقع القصيدة أكثر بهاءً وتناسقاً وعمقاً وديمومة من أصلها الواقعي، فالقصيدة لا تحاكي الواقع، وإنما تجانسه"([v]). والأصح أنها تتجاوزه؛ فإذا لم تتجاوز القصيدة الواقع فلا قيمة لها في أن تكون واقعاً إبداعياً، لذلك: "يتعمد الوعي الإبداعي دفع التضاد والتناقض إلى ساحة المعنى؛ لإحداث الرجات التي تزيل عن المتلقي استسلامه لهدير اللغة وهدهدتها. إنه لايريد له أن ينخدع بزخرفها البراق، بل يريد أن يكون في عمل العلاقات الداخلية ما يكتسح اعتقاداته في ضرب من الهدم والبناء معاً"([vi]).

وبهذه الطريقة؛ تجذر اللغة الشعرية إبداعها؛ إنها لا تهدم إلا لكي تبني، وفي عملية الهدم والبناء تكمن الحقيقة الإبداعية، وتكمن لذتها الشعرية، ورجرجتها الإبداعية، فكم من النصوص قد ذوت وماتت لأنها معتمدة في حراكها الإبداعي على الزخرفة اللفظية وهرطقاتها الطنانة، دون أن تملك رصيدها الرؤيوي الإبداعي في الخلق، والتجاوز، والابتكار؛ فلا قيمة للشعر إن لم يخترق ويبتكر، وما قيمة الشعرية إن لم تتجاوز حاضرها إلى مستقبلها؛ وتستشرف ما وراء العالم من تناقضات. فالإبداع لا يتجذر إلا على ما هو مستقبلي وماهو ماورائي بعيد؛ والإبداع إن لم يشارف تخوم المستقبل سيموت ويندثر لا محالة مع مرور الزمن .

وما ينبغي أن نشير إليه : أن الكيفيات الجمالية التي تتعلق ببنية التشكيل الشعري، تختلف من نص لأخر، وتختلف إثرها المعاني، لتكتسب بعداً جمالياً في بعض المواضع، وبعداً لا جمالياً أو مشوهاً في مواضع أخرى، يقول سعيد توفيق في ذلك: "إن طبقة وحدات المعنى تكون لها كيفياتها الجمالية الخاصة بها، والتي من خلالها تسهم طبقة المعنى في تحقيق مجمل انسجام الكيفيات الجمالية للعمل الفني الأدبي. فالمعاني تكون لها خصائص مميزة لبنيتها، فهي قد تكون واضحة أو غامضة. بسيطة أو معقدة، حرفية أو رمزية.. إلخ؛ ومن خلال تجمعات هذه الخصائص... يكون لها دور جمالي"([vii]). وهذا الدور الجمالي لا تكتسبه من حراك الأنساق وتفاعلها فحسب، وإنما من حراك البنى الدلالية وتضافرها وتلاحمها في النسق على مستوى الرؤية، ومغزاها الدلالي العام المكونة لهذه الأنساق والرؤى . وثمة تساؤلات على درجة كبيرة من الأهمية يطرحها الناقد علي جعفر العلاق، ويجيب عليها بشاعرية آسرة؛ ومنطق فني جمالي مثير؛ لا بأس من ذكرها والاستئناس بها؛ إذ يقول: "كيف يستطيع الشاعر أن يرتفع بلغته إلى هذا المستوى الفني الشائق من الفاعلية؟ كيف يحنو عليها، ويشحذ حيويتها الداخلية، إلى الحد الذي تكون فيه هذه اللغة تجسيداً للشعرية وتجلياً من تجلياتها الحقة؟! يبدأ الشاعر مغامرته باللغة، ومن خلالها. ولا أعني باللغة- هنا- لغة المصالحة مع الأعراف، فتلك لغة عامة، مشتركة، لا غواية فيها ولا مفاجآت. اللغة،هنا، لغة خاصة، تستفز الخيال إلى أقصاه، وتمارس انحرافها الجميل عن الطريق المرسوم للأداء اللغوي منذ قرون. يرفع الشاعر عن بئر اللغة غطاءها القديم، فتندلع منها نار شرسة لم تصدر عنها فيما مضى. طبقة جديدة. عدوان على الأداء المنطقي، واغتراف من ينابيع غائمة ظلت مخبوءة بين أدغال العادة والتكرار، إنها الآن لغة صادمة، تبهج وتغيظ، وتغوي، بعد أن أضفت عليها نار المخيلة طلاقة ووحشية خاطفة، وحيوية خاصة، هي حيوية المجاز وشمائله التي تنفتح على الصورة، والمفاجآت، واللعب البهيج ... لغة خاصة تدعونا إلى ليلها الطري الصافي الذي يحررنا من منطق النهار العام، وشروطه المشتركة، وننتصر فيه؛ وبه على منطقنا الخارجي الذي فرضه علينا نهارنا الشائع، ولغتنا الشائعة، وذائقتنا الشائعة أيضاً. لذلك فإننا نهرع إلى هذه اللغة هاربين من أجسادنا التي تغطينا، وتحجب عن أرواحنا هذا البلل المفاجئ الذي يهب علينا من لغة جديدة، ريانة. وما هروبنا هذا إلا هروب من ذلك العالم الثري العاري. هروب من منطق الصيغ المشتركة في الأداء التي تجعلنا كلاً مشاعاً، متشابهاً، إلى منطق داخلي، هو منطق الشعر حيث ننغمر جميعاً بلغته الفردية الغامضة. ويتذوق كل منها ما تشيعه لغة المجاز وفضاؤها الواسع من إحساس بالحرية والارتواء"([viii]).

إن هذا الحس الجمالي باللغة وبمثيراتها ضمن النسق الشعري لدليل على أن الشعراء يدركون أن ما تحققه لغة الشعر لا تستطيع أي لغة أخرى في أن تحققه بهذه الجاذبية والأناقة والسمو المطلق؛ كما هي عليه في لغة الشعر؛ وهذا ما يجعل الشاعر الماهر مفتوناً باللغة، ربيبها الذي يخلقها بنبض جديد، وإحساس عميق؛ وشكل لغوي جسور وعتيد؛ وهذا يعني: "أن الشاعر الذي يعيش في عالمه الداخلي، ويعاني هاجس الوجود والمصير، يستطيع، ولو كان ذا اتجاه تجريدي أن يشحن كلماته وتعابيره وتجريده بطاقة إيحائية تهز تثير"([ix]).

وهذه هي سمة الشعر الحقيقي أنه قادر على أن يتجرد عن الواقع، ويهز القارئ بمثيرات كلماته، طالما أنه يملك السمة الإبداعية، والقدرة على النفاذ إلى ما هو باطني وجوهري في الوجود والحياة؛ وتبعاً لذلك، يوظف الشاعر إمكانياته كلها لاقتحام هذا العالم، ومناوشته بقوة، صحيح أن: "التراكيب الشعرية لا تعبر في الموقع الواحد إلا عن معنىً واحد أحياناً؛ لكنها تبحث – بشكل دائم- عن التعدد، والتجاوز في طرائق التعبير، مما يؤكد أن الشعر يبقى في صيرورة دائبة يبحث عن إمكانات إيقاعها جميعها؛ فيلجأ إلى مختلف الأساليب اللغوية؛ ليقدم تنويعات مختلفة، تنسجم مع السياق الشعري، والموقف الوجداني الذي يعيشه الشاعر"([x]).

وقد يتساءل سائل: هل تعد الجملة متحولة نصية وسطى أم كبرى؟! وإذا ما سلمنا جدلاً أن الجملة متحولة نصية وسطى- حسب زعمك- فماذا تقول حيال المقطع الشعري المتكامل الذي يمثل متوالية من الجمل (الاسمية/ والفعلية)؟!! أليس من الخلط والخطل كذلك، أن تسمي المقطع الشعري الكامل وحدة نصية وسطى؛ وأحقيته -من منظورنا -أن يكون وحدة نصية كبرى؟! لأنه ينطوي على رؤى متكاملة؛ تصب كلها في مجرى دلالي رؤيوي محدد.

نجيب هذا السائل المفترض قائلين:
صحيح أن الجملة مكتملة في أغلب الأحيان، لكنها لا تظهر آثار فنيتها وألقها الشعري جلية إلا من خلال النسق الضمني الذي يحتويها؛ فهي مكتملة بذاتها من حيث أداء المعنى، لكنها غير مكتملة من حيث الرؤية النصية التي تنطوي عليها في سياقها النصي العام؛ لأن الجملة تستمد ألقها في لغة الشعر بوساطة ما يسبقها وما يتلوها من عناصر التركيب؛ ولا تكتسبه وهي معزولة إطلاقاً؛ لأن الجملة- مهما اكتملت وتفردت وهي معزولة عن سياقها النصي- لن ترقى إلى الحيز الإبداعي الجمالي الخلاق الذي يمكن أن تحدثه في نسقها الشعري المبتكر؛ وهذا ما أشار إلى بعض منه الدكتور سعيد حسن بحيري بقوله: "إن الجملة في النص ذات دلالة جزئية، ولا يمكن أن تتقرر بالتحديد الدلالة الحقيقية لكل جملة داخل ما يسمى بكلية النص إلا بمراعاة الدلالات السابقة واللاحقة في ذلك التسلسل/ التتابع الجملي؛ إذ ينظر إلى النص مهما صغر حجمه على أنه وحدة كلية مترابطة الأجزاء، فالاعتداد هنا ليس بالامتداد الطولي للنص، بل بالأبنية الكبرى المتلاحمة داخلياً التي يقدمها النص... ولا شك أن الجمل يمكن أن تستقل بدلالتها الجزئية إذا كان التوجه إلى الحكم على هذه الجزئيات؛ ولكن إذا أريد حكم كلي لا يستند إلى أشتات، فلا يستقيم ذلك التوجه، ويتحتم أن ننتقل إلى توجه آخر؛ فالنص لا يجيز وجوداً مستقلاً لعناصره، حيث لا تكون القيم الجزئية ذات اعتبار كبير إلا باشتراكها في القيمة الكبرى المتكونة من ذلك التكوين الأكبر "
([xi]).

وهذا القول ينطوي -بتمامه- على المقطع الشعري كذلك؛ فلا يمكننا – بأي حال من الأحوال- أن نسمي المقطع الشعري؛ وهو معزول عن نسقه وحدة نصية كبرى، للسبب ذاته الذي ذكرناه سابقاً؛ إذ إن المقطع في القصيدة المعاصرة لا يشكل وحدتها النصية أو منظورها الكلي المتكامل، مهما سما المقطع وتعالى فنياً، لأنه ليس بمتناه ٍعلى الإطلاق، وما ليس بمنتهٍ أو متناهٍ على الإطلاق لا يمكن أن نسميه وحدة نصية مكتملة أو وحدة نصية متحوله كبرى نهائياً؛ مهما تشعبت جمله وامتدت؛ لأن ثمة مقاطع تنبني عليها القصيدة؛ ولا تكتمل إلا بها، ولا تتشكل الرؤية النصية، وتكتمل خيوطها بتمامها وكمالها إلا بتضافرها في المقاطع جميعها في بلورة الرؤية النصية الكلية أو العامة؛ وهذه السمة هي ما أطلق عليها نقادنا المعاصرون القدامى بـ[الوحدة العضوية]: التي تميز القصائد الحداثية عن غيرها من القصائد، وتبعاً لهذا المنظور؛ فمن الخلط والخطل معاً أن نطلق على المقطع الشعري مهما ارتفعت سويته الفنية، وامتشق منتوجه فنياً، ومداً دلالياً بأنه وحدة نصية متحولة كبرى، لأن ثمة أشياء بنائية يختزنها ولا يكتمل إلا بها.

أولاً- شعرنة الوحدة النصية الوسطى الأولى [شعرنة الجملة]:
إن الجملة رحم التركيب؛ وهي ركيزة الشاعر في إثبات موجوديته الشعرية؛ إذ تظهر من خلالها وبها قدرة الشاعر على التركيب والتميز في تراكيبه الإبداعية؛ فكم من الشعراء قد سموا بشعريتهم، ببداعة لعنتهم وبنائهم النص بناءً هندسياً محكماً لا تنفصل فيه الجملة عن مثيلتها في التركيب؛ لأنهم يعون أن النص بناء فني محكم، وما دام كذلك ينبغي للنص أن يحقق الشروط الفنية جميعها أو معظمها؛ وأولها: التكامل والتماسك النصي؛ وفق هذا المنطلق بدأ النقاد ينظرون إلى النص من زاوية شمولية معتمدين ما يسمى بالتحليل النصي، مظنتهم في ذلك؛النص بكليته بوصفه جملة نصية متحولة كبرى؛ متجاوزين منطق تحليل الجملة أو المقطع؛ لأنه لا يفي بالغرض الفني؛ ولأنه لا يكشف بحقيقته عن قيمة النص الحقيقية أو الإبداعية التي ينطوي عليها؛ وما هو جزئي لا يكتشف بدقة ما هو كلي؛ ومن هذا المنطلق: "يتميز التحليل النصي عن تحليل الجملة؛ إذ إنه يبدأ التحليل النحوي باجتزاء الجمل، وعزلها تقريباً عن سياقها في النص أو الخطاب، ويصبح السلوك اللغوي مجرد تحقيق لا نهائي لعدد من نماذج الجملة؛ وما على النحوي إلا الكشف عن هذه النماذج،وتحديد قوانينها الحاكمة على مكوناتها التركيبية؛ ليصير الكلام جميعه قيد الضبط، أما النص فليس إلا سلسة من الجمل، كل منها يفيد السامع فائدة يحسن السكوت عليها، وهو مجرد حاصل للجمل أو لنماذج الجمل الداخلة في تشكيله"([xii]).

وتبعاً لذلك؛ أخذت النظريات النصية الحديثة تبحث في خصوصية النحو التركيبي للنص؛ بوصفه المنظم الأساس لحركة النص، وما يقصده اللغويون بالنحو التركيبي التحليلي للنص: "دراسة نصية لوحدات المنطوق المتجاوزة للجملة ومكوناتها وقواعد الربط بينها من خلال مناهج تركيبية تحليلية، وذلك :بالإضافة إلى العلاقات الداخلية؛ فنحو النص نمط من التحليل ذو وسائل بحثية مركبة، تمتد قدرتها التشخيصية إلى مستوى ما وراء الجملة، بالإضافة إلى فحصها لعلاقة المكونات التركيبية داخل الجملة... وتشمل علاقات ما وراء الجملة مستويات ذات طابع تدريجي، يبدأ من علاقات ما بين الجمل، ثم الفقرة، ثم النص (أو الخطاب بتمامه)([xiii]).

وما ينبغي ملاحظته أن النص الشعري ليس بناءً لغوياً فحسب؛ وإنما بناء شعوري مكثف لطبقات المعنى أو الدلالات التي تنتجها الذبذبات الشعورية المحتدمة في قرارة عمق الذات؛ ولا يمكن اكتشافها إلا من خلال تفكيك هذه الوحدات وتحثثها وربطها في مجراها النصي العام؛ واستناداً إلى ما تقدم؛علينا أن نعرف الجملة- من منظورنا- الحدسي المتواضع- بقولنا: الجملة هي المتحولة النصية المركبة الوسطى التي وإن اكتفت بمدلولها النسقي المحدد فإنها لن تكتفي في سيرورتها النصية، لأن ثمة معانٍ مجازية تكتسبها في سياقها بارتباطها بما يسبقها وما يتلوها من عناصر التركيب؛ مما يجعلها أكثر فاعلية وقدرة في مسارها النصي عما هي عليه بمفردها. يقول الباحث والعلامة حسين جمعة في تعريفه للجملة من منظور نقدي دقيق: "فالجملة تتشكل وفق الإسناد المفيد للمعنى، فإذا تم بالمسند والمسند إليه، تمت الجملة. وقد يستدعي أحدهما أو كلاهما كلاماً آخر لإتمام المعنى، يقال له الفضلة؛وربما يحتاج ذلك كله إلى أن تسمى أدوات الربط ... أما الفضلة فهي اسم يذكر لتتميم معنى الجملة المكونة من المسند والمسند إليه، إذا لم يتم بهما معنى مفيد .. وقد يلزم التركيب وجود أدوات تربط أجزاء الجملة كالشرط، والقسم، والاستفهام، والتمني، والترجي.. وتقع الأدوات حرفاً واسماً.. تسمى أدوات الربط"([xiv]).

وبهذا التصور؛ ترى الناقدة خلود ترمانيني: "أن الجملة تتألف من مجموعة كلمات تم تركيبها على نحو معين، وهذا التركيب يقوم على عملية إسنادية بين اسمين في حال الإسناد الاسمي؛ وبين فعل واسم في حال الإسناد الفعلي"([xv]). هذا من الناحية اللغوية، أما فيما يخص الناحية المجازية؛ فيرى الناقد مصطفى درواش أن لغة الشعر تختلف في صوغها للجملة على أساس من المجاز وعمق الإيحاء، على عكس النثر العلمي الذي هو أشد قرباً من المطابقة وعلامة لها خلافاً للشعر الذي هو أشد لصوقاً بالإيجاء وقرباً منه، خاصة إذا كان أسلوب النص مفارقاً لا نمطياً؛ فالمفارقة طاقة واستطالة وتنويع وتدليل على محورية الصنعة في إنشاء الأسلوب وصوغه([xvi]).

وبهذه المقاربة يرى الناقد الجمالي سعيد توفيق "أن معاني الكلمات المفردة تعدل عندما ترتبط معاً في سياق الجملة. وعلى نفس النحو، فإن معاني الجمل تتعدل وتتحول عندما ترتبط معاً في سياق جملة مركبة بشكل يؤدي إلى تبلور كل جديد. وهذا الكل يحدد؛ ويؤسس قواعد الجمل المفردة، لتشارك فيه"([xvii]). وهذا دليل أن معاني الكلمات تتعدل عند دخولها في التركيب، كما أن الجمل لا تتحدد معانيها إلا من خلال معرفة السياق الذي يضمنها؛ وبهذا المنزع المحايث يرى جان كوهن: أن ما يميز الجملة الشعرية عن الجملة اللاشعرية هو مقدار انزياحها عن النمط المألوف من القول؛ إذ يقول: "فالانزياح التركيبي لم يحصل إلا لأجل إثارة الانزياح الاستبدالي. إلا أن الاستعارة الشعرية ليست مجرد تغير في المعنى، إنها تغير في طبيعة أو نمط المعنى، انتقال من المعنى المفهوم إلى المعنى الانفعالي، ولهذا لم تكن كل استعارة كيف ما كانت شعرية"([xviii]).

وما ينبغي الإشارة إليه : أن الشاعر المعاصر يستغل جل إمكاناته اللغوية لخلق الانحرافات الدلالية الصادمة التي تزيد وتيرة الشعرية، قصدَ الإثارة بمبتكرات إسنادية تصدم المتلقي، وتؤدي بصلادة توقعه. وتبعاً لذلك: "فعلت الأسلوبية من دور الانحراف الدلالي في بناء النص الشعري، إلى الدرجة التي عرفت فيها الصورة البلاغية على أنها الوحدة اللسانية التي تشكل انحرافاً دلالياً، وعلى هذا الأساس يكون فن العبارة نسقاً من الانحرافات الدلالية اللسانية"([xix]).

وتتخذ الجملة الشعرية أشكالاً ثلاثة؛ هي- كما حددها- الدكتور حسين جمعة في معرض حديثه عن مفهوم الجملة - إذ يقول: "فالجملة إما أن تكون جملة اسمية؛وإما جملة فعلية، على حين قسمها ابن هشام باعتبار رصدها إلى ثلاثة أقسام؛ فما صدرها اسم جملة اسمية، وما صدرها فعل هي جملة فعلية، وما صدرها ظرف هي جملة ظرفية .. وزاد الزمخشري وغيره الجملة الشرطية... واستنكر ابن هشام الجملة الشرطية وردها إلى الفعلية، ونحن نرد الجملة الظرفية إلى الاسمية أو إلى الفعلية تبعاً لتقدير المعنى في الكلام"([xx]).

وما يميز لغة الشعر – عند حميد سعيد – على مستوى بلاغة الجملة بكارتها وحساسيتها الشعرية؛ إذ تقتضي التشكيلات المراوغة والاستعارات الجذابة التي تنم على شعرية أكيدة؛ وإبداع جوهري أصيل. ولدراسة خصوصية الجملة ومصدر جمالها بوصفها المتحولة النصية الوسطى؛ سنفحصها حسب ما ذهب إليه النحاة؛ ونبرز أهم القيم المجازية أو الجمالية التي تحققها في بنية النسق الشعري الذي يضمها وفق ما يلي:     

1. شعرية الجملة الاسمية:
إن أبرز تعريف يمكن أن نستقيه للجملة الاسمية من منظور نقدي معرفي معاصر ما ذكره الناقد حسين جمعة؛ في تعريفه لها بقوله: " هي كل جملة تصدرت باسم، ووضعت لإفادة ثبوت المسند والمسند إليه؛ أو استمراره بالقرائن الدالة عليه؛ أو الثبوت والاستمرار معاً.. وموضعها: المبتدأ أو الخبر، والاسم والخبر مع أن وأخواتها، ولا النافية للجنس، واسم الفعل، والأصل في الخبر أن يأتي نكرة مشتقة في ذلك كله، وقد يأتي جامداً، نحو: هذا حجر. وكذلك الأصل في  الجملة الاسمية أن تدل على الثبات ودوامه؛ كقولنا: الشمس مضيئة؛ أو كقولنا: الماء تجمده في درجة الصفر. فالمبتدأ مسند إليه لأنه لم يسبقه عامل، وهو الشمس والخبر أسند إليه (مضيئة)، وتمت به الفائدة .. والإضاءة ثابتة لها على الدوام والاستمرار في الفعل؛ وكذا التجمد . فالجملة الاسمية تفيد الاستمرار بالقرائن إذا لم يكن في خبرها فعل نحو : العلم نافع. فالعلم نفعه مستمر.(هذا هو الأصل فيه)؛ و السياق لا ينكره كما أن المنطق والعقل لا ينكره"([xxi]). وعلى الرغم من أننا قد تناولنا هذا المقبوس من سابق فإننا نعيد ذكره في هذا المعرض لنؤكد أن القرائن التي تتضمنها الجملة الاسمية تقوي بلاغتها، وتزيد من فاعلية تأثيرها؛ وإيصال مقصودها، بثبوت دامغ يجعلها أكثر وقعاً وثبوتاً في نفس المتلقي؛ وهذا ما جعل العديد من النقاد يقرون أن الاسم ركيزة السياق اللغوي؛ ومنهم منقور عبد الجليل إذ يقول:" فالاسم عنصر أساسي في أي سياق لغوي، تقتضي دلالته إرجاعاً في عالم الأعيان أو الأذهان بوصفه شيئاً له مميزات خاصة"([xxii]). ويورد المنقور تعريف أرسطو للاسم بقوله:" هو مقطع صوتي يقصد به دلالة متعارف عليها، خالٍ من أي مرجع إلى الزمن، ولا يدل كل جزء منه على دلالة عندما يؤخذ مستقلاً"([xxiii]).

وما ينبغي ملاحظته وتأكيده: أن فاعلية الجملة سواء أكنت اسمية أم فعلية، أم شرطية ليست في قيمتها النحوية إطلاقاً؛ رغم أهميتها؛ وإنما في قيمتها المجازية، وصدمتها التصويرية، وانزياحاتها الفنية المستعصية (اللامتوقعة)؛ وبقدر ما يبتكر الشاعر في مجازاته الشعرية؛ واستعاراته الفنية، وانزياحاته اللغوية الصادمة في حيز تجسيد الرؤية وتعزيزها فنياً؛ بقدر ما يرتقي في إبداعه الشعري إلى مصافي الشعرية الأصيلة التي تفجر ينابيع الإبداع الرقراقة، لتصل إلى أعلى مراتب الجودة والإثارة والتشويق الفني؛ وهذا يدلنا – بشكل واضح- لا يدع مجالاً للشك: "أن الشاعر يقتطف إبداعه ليجمع جنباً إلى جنب بين الإمتاع والدلالة من جهة، وليصبح كل أنموذج شعري يقدمه مختلفاً عن الآخر؛ ومختلفاً عما يبدعه الشعراء الآخرون من جهة أخرى؛ فكل أنموذج لا يمكن أن يقوم مقام واحد آخر.. وحين تتعدد النماذج الدلالية في العصر الواحد يصبح أكثر إشراقاً، وأصدق تمثيلاً له وللواقع"([xxiv]).

وإبداع الشاعر ومهارته تتجلى في دهشة البناء والتركيب؛ وكلما تفنن الشاعر بأنساقه اللغوية والتحليق بها إلى حيز جمالي غير معهود كلما استطاع أن يشد إلى إبداعه القارئ،  لدرجة يشكل معه وحدة ائتلافية لا تنفصم عراها على الإطلاق؛ وهذه هي الفاعلية التأثيرية أو المجاذبة الإبداعية التي قصدناها في مرجعيتنا القرائية لمصطلحنا النقدي [جمالية المجاذبة الإبداعية]، أو الممغنطة الإبداعية بين المبدع والقارئ، وهذه الممغنطة الإبداعية أو الجاذبية الإبداعية تتبدى حين "لا يثبت القارئ على تعليل، أو توجيه، أو وصف، بل إنه يهدم ليبني، في حركة متمردة لا تهدأ مع النص، دون التوقف عند دلالة ثابتة، مما يجعل للنص قراءات لا نهائية. وكل هذا يجعلنا نقول: إن النص الأدبي ليست وظيفته تحريك المشاعر، بل إن وظيفته الأولى إنتاج المعرفة"([xxv]).

وما جمال المنتوج الإبداعي إلا بمدى ما يكسبه إيانا من معارف وخبرات ويبصرنا بحقائق مجهولة، لم نكن ندركها أو نعيها من قبل، والإبداع ليس إنتاج معرفة فحسب؛ أو إكساب خبرات بطريقة جمالية مخصوصة؛ وإنما هو السر المدفون في قرارة أرواحنا، ليجعلنا مندمجين مع فضاء النص؛ ومصدر جاذبيته الإبداعية، ونستجلي ما في داخلنا من غموض وأشياء محتدمة في قرارها العميق، لتشرق من جديد . وهنا، تكمن قدرة النص ودرجته الإبداعية التي تتوقف- كذلك- على مهارة القارئ، ودرجة حساسيته الشعرية؛ فالقارئ المتمرس: "هو الأقدر على ملء الفراغات أو الفجوات الموجودة في النص؛ وسرعة اكتشافها وسبر أغوارها، ويعتمد ملء هذه الثغرات على المعنى الكلي للنص أو وحدة الدلالة"([xxvi])؛ وهذا القارئ هو الذي يطور النص، ويخلقه من جديد؛ ويزيد طيفه الإبداعي مغنطة وجاذبية؛ أو طبقته الإبداعية طبقات لا يدركها حتى الشاعر ذاته. وهذه هي متعة المجاذبة التي يخلقها الإبداع.

وإننا لإبراز بلاغة الجملة الاسمية- في قصائد حميد سعيد- سنعمد إلى دراستها من حيث المبتكرات الإبداعية التي تشكلها وفق التقنيات التالية:

2. الممازجات الاسمية أو المماحكات الاسمية الشائقة:
ونقصد بـ[المماحكات الاسمية الشائقة]: تلكم الأنساق الجملية الشائقة التي يقتنصها الشاعر لإبراز حنكته اللغوية من جهة؛ وتجسيد متخيلاته الشعرية، بما يعزز موقعيتها الشعرية وأصالتها الفنية في النسق الشعري من جهة ثانية، بانزياح لغوي، يراوغ الشاعر من خلاله باللغة، لاستقطار متعتها وتكنيكها التصويري المثير. وهذا دليل أن الشاعر يحتال على اللغة، وعلى نفسه، لسد قصوره وقصورها معاً، لأن الإنسان عاجز عن الإحاطة باللغة وطرائقها، مثلما هو عاجز عن نقل كل ما في نفسه([xxvii]).

وتبعاً لهذا، يلجأ الشاعر إلى التلاعب باللغة وأنساقها التشكيلية،باللجوء إلى المماحكات الاسمية الشائقة؛ لجذب المتلقي إلى طيف نصوصه الجمالي؛ من جهة، وتحريك شعرية النسق، بما يعزز الرؤية ودرجة جاذبيتها من جهة ثانية؛ ولعل أبرز ما يميز المماحكات اللغوية التي تحدثها الجمل الاسمية- في قصائد حميد سعيد- أنها مماحكات فنية؛ تأتي لرفد المنتوج الجمالي لقصائده، لتحقق متعتها الفنية وجاذبيتها للقارئ تارة؛ ولتبعث في سياقها وقعاً خاصاً يزيدها إشراقاً وتنامياً جمالياً تارة أخرى، كما في قوله:

"أطفالْ

فلاحونَ وعمالْ

ونجومٌ تفتحُ ريقَ امرأةٍ .. يتبعها قمرٌ غرٌّ

تغفو.. فيفاجئُها

وينامُ على شهقةِ نهديها

ويمدُّ شعاعاً وقحاً من حقلِ الضوءِ إلى عينيها

تستيقظُ من دفءِ ليونتها

تهرعُ نحوَ الشاطئ "([xxviii]).

بداية، نشير إلى أن: ما يميز الممازجات الاسمية- في قصائد حميد سعيد- أنها ممازجات فاعلة لا على مستوى التلاحم النسقي فحسب، وإنما على مستوى الخرق الأسلوبي، والتمايز النسقي بممازجات لغوية صادمة، فاعلة في اكتساح الدلالات، واجتراح أبعد ما تثيره من غرابة ومتعة ومباغتة لغوية شائقة، نظراً إلى فاعليتها في خلق المناورة؛ إنها – بمعنى آخر- تحفل بطاقة خلافية- على حد تعبير حبيب مؤنسي- ذات نزوع صوب المغايرة والاختلاف النسقي؛ لتحقيق تكثيفها الدلالي، واستقطابها النسقي الفني الرفيع؛ وهذا رد صريح على أولئك الذين يعدون الإبداع جنوناً؛ أو هيستريا جنون الحالة؛ التي يسمونها [ هيستريا الإبداع]؛ يقول الناقد علي حسن فواز "لا يملك الجنون الإبداعي إلا أن يكون جنوناً محرضاً، جنوناً باعثاً لكل توهجات الداخل وتوتراته ولغاته"([xxix]).

إن الإبداع – من منظورنا- بعيد كل البعد عما سماه الأقدمون بالمس[شياطين الشعر]؛ وعما سماه المعاصرون بـ[هيستريا الإبداع]؛ إن الإبداع اجتياح لما هو مألوف وتجاوز لما هو متوقع؛ وخلق جديد للوعي؛ أو إنتاج جديد للوعي؛ وليس تغييباً له؛ فلا يمكننا- في أي حال من الأحوال – تجريد الإبداع من الوعي؛ لأننا إذا ما جردنا الإبداع من الوعي؛ فمعنى ذلك أننا جردنا الإبداع من الإبداع ذاته؛ ومن ينتظمه الشعور فحسب؛ ولا ينتظمه الوعي؛ فلا قيمة له- من منظورنا- لأنه هذيان، والهذيان لا يمكن أن ينتج إبداعاً حقيقياً على الإطلاق؛ وإنما يمكن أن ينتج شيئاً آخر أبعد ما يكون عن نطاق الإبداع وجوهره الأصيل؛ وما قول ناقدنا علي حسن فواز إلا على سبيل المجاز رغبة منه في تحميل الشعر طاقات خارقة تجافي حقيقته الإبداعي؛ وتفسير هاجس الحالة الإبداعية على محمل فانتازي لا يحتمله إطلاقاً؛ الأمر الذي أوقعه في مزلق [فانتازيا التعبير]؛ والخطل اللامنطقي للرؤى والمفاهيم – شأنه شأن غيره- ممن ذهبوا هذا المذهب؛ من خلط الأوراق، وتحميل الأشياء أكثر مما تحتمل؛ فوقعوا في مطبات لا خلاص منها، فشوهوا الشعرية؛ وأداموا روافدها الصافية.

وبالنظر- فيما تحدثه الممازجات الاسمية من ترابطات وتجاوزات فنية مثيرة- نلحظ أن هذه الممازجات تبئيرية تستثير الرؤية، وتعزز مدلولها، قصدَ الارتقاء بشعرية النسق، لتجاوز ما هو معتاد من مدلول القول، وسكونيته المفرطة إلى ما هو شاعري ومثير، ومحفز للجمالية نسقياً، كما في الممازجات الاسمية التالية: [شهقة نهديها- حقل الضوء- دفء ليونتها]؛ إن هذه التشكيلات المزجية خاصة بها، تمتاز عما سواها من التراكيب الأخرى، فلا يمكن لأحد القراء أياً كانت حساسيته الشعرية أن يخطر على باله مثل هذه الحيثيات الجمالية، والبؤر الإيحائية المكثفة لمدلولها الفني؛ وهذا دليل على محاولة الشاعر حميد سعيد الارتقاء بأنساقه اللغوية الاسمية إلى درجة إحداث الصدمة الفنية في المتلقي؛ لإدهاشه بأنساق لم يعتدها على هذا النحو من الجاذبية والوقع المؤثر. وهذا يؤكد محاولة شعراء الحداثة المضي قدماً: "بمغامرة التجريب في الفن الشعري إلى أبعد الحدود؛ إذ جعلتهم لذة المغامرة يخرجون عن تقاليد الشعرية العربية المتوارثة جمالياً؛ وإبداع جمالية مغايرة للمألوف الشعري، وبلغة الشعر- العربية- واجهوا صدوداً من لدن قراء الشعر العربي؛ ونقاده اللذين وإن تسامحوا في المرحلة الأولى مع قصيدة التفعيلة التي انتهجت الطريقة شبه العروضية، ولكن مع مرور الوقت؛ وغزارة الإنتاج الشعري بهذا النمط الشعري النثري الجديد بدأت الزائقة تتآلف معه؛ وأيضاً إصرار الشعراء على مواصلة إبداع قصائدهم بهذا الشكل المتحرر من مراسيم القصيدة العربية، والدفاع عن نظرة جديد للكتابة الشعرية التي تنفي الحدود الإجناسية وعدم قياس الشعرية بالعروض الخليلي المتوارث، واستبدال ذلك بشعرية الكتابة الناتجة عن أدبية وموسيقى اللغة"([xxx]). الأمر الذي جعلهم يطورون في منظورهم الشعري لبنية القصيدة شكلاً ومضموناً؛ وطبيعي إزاء هذه الحالة أن يغامر شاعرنا حميد سعيد بكل ما يجعل من لعنته ذات خصوبة جمالية ومردود فني آسر، لتمتلك رصيدها الفني من الدفق الشعري مما يجعلها قمة في العطاء، والتجاوز، والمغايرة،والتمايز الفني في نسقها على الدوام.

وثمة ممازجات اسمية – في قصائد حميد سعيد- توسع من طاقتها الجمالية والإيحائية، لدرجة أن قدرتها تتضاعف باستمرار، تبعاً لمدلولها الآسر، ونسقها المشبع منتوجاً دلالياً وخصوبة جمالية؛ وغواية فنية، كما في قوله:

"يابسةٌ زهرةُ الروحِ... مسكونةٌ بالرمادْ

مضى زمنٌ كانَ صوتُكِ يزرعُ في العتماتِ نجومًا

ويرسمُ في ضوئِها قمراً وقمحاً...

يستلُّ عبرَ الأزقة.

يطرقُ بابَ الحبيبةِ

يزرعُ في صدرها موسماً طيباً "([xxxi]).

بداية، نشير إلى أن الممازجات الاسمية- في قصائد حميد سعيد- تملك جسارتها وقوتها من فاعلية نسقها، وقوة تأثيرها من جهة، وغايتها ودهشتها ومناورتها للقارئ من جهة ثانية؛ وهذه المناورة أو المخاتلة بقدر ما هي فنية بقدر ما هي فاعلة أو متشظية للنسق الشعري من جهة، ومحفزة للقارئ لتخليق استثارته جمالياً من جهة ثانية؛ وهنا نستحضر قولاً جمالياً (بول رومتور) فيما يخص الكتابة الشعرية:" الكتابة، إذن، منفى للشعر، لذلك؛ فإن الشعر يتوق دائماً إلى الخروج من اللغة، بحثاً عن الحضور المحض، أي الانثيال الشفاهي بكل جسديته وحرارته، وتلقائيته، بعيداً عن الكتابة التي تحجب هذا التوق وتقمعه"([xxxii]). وما بقصده ذاك إلا ليترك الكتابة تحلق في فضاء القول المتوتر الذي يستطيل بالمشاعر،لتعبر بمصداقية وعمق عما يحسه من مشاعر جياشة وأحاسيس فائضة بالحس والشعور والتوق للتفريغ عما يعتصر في داخله من احتدامات إزاء هذا الجو الاصطراعي المأزوم الذي تنبجس عنه جميع الرؤى المتوترة والدلالات المغتربة، ولا يجد أعمق من القول الشفاهي تنفيساً عن مخزونها الداخلي وتوترها الصاخب.

وبالنظر- فيما تحدثه الممازجات الاسمية من مناورات وتمفصلات فنية مؤثرة -نلحظ أن فاعلية هذه الممازجات تثيرها الأنساق الجملية الاسمية ذات البكارة الإسنادية، والاسترسال في توتير بؤرية النسق جمالياً، بمحفزات شاعرية تظهر بكارة الصور الاستعارية؛ وتحقق لها قدراً كبيراً من المتعة والجدة والإدهاش، كما في الممازجات التالية: "يابسةٌ زهرةُ الروحِ... مسكونةٌ بالرمادْ / صوتُكِ يزرعُ في العتماتِ نجوماً / قمراً وقحماً"؛ وإن قارئ هذه الممازجات الاسمية لا يخفى عليه مقدار شعريتها، وكثافتها في التعبير، نظراً إلى نسقها الجمالي المضيء الذي يبعث في العبارة رشاقة المتعة الآنية المباشرة؛ نظراً إلى بكارتها؛ فما أجمل هذه الإنسيابية الحارقة التي تصل إلى ذروة الامتشاق الفني والشعوري والحس  الاغترابي الجارح :[يابسة زهرة الروح]، ثم أتبعها بممازجة اسمية زادتها دهشة ومناورة، وإشراقاً، وحساً شعورياً مرهفاً:[مسكون بالرماد]؛ وتبعاً، لهذا جاءت كل ممازجة اسمية فاعلاً مؤثراً من فواعل نبض الشعرية ودفقها الشفيف؛ لتنتج خصوصية النسق اللغوي بجمالية آسرة، قادرة على إيقاد الشعور الباطني وتلبية مداركه الشعورية من خلق اللذة؛ والمتعة الشعرية. وهذا دليل أن لكل نص لدى حميد سعيد نبضه وإيقاعه الجمالي الفني؛ وهذا المؤثر لا يعتمد لغة المجاز فحسب؛ أو الانزياح الجمالي الذي يمنح العبارة امتشاقاً فنياً مثيراً؛ وإنما يعتمد الحنكة في ربط الاستعارات في نسقها؛ لتأتي كل استعارة ملحقة بالاستعارة السابقة واللاحقة في سلسلة تؤكد بلاغة القصيدة لديه وبلاغة مضمونها. وهذا دليل أن النص لديه "نظام كلي الانسجام، وكلي التأثير رغم تنوع مكوناته أو تنافرها أحياناً؛ وهو لا يحقق تأثيره هذا باستسلامه لفتنة المجاز؛أو لجرعة من جرعات بلاغية جزئية تتنوع من هنا وهناك، بل يحقق ذلك كله بوصفه بناءً لغوياً كلي الفاعلية. تتحول فيه القصيدة إلى بنية بلاغية؛ والبلاغة هي سحر جاذبية اللغة"([xxxiii]) .

3. الحرفنة النسقية:
إن الشعرية مهارة وحرفنة لغوية، ولا قيمة للشعر ولا شأن للشعرية أن كان ثوبها أو زيها واحداً؛ تبعاً لذلك، تختلف روافد الشعرية من نص لأخر؛ وتختلف كذلك مستويات حرفنتها النسقية من مستوى نصي إلى آخر، وما مهارة الشاعر إلا بتنوع أسلوبه، وتخليقه النص الشعري بحرفنة نسقية؛ تتبع مسار الرؤية النصية ومحفزاتها ضمن النسق؛ وهذا دليل أن: "حياة النص تكمن في بنيته الداخلية وفي علاقاته، ولا يستمد حياته من حياة صاحبه أو الظروف التي قيل بها، أو أي شيء آخر"
([xxxiv]). فالنص متعته في بنيته، في علائقه اللغوية ومحدثاته النسقية؛ والشعرية ماهي إلا علائق نصية مبئرة للحدث أو الرؤية، ولا تنبض الشعرية إلا من قرائن الداخل؛ ومضمراتها النصية الفاعلة في تحريك النبض الشعوري لدى القارئ؛ ومن هنا، فإن مهارة الشاعر – حسب ثائر العذاري- تكمن في مقدرته العالية؛ "ومدى استطاعته على أن يوفق بين البنية النصية، والبنية الموضوعية للقصيدة؛ بتساوق فني يؤدي وظيفة واضحة في بناء الجو العام للنص"([xxxv]). وتبعاً لهذا، تتحدد فاعلية الانجذاب الفني صوب النص بقدر ما تثير الرغبة وحب الاستطلاع في نفس المتلقي؛ وكل ما من شأنه أن يفعله بوصفه العنصر المتمم لشعريته؛ إن لم يكن خالقها الجديد.

وتأسيساً على ما سبق يمكن أن نعرف[الحرفنة النسقية] بقولنا: هي الملكة الإبداعية التي يمتلكها الشاعر في ربط الأنساق الجملية [الاسمية/ والفعلية] ربطاً محكماً من حيث محدثاتها اللغوية الجديدة؛ ومبتكراتها النسقية الفاعلة في تبئير الرؤية؛ وتعزيزها فنياً.

وما من شك في: أن مبتكرات الشعرية – عند حميد سعيد- لا تقتصر على ما قصدناه بـ[فاعلية الحرفنة النسقية]؛ وإنما تتعداها إلى محفزات نصية أخرى، تتعلق بالتظليل العلائقي للجمل الاسمية التي تمنح العلائق اللغوية [الاسمية/ والفعلية] فاعلية الفيض الشعوري والدفق الدلالي؛ لاجتذاب القارئ إلى هذا النمط الشعري الجديد اللامألوف في لغتنا الحداثية؛ من حيث تظليل الجمل، بالتنقيط حيناً؛ أو بالرسم الهندسي للكلمات على فضاء الصفحة الشعرية، حيناً آخر، فتأتي بعض الكلمات والجمل بارزة بصرياً للقارئ؛ متبوعة بأقواس، وحواشٍ وتعليقات ترفد عملية التلقي؛ وتزيد أواصرها قرباً وامتداداً وفاعلية في الجذب والتأثير.

وما ينبغي ملاحظته: أن جمالية الحرفنة النسقية- في قصائد حميد سعيد- تنبني على فاعلية تخصيب النسق شعرياً أو جمالياً، لدرجة أن فاعلية التصنيع الفني تتبدى جلية في حركة الأنساق وتتابعها ضمن القصيدة؛ كما في قوله:

" بلبلٌ من زجاجٍ شفيفْ.

أعلمهُ في الصباحِ الرفيف

أمنحهُ بعض حُزني .. وأطلقُه في الفضاءْ

وردةٌ من غبارْ..

تتفتحُ ليلاً .. فأقطفُها في النهارْ

امرأة من ورقْ

أصيرُ لها عاشقاً

وأخبي مفاتنها في الأرقْ"([xxxvi]).

بداية نشير إلى أن "المهارة اللغوية" أو "الحرفنة النسقية" التي تبرزها الجمل الاسمية في قصائد حميد سعيد- تعتمد الجذب التقابلي أو التضاد المثير الذي ترتسم فيه حيثيات المضاد مع مضاده، لبلورة فاعلية النسق على إبراز الدلالة بمنتوجها النقيض أو المعاكس؛ إذ"إن التضاد مثلاً. لا ينتفي فيه الطرفان المتضادان، بل يذهب كل طرف في وجهته عارضاً قناعاته الخاصة، بينما يقوم التناقض على هدم كل طرف للآخر. وكأن التناقض لا يقبل التجاور والتنافر الذي يقبل بهما التضاد. وعلى هذا الأساس، فالعلاقة القائمة على التناقض علاقة نفي ومحو، بينما العلاقة القائمة على التضاد علاقة إيجاد وتأسيس"([xxxvii]). وما يؤسس الشعرية مهارة الشاعر الفائقة على ابتكار حيثيات نصية جديدة، تنم على مهارة وخبرة في اكتساب المعرفة، ومضاعفة أثرها في نصه الشعري؛ وكلما ترجم الشاعر  خبرته الفنية في خدمة الرؤية؛ ومضاعفة مردودها الفني كلما ترسخ النص؛ وأثبت موجوديته الفنية، منتوجاً معرفياً وصدى إبداعياً. ومن أجل تحقيق هذه الغاية لا بد للشاعر من أن يمتلك بنى معرفية؛ وجسارة لغوية تخوله كسر حاجز المألوف بتجاوزات لغوية فنية حتى يحقق كامل منتوجاته الدلالية وعطاءاته الفنية الخصبة؛ لدرجة أن إشعاع النص لا يقف حد الانتهاكات اللغوية وحرفنتها النسقية فحسب؛ وإنما تزيد وتيرتها استعداداً موجهاً صوب غايتها الفنية.

وبالنظر- في مؤثرات الحرفنة النسقية التي تحدثها الجمل الإسمية في علائقها اللغوية ضمن المقبوس السابق- نلحظ أن الشاعر يؤسس دينامية الجمل على الموازنة النسقية بين الجمل بإيقاعات صوتية متناغمة:[شفيف= رفيف]، و[غبار= نهار]،و[ورق= الأرق]، ثم يخلق موازنة نسقية بين الجمل لإظهار نسقها المنظم وفاعليتها المؤثرة:[وردة من غبار] و [امرأة من ورق- بلبل من زجاج شفيف]؛ وهذه الموازنة بين الجمل الاسمية ما جاءت عن عبث، وإنما جاءت مظللة بإيقاعات ترسيمية تشي بوقعها النسقي الضمني المؤثر؛ وهذا دليل: أن شعرية حميد سعيد- شعرية منظمة بعلائق لغوية مركزة، تملك مرجعيتها الفنية من حسن صنعتها وإحداثياتها النسقية المتوازنة بمنزع أسلوبي جذاب يملك إقناعه وإمتاعه في الآن ذاته.

وما ينبغي تأكيده أن الحرفنة النسقية- في قصائد حميد سعيد- لا ترتقي بالأنساق اللغوية وحسب، وإنما ترتقي بالفاعلية التأثيرية للصور من تنشيط الدلالات، ورصد تحولاتها النسقية التي تثير الحساسية الجمالية ببلاغتها وتنظيمها النسقي، وإحداثياتها المنتجة للمعاني الجديدة على الدوام؛ كما في قوله:

" شائكٌ أرقى.. خشنٌ ثوبُ أغنيتي..

وثقيلٌ هو الانتظارْ..

.....

مرٌّ عجينُ مسراتنا .. ومريرٌ هوَ الوقتُ

لكنَّ صوتكِ أدخلني.. في ضياء الثمارْ

وانتظرتكِ .. قبرة الصحو تنكرني.. وتطاردُ ضوئي..

وتنقرُ وردَ النهارْ"([xxxviii]).

بداية نشير إلى أن " الحرفنة النسقية" في الجمل الإسمية- في قصائد حميد سعيد- لا تعتمد مرجعية النسق التركيبي المبتكر فحسب، وإنما تلجأ إلى هيرمينوطيقيا الفعل ودلالته الحركية؛ بوصفه المؤشر الحركي الفعال على دينامية الجمل ووقعها الفني المؤثر؛ لإبراز علائقها النصية المفصلية المؤثرة؛ وهذا ما يجعل التشكيلات اللغوية التي تحدثها قصائده مضاعفة الأثر والتأثير؛ وما يلفت القارئ حيال نصوصه أنه: في ظل دفق من الترسيمات الجمالية التي تخلقها المتجانسات أو المتحايثات أو المتماثلات النسقية، وإحداثياتها الحداثاوية في تنويع مسارب النص الأسلوبية، وتعدد طرائقها الجمالية، مما يجعله مشدوهاً إليها لا إرادياً، نظراً إلى وقعها الجذاب، وتشكيلها المخاتل لتوقعه أو حتى تخيله أو إدراكه الحدسين المباشر، يقول أدونيس: "فالشعر لا ينمو إلا في نوع من الجدلية الضدية أو التناقضية. وعلى هذا يقوم التراث الإبداعي الفعال، وهو ما سميته بـ[ المتحول]، وعنيت بذلك شعرياً، النصوص التي يمكن وصفها بأنها لا تستنفد، أي التي تكون، بسبب من فعاليتها المشعة، حية دائماً، حاضرة دائماً في إشكالية الإبداع الفني"([xxxix]). وهذا القول ينطبق بتمامه على شعرية حميد سعيد، فشعريته تخرج من رماد جدلياتها النسقية الضدية المستمرة في حركة نصوصه، أو موازناتها النسقية التجنيسية بين الكلمات، لتؤطر ما هو جدلي بقالب لغوي متحايث أو متجانس، فوراء المتجانسات في قصائده تكمن المتناقضات والجدليات؛ ولهذا، تملك شعريته إيقاعها الحركي النشط على الدوام، وهذا سر من أسرار إبداعها وجمالها دلالة وإيحاء لمن لديه أدنى بصيرة في الجمالية النصية.

وبالنظر- في ما تحدثه(الحرفنة النسقية) بين الجمل الإسمية من مؤثرات فنية -نلحظ ثمة تفعيلاً شعرياً واعياً بمراميه للأنساق اللغوية الاستعارية المراوغة فنياً؛ أما المؤسسة على جاذبية الوقع البؤري بين ما هو حسي، وما هو مجرد، لتخليق ما هو بؤري في حيز الرؤية، وما هو شائق في حيز التجسيد اللغوي على شاكلة قوله: [شائك أرقي]؛ فـ[الأرق] شيء معنوي غير محسوس بماهية أو شكل جسده الشاعر بلفظة [شائك]؛ ولفظة[ شائك] من طبيعة ما هو حسي أو محسوس بماهية أو شكل كلفظة الثوب مثلاً؛ وما إسناد الشاعر هذه الصفة إلى موصوف ليست من طبيعته إلا على سبيل المخاتلة والعمق في التعبير عن أثر الحالة ووقعها الجسيم على نفسه؛ وهذا ما زاده تأكيداً بقوله:[خشن ثوب أغنيتي]، فالخشونة من ملمس ما هو مادي بماهية أو محسوس؛ وليس من ملمس الأغنية التي لا تتقبل ماهية أو شكلاً أو مظهراً خارجياً محسوساً أو مظهراً تتجسد فيه. وهذا الأسلوب العلائقي الذي دعوناه بـ[الحرفنة النسقية] لا يأتي إلا على سبيل الإبهار والإمتاع الفني، أو ما أسميناه سابقاً: [الإدهاش الفني] في تعميق الحالة بمحفزات القول الشعري ذاته، وجمالية مسنداته الصادمة اللامتوقعه التي تزيد شعرية النسق؛وترفع وتيرته غنجاً جمالياً؛ وتلويناً نسقياً؛ يضاعف مردوده الجمالي كلما دقق القارئ في حيزاته الجمالية. ولعل ما يزيد [الحرفنة النسقية] شاعرية وعمقاً أكثر أنها تقوم على نوع من الجدلية الضدية أو التناقضية بين الأنساق الاستعارية على شاكلة النسق الاستعاري التالي: [مرٌ عجين مسراتنا]؛ فقارئ هذا النسق تأخذه الدهشة، إزاء جمعه بين دالين متناقضين [مر/ مسرة]، وهذا يمنح النسق عمقاً في توصيف الحالة، وتبئير محتواها الدلالي؛ وهذا الأسلوب -من شأنه- أن يزيد فاعلية النسق خصوبة ومردوداً فنياً مضاعفاً للمعنى الشعري.

4. الممانعة النصية الشائقة:
إن الشعرية ممانعة ممتعة، شائقة، والشعر متعته في مناورته وممانعته في كثير من الأحيان؛ والشعر إن لم يحجم ويمانع، ويخاتل ويراوغ، ويقارب ويباعد، ليس بشعر على الإطلاق؛ ولا يمتلك مقومات الشعرية؛ ولهذا، طلب أدونيس من قارئه أن يكتسب مثل هذه الصفات، ليقارب مضمرات الشعر ومحفزاته الشعرية مقاربة منطقية دقيقة لا مقاربة حدسية سرعان ما تذبل وتتلاشى ولا تنتج وعياً معرفياً بمكامن الشعرية ومنابعها الأصيلة؛ إذ يقول: "إذا كان الشاعر يخاطب القارئ كطاقة، فإن هذه الطاقة ليست قوة وحيدة، وإنما هي قوة كثيرة، متعددة الأوجه. فالشاعر يخاطب القارئ بدءاً من تجربته هو، لا من تجربة القارئ، لكن دون أن يعني ذلك أن هناك، بالضرورة تناقضاً بين التجربتين بل بمعنى: أن الشعر هو أولاً – معاناة يصدر عن ذات تعاني. وهكذا، قد يخاطب الشاعر القارئ من حيث أنه طاقة حلم، أو من حيث أنه طاقة حب، أو من حيث أنه طاقة عمل، أو من حيث أنه طاقة استباق وتجاوز، أو من حيث أنه هذه الطاقات جميعاً . وطبيعي أن يتغير نوع الأداء بحسب الحالة التي يعانيها، وأن يتغير تبعاً لذلك نوع التلقي"([xl]). وتعد الشعرية ممانعة لا من حيث غموضها وتعقيدها الفني؛ وإنما من حيث مقدرتها على جذب المتلقي بممانعة المنطق باللامنطق؛ فالعبارة الشعرية لتكون شعرية ليس من الضرورة أن تنتج مضموناً منطقياً أو مقنعاً، وما يقنعنا ليس بالضرورة هو ما يثيرنا، فعنصر الإثارة يتجرد عن عنصر الإقناع في العمل الفني؛ فكثير من النصوص الشعرية تثيرنا دون أن نعي مصادر إثارتها وإمتاعها الفني؛ وهذا هو سر اللعبة الشعرية والفن الشعري الراقي. يقول أدونيس- في هذا الجانب تحديداً- : "لماذا تبتعد اللغة، التي هي أداة تواصل منطقي، عن المنطق، وتكون سياقاً يتأسس على هذا الابتعاد؟ ما الذي يدفع الإنسان إلى الخروج عن لغة المنطق الواضح، واللجوء إلى لغة أخرى، غامضة، وغير منطقية؟!"([xli]). يجيب أدونيس بحنكته المعهودة وآفاقه الرؤيوية الممتدة: "هنا يكمن سر الشعر، أي تكمن الخاصية الشعرية في التعبير عن عالم لم تقف أمامه اللغة العادية عاجزة. فهذه اللغة محدودة، في حين أن هذا العالم غير محدود. ولا نستطيع أن نعبر بالمحدود عن غير المحدود. لا بد، إذن من اللجوء إلى وسائل نتغلب بها على هذه المحدودية. هذه الوسائل هي – تحديداً- خاصية الشعر أو لغته. هي التي سماها أسلافنا بلغة المجاز. العبارة في هذه اللغة أكثر حيوية وشمولاً من العبارة في اللغة العادية، لذلك؛ إنها تشير، بالإضافة إلى الشيء المسمى الأصلي، إلى بعده اللامرئي، وإلى حركة الانفعال والتخيل عند من يسميه، بينما لا يشير التعبير في اللغة العادية إلا إلى الواقع العيني المباشر. ومعنى ذلك أن المجاز يشحن اللغة بطاقة جديدة، وأنه يضفي أسماء على أشياء ووقائع ليس لها اسم في اللغة العادية، وإنه يسمي، إلى ذلك، أشياء لا يمكن أن توفر لها اللغة العادية عبارات محددة. هكذا تتيح هذه اللغة إمكاناً لتجاوز محدودية اللغة: تخترق حدودها، وتقول ما لا يقال. وأن نتجاوز باللغة محدودية اللغة يعني أننا نقدم عالماً غير عادي، أي نقدم صورة عن العالم من مستوى، أكثر غنىً وعلواً هنا، نرى الفرق أو الفصل النوعي بين ما هو شعري، وما هو غير شعري. نضيف إلى ذلك أن الشاعر يعطينا شعوراً حاداً بالواقع، يكشفه ويضيئه، في حين أن اللغة العادية تموه الواقع وتقنعه. وبهذا المعنى نقول: إن الشعر هو الكلام الوحيد الذي يظل بطبيعته حراً، ذلك أنه يرفض، بطبيعته، كل شكل من أشكال تمويه الواقع، أي شكل من أشكال القمع. وحين يخون الشعر طبيعته، بفعل من يمارسه - وما أكثر ما تخان الطبيعة - يفقد خاصية  الشعرية، ويبطل، من ثم، أن يكون شعراً"([xlii]).

إن ما أشار إليه أدونيس لركائزي في مفهومنا ومقصودنا بالممانعة الشائقة التي نعني بها:  إحجام الأنساق اللغوية وممازجاتها الإسمية في سياقها النصي عن المدلول السطحي المباشر، أو التشكيل اللغوي المعتاد إلى منتوج أسلوبي مغاير على صعيد الممانعة الفنية الشائقة؛ وتبعاً لهذا، يتجاوز الشاعر منطق اللغة المعتادة إلى ممازجات لغوية مبتكرة(غير معتادة) في نسقها الإسنادي المنطقي؛ لأن منطق الشعر منطق جمالي- على حد تعبير الناقدة خلود ترمانيني- إذ تقول:" إننا – في لغة الشعر- نتحدث بمنطق الجمال لا الصواب، وعد الكلام صواباً لا يمنحه الجمال، أو الشاعرية، وعلى هذا الأساس يتجاوز الشاعر في إبداعه حاجات اللغة ومنطقها إلى حاجات النفس وروحاتها، ومن خلال تركيب الجمل وترتيبها يرسم الشاعر تجربته الوجدانية التي تشرح دقائق نفسه وتفصيلاتها"([xliii]).

وهذا دليل على: أن خصوبة الشعرية تكمن في الممانعة الجمالية الشائقة التي تخلقها في نسقها الشعري، وتبعاً لحيثيات هذه الممانعة، وما تحدثه من استثارة نصية في نسقها تتحدد درجات سمو الشعرية في نسقها الشعري مقارنة بما سواها من الأنساق الشعرية الأخرى؛ وإننا نخالف الناقدة خلود ترمانيني في قولها:" وبعد؛ فإن طرق ترتيب المفردات، ورص الجمل وتواشجها تعد من أهم المصادر الدالة على إيقاع اللغة الشعرية، إذ يتحول الشاعر بين مفرداته، فيقدم كلمة، ويؤخر أخرى ضمن نسق جمالي خاص يفرض على الشاعر نوعاً من الاختيار القهري لتركيب ما يتلاءم مع صميم الموقف الوجداني الذي يعيشه"([xliv]).

إن ما أدلت به الناقدة يضعنا أمام تساؤل ضخم: ما هو المعيار الإبداعي الذي نروز من خلاله شعرية شاعر ورجحانه على ما سواه؟! كيف نروز شعرية نص إبداعي يرجح عما سواه؟! ما هي مقومات الإبداع الحقيقي على الصعيد اللغوي؟!

إنا في إجابتنا على هذه الأسئلة نرد على ما أدلت به الناقدة خلود ترمانيني قائلين:

إن المبدع الحقيقي هو الذي يمتطي صهوة اللغة، ويشد وثاقها، ويروض جماحها، ويقودها، تبعاً لرؤيته هو، وموقفه الشعري المحتدم في ذاته، لا تبعاً لإرادة اللغة وقوانينها الصارمة؛ والشاعر الذي لايطور في ثوب لغته وجسدها اللغوي لا يعد  في دائرة الشعراء المبدعين؛ لأن المبدع الحقيقي هو الذي يفرض أدواته على النسق لا النسق هو الذي يفرض هيمنته على المبدع؛ والنسق الذي يفرض على الشاعر نوعاً من الاختيار القهري أو القسري لبعض الكلمات- حسب ما ارتأت الترمانيني- لا يسمى – من منظورنا- نسقاً شعرياً؛ ومن الإجحاف أن نضعه في دائرة الشعرية؛ وإنما يسمى نسقاً مشعرناً، وشتان ما بين القول الشعري الذي يفيض عذوبة، وحيوية، ومطواعية لغوية (سلاسة لغوية)؛ والنسق الآخر المتثاقل الذي عبثت به قساوة الصنعة، وصدمتها؛ فبات خشناً متثاقلاً أبعد ما يكون عن دائرة الشعر، والخصوبة الشعرية؛ وما أدلت به الترمانيني في حقيقته لا ينطوي على معدن الشعر الإبداعي الحقيقي، وإنما ينطوي على ماهية الشعر المصطنعة أو المقولبة في قوالب إيقاعية محنطة لا نبض فيه ولا حياة؛ شأنه في ذلك شأن الأشياء الأخرى التي لا بريق لها؛ أو ذات بريق وهمي سرعان ما يتلاشى هذا البريق كأي شيء يلمع فجأة؛ثم يختفي؛ ولا يترك أثراً يذكر.

وإننا من مطالعتنا للأنساق الشعرية- عند حميد سعيد- أدركنا أن الممانعة النسقية الشائقة بين الأسماء هي جزء جوهري من تخصيبها الشعري، إن لم نقل إنها محورها الشائق في الاستقطاب الجمالي والاستبطان الشعوري العميق لمداليلها وإيحاءاتها المكثفة؛ إذ تأتي العلائق الإسمية ذات بؤر دلالية تشع جمالياً، حتى وإن تواترت في النسق الواحد، وهذا دليل حرفنة شعرية وقدرة على التخصيب الفني على الدوام؛ وللتدليل على ذلك نأخذ قوله:

" كانَ يبحثُ عن مومياءِ طفولتِهِ..

كانَ يبحثُ عن مومياءِ حبيبتهِ..

كان يبحثُ عن مومياءِ القصائدِ..

عن مومياءِ الحدائقِ.. عن مومياءِ الشجرْ

كان يبحثُ عن مومياءِ الأغاني التي رافقتهُ

                     إلى أمسياتِ مواعيدِهِ

كانَ يبحثُ عن نفسِهِ..

فرأى مومياءَ حرائقِه..

ورأى مومياءَ الرمادْ.. "([xlv])

بداية نشير إلى: أن الممانعة الشائقة- في قصائد حميد سعيد- جزء لا يتجزأ من قصائده- لا تصل حد الغموض والتعقيد اللغوي، وإنما تأتي تبعاً لحاجات النسق الفني ومصدر جاذبيته بحيث يتصاعد النسق جمالياً كلما جاءت هذه الممانعة شائقة؛ مبئرة للحدث؛ كاشفة عن عمق الرؤية، ومنتوجها الفني، يقول علي جعفر العلاق: "لا شيء يفوق الشعر في قدرته على إثارة الداخل الإنساني، وما يصطرع في دهاليز النفس من عناصر الضعف والقوة، أو النبل والوضاعة"([xlvi]). ودهشة الشعرية لا تأتي إلا من مفرزات الجديد والمغاير والمختلف دائماً؛ وما الممانعة الشائقة إلا خاصية جوهرية في العمل الفني الرفيع المستوى؛ وهذا يدلنا على أن "الجملة الشعرية حين تخترق حواسنا لأول مرة، فإن خضة من نوع ما تعتري كياننا كله؛ تلامس لحمه الطري (الحي)، وتهتك جزءاً من ستارة داخلية تحجب بؤر الروح وراءها، تسحبنا من خدرنا اليومي من غطائنا المنطقي، ومن طمأنينتنا اليائسة . وكلما كانت تلك الجملة حرة من المتكآت والمساند والترنيمات كانت أقدر على إنجاز مهمتها بطريقة عميقة: تهاجم فينا استسلامنا للعادة، وتهيئنا للحظة من الاستجابة، فريدة ومثالية؛ وهكذا، تأخذنا من أنفسنا المكتفية بركودها ووداعتها إلى فضاء آخر. وحين تتوالى الجمل الأخرى، جملة إثر جملة، فإن الطريق يفتح بيسر أمام الأثر الشعري: كل جملة جديدة تقطع خيطاً إضافياً كان يربطنا إلى سلوك يومي مشترك، إلى عاداتنا في التلقي، أي أن كل جملة تجيء ستحمل في ثناياها جذوة جديدة إلى نار الجملة الأخرى"([xlvii]).

وهكذا، تبدو الجمالية الشعرية عندما تبين خيوط الدلالة خيطاً خيطاً عبر إحجام الجمل وممانعتها ضمن النسق؛ ومن ثم؛ تبدو الجملة الشعرية طاقة دلالية على الدوام، فلا تظهر كل ما تختزنه من دلالات، وإنما تضمر أكثر مما تظهر، لتبقى في توالد دلالي مستمر على الدوام؛ ومن ثم تبقى مغرية للقارئ كلما عاود مطالعتها بين الحين والآخر، لتكون القصيدة فضاءً دلالياً ورؤيوياً مفتوحاً لا يكاد ينتهي.

وبالنظر- فيما تحدثه الجمل من ممانعات شائقة في المقبوس الشعري- نلحظ أن كل جملة تشكل خيطاً من خيوط الدلالة؛ وتختزن طاقة جمالية إضافية رغم تواتر الصيغ النسقية ذاتها، لكن بأسلوب جمالي جدلي مراوغ؛ يشي بالحراك الشعوري والحرفنة النسقية من خلال علاقة المضافات الجدلية التي تعبر عن التوتر الداخلي والجدل الشعوري المحتدم، وفق المضافات التالية: [مومياء طفولته- مومياء حبيبته- مومياء القصائد- مومياء الحدائق- مومياء الشجر- مومياء الأغاني- مومياء حرائقه- مومياء الرماد]؛ إن كل مضاف من هذه المضافات هو حركة متوترة تشي بالكثافة الشعورية الانبعاثية المتوترة التي تم ترجيعها في حركة تامة استقطابية تنم على فاعلية الأسلوب وطاقته الإيحائية.

وما ينبغي الإشارة إليه: أن الممانعة النسقية الشائقة -في قصائد حميد سعيد- تكمن في خصوبتها الجمالية؛ خاصة تلك التي تحتدم فيها الرؤى، بتضافر الصيغ الإنشائية من نداء واستفهام وتعجب، وما إلى ذلك من جهة، وتضافر التشكيلات النسقية الشائقة التي تنمي فاعلية النسق من جهة ثانية، كما في قوله:

" ذلكَ وجهُك المحفورُ في الضحكِ المؤجَّلِ

كم تأمَّلناهُ..

من حبٍّ ومن نزقِ

.....

فأنتِ بينَ الموتِ والملكوتِ مملكةٌ

وأنتِ حديقهْ للقلبِ

لم نحقدْ عليكِ .. ولم نخاصمكِ..

استفقنا في خرابكِ..

واكتشفنا أن حبَّكِ لم يزل في القلبِ

أيةُ زهرةٍ لم تغتسلْ بدمٍ؟

وقد نضبتْ عيونُ الماء

إن شهودَنا الشهداءْ

إن شهودَنا الشهداءْ"([xlviii]).

لا بد من التنويه بداية، إلى: أن أسلوب الممانعة النسقية الشائقة- في قصائد حميد سعيد- حصيلة فاعلية النسق؛ بوصفه طاقة جمالية- بلاغية تستثيرها حساسية الشاعر حميد سعيد البارعة التواقة دوماً إلى تشكيل النسق الجمالي الذي يملك خصوصيته الفنية العالية في التكثيف والأداء؛ لذلك، قد لا يعجب القارئ من بعض الإسنادات الجدلية العالية التي تملك زخمها الدلالي، ومنتوجها الفني؛ بوصفها خاصية ملازمة لقصائده لا تكاد تخلو قصيدة من قصائده من مثل هذه التشكيلات الخلاقة للشعرية نبضاً وإحساساً، وكأن ثمة رقياً ملحوظاً وتنامياً جمالياً يتبدى للقارئ كلما تقدم في زمنه الإبداعي، ليؤكد تطور تجربته من حين لأخر؛ فما نلحظه من رقي في تشكيلاته اللغوية الآن قد لا نلحظه في السابق، على هذه الشاكلة من بداعة الاختيار ودقته وعفويته الآسرة رغم ما قد يبدو للقارئ من آثار الصنعة على بعض تشكيلاته اللغوية في ارتقائه سلم النسق المموسق بمتجانسات ذات وقع موسيقي آسر؛ ينم على صنعته وحذاقته النسقية البارعة.

وبالنظر- فيما تحدثه الجمل الاسمية من ممانعات شائقة في المقبوس الشعري- نلحظ أن الشاعر يعتمد الممازجات النسقية الفاعلة التي تثير النسق بتشكيلات فنية آسرة؛ عبر البؤر التشكيلية ذات الحيازة النسقية المبتكرة والدفق الشاعري المثير، كما في النسق التالي:[الضحك المؤجل- وجهك المحفور] و [حب/ نزق]؛ وهذا يثير الفاعلية التركيبية للنسق، مما يجعلها ذات وقع مؤثر في دينامية الصورة وجدلها المحتدم، كما في قوله: [أية زهرة لم تغتسل بدم؟!]؛ إن تضافر الصيغ الإنشائية مع بنية التشكيلات اللغوية المبتكرة يزيد من جمالية النسق والحراك الشعوري في تكريس الهديد المتصاعد للجمل لتملك طاقتها التعبيرية المذهلة؛ لأن هذه الصيغ هي الأقدر على بث المشاعر ورصدها بحراكها الشعوري وتأزمها الداخلي المفتوح؛ وما يلفت القارئ جمالية الممانعات النسقية الشائقة التي تجمع بين بداعة الرؤية وبداعة الملفوظ الشعري المتجانس: [الموت= ملكوت= مملكة]، و[حديقة – للقلب- حقد]؛ إن فاعلية النسيج الصوتي المصوغ بقالب جناسي عجيب يدل دلالة قاطعة على شعرية الشاعر؛ من خلال هندسة أنساقه وملفوظاته الشعرية هندسة صوتية ودلالية محكمة تجمع بين المتعة الدلالية والمتعة الصوتية الإيقاعية؛ بهيئة نسقية غاية في الأناقة والمتعة والإثارة النسقية المنتظمة بعلائق فنية منسجمة متلاحمة تشي بالعمق والامتداد الدلالي.

5. شعرية الجملة الفعلية:
إن لعلائق الجملة الفعلية أثرها الفني في لغة الشعر؛ لأن الشاعر في لغة الشعر يبني الدلالة؛ أو ينتج الدلالة بلغة المجاز والانزياح الفني؛ في حين أنه في غيرها من أنواع الخطابات قد لا يضيره ذلك، ما يهمه -في كثير من الأحيان- إيصال الدلالة، أو الرؤية، ومدلولها المباشر أو السطحي. وهذا دليل أن لغة الشعر لغة اختلافية؛ بوصفها لغة المغايرة؛ والاختلاف الدائمين؛ والقصدية المضمرة أو المبطنة؛ إذ إن " الشاعر يختار الكلمات، ثم يوزعها، بحيث يكون لهذا التوزيع وما يترتب عنه من تجاوز تأثير دلالي وصوتي وتركيبي، ومن ثم،فإن الاختيار والتوزيع معياران للحضور والقصدية في مقابل الإلهام والآلية. كما أن الاختيار والتوزيع يجعلان اللفظة تتعدى دلالتها الأولى- خلافاً للدرس اللساني الذي يؤمن بأن لكل دال مدلوله- في الخطاب الشعري- وهذا ما يسمى بالاتساع الذي جسده جاكوبسون في الوظيفة الشعرية"([xlix]).

وهذا يدلنا: أن الوظيفة الشعرية- عند جاكوبسون- تقاس بمقدار هذا الاتساع والعمق في حركة الأنساق والدلالات. فكلما اتسعت المسافة، وتنامت الحركة الدلالية، كلما ارتفعت الشعرية، وازدادت فاعليتها في النص. يقول الناقد حسين جمعة في تعريفه للجملة الفعلية: "هي كل جملة صدرها فعل، وتوضع لإفادة الحدوث في زمن مخصوص كالماضي والمضارع مع الاختصار والتحديد؛ أو تفي الاستمرار التجديدي إذا دلت عليه القرائن؛ ومواضعها الفعل التام مع فاعله أو نائبه؛ والفعل الناقص مع الاسم والخبر، والفعل اللازم والمتعدي والجامد والمتصرف... وهي توافق السيرورة الكونية وأحداث الزمان وفق ما ينهض به الانغماس في درجة الإفادة والإمتاع، وتوليد المعاني المتجددة، مهما كانت مخصوصة بزمن ما. ولعل خصب الجماليات في الجملة الفعلية ينبثق من انقياد المسند للمسند إليه وتعديته بالمعاني المبتسرة"([l]).

وتعد الجملة الفعلية النسقية ذات حيازة جمالية في مثيراتها الفنية وعناصرها الدافقة للشعرية؛ إن أحسن الشاعر توظيفها في بث الرؤية وتعزيزها بالحدث الآني المثير؛ والوقع الفعلي المؤثر للاستقطاب الدلالي؛ إذ تتضارب الرؤى وتتصادم الدلالات، لتعزيز وقعها وأثرها الدلالي كلما تبأر الفعل حيز الدلالة ومركز ثقلها الفني النصي. وهذا دليل: "أن انقلاب السحر على الساحر وضع مألوف في العملية الإبداعية، يشهد به كثير من المبدعين الذين يعجزون عن تبرير طرف كبير من استعمالاتهم لا على مستوى الأصوات- وهي أدق ما في العملية الإبداعية- ولا على مستوى الألفاظ والصور والرموز... ذلك :أن للكلمات مقاصدها الخاصة التي تتوزعها حقولها الدلالية المنفتحة أمامها فاسحة المجال أمام مختلف التداعيات؛ التي يمكن أن يكون لها من التوافق ما يعطي بشكل كثيف الرؤية التي أراد الشاعر أن يشحنها فيها من قبل"([li]).

وما من شك في أن الشاعر الفذ هو القادر على خلق البداعة في النسق الشعري؛أيا كان شكله ومستواه؛ طالما أنه يمتلك أدواته الشعرية العالية على توليد الدلالات ومحفزاتها النصية، ضمن النسق، إذ "إن اختيار الشاعر لأدواته التعبيرية، وما يسببه الإحساس النوعي من حركية للخيال، عنصران لتخليص الشعر من سلطة الغيبي وأحكامه المعيارية. فإن الأسلوب أساسه الاختيار الذي يصحبه وعي في المقابلة بين الألفاظ والجمل والتراكيب، مثلما أن التوزيع يتضاعف فيه وعي الشاعر. مما يعني أن الأسلوب بحاجة كبيرة إلى اختيار الصنعة التي هي قدرة وقصد وحضور"([lii]). وهذا يدلنا على: أن جمالية الأسلوب وجمالية الرؤية هما المعيار الفني في الحكم على شعرية الشاعر من خلال نسق الكلمات؛ ومسار توزيعها وتوظيفها ضمن النسق؛ بما يلائم الحالة الشعورية ومستتبعاتها النصية؛ لتأكيد شعريتها بقوة النسق، وبداعة الفعل.

وإن من يدقق في مسارات الجمل الفعلية- في قصائد حميد سعيد- يلحظ جمالية إبداعها النسقي من خلال ما تثيره من صور وما تبتدعه من أخيلة خصبة قلقة في فضاء ترسيمها الفني وتداعياتها الشعورية العميقة؛ فالقارئ سرعان ما يتلقف صنيعها الفني الآسر من خلال بداعة النسق ودينامية حركتها ومراوغتها لحيز الرؤية ومؤثراتها الصاخبة فنياً ومنتوجاً دلالياً. وتأسيساً على ما سبق؛ يمكن أن نشير إلى بعض التقنيات التي تفرزها الجمل الفعلية في نسقها الشعري الذي تؤسسه قصائد حميد سعيد، نذكر منها ما يلي:

1)                  التوليف الجمالي الركائزي للفعل :
سبق وأشرنا: إن مهارة الشاعر تكمن في توليف المتباعدات، بركائز لغوية ذات قدرة على إحداث الواقع الجمالي والتأثير الدلالي؛ بما يتوافر- لديه- من خبرة معرفية جمالية، تتحول فيه هذه الخبرة بمؤثراتها الفنية الحساسة لتطال النبض الشعوري، وتحول الزمن والحدث الضاغط إلى خبرة إبداعية تؤسس ما هو جمالي أو تنتج ما هو إبداعي بما هو طيع، وبسيط،بوعي معرفي؛ تتبدى فيه لمسات المبدع الحقيقية؛ يقول سعيد توفيق: "إن الخبرة الجمالية – إلى حد كبير إبداعية- أو على الأقل :إبداعية مشاركة [co-creative] طالما أنها تؤدي إلى تأسيس اليقين الجمالي"([liii]). وما اليقين الجمالي إلا مركز الوعي المعرفي الذي ينتجه المبدع، لحظة تنامي إحساسه وتفاعله الشعوري مع العمل الإبداعي المجسد. وما الفعل- في كثير من الأنساق الشعرية -إلا بؤرة توجه الحدقة المتلقية إلى فاعليته ضمن النسق؛ لأن عدسة العين تلاحق – لا شعورياً- ما هو حركي؛ والفعل هو الموجه الحركي الأبرز في النص خاصة عندما يقوم بتبئير الرؤية صوب الحدث، ومستتبعاته الفنية.

وما نقصده بـ[التوليف الجمالي الركائزي للفعل]: أن يجعل الشاعر الفعل بؤرة الدلالة، ومرتكزها الفني في النسق من خلال  الطاقة الفعلية؛ إذ إن الشاعر المبدع يملك طريقته الفنية وأسلوبه الجمالي في جعل الفعل مركز الاستقطاب الجمالي في النسق، حين يوجهه كقطب مركزي (بؤري) في تبئير الدلالة؛ بحسن اختيار الفعل وعلائقه الفاعلية والمفعولية المنحرفة في النسق، وهنا؛ تكون جمالية الفعل مرتبطة بجمالية النسق ككل؛ وليست بجمالية الأثر الفعلي فحسب. وما بروز الفعل وامتشاقه فنياً إلا نتيجة تضافر النسق ككل، ولا يعزى لبنية الفعل مهما كان أثره وفاعليته على الإطلاق.

وما ينبغي التأكيد عليه: أن إنتاجية" الفعل" – في قصائد حميد سعيد- إنتاجية إبداعية، ليست على مستوى الفعل، كصيغة؛ وإنما على مستوى العلائق اللغوية كأنساق وروابط فنية؛ ومن هنا؛ فإن "تحليل النص لا ينحصر في مقولات اللغة، على الرغم من أنه متشكل منها، إلا أنه يراعي جوانب لا تتمثل في الواقع اللغوي الفعلي، بل توجد في الواقع الخارجي الذي يعبر عن مقولات غير لغوية، أي مقولات خارج النص... ويلح علماء لغة النص- رغم اختلافاتهم العميقة- على أن النص عملية إنتاج، بمعنى أنه: ليس وصفاً أو سرداً لحقائق اللغة فحسب، بل تترك مساحة كبيرة من الحرية للمفسرين، لكي يقوموا من خلال عمليات تفكيك الأبنية اللغوية الفعلية، وتمثل أبنية دلالية تجمع بينها؛ وتخلق توالداً مستمراً باختلاف النظر في أوجه التعالق بين الدوال والمدلولات، وعملية اختيار قائمة على اكتشاف مقاصد المنشئ، ثم إعادة ربط بين الجزئيات قائمة على هبة المفسر وثقافته وتوجهه"([liv]).

وهذا دليل: أن فعالية النص من فعالية بنيته ومنشئه من جهة؛ وفعالية قارئه وخبرته وثقافته ونشاطه من جهة ثانية؛ وقد عد رولان بارت النص نشاطاً وإعادة إنتاج؛ إذ يقول: "النص نشاط وإنتاج... النص قوة متحولة تتجاوز جميع الأجناس والمراتب المتعارف عليها، لتصبح واقعاً يقاوم الحدود وقواعد المعقول والمفهوم. إن النص- وهو يتكون من نقول متضمنة، وإشارات وأصداء لغات أخرى وثقافات عديدة- لاتكتمل فيه خريطة التعدد الدلالي؛ إن النص مفتوح، كنتيجة تجعل  القارئ في عملية مشاركة، لا مجرد استهلاك. هذه المشاركة لا تتضمن قطيعة بين البنية والقراءة، وإنما تعني اندماجهما في عملية دلالية واحدة، فممارسة القراءة إسهام في التأليف"([lv]).

وبناء على هذا؛ يتأكد لنا أن إسهام القارئ في الكشف عن مداليل النص يمثل نشاطاً لشعريته، ولوقعه الفعلي المؤثر؛ ولذا؛ فإن ما نلحظه في الحركة الفعلية التي تتضمنها قصائد حميد سعيد من انفتاح نصي؛ ونشاط بؤري لسيرورة الفعل؛ وامتداده ضمن النسق؛لدليل على جوهرية القيمة البنائية  للفعل في استقطاب الدلالات، وتبئير مردودها؛ وهذا يعني أن ثمة وعياً لقيمة الفعل، ودوره البنائي في تشعير النسق في قصائده؛ فالفعل يستفز قوته الموحية المتدفقة والمنشطة للرؤية والحدث في نسقها الشعري؛ كما في قوله:

" صبأت رياحُكِ في غيابِ الوردِ... وانفصلَ النشيدُ عن النشيدِ..

وأطلَّ هودجكِ الحريرْ

في كلِّ منعطفٍ ترافقني العواصفُ..

لو أقولُ أحبُّها.. سيبيعني الأصحابُ..

لكني.. أقولُ أحبُّها..

وأردُّ كيدَ الشوكِ.. تفتحُ لي بساتينَ الضحى باباً.. فأدخلُه

أرى ما لا يرى العشاقُ.."([lvi]).

بداية نشير إلى أن: للجملة الفعلية وقعها التوليفي الركائزي المثير- في قصائد حميد سعيد- من حيث علائقها المجازية، وروابطها المحفزة للشعرية؛ من خلال ما تثيره من علائق فنية تستدعي التأمل والبحث البؤري عما تختزنه من إيحاءات ودلالات عميقة؛ وهذا دليل: "أن تكامل وتواشج، وتداخل مكونات النص (اللغة، الحركات، نظام العلاقات، الرؤية، الرؤيا، السياق) مع أزمنة موضوع النص وأزمنة النص يعطي وحدة متجانسة، متواشجة العناصر، متناغمة البناء مترابطة المكونات؛ تفتح اللغة على معنى المعنى"، والحركات على التصاعد الوجداني، ونظام العلاقات على تشابكها وانفتاحها، والرؤية على سيرورتها الداخلية والخارجية، والرؤيا على النظام الملحمي والأسطوري؛ والسياق على التجاوز والتباعد والتماثل والتناقض؛ مما يجعل النص الشعري يتجاوز آنيته الطافية على السطح؛ ويفلت من أزمنته الخاصة، ليتحرك في أزمنة تتسم بدوام الحركة واستمرار الفعل"([lvii]). وهذا ما نلحظه في قصائد حميد سعيد، إذ إن للفعل هيمنته النصية على السياق؛ مما يجعل النص الشعري لديه- في حراك دائم وتجاوز مستمر لسطح الدلالات إلى عمقها ومضمرها الخبيء؛ مما يجعل الدلالات والبنى في أنساق قصائده تتوالد باستمرار بمرجعية نصية مفتوحة، متعددة الاحتمالات والاتجاهات؛ لا يقر لها قرار، تتحرك في اتجاهات نصية عدة؛ متباعدة ومتقاربة في آن؛ مما يكسبها الحراك الدائم؛ والتفاعل المستمر المبدع الخلاق.

وبالنظر – في فعالية التوليف الجملي الركائزي للفعل- في المقبوس الشعري السابق- نلحظ أن الشاعر أبدع بحرفنته النسقية المعهودة في إبراز العلائق الفعلية بمجاوزتها النسقية الفاعلة عبر جمالية الصيغة الفعلية ذاتها[ صبأت]؛ وملحقاتها النسقية وعلائقها الفاعلة جمالياً: [صبأت رياحكِ في غيابِ الوردِ]؛ مما يجعلها غاية في التنامي الجمالي والحس الشعوري العميق؛ وهذا التفاعل النسقي الذي يحفزه الفعل، يستثير الحساسية الشعرية؛ وينشط الحركة الدلالية؛ ويعبر عن أوج الشحنة العاطفية التي يبثها في النسق الشعري؛ ليبرز منتوجه الإبداعي؛ ثم يفاجئنا بهذه الجمالية الآسرة، بالحركة الفعلية التالية: [أرد كيد الشوكِ... تفتح لي بساتينَ الضحى باباً]؛ إن هذا التوليف الركائزي الفني للفعل [أراد] لعلائقه وروابطه الفاعلية [كيد الشوك] يستثير الحساسية الإبداعية؛ ويرفع وتيرة النسق جمالياً، لإبراز جزئيات الدلالة وتنشيطها من جهة ثانية؛ وإبراز سيرورتها المفتوحة من جهة ثانية، وهذا ما أفرزه الفعل في سيرورته النسقية المنتجة في الاستعارة الأولى:[ تفتح لي بساتين الضحى باباً]؛ وهذا يدل على أن شعرية حميد سعيد شعرية انفتاحية إبداعية بإحداثياتها الفنية؛ ومنعرجاتها الدلالية ومحفزاتها الجمالية؛ وهذا ما يجعلها ذات توثب دائم ضمن الأطر النصية المفتوحة التي تثيرها الأنساق الجزئية على المستوى النصي العام. وهذا يدلنا على : "أن مقاربة النص الشعري نقدياً، تعني إمكانية اختراق التكثيف الواسم لفضاء النص، وكشف الزحزحة والخلخلة في العلاقة بين الدوال ومدلولاتها، والتي لا تحققها إلا القصيدة إن النقد عملية دخول استثنائي في حفلة عري اللغة، لكشف الكامن والمختبئ وراء حدود تحريكها انطلاقاً من المعنى الحركي للحرف، وليس انتهاءً بالأبعاد الفراغية لفضاء النص، مروراً بحركية المفردات والدوال؛ وتداخل الأزمنة وانكساراتها باتجاه تفكيك الفضاءات التي يحيل إليها الخطاب الفكري/ أو الموضوع المعرفي للنص؛ وهذا ما يجعل القراءة النقدية التفجيرية هذه تختلف عن القراءة التقليدية التي تحدد قوانينها من خارج علاقات النص واللغة، محددة رؤيتها بالسائد والمكرور الذي يتحرك ضمن أطر تمثله الأيدلوجي"([lviii]).

وإن هذه القراءة النقدية -من منظورنا- هي التي تحدد فاعلية المتشظيات اللغوية ضمن النسق الشعري؛ ولا يمكن رصدها إلا بدراسة الوحدات النصية الصغرى وصولاً إلى علائقها الفنية ومستوحياتها النصية الكبرى ضمن النسق الكلي العام؛ المؤسس لحركتها؛ وتنوع دلالاتها وانزياحاتها النصية المستعصية أو الخالدة.

وثمة فاعلية نسقية تتبدى في حساسية التوليف الجمالي الركائزي للفعل؛ باستقدام الفعل المؤثر الذي يناقض حركة فاعله ومفعوله؛ مما يجعل الفعل مبئراً للحدث والرؤية الشعرية معاً، كما في قوله:

" رأيتك تستقبلُ النهرَ..

تحكي له قصصاً .. يستجيبُ إليها

فتمدُّ أمواجُه في يديك .. تبلل صوتك

توقظ أوتاره اليابسةْ

يقبلون من الطرقات ... إلى النهر

ينتشرُ الماءُ في الهفواتِ البريئة

في الضحكِ الغضِّ

يبدأُ سربُ العصافيرِ.. لحناً"([lix]).

بداية، نشير إلى أن " التوليف الجمالي الركائزي" للفعل- في قصائد حميد سعيد- يتبدى في جمالية الجملة في علائقها الإسنادية المراوغة التي تنم على منظومة إبداعية من الانزياح في العلائق الفعلية والمفعولية؛ مما يرفع وتيرة الجملة وحركيتها الفنية في النص؛ وكلما كانت الجملة مركزة لدلائلية الفعل وحركته المشعة دلالياً في النسق كلما ازدادت شعرية النسق، وتنامت إشعاعاته الجمالية على امتداد النص ومساراته النصية كافة.

وبالنظر في فعالية التوليف الجمالي الركائزي للفعل- في المقبوس الشعري السابق- نلحظ قدرة الشاعر على التوليف الفني الركائزي للفعل المثير الذي يستحضر مثيرات الجملة مجازاً لغوياً، وانزياحاً فنياً آثراً؛ كما في النسق التالي: [ينتشرُ الماءُ في الهفواتِ البريئة في الضحكِ الغضِّ ]؛ إن ما يزيد على الفاعلية الجمالية الركائزية للفعل هذا الزوغان الإسنادي في العلائق اللغوية المستتبعة الممتعة لروابط الفعل: [الهفوات البريئة- الضحك الغض]، هذه المستتبعات العلائقية رفعت جمالية الفعل؛ وأبرزته بحدة جمالية تعمقت خلالها فعالية الاستعارة؛ ودورها في النسق؛ وهذا ما ينطبق كذلك على الفعل" يبدأ" في قوله:[ يبدأُ سربُ العصافيرِ.. لحناً ]؛ فالقارئ قد يألف الفعل: [ينتشر الماء في الهفوات البريئة]؛ لكن سرعان ما يلحظ الزوغان الإسنادي في الموصوف والصفة؛ وهذا ما لم يعتده من سابق؛ مما يصدمه ويصدم توقعه؛ ويباغت رؤيته المعتادة؛ وهذا ما نلحظه في إسناد الفعل إلى فاعله ليحقق استعلاءً فنياً عبر الإسناد الجدلي بقوله:" يبدأ سرب العصافير لحناً"، مما يوحي للقارئ بأنه أمام نسق شعري جمالي مرتكزه العلائقي الفعل و محفزه الجمالي تضافر علائقه الإسمية ضمن النسق من خلال علائق إسنادية وصفية أو إضافية؛ تزيد وقعه الجمالي وتوليفه الركائزي الفني المثير. وهذا يدلنا أنه "لامتلاك القدرة على الولوج في بحار النص الشعري، علينا أن نقارب الجزئيات المكونة له؛ ليس في تجردها معزولة عن نسق الدوال، بل، بتناولها عبر كل أبعاده اللغوية، وهي التي تستمد فعاليتها ودلالاتها من خلال السياق المطروحة فيه؛ وليس من خلال المعاني الجامدة للدوال بدلالات خاصة، تبنى بمعزل عن السياق، ومن خلال حركاته ونظام علاقاته عبر الصيغة والأصوات، والنظام المكاني، والتركيب الدلالي، ومن خلال أنظمة الزمن وحركيته عبر تفاعلاته، وتوجهاته، وانتقالاته في النص الشعري؛ ومن ثم من خلال الرؤية، ومن خلال أنظمة الزمن وحركيته عبر تفاعلاته وتواتراته وانتقالاته في النص الشعري؛ ومن ثم من خلال الرؤية، وبنى التخصيصات، بحيث تشكل تلك الإحداثيات أبعاداً متداخلة متناغمة متوافقة، تشكل الحركة البنائية للقصيدة"([lx]). والفعل هو بؤرة الحركة النصية في القصيدة، من حيث امتداده وتفاعله وعلائقه؛ وإحداثياته الفعلية المثيرة. وهذا ما نلحظه في قصائد حميد سعيد على مستوى علائقها الفعلية التي تستقي من النسق التشكيلي المراوغ بؤرة إثارتها وتمفصلها الإبداعي لإبراز إمكانية الفعل في نسقه، وفاعليته في توجيه حركتها الدلالية وتنشيطها ضمن النسق.

2)                  الاستحواذ الفعلي البؤري الفني :
إن الفعل حينما يكون موجها دلائلياً في النسق الشعري؛ ويملك متشاكلاته النسقية الفاعلة في خلق العلائق اللغوية المنسجمة المتوازنة في النسق؛ فإنه – دون أدنى شك – سيكون بؤري الدلالة،مركزي الإشعاع الفني، مكثف الانبعاث الإيحائي والتنشيط الدلالي؛ وما نقصده بـ(الاستحواذ الفعلي البؤري الفني): هو أن يكون للفعل مؤثراته البنائية العلائقية في إنتاج الدلالة وتكثيفها؛ والجملة في تشعيرها وتكثيف نشاطها الدلالي؛ أي أن يتمركز الفعل البؤرة النسقية، لتشكل محور ارتكاز الدلالات، ومحرق تمركزها الفني، وكأن الشاعر يوجه الحركة الفعلية بإرادة واعية مخصوصة، تعي أبعادها النصية، وسيرورة الدلالات المفضية إلى الكثافة والامتداد النصي. وهذا يؤكد لنا: أن للفعل الشعري فاعليته ضمن النسق، بما يتصف به من مرونة في الجملة، ومطواعية في الالتحام مع باقي الأنساق اللغوية المؤسسة لحركته وإمكانية بروزه كقوة خلاقة للشعرية؛ تبعاً لهذا؛ تتحدد بلاغة الجملة بمقدار ما تثيره من دينامية في النسق، وما تملكه من قدرة على التنشيط العلائقي المجازي للروابط الفعلية، لكسر حاجز الإبلاغ الدلالي، إلى الإمتاع الجمالي. وهذه هي بؤرة البلاغة أو اللذة الجمالية في تشكيلها، وتركيبها، أو تأسيسها؛ وبناءً على هذا؛ فإن بلاغة الجملة لا تتحدد- إذاً- بعلائقها المجازية فحسب؛ وإنما بقدرتها على التكثيف الإيحائي؛ والاستحواذ الجمالي في بث منتوجها الدلالي؛ فكم من الصور البليغة والممتعة ببريقها الفني تفقد شعريتها لضحالة منتوجها الدلالي، أو ضحالة ارتباط منتوجها بالرؤية الشعرية الفذة التي هي جوهر مقصود الشعر ومنتوجه الإبداعي؛ يقول الباحث حسين جمعة؛ في الجملة البلاغية ما يفيد رؤيتنا: "فبلاغة الجملة منذ وجود العربية ليست سكونية؛ وإنما تتجسد كائناً إبداعياً يتجاوز الظرف الوصفي الذي زعم فيه بعض الباحثين أن العربية وصفية، فهي تتجه بقوة إلى الجمع بين شكلين[ حسي (ذهني/ نفسي) ] وكلاهما يؤدي إلى الاستجابة الجمالية التي تحقق مبدأ [ اللذة  ] في الوقت الذي تحتوي على مستويات أخرى... كالتواصل والمعرفة."([lxi])

فبلاغة الجملة- من منظور الباحث- تتحدد بمقدار ما تحققه من استجابة جمالية، أو لذة في تلقيها؛ وهذه اللذة هي جوهر ما تبحث عنه الفنون جميعها حيال تلقيها؛ ومن أجل هذا؛ فإن للعلائق اللغوية دورها المركزي في بروز أي وحدة نصية؛ وما بروز الفعل في بعض الأنساق إلا نتيجة إفراز جمالي لباقي العلائق اللغوية، وتوهجها في النسق ذاته؛ وهذا يدلنا أن "الجملة في النص لا تفهم في حد ذاتها فحسب، وإنما تسهم الجمل الأخرى في فهمها، وهذا يبين أن الجملة ليست وحدها التركيب الذي نحدد به المعنى، وإنما نحدد المعنى أساساً من خلال النص الكلي الذي تتضامن أجزاؤه وتتآزر"([lxii]).

وما ينبغي الإشارة إليه: إن الاستحواذ الفعلي البؤري الفني- في قصائد حميد سعيد- وليد تفاعل الفعل واستقامته الفنية في النسق؛ وما يستحثه من رؤىً ودلالات ترتبط بفاعليته التواصلية والتأثيرية في السياق الذي يتموضع فيه؛ وكأنه وليد هاجس الشاعر في تشكيل الجملة ومنطلقها البؤري؛ خاصة عندما يجنح الشاعر إلى توصيف ذكرياته وأيامه الجميلة في مدينته الحلة في العراق؛ فيبث شعوره وتحنانه الدائم لها، بدينامية فعلية متتابعة، تشي بحجم الاغتراب والحنين الجامح إلى واحاتها وروابيها الخضراء.

ومن يمعن النظر في قصائد حميد سعيد، ويدقق في بنى علائقها الفعلية تحديداً، سيلحظ فاعليتها النصية عبر الاستحواذ الفعلي البؤري الفني الذي تحدثه أنساقها، حيث اختمار الرؤية؛ وعمق الدلالات الفعلية المؤثرة في التكثيف الإيحائي؛ للكشف عما تخطه رؤيتها من إيحاءات وظلال فنية، تكسب النسق فاعلية قصوى من الإثارة والتحفيز الفني؛ كما في قوله:

" لم يكنْ وطناً ذلك الشجر المتصابي

......

لماذا ... ومن دون كل النساء تكونين شرنقتي

وتكونين بوابتي؟!

أيها البحر

أطفئ فوانيسك . الحرس الطيبون ينامون

......

المدن الآن غير التي قد ألفنا

الشوارع .. تفتح قمصانها للنجوم.. ويساقط الضوء

فوق جبينِ التي يسكن البحر طلعتها

وتجيء القصائد منها..

الشوارع تضحك.. ترحل في سورة العشق."([lxiii]).

بداية، نشير إلى: أن ما يميز قصائد حميد سعيد على صعيد علائقها الفعلية استحواذ الفعل لبؤرة الدلالة، الممركزة للقصيدة؛ بوصفها الآلية الفنية في استحداث أثرها الفني، خاصة عندما يغامر الشاعر في نسقه الفعلي بعلائق جدلية لا تقبله دلالته الأصلية على الإطلاق؛ لينزاح في نسقه، لاستحداث مدلوله النصي الجديد الذي يمنحه فرادته النصية، وتوهجه الإبداعي؛ وبمقدار ما يتحثث المتلقي الحركة الفعلية، ويرصد متحولاتها النصية، بما يتناسب وحجم الرؤية النصية المفتوحة التي يبثها الفعل، بمقدار ما يستثير فنيتها وإيحاءاتها البؤرية العميقة.

وبالنظر- فيما تحدثه البنى الفعلية من استقطاب بؤري فني- في المقبوس الشعري- نلحظ أن ثمة وعياً فنياً إدراكياً بمحفزات الفعل، وملحقاته النصية ضمن النسق، كما في الأنساق المتوازنة التالية:[ تكونين شرنقتي- تكونين بوابتي- الشوارع تفتح قمصانها للنجوم- يساقط الضوء- الشوارع تضحك- ترحل في سورة العشق]؛ إن كل فعل من تلكم الأفعال يمتلك منظومته الإبداعية النسقية الفاعلة في تكثيف مردود الاستعارة، وتبئير الرؤية صوب بؤرها النسقية المفتوحة؛ بصنيع فني، يرقى الشاعر حميد سعيد من خلاله أقصى درجات الاستفزاز والتفعيل النصي؛ وهذا يرتد أثره على النسق بأكمله، ليزداد تمازجاً فنياً؛ وكأنه الموجه لحركة النسق ومحور حراك الصورة وتكثيفها الدلالي.

وثمة تلوين نسقي- في قصائد حميد سعيد- لاستجرار الأفعال ذات الاستحواذ البؤري الفني في تكثيف الرؤية، وتشعير المتحولات النصية؛ إذ يلحظ القارئ أن الشاعر يجند كل ما في النسق الشعري لإبراز إحداثيات الحراك الفعلي؛ لبعث الحيوية في النسق، كما في قوله:

" بينَ قوسينِ كنا معاً، في الكتابةِ ... كنا

وإذ غادرَ القوسُ من جبهتي .. فلبثتُ

وأنتِ تسلَّلتِ غادرتني.. وبقيتُ وحيداً..

ومنشغلاً بالوعودِ..

في ليلِ بابلَ.. شاهدتُ وجهكِ في جدرِ السورِ

حاولتُ أن أترضاكِ .. كي تفتحي لي طريقاً إليك..

وأن تفسحي لي مكاناً بقربك..

لكن حارسك البابلي اليغارُ عليك .. ويخشى عليكِ من السحر

عاقبني .. بالبقاءِ قريباً من السورِ

لم يفتحْ البابَ.. حتى الغياب"([lxiv]).

سبق وأشرنا :إن الاستحواذ الفعلي البؤري الفني- في قصائد حميد سعيد- يستمد فعاليته من جمالية النسق الشعري ككل؛ ومؤثرات المنظومات العلائقية الإسمية؛ فالفعل، وإن تبأر حيز النسق في كثير من المواضع النصية، فلا يعود التأثير لمثيرات الفعل ذاته؛ وإنما لحيز العلائق الإسمية ومسنداتها الفنية التي تملك فاعليتها القصوى من الإثارة والإدهاش النصي في تحريك النسق؛ ولهذا؛ فإن السمو الفعلي مبعثه السمو النسقي؛ و والسموق النصي كذلك؛ وليس الامتشاق والبروز الفعلي فحسب؛ وما نضيفه: أن حركية الفعل مبنية على المناورة الإبداعية في نسق الصورة التي مركزها الصورة وانفتاحها النصي؛ فكم من الصور تتجذر على حركية الفعل ومنظومته النسقية الفاعلة في التكثيف والإيحاء؛ ومن يطلع على ديوانه الموسوم بـ[ من وردة الكتابة إلى غابة الرماد] يلحظ سموقاً للعلائق الفعلية ومسنداتها الإبداعية التي تقوم على الجدل والمناورة والحراك الشعوري المكثف؛ إذ تتجاذبه إيقاعات مكثفة من العلائق الجدلية مما يجعل النسق الفعلي غاية في التكثيف والمنتوج الإبداعي.

وبالنظر- فيما تثيره البنى الفعلية من استقطاب بؤري فني في المقبوس الشعري، نلحظ سموقاً فنياً للعلائق الفعلية؛ وهذا السموق، مرده جاذبية النسق ككل، ابتداءً من أول كلمة في المقطع؛ وانتهاءً بآخر كلمة فيه؛ إذ إن العلائق اللغوية مبنية على وعي مقصدي دقيق، وإحساس شعوري عميق، لهذا، تلونت المسندات الفعلية؛ وأحدثت بتنوعها النسقي وتلونها السياقي وقعاً جمالياً، كما في المسندات الفعلية العلائقية البؤرية التالية: [غادرَ القوسُ من جبهتي - شاهدتُ وجهكِ في جدرِ السورِ - حاولتُ أن أترضاكِ .. كي تفتحي لي طريقاً إليك- يخشى عليك من السحر]؛ وهذه المرجعية الواعية لتشكيل النسق الشعري تؤكد مقصديته الواعية وإدراكه المعرفي، ووعيه الفني؛ وهذا دليل: "أن نجاح أي عمل أدبي هو بقدر ما يحمل ويحتمل من قصدية، إذ إن هذه القصدية تكشف عن تنهيج تعمده، واعتمده الشاعر أو المبدع أدى بالعمل الأدبي على هذا الشكل الذي ظهر به"([lxv]). وتبعاً لهذا، تتأكد شعرية قصائده بالوعي الفني الذي ترمي إليه؛ وتؤطره بأنساق لغوية مجازية غاية في الإثارة والغنج الفني.

3)                  المغامرة الفعلية النسقية :
سبق وأشرنا: أن الشعر مغامرة لغوية؛ تلاعب باللغة وأنساقها؛ بالمتباعدات والمختلفات حيناً، والمتماثلات أو المتحايثات حيناً آخر؛ بتوازن نسقي متآلف؛ يجمع الأنساق الاسمية بالفعلية؛ والفعلية بالاسمية؛ في أتون نسق شعري مغامر، يملك جسارته الإبداعية، ومحفزاته النسقية،التي تزيد ألق النسق وخصوبته الجمالية؛ كلما أحسن الشاعر في توليفه النسقي التركيبي؛ وحقق مقصديته الفنية في إحداث المباغتة والمفاجأة في مغامرته النسقية اللغوية، بتوليف نسقي مكتمل فنياً؛ وناضج إبداعياً؛ يقول أدونيس: " علامة الإبداع الأولى هي طريقة التعبير، بقدر ما تكون جديدة، يكون الشاعر جديداً، لكنها لا تكون جديدة إلا لأن تجربة الشاعر أو رؤياه الشعرية جديدة"([lxvi]). وهذه الجدة لا تأتي عن فراغ أو تقمص إبداعي مصطنع؛ وإنما تأتي عن إحداثيات معرفية، وبنى نصية تحفيزية مثيرة يملك الشاعر منظوراً جديداً في توليفها، وخلق مغامرتها النصية الفاعلة في إثارة حداثاوية النسق الشعري؛ وتخصيبه جمالياً؛ وهذا ما دفع أدونيس إلى القول:" كن الحد والنهاية، تكن قبراً، كن اللانهاية تكن نفسك تكن الإنسان والحياة والكون"([lxvii]). وبهذا التصور؛ لا يمكن للشاعر أن يكون اللانهاية أو الأفق اللامتناهي إلا بامتطاء صهوة المجازفة والمغامرة الرؤيوية والنسقية؛ التي تخوله اقتحام عوالم جديدة؛ وارتياد فضاءات نصية جديدة لم يرقَ إليها أحد سواه، باستبطان شعوري عميق، وانفتاح رؤياوي خلاق؛ دافق بالحساسية الشعرية والخلق الإبداعي المنفتح اللامتناهي؛ وبهذا الإحساس والمنزع التأملي نرى أن[ المغامرة الفعلية النسقية] هي :المغامرة الإبداعية في تشكيل الفعل بأنساق لغوية لا تتقبله؛ أو تشكل صدمة في النسق الذي يتضمنه، لكسر حاجز الألفة والاعتياد في تشكيل النسق، وكأن الشاعر يتلاعب بالنسق، أو يقاربه لإدهاش المتلقي، وجذبه إلى دائرته الإبداعية؛ وتأسيساً على هذا؛ فإن الشاعر لا يكون مبدعاً حقيقياً إن لم يملك الأفق ويرتاد صهوة الخرق، والتجاوز، والإبداع، ليكون مبدعاً حقيقياً- عليه من منظور أدونيس-" أن يرصد العالم كله، وينبئ بتحولاته، ويضيء هذه التحولات. ومن هنا، إما أن يكون الشعر كلياً، وإما أنه لن يكون؛ وكم تزداد قناعتي بهذا الخصوص في مرحلة حاسمة كمرحلتنا الحاضرة من حيث ننتقل من المحدود إلى الكوني اللامحدود"([lxviii]).

والمغامرة- في جوهرها- مجازفة في الشكل اللغوي، ومجازفة في الرؤيا؛ والشاعر إن لم يغامر ويجازف بجرأة فنية واقتدار لغوي جذاب ليس بشاعر، ولا يستحق أن يملك صفة الشعرية أو الشاعرية: لأن الجرأة هي أس الإبداع، إن لم تكن شرارته القادحة؛ ولعل أبرز صفة يمكن لنا أن نلصقها بالشاعر حميد سعيد أنه مغامر؛ ومغامرته ليست بالشكل اللغوي فحسب، وإنما بالرؤية الثاقبة المفتوحة أو الممتدة؛ فإن نظرت إلى أنساق جمله [الفعلية] على مستوى العلائق الرابطة [الفعل – الفاعل – المفعول اللواصق أو المتممات الأخرى] وجدته يجازف بأفعال جديدة وبروابط محلقة فنياً لا يتوقعها القارئ على الإطلاق؛ نظراً إلى الجسارة الإبداعية والقوة التعبيرية الخلاقة التي تصيب مقصودها بترسيم فني؛ وإن غلب عليه عنصر السرد الممطوط أحياناً، وإن نظرت إلى أنساقه الإسمية وملصقاتها [صفة وموصوف] أو [مضاف ومضاف إليه] أو [مبتدأ وخبر] أو [إن وأخواتها] أو [كان وأحواتها]، وجدته يبدع في أنساقه اللغوية التصويرية التي تثيرها استعاراته البلاغية في وقعها ومدها الشعوري؛ لدرجة لا يعيها إلا من لديه حساسية شعرية مفرطة ومنظور رؤيوي خلاق أو ثاقب؛ وهذا دليل رقي الشعرية لديه، فليست شعريته سطحية القرار؛ وإنما شعريته شعرية العمق والاستبطان الباطني الخبيء؛ ولهذا؛يمكن أن نعد شعريته شعرية النخبة؛ لأنها ليست بمتناول إلا النخبة؛ وإن بدت سهلة الانقياد لا غرابة ولا تعقيد، فمختلف هذه السلاسة والسهولة تكمن في مثيرات البؤر العميقة التي تؤكد مغايرتها وتجافيها للمألوف أو المتوقع؛نظراً إلى ما تختزنه أو تستبطنه من رؤى عميقة، ومداليل مستعصية لا يفك شفراتها إلا من يملك الحساسية الإبداعية المفرطة، والمنظور الإبداعي الفني الرائق.

ففي بعض المقاطع نلحظ آثار المغامرة الفعلية النسقية ظاهرة للعيان، من حيث العلائق اللغوية المبتكرة؛ والإسنادات الفعلية المجازية المجازفة في مدها الرؤيوي؛ وإسناداتها المبتكرة؛ على شاكلة قوله:

" قبلَ أن يقضمَ.. تمساحُ أحلامِها .. نهدَ جارتِها

لم تكنْ مارلين مونرو... تبيحُ ينابيعَ فتنتِها

ولم تكُ تعرف..

أن الطريقَ إلى ليلِ فضتها .. سيغطيه هذا الجليد

ورمادُ حرائقِها.. سيغطي الجليد

جسدٌ غبأته العواصفُ.. بالضوءِ والرعود..

توجتُه الصواعقُ .. بالخرافات..

أهدته إليهِ الكواكبُ... ما اختزنتْه البراكين..

ألقتْ به في الجحيم..

لتأكلَه هوليود"([lxix]).

بداية، نشير إلى أن : المغامرة النسقية- في قصائد حميد سعيد- مبنية على التكثيف النسقي؛ للمتحولات النصية الفعلية/ والإسمية؛ لتأتي دائمة التحول/ والحراك الشعوري؛ من حيث بصمتها الإبداعية، وشعريتها المموسقة الموقعة بتجارب نغمي مموسق، ينسجم مع باقي الأنساق اللغوية المؤسسة لبنية المقطع؛ فالمغامرة الفعلية النسقية لا تتبدى في هيكلة النسق ومردوده الفني فحسب؛ وإنما بالرؤيا المتوثبة الخلاقة للشعرية؛ من حيث تفاعل الأنساق ومجاوزتها لما هو معتاد؛ من سطحية العلائق اللغوية إلى ما هو عميق من دلالات، وأبعاد، وعلائقية نسقية مثيرة تخلقها الأنساق في جدلها الدائم وحراكها المستمر؛ أي: بالانتقال من العلائق اللغوية البسيطة إلى الخلخلة والتفجر النسقي للعلائق الفنية ذات الإبداع، والتخصيب الجمالي. وبهذا يتبدى الأسلوب الشعري الراقي أو الفن الشعري الراقي الذي ينهز بك إلى أتون الحياة وصخبها- على حد تعبير أدونيس-، إذ يقول: " ليس ذلك هو دور الفن: أن يرميك في أتون الحياة فحسب؛ بل سره أيضاً- السر الذي يميز الأعمال الأدبية والفنية العظيمة، ويطبعها؛ وهذا هو معنى الارتباط الجدلي بالواقع. فالقصيدة، مثلاً، لا تتشبه بالواقع، سواء أكان ظلاماً أم نوراً ـ أي أنها لا ترتبط به آلياً، وإنما تأخذه ككل، وتنفذ في معانيه ودلالاته وأبعاده، حيث يشتبك السقوط والنهوض، العتمة والبريق، والجحود والخلخلة، في حركة دائمة من التحول الدائم باتجاه المزيد من سيطرة الإنسان على مصيره وعلى الكون"([lxx]). وتبعاً لهذا الإحساس المفعم بدور الشعر كفن إبداعي إنساني خصيب، يقول الناقد المبدع، علي جعفر العلاق:" إن الشعر وفق هذه الرؤيا صنو القسوة وقرينها الفظ  والجميل، فهو لا يجمل الحياة ولا يسعى إلى إصلاحها بدوافع أخلاقية أو سياسية، وهو أيضاً لا يثقل جناحيه بهمهمات نبوئية مدعاة، بل هو على النقيض من ذلك كله، يهبط بنا إلى قرارة الكأس، أعني إلى آخر موضع في الروح، إلى ضعفها المتخفي، أو قبحها الكامن هناك، أو خوفها الذي نحاول تخطيه، أو إهماله، أو تملقه. إنه الشعر الذي يهجم، كنمر الغابة، على أرواحنا فيخلخل طمأنينها الكاذبة، وينهش تجانسها الظاهري، الشعر الفاضح للخوف؛ والنضاح بكل ما في النفس من رضوض لا نجرؤ على مواجهتها في الضوء، أعني إحساسنا بالخسارة، أو الندم، أو اللامعنى"([lxxi]).

إن الشعر، بهذا المعنى، أو التصور، مرادف للحياة، مرادف للوجود، مرادف للإنسان، وحركة الواقع وحياتنا المزدحمة؛ مرادف للزمن والتاريخ، واكتشاف للمجهول، واستشراف للمستقبل، وتصور لما هو مسكون في حياتنا منذ الأزل؛ يقول أدونيس:" لا يكون الشاعر أو الشعر إلا إذا اغتسل من ركام العادة- يحترق بناره، ينبعث من رماده. هكذا يتقطر الماضي كله في لحظة الحضور، ويكون التجدد، و" تولد القصيدة"([lxxii])والتجدد هو روح الشعر، وروح الحياة المنبعثة في الشعر؛ وكل شيء لا يتجدد سيضمحل، ويتلاشى، ويموت، ويؤذن بنهايته السريعة لا محالة.

وبالنظر- فيما تحدثه المغامرة الفعلية النسقية في المقبوس الشعري- نلحظ أن ثمة مغامرة يبثها الفعل في نسقه، من خلال بداعة الوقع الفعلي في تبئير النسق الفعلي، وعلائقه الإسنادية المدهشة التي تنتجها الاستعارات بوصفها العلائق الفاعلة التي تقدح شرارة الإبداع الوهاجة، كما في قوله:[ يقضم تمساح أحلامنا نهد جارتها- تبيح ينابيع فتنتها- ليل فضتها- جسد غبأته العواصف.. بالضوء والرعود- توجته الصواعق بالخرافات]. إن كل فعل من هذه الأفعال يشكل مركزيته الفنية، بوصفه الباعث لحيوية الاستعارة ووقعها المؤثر، لتظليل الصورة بعمق النسق الفعلي المؤثر في إحداثياته الفاعلة ومشاعره المنفعلة، لتبدو الحركة الفعلية بغاية الحراك والممغنطة التأثيرية، كما في قوله:[جسد غبأته العواصف.. بالضوء والرعود]؛ إذ إن الفعل" غبأ" جاء بغاية الإثارة النسقية في زعزعته الرؤى المتوقعة، ليخلق إحداثياته النصية اللامتوقعة؛ مما أدى إلى سموقه في النسق الاستعاري، وكأنه رائد الحركة النصية في مضمار الاستعارة وإحداثياتها الجمالية؛ ومما لا شك فيه أن هذا الوعي الإدراكي المعرفي في موضعية النسق الشعري دليل أكيد على وعيه المطلق و هندسته الشعورية المحكمة في ترسيم الجملة الفاعلة التي تحدث وقعها المؤثر بشتى السبل، وأبدع الأنساق؛ وهذا هو مصدر إبداعها جمالياً.

ثانياً- شعرنة الوحدة النصية الوسطى الثانية [شعرنة المقطع]:
يشكل المقطع المتحولة النصية الوسطى الثانية في تشكيل القصيدة عند حميد سعيد؛ وهذه المتحولة النصية أشد تعقيداً من الأولى، لأن المقطع قد يتمدد أو يستطيل إلى عدد كبير من الجمل، تتفاوت في طولها وقصرها، تبعاً للزخم العاطفي، والامتداد الشعوري المكثف الذي تبثه القصيدة على جرعات مقطعية؛ حيث يمثل كل مقطع جرعة رؤيوية مكثفة تندمج مع الرؤى المقطعية النصية الأخرى في بلورة الرؤية النصية العامة التي تنبني عليها القصيدة؛ وهذا ليس بغريب على القصائد الحداثية، إذ" تنبني معظم قصائد الشعر العربي الحديث على أساس مقطعي، ولذلك، يحتل المقطع في شعر التفعيلة أهمية واسعة، فهو يطول ويقصر، ويتكرر ويتجدد، ويميل إلى البساطة أو التعقيد، وفقاً لما تقتضيه حركة السياق الشعري والموقف الشعوري. ومن هنا، فإن تشكيل المقاطع يرتبط بأسباب نفسية ودلالية وفنية تنعكس على المسار الإيقاعي، وتلبي حاجاته في الامتداد والتطاول، أو الانحسار والتكثيف، وفقاً لمكونات النص الدلالية وتفاعلاته الإبداعية"
([lxxiii]).

ويعد المقطع المركز البؤري العلائقي- في قصائد حميد سعيد- نظراً إلى نضجه الفني وقدرته على بث مكونات الرؤية بتفاعل نسقي مثير؛ فالمقطع -وإن بدا معزولاً في قصائده برؤيته، متفرداً في شكله الفني، ومنحنياته الشعورية- تجده متضافراً متفاعلاً على مستوى الرؤية الكلية أو التصور النصي العام، وعلى الرغم من أن الشاعر يفصل بين المقطع والآخر بصرياً بفواصل نقطية أو نجمات؛ فإنه لا يفصل فيما بينها دلالياً أو رؤيوياً؛ فالكل في تفاعل وتجاذب وتلاحم وانسجام. وبناء على هذا؛" يتحدد المقطع الشعري من خلال الفصل بينه وبين مقطع آخر ببياض أو علامات معينة كنجمات صغيرة أو نقاط سوداء؛ أو عن طريق ترقيم المقاطع، أو وضع عنوان مستقل لكل مقطع . وعلى هذا، فإن هيكل المقطع الشعري لا يستقر على حالة محددة، فهو يطول أو يقصر في ضوء التحولات التي تطرأ على الحدث الشعري. وهنا، تتدخل الإمكانات المتوفرة للشاعر في تكوين إبداعه، إذ ليست هناك قاعدة يمكن للشاعر أن يتبعها، وإنما هناك حدث فني يتدخل مع المقدرة الإبداعية لإخراج النص الشعري، وتنسيق مقاطعه، وفقاً للتجربة الوجدانية التي يتم التعبير عنها، وتتفاوت أطوال المقاطع الشعرية في النص الشعري الحديث، لتتراوح بين الطول والقصر، وذلك وفق تنظيم فني ودلالي يراعي تفاوت الأهمية بين المقاطع، فالشاعر قد يعطي مقطعاً أهمية، فيبرز أكثر من غيره؛ ولكن دون أن يؤثر ذلك في درجة الاتقان بين المقاطع جميعاً، ويبقى التناسق والانسجام أهم مصدر الإيقاع، إذ بواسطتهما يتم التآلف بين المقاطع المتنوعة، فتتماسك وتنتظم فيما بينها في وحدة فنية تامة التوافق"([lxxiv]).

وما ينبغي الإشارة إليه: أن المقطع الشعري- في قصائد حميد سعيد- يشتغل كمحولة نصية وسطى حين يرتبط برؤية القصيدة، ولا ينفصل عنها، ويشتغل كوحدة نصية كبرى، حين ينفصل عن رؤية القصيدة، متفرداً برؤيته عنها؛ وهذا نادر جداً، إذا ما قيس بالشائع لديه، من حيث التكامل والتفاعل والتضافر المقطعي على المستوى النصي؛ وأبرز ما نسجله من خصوصيات نصية تحكم سيرورة قصائده، أو ميزات بنائية تستجلي مظاهرها الباطنية على المستوى النصي، أنها منظمة بخيوط علائقية دلالية خفية ترتبط فيما بينها وصولاً إلى مسارها النصي الكلي؛ فالمقطع- لديه- يبرز فنياً بمنتوجه الإبداعي، ورؤيته المتكاملة التي تتضافر مع باقي مقاطع القصيدة، لتشكيل الرؤية النصية الكلية أو المتحولة النصية الكبرى التي تشكل لحمتها وبؤرة تناميها جمالياً عبر حركة المقاطع في توازنها وترابطها وانسجامها؛ ولعل أبرز منتوجات البنية النصية المقطعية- في قصائد حميد سعيد- على المستوى الإبداعي، أنها تتأسس على البروز المقطعي للرؤى؛ فالرؤية المقطعية – في أغلب قصائده – منسجمة متلاحمة، ليست ناشزاً أو قاصرة فنياً عن أداء منتوجها الفني وتلاحمهاالدلالي على المستوى النصي العام؛إنها تتكامل في بؤرتها النصية، محققة أقصى درجات التفاعل والتلاحم والانسجام.

1)                  شعرنة المقطع كمتحولة نصية استهلالية:
إن أبرز محفزات شعرية الشاعر مقصديته ووعيه الفني بمؤثرات القصيدة إبداعياً، فالشاعر الحاذق هو من يستهل بنية قصيدته بأكثر المقاطع إثارةً واستقطاباً لمداليلها، وتبئيراً لشعريتها؛ إذ إن الشاعر باستقطابه القارئ بالشكل المقطعي المتكامل، والمميز شعرياً، يغريه إلى متابعتها ورصد متحولاتها النصية، للكشف عن جوهرها الرؤيوي، ومدلولها النصي العميق؛ فالشاعر المبدع يتحثث دائماً مقومات إبداعه، ويتلمس خيوط نجاة النص من الرتابة والعقم المجاني للتراكيب، عبر محفزات نصية أبرزها الفاتحة النصية المقطعية المؤثرة التي تعني أن الشاعر يعي أبعاد صنعه الفني: "فيعيد ربط اللاوعي القابع في اللاشعور السيكولوجي للمتلقي، إلى الأساسي والرئيس في حالات من الترابط مفتوحة على إمكانات تحميل جديدة لقراءات مختلفة، بما يوازي استحضار العلاقات الغيابية في النص إلى مقدمة الحضورية الماثلة في قوام النص نفسه"([lxxv]).

وإذا كنا نرغب في بحث خصوصية التشكيل المقطعي- في قصائد حميد سعيد- من ناحية صنيعها الفني، فإنه يتوجب علينا أن نعي أن الشاعر لا يرسم المقطع الشعري؛ قصدَ إبراز الدلالة أو الإحاطة بها، وإنما يرسم المقطع الشعري بوعي فني، لا يهمه إيصال الرؤية أو الإحاطة التامة بها؛ بقدر ما يهمه الشكل الفني الجمالي في إيصالها؛ وهذا الوعي بمقصدية الإبداع، والدور الرئيس المنوط بمنتجه هو ما جعله ينقح قصائده طويلاً قبل أن يظهرها للضوء؛ وهذا هو السر الكامن وراء شعريته في كثير من قصائده؛ وهذا من جانب آخر يدل على أن: الانفعالية الآنية المباشرة؛ والنبرة الخطابية الحادة(الزائدة) وسذاجة الحالة الشعورية لا تلقي بأعباء كاهلها على حركة نصوصه إطلاقاً؛ لأن ثمة وعياً إدراكياً مسبقاً لديه أن الإبداع لا ينتج من رماد الحالة وسكونيتها، ولا من هيجانها وتوترها الصاخب، وإنما من فيضانها الشعوري المنظم بآلية نصية مموسقة؛ تنبض من دفق حساسيتها لا من هيجانها واحتدامها الصاخب الذي يودي بالشعرية إلى مزلق خطير جداً، ألا وأن أهمها  المباشرة والسطحية، وسذاجة المدلول،دون فاعلية نصية تذكر؛ وهذه الفاعلية  هي التي تقوم بتبئير الحدث، أو الرؤية النصية بخصوصية جمالية دافقة بالحساسية الشعرية والحس الشعوري المتقد نبضاً، ودفقاً إبداعياً خلاقاً بالامتشاق الفني، والمنتوج الجمالي الخصيب الذي ينم على شعرية التمايز والاختلاف كما أشرنا. وهذه الشعرية هي التي  أسماها أدونيس بشعرية التجاوز، والخرق، والهدم؛ ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل رأى أن " كل قصيدة جديدة حقاً، تخلق ذوقاً وفهماً جديدين؛ وطريقة جديدة في الفهم والتذوق. ولهذا فإن القصيدة الجديدة مفاجأة حقاً".([lxxvi]) وتبعاً لهذا؛ فإن الكلمة عندما تدخل في الإطار المقطعي أو النصي فإنها -لاشك-  تنبض بإيحاءات جديدة أو دلالات غريبة(غير متوقعة)؛ وهذا ما ينعكس أثره إفرازاً جمالياً يرتد  أثره على حركة المقطع الشعري فيضاً شعورياً حاداً، ودفقاً شاعرياً مرهفاً؛ وهذا يدلنا أنه:" ليس على الكلمة أن تكون مجرد تعبير بسيط عن فكرة، بل إن عليها أن تخلق الموضوع وتطلقه خارج نفسه"([lxxvii]). وبذلك، يتعزز وقعها الجمالي في النسق، وتخط أفق التجربة بمضمون الرؤيا المصاحبة، لتوتر التجربة ووقعها، وإحساسها، مما يجعلها متوهجة في بعض المقاطع، مقارنة ببعضها الآخر.

وما ينبغي تأكيده: "أن المقطع الاستهلالي ليكون جذاباً للقصيدة، رافعاً درجة شعريتها، لا بد وأن يكون متضافراً في رؤية القصيدة، ودافعاً لحيويتها، يقول ياسين النصير في هذا الخصوص:" فبعد ما كانت القصيدة الجاهلية موزعة إلى مقطعات، كل واحدة لها موضوع خاص، ولكل مقطع استهلاله الجزئي الصغير أصبحت القصيدة أقرب إلى الوحدة الموضوعية التي تشد أوصالها، وتلم شتاتها، فما كان من الاستهلالات الصغيرة إلا أن اختفت أو التحمت في موضوع كلي واحد"([lxxviii]).

وبهذا التصور، فإن ما يجعل المقطع الاستهلالي جذاباً هو التحامه النصي في موضوع كلي، أو رؤية عامة تؤطره، وهذا ما نلحظه في البنى المقطعية في قصائد حميد سعيد، فليس ثمة انفصال ظاهراتي بين البنية المقطعية والمدلول النصي في حركة نصوصه؛ فالكل في تفاعل وانسجام وتحفيز نصي، يقود الموجة الدلائلية لقصائده؛ ويؤكد تموضعها الفني ومسارها النسقي العميق.

ومما لا شك فيه، أن المقطع الاستهلالي الجذاب هو ما يجعل القصيدة ذات خصوصية إبداعية نصية محفزة للقارئ، والشاعر الحاذق هو من يمتلك مهارته الفنية القصوى، وإمتاعه النصي- وهذا يدلنا أن الشاعر حينما يبدع قصيدة:" لا يخلق لغته من جديد وحسب، وإنما يخلق إلى ذلك شخصيته من جديد".([lxxix]) وهذه الشخصية الإبداعية لا تكتمل إلا بالوعي الفني والمقصدية العميقة المتجذرة في حقل الإبداع والإمتاع الفني؛ وهي ما تكسب الشاعر سموقه وتميزه الإبداعي.

وتتبدى جاذبية المقطع الاسنهلالي- في قصائد حميد سعيد- من خلال تفاعله النسقي ودرجة توليفه الفني من خلال التطريزات اللغوية المنسجمة التي تزيد وقع المقطع جمالياً؛ وكأنه مموسق بإيقاع دلالي/ وتطريزي لغوي في آن، كما في قوله:

" بعدَ أن نفدتْ خمرتي..

واستباحَ الخليُّونَ أسرارَها والخمارْ

وانتبذتْ مكاناً.. قصياً .. قصياً.. قصياً

وصارَ الرمادُ أخي..

والنديمُ الغبار..

فاجأتني عطاياكَ

شمسٌ مبجلةٌ وطيورٌ محجلةٌ

وندى من يديكَ .. يبلِّلُ روحي

أيهذا السرورُ المضيء

صيِّبٌ .. ورعودٌ تجيءْ"([lxxx]).

بداية نشير إلى: أن جمالية المقطع الاستهلالي – في قصائد حميد سعيد- تنبني على حساسية الرؤية ودرجة تكثيفها، ومحور ارتكازها الفني؛ وبقدر ما يتفاعل المقطع الاستهلالي مع موحيات القصيدة ومستتبعاتها النصية بقدر ما يحقق توازنها النصي وتكثيفها الإيحائي؛ وهذا دليل:" أن الشاعر العربي الحديث يخطط بمهارة فنية عالية لتأليف قصيدته ذات المقاطع المتنوعة، مستفيداً من الفنون الجميلة التي تجعله يشكل قصيدته، وكأنه ينحت تمثالاً فوق صفحته الورقية، وهذا يفتح المجال واسعاً أمام الشاعر لتشكيل قصائد تخرج عن إطار التشكيل العرفي الذي رسخه وقع الحافر على الحافر"([lxxxi])؛ وتبعاً لهذا؛ يتحدد التشكيل المقطعي في بث جرعات الدلالة التي تبثها القصيدة؛ والشاعر الحاذق هو الذي يبني مقاطع قصيدته على الاستقلالية والتكامل؛ فإن نظرت إلى بنية تشكيل المقطع منفرداً وجدته مكتملاً في رؤيته؛ وإن نظرت إليه في سياق القصيدة ومسارها الكلي وجدته متلاحماً متضافراً مع مقاطعها كلها؛ ليشكل ركيزة جوهرية من ركائزها أو بؤرة محورية لا يمكن الاستغناء عنها إطلاقاً؛ وهذه الخصيصة هي خصوصية القصيدة المتكاملة فنياً التي ترقى مستويات مثلى من الإثارة والتحفيز.

وبالنظر- في فاعلية المقطع الاستهلالي في القصيدة- نلحظ براعة نسيجه فنياً، من حيث تكثيف إحداثياته النسقية المتوازية، وحرفنته الشعرية التي تؤكد صنعته الفنية؛ تارة؛ وفطريته وعفويته الآسرة المنبعثة من إيقاع الكلمات المتجاوبة مع بعضها بعضاً تارة أخرى؛ وتتبدى مداليل الصنعة في الأنساق الصوتية المتوازية أو المتجانسة التالية:" شمس مبجلة= طيور محجلةٌ "، و" أيهذا السرور المضيء... صيب ووعود تجيء"؛ وتتبدى ملامح الأنساق اللغوية الفطرية في انسياب القوافي ورشاقتها و سلاستها ضمن النسق: [الخمار- الغبار- أسرار]؛ وهذا المقطع - من حيث فاعليته النسقية- يظهر أنه على  سوية فنية عالية من حسن التنظيم والحرفنة الشعرية في خلق العلائق الإسنادية المتوازنة؛ بأنساق لغوية متضافرة صوتاً، متجاوبة إيقاعياً، مموسقة على مستوى تآلف الأصوات؛ وتناغمها وتفاعلها وانسجامها، أما من حيث المنتوج الدلالي فنلحظ أن ثمة توازناً في الدلالات، وترسيماً لإيقاعاتها العميقة؛ لتقف على رؤية موحدة، أو منظور أحادي الجانب يتمثل في إحساسه بالنشوة، بالوعود، والآمال التي تزفها له الحبيبة على جناح النشوة والخمرة الروحية (الصوفية)أو(الوجد الصوفي)، التي تجعله يحلق في فضاء العشق والوله المطلق؛ وهذا ما جعله مقطعاً شعرياً ثرياً متكاملاً في نسقه، يعي مقصوده الشعري، ويشي بوقع الحالة الصوفية التي تملكت روحه، بانسيابية لغوية آسرة، وشفافية متناهية في بث الصور بحرفنة نسقية، واستقطاب شعوري عميق. وهذا يدلنا على "أن هيكل القصيدة المقطعية يخضع مباشرة للسياق الشعري، وطبيعة الموقف الوجداني الذي يتم تشكيله"([lxxxii]). وتبعاً لهذا؛ فإن المقطع لا يقف على رتم محدد في الجمل المتحايثة على شاكلة الموشحات؛ وإنما ينزلق في مساحة بعض المقاطع، ليفرض طوالاً أو إطناباً أو مداً لغوياً لا يستقر عليها الشاعر؛ وهذا ما اشارت إليه الناقدة خلود ترمانيني بقولها:" لا يستقر هيكل المقطع على حالة واحدة، وإنما قد يطول ويقصر وفقاً لتحولات السياق، وانعكاسات الموقف الوجداني على التشكيل المقطعي؛ كما يعود استخدام التشكيل المقطعي إلى استفادة الشاعر العربي الحديث من الفنون الأخرى، كالمسرح والفن التشكيلي والسينما، والدراما. إلخ. وملابسة الشاعر لتلك الفنون أخرج القصيدة من أسار الانفعال الآني إلى رحابة التشكيلات الفنية المتقدة، فكانت القصيدة المقطعية من نتائج تلك الملابسات"([lxxxiii]).

والجدير بالذكر؛ أن شعرية المقطع الاستهلالي الغنائي – عند حميد سعيد- تختلف عن شعرية المقطع الاستهلالي الملحمي أو الأسطوري؛ إن الشاعر حميد سعيد غالباً ما يبني مقاطعه الاستهلالية على إيقاع (سردي- غنائي) وصفي؛ وبدرجة أقل يبنيها على منحىً أسطوري أو ملحمي؛ وهذا يتبع الطريقة أو الأسلوب المتبع في كل منهما؛ ففي المقاطع الاستهلالية الغنائية يغيب إيقاع السرد، ليطغى الجانب الوصفي، والصور الرشيقة الممتشقة بجمالها الأسلوبي، وانزياحاتها اللغوية الآسرة؛ ناهيك عن بلاغتها واختزالها واكتظاظها بالأنساق اللغوية الجمالية التي تزيد وتيرتها منتوجاً دلالياً وغنجاً جمالياً. في حين نلحظ أنه في المقاطع الاستهلالية الأسطورية أو الملحمية يستطيل عنصر السرد ويمتد؛ وتستطيل معه الأنساق اللغوية الممطوطة، والجمل الوصفية المتتابعة؛ فيغيب عنصر التشويق اللغوي، ليحل بديلاً عنه عنصر التشويق الأسطوري الدلالي بالحبكة الأسطورية المغامرة والأحداث الشائقة؛ التي تبثها الأسطورة؛ بمعنى أكثر دقة: يغيب فيها عنصر التشويق اللغوي، ليظهر عنصر التشويق الرؤيوي بالحدث المكثف، ومستتبعاته من توالي الأحداث وتتابعها المثير وتداعياتها المترامية ضمن النسق المقطعي، وللتدليل على ذلك نأخذ المقطع الاستهلالي من قصيدته الموسومة بـ[ رؤيا ملجأ العامرية]؛ إذ نلحظ أن المقطع الاستهلالي يستطيل ويطول، تبعاً للحبكة الأسطورية وعنصر التشويق فيها، كما في قوله:

" كحلُها من رمادِ ملجأِ العامريةِ .. زينتُها من دمٍ

به استبدلتْ فراشَها الوثير.

إن ملجأ العامريةِ..

يمنحُها ما تشهتْ من رياشِ الأباطرةِ المترفينَ

لحماً محرَّقاً

مُدَّت موائدُها لبغايا المعابد

يشكرنَ ربَّ الجنودِ

وللبابلياتِ وعدُ الحرائقِ

ينزعُ أثداءَهنَّ ربُ الجنودِ

ويقتلُ أبناءهنَّ ربُّ الجنودِ

وللبابلياتِ وعدُ الحرائقِ

تقطِّعُ أرحامَهنَّ عواصفُ سودْ

ولتكنْ عاقراً أنانا / ولتكنْ عاقراً كلُّ أنثى / وللبابلياتِ وعدُ الحرائقِ

لا شجرٌ تتفيأ ظلهُ أنانا.. ولا ثمر طيب .. لا يمامٌ على النخيلِ.. ولا سمكٌ في الفرات

دناناً من الخمرِ أسقيكَ.. ما زال في ملجأ العامرية طفلٌ تحاصرهُ النارُ فلتأكل النار أطرافهُ

.....

إن ربَّ الجنودْ ... يبحثُ في ملجأ العامريةِ عن سرِّ هذي البلادْ

عن فتاها ووارثِ حكنتِها"([lxxxiv]).

بداية، نشير إلى أن المقطع الاستهلالي- في قصائد حميد سعيد ذات المنزع الأسطوري- يمتلك جاذبيته الإيحائية من مضمار الرؤية، ومستتبعاتها النصية، وليس من باب التشكيل اللغوي ومحفزاته النصية؛ لأن سيطرة الحدث الأسطوري غالباً ما تطغى على بنية القصيدة، وتسدل الحبكة ظلالها وهيمنتها على النسق، لتطغى بنية الحدث، وترسيمات المشاهد الأسطورية على مجريات الحدث الشعري؛ ومستتبعاته النصية؛ وهذا ما أشارت إلى بعض منه الناقدة خلود ترمانيني في مجرى حديثها عن بناء المقطع في القصيدة الحداثية؛ إذ تقول:" تتعدد أشكال بناء القصيدة في الشعر العربي الحديث؛ بسبب تطور تقنيات الكتابة الشعرية كاستخدام الرموز الأسطورية، والأجواء الملحمية، والأقنعة التراثية، واستعارة تقنيات الفنون الأخرى من قصة، ومسرح، ودراما.. إلخ. وتأسيساً على ذلك بدا البناء الشعري القائم على أساس مقطعي نتيجة طبيعية لتلك التطورات. وعلى الرغم من غلبة العنصر الدرامي على بناء القصيدة المقطعية فإن هذا لا يلغي ظهور العنصر الغنائي في القصيدة المقطعية؛ بحيث ينحو التشكيل القائم على عناصر غنائية منحى السرد، بالإضافة إلى وجود تطور في تشكيلات القصيدة، يختلف عن مكونات الروح الغنائية التي ظهرت في الشعر التقليدي/ العمودي. وتختلف القصيدة المقطعية التي تقوم على أسس غنائية في أسلوبها عن القصيدة غير المقطعية التي تقوم على أسس غنائية أيضاً، ذلك أن غياب المقطعية عن القصيدة الغنائية يجعلها ذات نفس شعري مسترسل يميل إلى رصد موقف انفعالي، يفتقر إلى التنويع، وتعدد الاتجاهات، مكتفياً بتصوير معاناة الذات بأسلوب بسيط. في حين أن الغنائية في القصيدة المقطعية تتجاوز الانفعال الذاتي إلى الانفعال الموضوعي- إن صح التعبير- إذ يتم تشكيل القصيدة في ضوء الإمكانات الفنية الجديدة للشاعر . رغم تشابه القصيدتين في اعتمادهما على الذات الشاعرة والموضوع الواحد غير المتشعب فإن القصيدة المقطعية الغنائية، توسع من الموضوع الواحد من خلال تعدد الرؤى وإحداث تنويعات دلالية على ذلك الموضوع الواحد"([lxxxv]).

وبالنظر- في فاعلية المقطع الاستهلالي على صعيد الحبكة الأسطورية- نلحظ أن الشاعر يبني مقطعه بناءً أسطورياً بحبكات متوازنة، تشي بالانفتاح النصي والتحريك الحداثاوي لمجريات الوصف السردي، والحيثيات النصية الأسطورية؛ بصور تبني حراكها على الحدث الأسطوري، والشذرات التصويرية المستلهمة من طقوس الأساطير البابلية والإغريقية القديمة؛ وهذا ما نلحظه في قوله:" مدنٌ موائدها لبغايا المعابد يشكرنَ ربَّ الجنود؛ وللبابلياتِ وعدُ الحرائقِ ينزعُ أثداءَهنَّ رب الجنودِ "؛ إن من يدقق في الأنساق الجملية السابقة يدرك الحبك الأسطوري لجزئياتها عبر تكريس اللقطات والمشاهد المستحضرة من جو الملاحم الأسطورية؛ وهذا دليل: أن البناء الأسطوري لمقاطعه الشعرية الاستهلالية بناء ممغنطاً بالموحيات الأسطورية؛ لدرجة تشكل جزءاً لا يتجزأ من إثارتها وعنصر تشويقها الفني؛ وعلى هذا الأساس، يثيرنا الشاعر حميد سعيد بفن أسلوبي طالما اعتمدته قصيدته الشعرية؛ وهو من توظيف الميثيولوجيا بأسلوب فني شائق يعتمد جمالية الرؤيا الشعرية بمغزاها [الفني – الأسطوري] لتضاعف من إيحاءاتها الشعرية، وخلفياتها النصية المفتوحة؛ إذ إن انفتاح نصوصه على نص الأساطير يكسبها بؤرة جديدة في التأثير والحراك الجمالي النصي. وهذا ما يحسب لقصائده أنها حقل إبداعي لكل التقنيات والمقومات الفنية والبنى الدلالية المنفتحة التي تجعل قصائده غابة من الرؤى والدلالات والإيحاءات والتشكيلات الأسلوبية المبتكرة؛ الغنية بإمكاناتها النصية الواسعة ومخصباتها الجمالية.

2)                  شعرنة المقطع كمتحولة نصية بؤرية أو مركزية :
إن الشاعر المبدع ناظم الإبداع، وخلاق لمعانيه، ومقدرته لا تكمن في إيصال الرؤية، بشكل فني جمالي محصوص، وإنما بإيصال مكنون الذات بوعي مقصدي، وإدراك عظيم الأثر الذي للعمل الذي سيتركه في مداره الزمني؛ والشاعر التقليدي اللامستقبلي لن يتجدد إبداعه طويلاً، وسيتلاشى كأنه لم يكن، أو يبدو رقماً سهلاً سرعان ما يتم تجاوزه؛ وما خلق الإبداع للمجاوزة وسهولة الانقياد؛ وإنما خلق للتجاوز والاختراق والامتشاق الفني الجسور العصي على الامتطاء والانقياد؛ إنه متراس صعب؛ والنص إن لم يكن مفتوحاً على ما هو إبداعي ولا مألوف فلن يتجاوز نطاق زمنه، ولن يصمد طويلاً أمام عجلة الزمن المتسارعة، وكم من النصوص التي أنتجت في أزمنة غابرة جداً ما زالت إلى الآن تملك وقعها الجذاب المؤثر، لتحاكي واقعنا، وتلامس مشاعرنا؛ وما ذلك إلا لأن منتجيها ذوو رؤى مستقبلية، ومنظورات عميقة تتجاوز نطاق زمنهم  الآني إلى زمننا وأزمة قادمة؛ إن هؤلاء أدركوا أن الإبداع الخالد لا يأبه بمنتوج الزمن الراهن، وإنما بمنتوج أزمنة مستقبلية ستتوالى، وأجيال ستتعاقب، لهذا ينبغي أن يكون هذا المنتوج بحجم الاستمرار والتعاقب الزمني، ومن ينظر إلى الإبداع من منظار جيل واحد، أو زمن واحد؛ فليس بمبدع، وإبداعه لن يتجاوز جيله وزمنه الراهن. وبهذا التصور المنفتح نظر الشاعر حميد سعيد إلى منتوجه الشعري؛ فهو لم يشكل قصيدته لتحايث ما هو راهن أو معاصر، وإنما للاستشراف والانفتاح على ما هو مستقبلي وديمومي وخالد؛ ومن هذا المنطلق يمكن أن نقول عن شعريته: أنها شعرية اللا انتماء أو شعرية التعاقب الزمني أو التوالد الزمني على الدوام؛ ويمكن أن نقول عن إبداع حميد سعيد أنه إبداع مستقبلي بامتياز؛ وامتيازه يتجاوز عصره وعصرنا، وزمنه وزمننا؛ وهذا هو منتوج الإبداع الحقيقي الخالد، يقول أدونيس: "التجريبية في الإبداع عمل مستمر لتجاوز ما استقر وجمد وهي تجسيد لإرادة التغيير، ورمز للإيمان بالإنسان، وقدرته غير المحدودة على صنع المستقبل، لا وفقاً لحاجاته وحسب، بل وفقاً لرغباته أيضاً... نقيم الإبداع ليست كقيمة تراكمية، بل انبثاقية . وهو أخيراً، تحرك دائم في أفق إنساني ثوري من أجل عالم أفضل، وحياة إنسانية أرقى"([lxxxvi]).

والشاعر عندما يتجاوز زمنه لا يخلق شعريته المغايرة فحسب؛ وإنما يثبت ريادته و بصمته الإبداعية الخالدة؛ وتبعاً لذلك؛ فإن الشاعر المستقبلي -وفق هذا المنظور- يتجاوز بشعريته كل ما هو سائد، ليحلق بشعريته الفذة في سماء التوهج الإبداعي التي تفتح له بوابة الإبداع الحقيقي الخالد، يقول رحمن غركان:" إذا كانت الشعرية في بعض أوجهها هي العناصر أو المقومات التي تؤلف فنية العمل الفني وأدبية العمل الأدبي فإن احتفاء النص بالشعرية هو ما يجعله محط أنظار القراءات التأويلية؛ فإن الشاعرية إحساس الفنان بمعنى الفن، وإحساس للأديب بمعنى الأدب، وذلك الإحساس الذي إذا استطاع أن يجليه عبر عمل إبداعي استثنائي، فستكون عناصر ذلك العمل مجلى الشعرية ومؤداها. فالشاعرية : إحساس الذات بالأشياء وفيض الوجدان في التعبير بلغة ترسم الواقع بكثير من فائض  معنى الأشياء الجميلة، ليكون الجمال والإحساس به أبرز معاني الشاعرية"([lxxxvii]).

وتأسيساً على ما سبق يمكن القول:

إن شعرية المقطع كمتحولة نصية بؤرية تكمن في طريقة تشكيل القصيدة، وتمركزها الفني على مقطع بؤري محوري(مركزي) يمثل لب استقطابها، ومحور تناميها الجمالي؛ وهذا الأسلوب الفني الارتكازي على مقطع مبأر دلالياً، أو منتوجاً فنياً هو ما يجعل القصيدة ذات ثقل فني وذات ركيزة دلالية ممركزة للرؤية النصية أو الحدث الشعري؛ وما نؤكده – في هذا المقام- أن القيمة الشعرية ليست في موقعية المقطع؛ وإنما القيمة في فنيته ودرجة تفعيله للرؤية النصية؛ فكثير من القصائد لا تبني رؤيتها إلا على منتوجها الفني في المقطع الاستهلالي، أو على منتوجها الفني في المقطع المحور/ أو المركز؛ أو على منتوجها الفني في المقطع القفلة/ أو المقطع الختامي؛ فالقيمة،إذن، ليست في موضعية المقطع إطلاقاً؛ وإنما في بؤرة تناميه الجمالي، ومركز تخصيبه الدلالي للرؤية النصية في القصيدة.

وإن من ينظر نظرة فاحصة دقيقة في بنية القصيدة – عند حميد سعيد- سيلحظ أن قصائده ذات بنىً متحولة؛ وهذا التحول هو أبرز سمة من سماتها الإبداعية؛ ومن يدقق أكثر سيلحظ أن الرؤية في مجمل قصائده لا تقتصر على مقطع دون آخر، أو على بؤرة نصية دون أخرى، وإنما ترتكز على منتوجاتها الفنية والرؤيوية في المقاطع جميعها، ولا تقتصر على مقطع دون آخر؛ ولهذا فخصوبتها الفنية تكمن في تكاملها وتناميها الجمالي، وتفاعلها المقطعي، ابتداءً من المقطع الاستهلالي، وصولاً إلى مقطعها الختامي.

وما نعنيه – بالتحديد- أن منتوجات قصائده هي منتوجات فنية شاملة واعية بمردودها الفني لا تقتصر على مقطع دون آخر؛ ومن هنا، تجذر سموقها الفني ومظهر إبداعها بناء ًعلى هذا التكامل والتفاعل الخلاق في حركة المقاطع؛ وما يمكن ملاحظته – في هذا الصدد- أن ثمة مقاطع شعرية في قصائد حميد سعيد تسمو شعرياً على بعضها الآخر، وهذا ليس بخافٍ على أحد؛ إذ إن حميد سعيد شأنه شأن معظم الشعراء حتى الكبار منهم لا يبني مقاطع قصيدته على سوية واحدة؛ أو دفق فني وشعوري واحد؛ وطبيعي إزاء هذه الحالة أن تختلف سوية المقاطع فنياً. وهذا السموق الفني لبعض المقاطع على ما عداها هو ما يجعل بعضها متوهجاً إبداعياً لدرجة أنها تستحوذ على جوهر الرؤية في القصيدة، ومحور ثقلها الفني؛ لكن هذا لا يعني إطلاقاً تدني مستويات الشعرية في المقاطع الأخرى، بقدر ما يعني أن المقطع البؤري  سما أكثر من سواه في القصيدة حتى استحوذ على مركز ثقلها الفني والدلالي في آن.

وما ينبغي الإشادة به: أن قصائده المقطعية ذات مقصدية موجهة، واعية بمدركاتها ومقوماتها الفنية لتحقق كامل منتوجها الإبداعي؛ وما يتطلبه هذا المنتوج من جمالية في المبنى وتلا حم في المعنى؛ وهذا ما يدل على أن قصائده المقطعية ذات بؤر دلالية ظاهرة الأبعاد من خلال عمل فني متكامل، سرعان ما تعود معطياته التأثيرية إلى مقدار تأثيره في المتلقي،(فالنص بالأساس رؤيا أضمرها المبدع، ثم صاغها رؤية فنية هي شكل ذاك العمل الفني أو هذا)"([lxxxviii]).

والشاعر حميد سعيد بوصفه شاعراً موسوعياً يعي المعطيات الفنية الجمالية للتجربة الإبداعية الراقية في حراكها الجمالي فقد صاغ قصائده المقطعية مرتكزة في الأساس على بؤر دلالية مركزة ذات مفاصل بؤرية عميقة، ليكون كل مقطع من مقاطع قصائده بؤرة دلالية مركزة محفزة للبؤرة الدلالية الأخرى، وهكذا دواليك إلى نهاية القصيدة، مما يعني أن ثمة تلاحماً وتضافراً نصياً في بناها على المستويات كافة؛ ودليلنا على ذلك أن المقطع لا ينفصل عن الآخر  في بناه الدلالية ومركزيته الجمالية؛ وللتدليل على ذلك نأخذ قوله في هذين المقطعين من قصيدته (من نافذة في مشفى رأيت وطني"، ما يلي:

" سأقولُ لنفسي

أنَّ جحيماً يتخطفُ أفراحَ الناسِ وأحزانَ الناسِ..

وارواحَ الناسِ

مدنَ الناسِ .. بيوتَ الناسْ..

أأقولُ لمن يسألُني.. هذا وطني؟!

شاهدتُ قروداً في طرقاتِك يمشي ... وقروداً في الأسواقِ.. وإعلاناتٍ في كلِّ مكان..

السوقيونَ يبيعونَ بهاءكَ ذاكَ الكان.. يبيعونَ الإنسانْ

شاهدتُ سماسرة بلحىً من طينْ

يبيعونَ بما فتحَ الشيطانُ عليهم.. وطناً..

بالعارِ يلاحقُهم حتى يومِ الدينْ

أاقولُ لمن يسألُني .. هذا وطني؟!

ريحٌ متوحشةٌ .. وعناكبُ زرقٌ .. تتراءى لي

سرفُ الدباباتِ تذلُّ الأشجارَ وتغتصبُ الأحجارْ

أاقولُ لمن يسألني.. هذا وطني؟!

....

وأنا أسألُ عنكَ الصمتْ

إذا  لا أعرفُ في المشفى الموحشِ.. عيرَ الصمتْ

***

لا أحدَ يفتحُ لي باباً .. كلُّ الأبوابِ مغلقةٌ..

فعلى من أقصصُ رؤياي؟

...... 

العصفورُ الأبيضُ يخرجُ من وكرٍ محفوفٍ بغيومٍ بيضٍ

ينزلُ في أرضٍ طيبةٍ.. فيها جناتٌ وعيونْ

يدهمهُ نسرٌ رتٌّ .. ويجرِّحُهُ .. فيطيرُ العصفورُ الأبيض

ثم يصيرُ دم العصفورِ الأبيض .. عاصفةً

يسَّاقطُ منها.. أقمارٌ ونجومْ"([lxxxix]).

بداية، نشير إلى: أن" القصيدة المقطعية"- في شعر حميد سعيد – ترتكز على بؤر دلالية، وهذه البؤر تتفاعل وتتلاحم على المستوى النصي العام، بهندسة دلالية منظمة؛ إذ إن كل مقطع يكمل الآخر، ويتمم معناه، ومقصديته العميقة؛ وإن هذا التشكيل المقطعي البؤري أو المحرقي يكفل للقصيدة مرجعيتها النصية، ومغزاها الفني العام، لتكون المقاطع السابقة للمقطع المحرقي أو البؤري والتالية له بمثابة البؤر الدلالية التي تصب في بوتقة المقطع البؤري، لترفده، وتزيد درجة هيمنته وسطوته الدلالية على السياق، ليشكل جوهر الرؤية النصية ومحرق دلالتها، والمحرك البؤري لمسارها النصي العام، وهذا دليل: "أن التشكيل المقطعي في القصيدة الشعرية الحديثة يتيح للشاعر حرية واسعة في التنقل الدلالي، فيتم استدعاء مشاهد معينة، وتقديم صور متعددة الإيحاءات دون أن يؤثر ذلك في رؤية القارئ، نظراً إلى الفراغ الفاصل بين المقاطع الشعرية؛ وهذا الفراغ يتيح للقارئ فرصة الاستعداد لتلقي مشاهد جديدة ومختلفة ظاهراً، ومتكاملة باطناً؛ ومن هنا؛ فإن التنوع في دلالات كل مقطع شعري يضفي على بناء القصيدة روح الإدهاش والمفاجأة، مما يمنح القارئ لذة اكتشاف النص ورصد دلالاته"([xc]).

وبالنظر- في المحدثات النصية والبؤرية ضمن المقطع الأول- نلحظ أن الشاعر يرصد بأسى شعوري حارق صور الوطن المهشمة، القائمة على الفساد المعشعش في سلوك مواطنيه الذين باعوا الوطن؛ وغدوا سماسرة على حدوده وأراضيه، والمتاجرة بثرواته وخيراته، فلم يبيعوا الوطن فحسب؛ بل باعوا الإنسانية والإنسان، والحق والشريعة، وقاموا بتجيير الدين الحنيف، تبعاً لأهوائهم الدنيئة؛ وسمسرتهم الخبيثة؛ فعاثوا في البلاد خراباً ودماراً وخزياًوعاراً يلاحقهم إلى يوم الدين؛ ومن يتأمل في حركة هذا المقطع بعمق يلحظ أن الشاعر يجنح إلى ترسيم الصور المأساوية للوطن، لدرجة أن صوره باتت قائمة مرتكسة – على شاكلة ما نزع إليه الشاعر محمد الماغوط في الكثير من قصائده إزاء مؤولة الوطن- إذ صور الوطن بؤرة فساد وانحلال وتفسخ؛ تكسوه العناكب وقطع الأشجار الممزقة والجدران المترامية الأطراف من كل حدب وصوب حتى خيم الصمت، وران وحشة وخواءً رهيباً؛ وبهذا المنزع الأسلوبي جاء المقطع بؤرة الدلالة ومحرقها؛ ففي ظل هذه الوحشة التي يعانيها مريضاً في المشفى أخذ يرصد صور الوطنالمتامية، ويتحثث مرتكساته من خلال هواجسه الخانقة التي ألقت بأعباء ظلالها المرعبة على صدره؛ وباتت الأشباح تلاحقه من هنا وهناك، والصور المأساوية تترامى أمام مخيلته لتدل على حالته الخانقة وما وصل إليه من إحساس قلق مرعب؛ ليأتي المقطع الثاني صورة ضاجة بالرمزية، ليخلق حالة من المواءمة بين البث الشعوري الصريح والتلغيز الرمزي، فما الطائر الأبيض إلا طائر الفينيق الذي يحمله من رماد المرض وأنينه إلى حالة من العنفوان والنضارة والقوة  ليعود إلى أحضان وطنه ممتشقاً عزيزاً كما كان . وهذا ما دل عليه قوله:" ثم يصير دم ُالعصفور الأبيض – عاصفة.ً. يَّساقط منها أقمارٌ ونجوم". وهكذا، يبدو المقطعان بؤريين في الدلالة، الأول اعتمد فيه الشاعر أسلوب المكاشفة الصريحة عن الدلالة الشعورية الضاغطة بأسلوب شعري كاشف؛ في حين جاء الثاني مرمَّزاً؛ بالمراوغة الرمزية والفضاءات الدلالية البؤرية العميقة التي يريد للقارئ اكتناهها بعمق؛ ليتسنى له إدراك ما خلف الكلمات من ظلال فاعلة في  مقاطعه بوصفها متحولات نصية بؤرية كاشفة عما يتغور في باطن الذات من إحساسات عميقة، وهذا يمنح القارئ لذة عميقة في التفكيك والكشف النصي.

3)                  شعرنة المقطع كمتحولة نصية ختامية:
سبق وأشرنا إلى: أن القيمة النصية للمقطع لا تتعلق بموقعية المقطع بقدر ما تتعلق بفنيته وطريقة تشكيله، وقابليته لإثارة المتلقي جمالياً؛ إذ تتعدد الصور التشكيلية للمقطع الشعري، تبعاً لمثيرات القصيدة الحداثية، ومحفزاتها الجمالية، فكم من القصائد الحداثية قد ارتقت، وسمت إبداعياً بفضل مقاطعها الختامية المتوهجة فنياً؟؛ فارتقت بذلك الرؤية الشعرية، وتعمقت حيثياتها المباغتة المثيرة، لتترك قرارها الأخير في نفس المتلقي؛ بسطوة التأثير والمغنطة الجمالية؛ وكأنها على سوية واحدة من التآلف والإمتاع الجمالي؛ تقول الناقدة خلود ترمانيني:" تتعدد الصور التشكيلية للمقطع الشعري الحديث؛ نظراً للامتزاج الحاصل بين الفنون جميعاً؛ وهنا، يستدعي الشاعر أشكالاً متعددة تنسجم مع الدلالة الشعرية أولاً. ومع الرغبة في ابتداع طرق تشكيلية متنوعة ومعززة برؤى شمولية تعكس حالة المزج بين الفنون الجميلة ثانياً"([xci]).

ولعل إفادة الشعر من الفنون الجميلة الأخرى قد نوع في طرائقها التشكيلية وبنية علائقها المقطعية، من حيث اشتغال القصيدة المقطعية على أكثر من تقنية في المقطع الواحد، أو النص الواحد، كالمونتاج الشعري، والتقطيع السينمائي، والقص، والسرد، وفن الرسم، والمسرح؛ وغيرها من الفنون؛ وسبق أن تحدثنا عن هذا الجانب بما فيه الكفاية، لكن ما نريد أن نضيفه في هذا المقام: أن الشاعر عندما يمركز رؤيته في المقطع الختامي يتألق في شعريته وتشكيله الفني لا شك في أنه سيزيد من وقع القصيدة فنياً، لتترسخ في ذهن المتلقي ردحاً طويلاً من الزمن، لأن آخر ما يتعلق بذهن المرء أفضل مشهد أو صورة ترسخت في مخيلته، ليعاود استرجاعها بين الفينة والأخرى؛ وهذا هو منبع تأثير الفن الإبداعي الخصيب؛ في المتلقي؛ فالشاعر عندما يختم القصيدة بأبرز مثيراتها الجمالية كالصورة المؤثرة جمالياً فإنها ستبقى ماثلة أمام عينيه لا يمحي أثرها أو يزول؛ لأن القارئ سيتلذذ بنكتها ووقعها المؤثر كلما عاود قراءتها مجدداً؛ وتبعاً لهذا، ترتفع أسهم شعرية المقطع الختامي بموقعيته الشعرية كذلك؛ بالإضافة إلى فنيته الزائدة، ووقعه المؤثر؛ خاصة إذا زركشه الشاعر بالتشكيلات اللغوية المبتكرة، والصور البديعة، والمداليل المتوالدة المنفتحة على الدوام؛ لأن "الصور- كما نعلم- قد تكون واحداً من أهم عوامل سحر الشعر، أو ربما تكون الشعر كله، فالصورة ليست عملاً تزيينياً يكشف براعة الشاعر في بناء علاقات مبتكرة فحسب، فهي أيضاً طريق لبناء المزاج النفسي للمتلقي والتسلل إلى وعيه لإغرائه بالدخول علبة النص"([xcii]). فما أجمل أن تجتمع المثيرات كلها في النص، ليحقق أقصى درجات منتوجه الفني، وأبلغ تأثيراته الإبداعية في المتلقي، ليهيمن عليه بسطوة الجمال والجاذبية، لاأسطورة العبث والفانتازية والمراوغة التشكيلية اللامنطقية[ الغربنة الشعرية] التي تؤدي إلى تغريب النص وتعقيده، وتشويش منظوماته الإبداعية؛ وبهذا المقترب يقول أدونيس:" إن مسألة الغموض والوضوح ليست متأتية عن القصيدة الصعبة أو الأثر الفني الصعب بقدر ما هي متأتية عن موقف شعري(أيديولوجي) "([xciii]). والشاعر الذي لا يملك قابلية دائمة على التجاوز والتغاير المستمرين، ويلتف على نصه بالتلغييز والتعقيد لن يكون شاعراً حداثاوياً أو شاعراً مستقبلياً على الإطلاق، وما نقصده بالشاعر المستقبلي- على ما أشرنا سابقاً- الشاعر الذي يتجاوز إبداعه نطاق زمنه، لينفتح على أزمنة مستقبلية لا متناهية؛ ينفتح على ما أسميناه بـ[ الأثر المفتوح/ أو النص اللامتناهي]؛ ومن لا يدرك حيثيات منتوجه الإبداعي ومراميه وأبعاده المستقبلية لن يترك أثراً ذا قيمة إبداعية خلاقة يجذر وجوده في آمداء الأزمنة اللامتناهية؛ وهنا أميل إلى القول: إن من لا يتحثث الإبداع منتوجاً خالداً ولا يعي مقومات المنتوج الإبداعي الخالد، فإنه سيقف عاجزاً لا محالة عن إدراك كنه الإبداع وحقيقة الفن الإبداعي أفقاً متنامياً على الدوام.

وما ينبغي ملاحظته: أن الشاعر حميد سعيد كان على دراية واسعة بأهمية القفلة المقطعية في رفع سوية القصيدة إبداعياً؛ لهذا، لا نكاد نجد قفلة مقطعية ضحلة، أو هشة في قصائده إطلاقاً، ومن يدقق في متن قصائده المقطعية تحديداً يلحظ أن أكثر مقاطعه إثارة ًوتحفيزاً جمالياً هي المقاطع الختامية؛ وبمرتبة أقل المقاطع الاستهلالية؛ لإدراكه أن الأثر النهائي الذي ستتركه القصيدة لا بد وأن يكون جذاباً شائقاً مركزاً؛ لأن القارئ لن يتفاعل إطلاقاً مع القصيدة إذا ما ظهرت الهشاشة من بعض جوانبها، فكيف إذا ظهرت في قرارها النهائي، وأثرها النصي الأخير؟! وتبعاً لهذا؛ ضاعف الشاعر حميد سعيد من جهوده في تخصيب صنعته الشعرية، خاصة في إبراز قفلاته النصية بأحسن مجلى إبداعي، ليحقق المتعة والجاذبية النصية في تلقي نصوصه، لتبدو وكأنها على السوية ذاتها من التوهج الإبداعي.

 وللتدليل على ذلك نورد المقطع التالي:

" حتى ... اتنظرتُكِ..

كانَ أصحابي يقيمونَ المآتمَ.. وانتظرتُك..

أو يقيمونَ المآدبَ..

قلتُ: لا

جاءتْ ... وها أنذا أراها

وانتظرتكِ .. تدخلينَ مواسمِي.. واقتادكِ التفاحُ..

من غيبوبةِ الماضي.. إلى غابِ الحضور

كوني.. أكونْ..

تحررتْ سفني وعادَ إلى الصِّبا..

حُلمي ومائي"([xciv]).

بداية، نشير إلى أن أبرز ما يشكل فنية المقاطع الختامية – عند حميد سعيد- أنها تركزت على الوقع الصوتي للكلمات المنسجمة في نسقها الشعري، ناهيك عن العبث العلائقي الجمالي لمضمون الرؤى المنسجمة إلى درجة كبيرة جداً؛ فتبدو الجمل قصيرة مزركشة، بكثافة الإيقاعات البصرية، علاوة على انفتاحها النصي؛ ومقاصدها العميقة، لدرجة يبدو فيها الشاعر مأخوذاً بفنية التعبير، بوعي مقصدي شفيف؛ إذ يدرك أبعاد الكلمة والجملة في نسقها؛ ويعي أبعادها ومستهدفاتها النصية رغم إيقاعها السردي المتتابع أحياناً؛ وما هذا بدليل عجز أو قصور، بل قوة على التلوين النسقي بما يوائم الحالة الانفعالية المصاحبة لإحساسه الشعوري العميق؛وهذا دليل أن الشاعر:" يضمر لحظة الكتابة أو عند عملية الإبداع الفني معنىً ما، فهو يهجسه بين هدى البصر ورؤى البصيرة؛ ويحث الأداة التعبيرية عند الصياغة لتكون جسراً يشف عن معنى يسكنه، فهو به مأخوذ، وبالتعبير عنه مسكون، والصلة بين الوعي وأداة التعبير أو لغة الأداء صلة إبداع يتوخى الإيجاز ويقصد الإيجاد والحضور، فهي صلة روحية وجدانية، تجادل الأداء، جدلاً مجازياً"([xcv]). وهذا الجدل المجازي هو ما يصنع الشعرية، أو هو ما يحفز الشعرية؛ والمقطع الذي ينبني على فاعلية هذا الجدل، ومبتكراته النسقية لا شك في انه سيترك أثره الفني على نفسية المتلقي بوصفه أداة التميز الإبداعي؛ ولولا فاعلية  الجدل المجازي لطغت لغة السرد بنمطيتها الزائدة ووضوح المقصدية ومباشرتها أحياناً.

وبالنظر في مدى فاعلية المقطغ الختامي بوصفه يمثل قرار القصيدة الأخير نلحظ أن الشاعر اعتمد فيه التنوع الأسلوبي، بالانتقال من الإخبار إلى الإنشاء، ومن القول إلى متبوع القول، تسعفه الصور ذات الحراك الشعوري والتفتيق العاطفي، بحس رومانسي، يطغى على الصور، ويزيد من درجة نمذجتها الفنية؛ بمبتكرات تصويرية تزيد وتيرة المقطع، وترفع خصوبته الجمالية وحرارته العاطفية، كما في الصور التالية :[ وانتظرتكِ .. تدخلينَ مواسمِي - واقتادكِ التفاحُ.. من غيبوبةِ الماضي.. إلى غابِ الحضور ]، إن من يتأمل في حركة الأنساق اللغوية يلحظ جمالية النمذجة التصويرية الشعرية صوتاً ودلالة[ غاب= غيبوبة]، و[ الماضي= الحضور]؛ وهذه المقاربة بين المتجانسات والمتباعدات زادت من وتيرة النسق جمالياً وحساً شعرياً لا يخفى فيه أثر الصنعة وبداعتها؛ وتبعاً لهذا، نلحظ أن سيرورة المتجليات التصويرية الراقية لم ترفع فقط حرارة المقطع جمالياً؛ وإنما زادت من وتيرة الحس الرومانسي ألقاً عاطفياً؛حيث ارتقت من خلاله القفلة المقطعية لتترك بصمتها الجمالية في المتلقي بالقرار الشاعري العذب[ تحررتْ سفني وعادَ إلى الصِّبا حُلمي ومائي]؛ وهذا يدلنا :أن الارتقاء الفني في سيرورة المقطع الأخير؛ يرفع من درجة شعرية القصيدة لا محالة؛ ولا نبالغ إذا قلنا: إنه يزيد من مشروعيتها القرائية؛ نظراً إلى ما تتركه القفلة المقطعية المثيرة من أصداء جمالية تجذب المتلقي إلى دائرتها الإبداعية بمغنطة جمالية لا ينتهي مجالها التأثيري مطلقاً، وهذا مظهر الإبداع في النصوص الشعرية الراقية.

4)                  شعرنة المقطع كمتحولة نصية كبرى:
سبق وأن أشرنا : أن الشاعر قد يعتمد مركزية المقطع أو استقلاليته كوحدة نصية كبرى، عندما تكتمل رؤاه؛ أو يستقل برؤية محددة مخصوصة بعينها في النص، ولا علاقة له بسواها؛ وهذه الرؤية محرقية(بؤرية) في القصيدة؛ وهنا نؤكد أن المقطع ليكون متحولة نصية كبرى لا بد وأن يشكل بنية نصية مستقلة، وهذه البنية " تتألف عادة من عناصر مترابطة ومشتبكة مع بعضها، وفقاً لقوانين تضفي على المجموعة كلها خصائص قد تتغاير لكنها في مغايرتها تشتغل داخل نظام البنية العام نفسه، كونها نسقاً من المتحولات له قوانينه الخاصة، ويزداد ذلك النسق ثراءً بفضل الدور الذي تقوم به التحولات نفسها دون الخروج عن حدود نسقها؛ فلا بد لكل بنية- إذن- من الاتسام بخصائص ثلاث: الكلية، والتحولات، والتنظيم الذاتي، والمراد بالكلية أن البنية لا تتألف من عناصر خارجية مستقلة عن الكل، بل تتكون من عناصر داخلية خاصة للقوانين المميزة لنسقها، ولا ترتد قوانين تركيب هذا النسق إلى ارتباطات تراكمية، بل هي تضفي على الكل خواص المجموعة، فالمهم هو العلاقات القائمة بين العناصر المنوط بها عمليات التأليف التي تحدث داخل النسق، والخاضعة في الوقت نفسه لقوانين البنية الداخلية، فهي في حركية دائمة لأن البنية لا يمكن أن تظل في حالة سكون مطلق، بل هي تتقبل من التغيرات ما يتفق مع الحاجات المحددة من قبل علاقات النسق وتعارضاته، فمن المؤكد وجود علاقة متينة بين مفهوم البنية ومفهوم التغير، أما التنظيم الذاتي فهو قدرة البنية على تنظيم نفسها بنفسها على وفق عمليات منتظمة هي قوانين الكل الخاص بهذه البنية أو تلك"([xcvi]). وعلى هذا ذهب الناقد اللغوي (ليفي شتراوس) بقوله:" إن أي تحول لعنصر من عناصر البنية من شأنه إحداث تحول في عناصر البنية الأخرى، ومن طبيعة البنية أنها تستجيب بمرونة لواقع التغيير الجديد، وتتكيف له من خلال وعي بأن للبنية انتظاماً ذاتياً لا يحتاج لما هو خارج عنها"([xcvii]).

ومن هذا المنطلق؛ فإن ما يميز النص الشعري عما سواه بنيته المتحولة؛ وقدرة هذه البنية على التنوع الدلالي، أو التوالد الدلالي باستمرار؛ وتبرز وحدتها الكلية المستقلة بمقدار ما تبرز متحولاتها، وترقى بهذه المتحولات جمالياً؛ وهذا يدلنا:" أن البنية لا تكون دالة إلا إذا كانت شاملة، أي شمولية الرؤية النابعة من شمولية النص"([xcviii]). وبمقدار ما يستقل الشاعر في رؤيته المقطعية، ويبلورها بفنية خالصة، ورؤية جوهرية محددة، بمقدار ما تبنى البنية المقطعية كمتحولة نصية كبرى مستقلة بذاتها، مكتفية بدلالات وحدتها النصية الكبرى، الممركزة لجوهر القصيدة بكليتها.

وبنظرة معمقة لبنية القصيدة المقطعية- عند حميد سعيد- نلحظ أن ثمة مقاطع شعرية، مبئرة للرؤية النصية فيها، لدرجة أنها تشكل محورَ ارتكازها وثقلها الفني؛ ومرتكزها النصي؛ فلا قيمة للقصيدة بمعزل عن هذه البنينة المحرقية للقصيدة؛ ودلالاتها لا تكتمل أو تتحقق بشمولية المنظور إلا بهذه البنية المحرقية الارتكازية النصية لهيكلية القصيدة، مما يجعلها وحدة نصية كبرى مكتفية بذاتها، ودليلنا على ذلك المقطع التالي:

"شاهدتُ عبد اللهِ في الجوارْ

يمسِّحُ الجدرانَ.. يستظلُّ بالخرائبِ التي كانت بلاداً

ويقيمُ مأتماً في سرِّهِ.. يفتحُ في الدمارْ

باباً..   

إلى حدائق غفتْ على أديمها عشتارْ

وغيَّبتْ آلاؤُها .. ما خلَّفَ التتارْ

أعادَ للأشجارِ أسماءها..

وأعاد العطرَ للأزهارِ.. والألوانَ للثمارْ

والخريرَ للسواقي.. والهديرَ للأنهارْ

حتى إذا أفاقْ

كانَ الماءُ سيداً..

وكانْ

وحشٌ خرافيٌّ يلمُّ دورةَ الزمانْ

في لحظةٍ غيب عنها اللهُ والإنسانْ

وكانَ عبدُ اللهِ والنخيلُ والقبابُ الخضرُ والنهران..

في مضاربِ الأقنانْ

أهذهِ الغيبوبةُ السوداءُ.. بغدادْ..

وهذا الموتُ .. بغدادْ؟!

لماذا وقفتْ في حرمِ التاريخْ.. حتى جاءَها القاتلُ من مأمنِها..

ماذا سيبقى لكِ .. أن لم تصعدي من عثراتِ العالمِ السفليّ..

من نارِ الأساطير إلى نورِ المقاصيرِ..

وماذا يلهمُ العشاقَ .. إن لم تغسلي بالضحكِ الأمطارَ؟!

وماذا يلهمُ العشاقَ؟!

.....

......

تساقطُ الأحلامُ.. مثلَ تساقطِ الأوراق

تزدحمُ الشوارعُ بالعناكبِ .. بالحراب والترابِ

حتى كأن الموت .. يحتلُ ورودَها والشوكَ..

من ماتَ العشيةَ.. دون أن يدري لماذا مات في هذي العشيَّةِ.

لا يثابُ ولا يعابُ..

وكأنَّ كلَّ يدٍ تُمدُّ إلى بهائِكِ..

أو تودُّ..

يد العذابْ

المجموعة:

في هذا الديجورْ

لا قمرٌ يفتحُ بواباتكِ بغداد.. ولا الأرضُ تدورُ

هجرَ الشعرُ الأرضَ.. وغادر موطنهُ الماءْ

الأوتارُ بقيثاركِ عميٌّ ..والصمتُ عواءٌ مقرورْ

في هذا الديجورْ"([xcix]).

بداية، نشير إلى أن شعرية المقطع كمتحولة نصية كبرى- في قصائد حميد سعيد- غالباً ما تشكل لبنة القصيدة الارتكازية أي تشكل قصيدة داخل قصيدة، أو نصاً داخل نص؛ فالمقطع يبدو في بنية قصائده مكتملاً من حيث الوظيفة الشعرية؛ واستقصاء الرؤية وتفاعلها من خلال تضافر الرؤى والدلالات والحيثيات النصية الصغرى، والاستطالات السردية التي ترصد أدق تفاصيل الرؤية ومستتبعاتها النصية، وهذا دليل :"أن المبدع- ولا سيما الشاعر- محكوم بمدى ما يعيه من مدخلات ذهنية، وبمدى قدرته على صياغة تأثراته بأسلوب موحٍ ومؤثر؛ بل ممتع ومثير.... وإن فقدت صورته الفنية هذه الملامح حرمت من الخلود وضاع تأثيرها كلما مر الوقت عليها، وصارت مجرد شكل فني ينتمي إلى عصر ما، ولم يعد صالحاً إلا لاستدعائه إلى شهادة تاريخية ليس غير؛ وهذا ما لا يجوز في الإبداع الأدبي، ولم يكن تراثنا العربي يحمل هذه الطبيعة الأحادية"([c]).

وتبعاً لهذا:" على الناقد الذي يتصدى لقراءة نص من النصوص أن يخالطه مخالطة روحية وعقلية؛ ومن ثم مخالطة فنية تصاحبه تماماً؛ وأن يدرك أبعاد التجربة الذاتية والفنية، ليصل إلى استكناه جوهره الحقيقي بما يحمله من قيم تاريخية واجتماعية  وفكرية ونفسية. والناقد الحقيقي حين يتدخل في إعادة تشكيل النص تفكيكاً وتركيباً لا ينظر إليه دائماً من وجهة نظره الشخصية وتجربته الذاتية والنقدية المعاصرة؛ فكل نص له شكل ودلالة يحكيها المعيار الفني الذي ساد في عصرها وبيئتها... ولهذا كله نرى أن الناقد الحق هو من يكشف عن دلالة النص الشعري في سياقه الفني العام، ويثريه برؤاه التي لا تتناقض مع معطيات النص والذات الشاعرية وزمانه ومكانه ومجتمعه"([ci]).

وبالنظر- في مثيرات البنية المقطعية كمتحولة نصية كبرى في المقبوس الشعري - نلحظ اكتمال الرؤية ونضوجها فنياً بإيقاع سردي توصيفي قصصي شائق، يعتمد الشاعر فيه الرمز التاريخي" عبد الله "، وهو الرمز الملحمي الذي اعتمده حميد سعيد ليكون محور تجربته كلها، كما هو رمز " مهيار الدمشقي"،و " الفينيق" – عند أدونيس-، و" شاهين" عند محمد عمران؛ و" آداد" عند فايز خضور... إلخ، ويعد رمز " عبد الله" الرمز الملحمي الأسطوري الذي يدل على النهوض، والانبعاث، والخلق، والابتكار، نظراً إلى تجذر هذا الرمز في تجربته، ليكون محور حركتها وتناميها الرؤيوي؛ ودليلنا أنه عنون مجموعة كاملة بهذا الرمز؛ وهي " مملكة عبد الله"؛ ليشكل هذا الرمز بؤرة حراك الدلالات والرؤى ورموز انبعاث بغداد ولم شتاتها وفوضاها وانهيارها؛ وتبعاً لهذا نلحظ أن الشاعر رصد الصور السوداوية المرتكسة التي مرت بها العراق في انحطاطها وانهيارها، لقطة تلو أخرى؛ وصورة مأساوية تتلوها صورة أشد قتامة وسوداوية من سابقتها؛ ليشكل الرمز" عبد الله" الإشراق، والانبعاث، وباعث الخصوبة والحيوية في عقم بغداد وظلامها الطويل الدامس؛ فعبد الله رمز الإشراق والعذوبة والنضارة؛ ومن هذا المنطلق، بدا هذا الرمز أشبه بالفينيق عند أدونيس؛ فهو يريد لبغداد أن تزدهر، وتشرق وتخرج من رماد احتراقها، وجراحها قوية صلبة في وجه الطغيان؛ وما عبد الله إلا البطل الملحمي الأسطوري المنتظر الذي سيلم شتات العراق، ويطهرها من رجس الفساد، والانحلال، والتفسخ والضلال؛ وينشر فيها العدل والمحبة والسلام، لتغدو أجمل وأنضر مما كانت عليه؛ وستزدهر وتمتشق إباءً وعظمة ومناعة وقوة في وجه الأعداء، ولن تسلم راية عزها لأحد؛ وتدليلاً على هذا الاكتمال المقطعي البؤري  تكرار لازمته الختامية، التي يدل من خلالها على اكتمال الرؤية واستقلالية المقطع كوحدة نصية كبرى مكتملة بذاتها؛ وهذه اللازمة تبدأ بصوت [ المجموعة] (في هذا الديجور والصمت عواء مقرور)؛ إثر انتهاء الرؤية المقطعية واستقلالها برؤيتها؛ تبعاً لهذا:" استطاعت قصيدة حميد سعيد أن ترسم حدود ثنائية ناضجة في هذا الإطار بدت فيها غير عازمة على تمثيل ثوابت نصية تشي بالتزام الشاعر برواسمها، وتقاليدها، بل على النقيض كانت قصيدته تمثل ردة فعل قوية ضد مظاهر الالتزام بعقد التعبير وقيوده، وسجونه اللسانية، لتقع على جنح التضاد مع التزامه الواقعي والفكري، إنها ثنائية ذات حدين متعارضين، متجاوبين في آن؛ انبجست منهما رؤية الشاعر لقصيدته، ثبات الموقف، وتحول التعبير، وظهرت فاعلية التحول الشعري، وهي تتجلى، بحرية واعية، تمتلك وعي الثبات، حيث ينبغي الثبات، ووعي التجاوز حيث ينبغي فراغ القطع للنظام المألوف ضمن أبعاد جوهرانية تصلح لتغطية نتاجه الشعري كله"([cii]).

وهذا دليل أن خاصية التحول في قصائد حميد سعيد خاصة جوهرية تستجلي بؤرة الدلالات، وتدخل في صميم الرؤية، بمنظوراتها العميقة؛ وهذا ما تستظهره الناقدة بشرى صالح بقولها:" إذا ما أصرت فاعلية القراءة النصية الحديثة على صعوبة تمثل تجربة خارج وعيها اللساني، وأن ليس ثمة تجربة شعرية حيوية يتم إنتاجها خارج اللغة يبقى للتأويل سحره مع قصيدة حميد سعيد، في تحرير اللغة من تناسخها العلامي، وإخضاعها لتشفير سري أقرب إلى الانفلات منه إلى التعيين، ولا سيما حين تطفح القراءة بأيديولوجيات الصيرورة التي تفتح مسارب التأويل إلى آخرها؛ إذ ليس ثمة أنسجة ضابطة تصحب تيه المعنى، أو تنتهك انفلات التوقعات، فحين تند الدوال عن فكرة أن يكون لها مدلول واحد معين نجدها مفعمة بقانون الخرق الجديد، الذي يلمع فيه تاريخه الثقافي، والروحي، والفكري، تحت الكثافة التعبيرية والرؤيوية، ولا شك في أن وعي حميد سعيد النقدي كان مصاحباً لحركة إبداعه الشعري، بدت عين الشعر مجاورة لعين النقد في صياغة الأعراف الشعرية، واستيضاح علائقها، في انتباهة يقظة، تقيس المضي بالحضور والمتحقق بالآتي.. ولعل أبرز ما تنبه إليه هذا الوعي تلك الأمثولة الأيقونية التي وسم بها شعره في مراحله الأولى، أيقونة الوعورة والصيغ المستعصية، وخشونة السطح اللغوي. التي يناديها الشاعر تماماً فيما بعد، وتزداد جرأته في منح قصيدته قدراً كبيراً من السيولة والتلقائية القادرة على تعميق مسافات القطع للنظام المألوف وخلخلة النمطية"([ciii]).

وهكذا، يبدو لنا أن قصائد حميد سعيد قصائد متحولة الدلالات والعلائق والبنى والرؤى والدلالات، والمرجعيات النصية والمثيولوجية، نظراً إلى ما تملكه من انفتاح نصي على عالم تعبيري خصب لا تستنفده كثرة القراءات والمتابعات النقدية، فما زالت هذه التجربة حقلاً خصباً لكثير من التأملات والاستظهارات، والاستطالات النقدية المعمقة لتفكيك عالمها واستظهار ما خفي منها عنا، ولم نستطع الخوض فيه في هذه الدراسة المتواضعة التي جل سعيها كان إبراز بنية المتحولات النصية في قصائده، دون أن نترصدها كلها؛ فما زالت هذه الدراسة تتطلع إلى ما هو أعمق في المستقبل القريب.



الحواشي:

([i])  توفيق، سعيد، 1992- الخبرة الجمالية دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية، ص 417. 

 ([ii]) ترمانيني، خلود، 2004 - الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،  ص 95. 

 ([iii])  أدونيس، 2005- زمن الشعر، ص 46. 

 ([iv])  المرجع نفسه،  ص 50-51. 

 ([v])  المرجع نفسه،  ص 96. 

 ([vi])  مؤنسي، حبيب، 2009- توترات الإبداع الشعري الحديث، ص83-84. 

 ([vii])  توفيق، سعيد، 1992- الخبرة الجمالية دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية، ص421. 

 ([viii])  العلاق، علي جعفر، 2007- هاهي الغابة فأين الأشجار، ص 62-63. 

 ([ix]) أدونيس، 1985- سياسة الشعر، ص 108. 

 ([x]) انظر (بتصرف) ترمانيني، خلود، 2004 - الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،  ص 28. 

 ([xi])  بحيري، سعيد حسن، 1997- علم لغة النص(المفاهيم والاتجاهات)،ص 139-140. 

 ([xii])  المرجع نفسه،  ص 153. 

 ([xiii])  ليونز، جون، 1985- نظرية تشوفسكي اللغوية، تر: حلمي خليل، ص 81و 83. نقلاً عن بحيري، سعيد حسن، 1997- علم لغة النص(المفاهيم والاتجاهات)،ص 151. 

 ([xiv])  جمعة، حسين، 2011- في جمالية الكلمة(دراسة جمالية بلاغية نقدية)، ص 63-64.   

 ([xv]) ترمانيني، خلود، 2004 - الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،  ص 96. 

 ([xvi])  درواش، مصطفى، 2005- خطاب الطبع والصنعة(رؤية نقدية في المنهج والأصول)،ص 287. 

 ([xvii])  توفيق، سعيد، 1992- الخبرة الجمالية دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية، ص420. 

 ([xviii])  كوهن، جان، 1996- بنية اللغة الشعرية، تر: محمد الوالي، ومحمد العمري، دار توبقال للنشر، ط1، الدار البيضاء، المغرب، ص 205-206. 

 ([xix])  الضبع، محمود، 2003- تشكلات الشعرية الروائية، ص327. 

 ([xx])  جمعة، حسين، 2011- في جمالية الكلمة(دراسة جمالية بلاغية نقدية)، ص 64. 

 ([xxi])  المرجع نفسه،  ص 64-65. 

 ([xxii])  عبد الجليل، منقور، 2001- علم الدلالة،(أصوله ومباحثه في التراث العربي)، ص204

 ([xxiii]) Lerlat – semantique descriptive, hachehe, paris, 1933. P 40نقلا منعبد الجليل، منقور، 2001- علم الدلالة. 

 ([xxiv])  جمعة، حسين، 2011- المسبار في النقد الأدبي، دار أرسلان، دمشق، ص 99. 

 ([xxv])  بحيري، سعيد حسن، 1997- علم لغة النص(المفاهيم والاتجاهات)،ص 181. 

 ([xxvi])  المرجع نفسه،  ص 183. 

 ([xxvii])  صبحي، محي الدين – نظرية النقد وتطوره إلى عصرنا، ص 202. نقلاً من عبد الجليل، منقور، 2001- علم الدلالة، ص148. 

 ([xxviii])  سعيد، حميد، 2002- الأعمال الشعرية الكاملة، ج2/ ص 129-130. 

 ([xxix])  حسن الفواز، علي، 2010- الشعرية العراقية(أسئلة ومقترحات للقراءة)، دار الينابيع، دمشق، ط1، ص 186. 

 ([xxx])  عبو، عبد القادر، 2007- فلسفة الجمال في فضاء الشعرية العربية المعاصرة، ص158. 

 ([xxxi])  سعيد، حميد، 2002- الأعمال الشعرية الكاملة، ج2/ ص 88- 89. 

 ([xxxii])  زومتور، بول، 1999- مدخل إلى الشعر الشفاهي، تر: وليد الخشاب، دار شرقيات للنشر، القاهرة، ص 157- 158. نقلاً من العلاق، علي جعفر، 2011- من نص الأسطورة إلى أسطورة النص، ص 103.   

 ([xxxiii])  العلاق، علي جعفر، 2011- من نص الأسطورة إلى أسطورة النص، فضاءات، ص 94. 

 ([xxxiv]) الموسى، خليل، 2001- قراءات في الشعر العربي الحديث والمعاصر، ص 73.

 ([xxxv])  العذاري، ثائر، 2011- في تقنيات التشكيل الشعري واللغة الشعرية، ص 131. 

 ([xxxvi])  سعيد، حميد، 2002- الأعمال الشعرية الكاملة، ج2/ ص 159. 

 ([xxxvii])  مؤنسي، حبيب، 2009- توترات الإبداع الشعري الحديث، ص84. 

 ([xxxviii])  سعيد، حميد، 2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد، ص 42. 

 ([xxxix]) أدونيس، 1985- سياسة الشعر (دراسات في الشعرية العربية المعاصرة)، ص 16-17.

 ([xl]) أدونيس، 1978- الثابت والمتحول، بحث في الاتباع والابداع عند العرب، ج3، ص 16-17. 

 ([xli])  المرجع نفسه،  ص 297. 

 ([xlii])  المرجع نفسه،  ص 297. 

 ([xliii]) ترمانيني، خلود، 2004 - الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،  ص 101.

 ([xliv])  المرجع نفسه،  ص 103. 

 ([xlv])  سعيد، حميد، 2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد، ص 67.

 ([xlvi])  العلاق، علي جعفر، 2007- هاهي الغابة فأين الأشجار، ص 112. 

 ([xlvii])  المرجع نفسه،  ص 64. 

 ([xlviii])  سعيد، حميد، 2002- الأعمال الشعرية الكاملة، ج2/ ص 19-21. 

 ([xlix]) الزيدي، توفيق، 1984- أثر اللسانيات في النقد الأدبي الحديث، الدار العربية للكتاب، ص 83-84 . نقلاً من درواش، مصطفى، 2005- خطاب الطبع والصنعة،ص 384. 

 ([l])  جمعة، حسين، 2011- في جمالية الكلمة(دراسة جمالية بلاغية نقدية)، ص 66. 

 ([li]) مؤنسي، حبيب، 2009- توترات الإبداع الشعري الحديث، ص55-56. 

 ([lii]) درواش، مصطفى، 2005- خطاب الطبع والصنعة(رؤية نقدية في المنهج والأصول)،ص 284. 

 ([liii]) توفيق، سعيد، 1992- الخبرة الجمالية دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية، ص 484. 

 ([liv])  بجيري، سعيد حسن، 1997- علم لغة النص(المفاهيم والاتجاهات)،ص 112-113. 

 ([lv])  المرجع نفسه،  ص 113. 

 ([lvi])  سعيد، حميد، 2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد، ص 35. 

 ([lvii]) الخضور، جمال الدين، 2000- قمصان الزمن (فضاءات حراك الزمن في النص الشعري العربي)، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ص 68 . 

 ([lviii])  المرجع نفسه،  ص 81. 

 ([lix])  سعيد، حميد، 2002- الأعمال الشعرية الكاملة، ج2/ ص 89-90. 

 ([lx])  جمعة، حسين، 2011- في جمالية الكلمة(دراسة جمالية بلاغية نقدية)، ص 87. 

 ([lxi])  المرجع نفسه،  ص 87. 

 ([lxii])  بجيري، سعيد حسن، 1997- علم لغة النص(المفاهيم والاتجاهات)،ص 140. 

 ([lxiii])  سعيد، حميد، 2002- الأعمال الشعرية الكاملة، ج1/ ص 352-356. 

 ([lxiv])  سعيد، حميد، 2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد، ص 41. 

 ([lxv]) الدوخي، حمد محمود، 2008- المونتاج الشعري في القصيدة العربية المعاصرة، ص29. 

 ([lxvi]) أدونيس، 2005- زمن الشعر، ص 276. 

 ([lxvii])  المرجع نفسه،  ص 278. 

 ([lxviii])  المرجع نفسه،  ص 280. 

 ([lxix])  سعيد، حميد، 2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد، ص 69. 

 ([lxx]) أدونيس، 2005- زمن الشعر، ص 342. 

 ([lxxi]) العلاق، علي جعفر، 2011- من نص الأسطورة إلى أسطورة النص، ص 128-129. 

 ([lxxii]) أدونيس، 2005- زمن الشعر، ص 308. 

 ([lxxiii]) ترمانيني، خلود، 2004 - الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،  ص 113. 

 ([lxxiv])  المرجع نفسه،  ص 113. 

 ([lxxv]) الخضور، جمال الدين، 2000- قمصان الزمن (فضاءات حراك الزمن في النص الشعري العربي)، 79. 

 ([lxxvi]) أدونيس، 2005- زمن الشعر، ص 310. 

 ([lxxvii])  المرجع نفسه،  ص 157.

 ([lxxviii]) النصير، ياسين، 1993- الاستهلال فن البدايات في النص الأدبي، وزارة الثقافة والإعلام، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ص66، نقلاً من مقال الاستهلال وأثره في بناء النص الشعري، ص 276.

 ([lxxix]) أدونيس، 2005- زمن الشعر، ص 189. 

 ([lxxx])  سعيد، حميد، 2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد، ص 13. 

 ([lxxxi]) ترمانيني، خلود، 2004 - الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،  ص 17. 

 ([lxxxii])  المرجع نفسه،  ص 116. 

 ([lxxxiii])  المرجع نفسه،  ص 6-11711. 

 ([lxxxiv])  سعيد، حميد، 2002- الأعمال الشعرية الكاملة، ج2/ ص 323-325. 

 ([lxxxv]) ترمانيني، خلود، 2004 - الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،  ص 117. 

 ([lxxxvi]) أدونيس، 2005- زمن الشعر، ص 355-356.

 ([lxxxvii]) غركان، رحمن، 2010- النص في ضيافة الرؤيا(دراسة في قصيدة النثر العربية)، دار رند، دمشق، ط1، ص 91- 92. 

 ([lxxxviii]) غركان، رحمن، 2008- علم المعنى(الذات- التجربة- القراءة)، دار الرائي، دمشق، ط1، ص 56. 

 ([lxxxix])  سعيد، حميد، 2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد، ص 111- 113. 

 ([xc]) ترمانيني، خلود، 2004 - الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،  ص 121. 

 ([xci])  المرجع نفسه،  ص 311. 

 ([xcii])  العذاري، ثائر، 2011- في تقنيات التشكيل الشعري واللغة الشعرية، ص 141. 

 ([xciii]) أدونيس، 2005- زمن الشعر، ص 17.

 ([xciv])  سعيد، حميد، 2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد، ص 38. 

 ([xcv]) غركان، رحمن، 2008- علم المعنى(الذات- التجربة- القراءة)، ص 293- 294.

 ([xcvi]) البستاني، بشرى، 2011- في الريادة والفن (قراءة في شعر شاذل طاقة)، ص 147. 

 ([xcvii]) نقلاً من المرجع نفسه،  ص 148. 

 ([xcviii]) الشيباني، محمد حمزة، 2011- البنيات الدالة في شعر شوقي بغدادي، ص 22. 

 ([xcix])  سعيد، حميد، 2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد، ص 99-102. 

 ([c])  جمعة، حسين، 2011- المسبار في النقد الأدبي، ص 97. 

 ([ci])  المرجع نفسه،  ص 97-98. 

 ([cii]) موسى صالح، بشرى، 2002- وردة الكتابة، مقدمة ديوان(الأعمال الشعرية الكاملة) ج1/ ص 10.

 ([ciii]) المصدر نفسه، ج1/ 10- 11.