تقدم سرديات الكاتب المصري المرموق شهادة بالغة الخصوصية على ما يدور في الواقع المصري على امتداد مرحلة تمتد من زمن دراسته في كلية العلوم بجامعة الاسكندرية وحتى اليوم مرورا بتجربته في حرب اكتوبر وبتخثر أحلامها، وحتى تفاؤله بأن تفاعلات ما جرى بعد ثورة 25 يناير لم تسفر بعد عن نتائجها.

ســرديات فيسبوكية

رجب سعد السيّد

«هذه نماذج من تسجيلات على جداري الفيسبوكي في الأيام القليلة الماضية، لم أتدخل كثيراً في انتقائها إلا بما يخدم – في تصوري – السياق العام»

 

(1)              أنت لا تصرخ في وجهي .. هذا قفاي!
أفادتني الدراسة في كلية العلوم كثيراً.
من المواد التي درستها، المصطلح وطرق التجريب  (Terminology & Methodology) وكانت تدرسها لنا أستاذة لا أنساها أبداً، اسمها الدكتورة تهاني سالم، تحية لها أينما كانت، فقد كانت سيدة غاية في (الشياكة الشخصية) .. لا أقول شياكة الهندام، ولكن شياكة الروح والحضور الشخصي. وكان شعرها فضياً منسقاً. لم أسمعها أبداً معنفة أو منفعلة، ولم يكن أحد ليستطيع أن يجعلها تتصرف بعنف. غاية في الدماثة والرقة.
وأنا أستعين بما تعلمته منها في هذين الفرعين البحتين من أفرع الكيمياء، في التعاطي مع أي مسألة فكرية، وليس في مجال العلوم فقط. فمن المهم جداً أن تحدد طريقة اقترابك من أي مسألة تتعرض لها، وبغير ذلك يضل عنك سبيلُك. كما أحاول أن أتبين طريقة الآخرين في معالجة القضايا، لأكتشف ما إذا كانوا يضمرون غير ما يبطنون. ويمكنك أن تخرج بالـ methodology إلى مجال استكشاف أسلوب حزب ديني، مثلاً، في التحايل على مسمى، أو مصطلح (الحزب الديني) - وهذه نقطة متصلة بالفرع الثاني: المصطلح - لينجو من قانون الأحزاب في مصر الذي يحظر تكوين أحزاب ذات صبغة دينية. وهكذا ..

أما عن المصطلح، فإن تحديده الصارم في العلوم الطبيعية والتطبيقية يحتفظ لهذه العلوم بأساسها الصلب، فالإلكترون محدد، والأيون له صفاته، والحمض له خواصه، والقاعدة لها خواصها .. مثلاً. وغياب المصطلح أو اختلاف الرأي فيه، في الدراسات المتصلة بالإنسانيات، كالآداب والقانون، يطيح بنا إلى غياهب المتاهات.
إنني أحاول ألا أستغني عن تحديد المصطلحات في تعاملي الفكري، وأتوخاه في كتابات وأحاديث الآخرين، غير أنني كثيراً ما أجد كتابات وأسمع من الأحاديث ما تدور على هذا النحو، إن ترجمناها إلى لغة الكيمياء: ( .. إن الإلكترون ما هو إلا مادة قاعدية لها خواص الأحماض العضوية، وهو بذلك يختلف عن الأيون، الذي يقترب كثيراً من صفات الحمض، ويتحول إلى إلكترونات حرة، إن عالجناه بقاعدة!. إنني لا أبلغ كثيراً في هذه الترجمة. فإن أضفنا إلى ذلك (ضياع اللغة)، بناءً وأسلوباً، أُطفئت أضواء طريق التفاهم!

إننا، أصدقائي، لا نفعل إلا الصراخ في وجوه وأقفية بعضنا البعض.

(2) برلمانُنــا الأزرق!
لي مجموعة قصصية صغيرة، صادرة من نحو ربع قرن أو أكثر، في سلسلة أصوات أدبية – هيئة قصور الثقافة، عنوانها (عملية تزوير)، أرصد فيها ملامح تخبطات أنور السادات، التي زورت شكل مجتمع دولة خارجة من حرب كبيرة، منتصرة.

في المجموعة قصة عنوانها (طفلنا الأزرق)، تحكي عن أسرة في بداية الطريق، يكتشف الأطباء أن أول أطفالها سيكون (أزرق). والطفل الأزرق هو الذي يعاني تشوهات خلقية في صمامات القلب، تجعل الدم الشرياني يختلط بالدم الوريدي، فيكون ثمة احتمال لأن (يولد ميتاً)، أو أن يأتي إلى الحياة أزرق اللون، يعاني أقسى معاناة، ويصيب أهله بالهمِّ والشقاء، ولا يطول ذلك كثيراً، إذ لا يلبث أن يتوفاه الله، رحمةً به، وبأهله.

لذلك جعلت العنوان: برلماننا الأزرق!

 (3) أنواع الإنسان
أعتقد أن على علماء التصنيف أن يأخذوا برأيي في تصنيفي الجديد لما كان يُعتقد قديماً أنه نوع بشري واحد:

1 -  هومو سابينس .. وهو الأصل.

2 -  هومو إليكترونيكاس.

3 -  هومو ديجيتاليس.

4 -  هومو كيميكاليس.

5 -  هومو كونصمشيوناليز.

6 -  هومو أرابيكاليازي.

والأخير لم يتعرف عليه كل علماء التصنيف، ومع ذلك فهو أقرب الأنواع الستة للانقراض.

 (4) كلُّ ذلك البِشر .. كلُّ ذلك الأمل ..!
كلمتي في افتتاح أول مؤتمر ثقافي يتم تنظيمه في مصر، في أعقاب ثورة 25 يناير، بحضور وزير ثقافة الثورة الدكتور عماد أبو غازي. كلمة ذات بِشْــرٍ .. مفعمة بالأمل. فماذا حدث لي الآن؟!. وماذا جرى للوطن؟!

أتيلييه الإسكندرية - المؤتمر السادس
مستقبل الثقافة – ثقافة المستقبل
12/13
مايو 2011

صبـــاحٌ ســـكندريٌّ بهيج، في زمــنٍ مصريٍّ جديد.

صحيحٌ أن الوطن يعاني أعراض ما بعد الجراحة، بعد أن بتـر أسقامَه، لكنه لن يلبث أن يتعافى منها.
واجتماعُنا اليومَ وغدا هو محاولة منَّـا لمراجعة أجندة الثقافة المصرية، تأمُّـلاً لما نتصوره من ملامحها في المستقبل المنظور، لنعمل على تحقيقه، لنسهمَ في إصحاح بدن الوطن، ونعظمَ من مناعته ضد أشكال الفساد والطغيان، ولنكون جديرين بالعيش في هذا القرن، ولا نستمر هاجعين في هامش الكون، مثلما كان حالنا في القرن العشرين.

لا ندّعي أننا أحطنا بكل جوانب هذه الأجندة؛ ونعتذرُ عن أي تقصير قد يجده ضيوفنا فيما ذهب إليه تصوُّرُنا عن طروحات هذا المؤتمر؛ ولكننا سنكون راضين إن نجحنا معا، متحدثين ومحاورين، في إثارة بعض علامات الاستفهام القديمة والحديثة، وإزالة الأتربة عن جانب من القضايا المسكوت عنها وعليها.

فمرحبـــا بكم، أيها المواطنون المصريون، في هذا الصرح الثقافي الفني التاريخي : أتيلييه الإسكندرية .. وأتمنى لكم مؤتمراً يرقى الأداءُ فيه إلى مستوى أداء الشعب المصري العظيم، في 25 يناير.

(5) في المركز القومي للترجمة
كانت سفرية للقاهرة اليوم طيبة، إنتهت بالرجوع في ديزل (VIP)، مرة .. من نفسي.

قابلت في المركز القومي للترجمة مديره الجديد. كنت أنا أول زائر لمكتبه، في أول يوم، بل أول ساعة له. أعادت المقابلة لي الأمل في أن تنصلح أحوال هذا المركز الخطير.

وبعد هذه المقابلة المفعمة بالطاقة الإيجابية، ذهبتُ إلى إدارة الجوائز لأسترد النسخ من كتابي (المتحكمون بأقوات البشر)، وهو من إصدار المركز نفسه، وكنت قد تقدمتُ به لمسابقة (رفاعة الطهطاوي) التي ينظمها المركز سنوياً، ولم أوفق، فطُلِبَ إليَّ، منذ شهرين، أن أحضر لاستلام النسخ من الكتاب.

فوجئتُ بأن النسخ (أنظف مما كانت)، بل إن واحدة منها بقيت على حالها، مغلَّفةً بالغلاف البلاستيكي الذي تحيط به مكتبة المركز مبيعاتها. أي أن أحداً لم يفحص الكتاب. الأمر الذي يؤكد أن (النية) كانت (مبيتة) لمنح الجائزة لمترجم بعينه.

أنا لا أشكو لأنني لم أفز بالجائزة، فأنا مدرك أن كل جوائزنا الثقافية، تقريباً، سيئة السمعة، وعندما أتقدم لجائزة أضع هذا في اعتباري، وأراهن على أن يحدث خطأ، فيصحو ضمير (حكام) الجائزة. لكن ما يزعجني هنا هو أن اللجنة المنظمة للجائزة كانت على درجة من الغباء، أو لعله (الفجور)، بحيث أنها لم (تفض) غلاف النسخة، حتى، ذراً للرماد في عيني، فتركتني أرى النسخة وقد استرددتها على حالها.

وشاركني قِطِّيَ (فلافي) تعجبي - وهو يفهمني جداً جداً، أنا واثق - فاقترب من النسخة (دليل الواقعة)، بتفحصها، ثم وضع رأسه على الأرض، وهي علامة يعرفها محبو القطط، فهي دليل على الحزن وخيبة الأمل.

(6) 6 أكتوبر .. معذرةً يا جميل ...
ظللنا لسنوات طويلة نتساءل: لماذا لم يُكتب عملٌ أدبي ملحمي، يقوم على واحدة من أهم (معاركنا) في حربنا مع العدو الإسرائيلي، على نحو ما أنتج الأدباء الأوربيون والأمريكيون بعد الحربين العظميين الأولى والثانية، والحروب الإقليمية الأخرى التي خاضتها بلادهم؟!

أنا كنت أنضم إلى فريق يقول بأن هذا العمل، أو هذه الأعمال، لن يكتبها إلا مقاتلون، خاصةً أن مقاتلي أكتوبر كانوا هم خلاصة شباب الوطن، في كافة التخصصات، وشارك في العمليات الحربية - بالفعل - مقاتلون يشتغلون بالكتابة الأدبية، وأنتجو أعمالاً، كتبت على عجل، كما يسجل الفنان التشكيلي أفكار لوحاته في رسومات أولية، حتى لا تفقدها ذاكرته.

وكان رأيي، مع كثيرين، أيضاً، أن العمل الأدبي (الأكتوبري) المُرتجى لن يأتي إلا بعد أن يبتعد الأدباء المقاتلون بما فيه الكفاية عن ظروف المعايشة الفعلية، ليدخلوا في المعايشة الإبداعية.

وظللنا نردد ذلك كثيراً، وطال انتظارنا، ولكن شيئاً بالحجم والقيمة المأمولين، لم يتحقق. أنا شخصياً، ظللت زمناً طويلاً أتخذ من اللواء المهندس باقي زكي يوسف نموذجاً لبطل رواية تربط بين (ملحمة) بناء السد العالي، وملحمة أكتوبر، وكلتاهما - في رأيي - يعود الفضل فيهما لجمال عبد الناصر، فلم يكن السادات إلا مشاركا جاء بعد انتهاء الاجتماع التحضيري، وفي يده بطاقة دخول عرض سينمائي، قد تنفعه عن ضرورة البحث عمن يتحمل مسئولية فشل.
وكان بطل روايتي مهندسا عسكريا، شارك في الأعمال التحضيرية لتحويل مجرى النهر وإقامة جسم السد باستخدام آلات تهيل جبال الصخور والرمال، هي التي أوحت إليه بالآلات التي أهالت الساتر الترابي لخط بارليف. وأحكي من خلال هذا البطل التحولات التي شهدها المجتمع المصري منذ بناء السد، مرورا بالتحولات الاشتراكية، والتصنيع، وعلامات ازدهار بدأت تتضح ملامحها في المجتمع المصري، في كافة نواحي الحياة، حتى أوقفت نموها معركة 67، وما تلاها من موت ناصر، والدخول الميلودرامي للسادات إلى المشهد، ثم أكتوبر وانهيال الساتر الترابي.

غير أن ما أحبطني عن أن أستمر في مشروعي الروائي، وأحبط كثيرين غيري، أنهم فوجئوا بأن المجتمع الذي قاتلوا وفقدوا أصدقاءهم من أجل استرداد كرامته، والذي خرج لتوه من حرب منتصرة، ذهب إلى آخرين، وأهملهم، لحد أنهم غادروه إلى بلاد مجاورة التماسا للقمة العيش.

شعر الأدباء الذين كان يمكنهم إنتاج العمل الأدبي المنتظر أنهم كانوا يشاركون في مباراة شطرنج سياسية متفق على خطواتها مسبقاً، كما أن رئيس البلاد وقادته الكبار لم يكونوا ليسمحوا لبطولات عظيمة بأن تسجل في عمل إبداعي عظيم، فهم فقط من يجب أن يكونوا تحت الأضواء، وهم فقط من يجب أن نسبح بأفضالهم علينا وأن نسك من أجلهم ألقاباً مضحكة خالية من أي روح.

ومن ثم، راحت جهود إبداعية تسجل (خيبة الأمل) هذه، بدلاً من أن ترحب بآمال عريضة في دولة عصرية تخرج من حرب لتعيد بناء اقتصادها وتنطلق في سبيل التقدم.

فمعذرةً أكتوبر، فقد ضيعناك على كل المستويات.
نحن أفضل من يضيع الفرص، لنظل ندور في فراغ ونبكي على ألبان سكبناها بغباء ...

(7) بطل القمل والبراغيث!
ربما لا يجرؤ غيري على حكاية مثل هذه الحكاية، التي أعتذر لذوي الأذواق الفائقة عن وقعها عليهم، ولكني أوردها لأنها كانت جزءاً فعلياً من حياة الجندية.

كنا قد انتقلنا بعد أيام من حدوث (الثغرة) إلى موقع قرب مدخل طريق الإسماعيلية القاهرة، مع وحدات أخرى تسببت الثغرة في إشاعة الاضطراب بينها، وكان اسم الموقع، كما كان يتداوله ضباط السرية هو (معسكر الشاردين)!. وكان يحزنني هذا الاسم.

ويبدو أن الاضطراب شمل (الشؤون الإدارية)، فلم يعد الإمداد بالمياه بالمعدل الاعتيادي، فشحت المياه. ويبدو أن ذلك كان مرصوداً من القيادة، إذ أصدر الفريق الشاذلي أمر ميدان يوجه الجنود لطريقة تنظيف أجسامهم باستخدام (نصف كوب ماء)؛ وكان ذلك مثار تندر كثير من الجنود، واحتجاج، فلم يأخذ كثير منهم الأمر على محمل الجد، حتى فوجئوا بأن أجسامهم قد تحولت إلى (مزارع تسمين) للقمل والبراغيث!

ومن خبرتي تلك، فإن قمل الرأس نوع آخر غير قمل الملابس، فالأخير غير معهود لدينا، وهو أشد شراسة، ويتكاثر بسرعة.

وكان أمامنا - نحن الشاردون - متسع من الوقت الفراغ، فكنا نجلس في الشمس (نفلِّي) أنفسنا، ونحصي عدد (مقتنياتنا) من القمل والبراغيث، حتى أن واحداً منا أعد زجاجة صغيرة، كان يُسقط فيها كل ما يُخرجه من رأسه وملابسه من قمل وبراغيث، وظل محتفظاً بها على سبيل التذكار.

وتطور الأمر بأن تساءل أحدنا عن إمكانية أن (نعمل مسابقة)، يكون الفائز بها هو صاحب أعلى رقم مسجل من القمل والبراغيث في جسمه. وأعددنا لجنة تحكيم تراجع إحصاء كل متسابق. وشيئاً فشيئاً، أصبحت المسابقة وسيلة تسلية لنا، وفي نفس الوقت تنظيف لأجسامنا، بغير نصف كوب ماء ومنديل، كما أوصى الشاذلي.

وللأسف، لم أفز ولا مرة واحدة بلقب بطل القمل والبراغيث، لأنني كنت أتبع نصيحة الشاذلي.

(8) هنا تشكَّلتُ .. هنا تكوَّنتُ ..
كلية العلوم في محرم بك
تخرجت في كلية العلوم، جامعة الإسكندرية؛ وقضيت السنة الأولى في مبنى تابع للكلية بالشاطبي، أما السنوات الثلاث الأخيرة، فكانت بالمقر العريق، الشامخ كالقلعة، تصعد إليه بسلم بازلتي، تربو درجاته على العشرين عدداً، في شارع متفرع من شارع محرم بك، غير بعيد عن محطة السكة الحديد، ويعرفه قدامي سكان المنطقة بالعباسية
.

أخذتني روعة المقر، بوحداته البنائية الأربع، تتوزع عليها الأقسام العلمية، إضافة إلى مبنى ضخم، يحمل اسم (على إبراهيم)، يضم المدرجين الرئيسيين، وبعض المباني الإدارية، وملاعب لكرة القدم والتنس، وحديقة نباتية عامرة. ولا زلت أتذكر نصيحة جاءت عابرة في استطراد تخلل محاضرة لأستاذ علم الحشرات، الأديب الدكتور يوسف عز الدين عيسى، قال : لكي تتحملوا دراسة العلوم البحتة الصعبة في هذه الكلية، عليكم أن تحبوا كل شيء فيها، حتى أخشاب مدرجاتها العتيقة!.

وقد أنشأت وزارة المعارف هذا المقر في نهاية العام 1910، ليكون (مدرسة محرم بك الثانوية)، وبلغت تكلفته 132 ألف جنيه للمباني، و96 ألفاً ثمناً للأرض (64 ألف متر مربع). وبعد أربعة أشهر من بداية الدراسة فيه، جرى افتتاحه رسمياً، في 21 يناير 1911، بحضور الخديوي عباس حلمي الثاني نفسه، والأمير عمر طوسون، ورئيس مجلس النظار (الوزراء)، وبعض النظار، ومحافظ الإسكندرية. وتحدث في حفل الافتتاح أحمد باشا حشمت، ناظر المعارف، الذي فوجئ الحضور بتوجهه بالحديث للخديوي : "سندعوها من اليوم بالمدرسة العباسية، تخليداً لظهورها في عصرك المبارك!"؛ فقبل الخديوي ممتناً.

ولما اندلعت الحرب العظمى الأولى، تحولت العباسية الثانوية إلى مستشفى عسكري. وبعد انتهاء الحرب، عاد المقر للمدرسة العباسية، في أكتوبر 1919. ولم تلبث المدرسة أن أخليت مرة أخرى، ونهائيا، لتحتل مبانيها جامعة (فاروق الأول) الوليدة، التي استهلت بكليات العلوم والآداب والحقوق والتجارة، وقد بدأت الدراسة بها عام 1942؛ ثم استأثرت كلية العلوم بالمقر كله، بعد انتقال الكليات الأخرى إلى مباني خصصت لها. والآن، وبعد تطور الأقسام المتخصصة، بأنشطتها البحثية والتدريسية، وتزايد عدد أعضاء هيئة التدريس والطلاب، ضاق المبني التاريخي بهم، فتوسعت الكلية بمباني أخرى، في مواقع متفرقة من المدينة : مبنى الكيمياء بطريق الحرية، ومبنى علوم البحار بالأنفوشي، إضافة إلى مبنى (إعدادي) في الشاطبي.

(9) لا أرى جيداً ..!
إلى سيادة (المشير) عبد الفتاح السيسي ...
أفندم
...
أنا رقم 5558050 - رقيب هـ. ع. رجب سعد السيد خليفة
.
حكمدار فصيلة سطع كيما - قيـا فـر 6 مش ميكا
تجنيد 10/10/70 رديف 1/9/74
طالـب مكتـــب، يا أفندم
...
جئتُ لأقول لسيادتك، يا افندم، أنني غير مطمئن، ولا أجد أمامي مؤشرات تدعو للاطمئنان
..

فهل سيادتكم، بصفتكم الحالية كرئيس للدولة، مطمئنون لأحوالنا؟!

هل اقتصادياتنا مستقرة؟. هل احتياطياتنا النقدية والغذائية مؤمنة؟!

هل إنفاقنا العام في حدوده، بصفتنا دولة في ورطة اقتصادية؟

هل يمكن أن تتاح لنا درجة من الشفافية، فلا نُترك نتخبط في ظلمات الشك، بحجة الحفاظ على سرية معلومات تمس الأمن القومي، وأن ثمة من هم مؤهلون للتعاطي ومختلف الأمور؟!

لماذا لا تخضع الدولة، لا المواطنون المساكين، لإجراءات تقشف؟!. إننا، حتى، لا نعرف كم تنفق الدولة من ميزانيتنا التي نمتلكها جميعاً، وفيم تنفقه؟!

مثلاً: هل كانت هناك ضرورة قصوى لحفل باهت متهافت من الناحية الفنية، في مناسبة أعظم يوم في حياتنا المعاصرة: 6 أكتوبر؟!

كم تكلف هذا الحفل؟. أم أنه كان مدعوماً، كحفل القناة، من أشخاص يعرفون أين يذهبون بنقودهم؟!
ألم يكن من الأفضل أن تبحث الدولة، وهي قادرة، عن (أفراد) من جنودك، مقاتلي 6 أكتوبر، وتدعوهم إلى حفل شاي بسيط، تقول لهم فيه: شكراً .. بلدكم لا ينساكم؟!

سيادة الرئيس: نريد لك أن تنجح!

لذلك، طلبت مقابلتك عن طريق هذا الإجراء (الميري)، لأبوح لك بمحبتي، بطريقتي الخاصة، فأنا واحد من كثيرين جداً يريدون لك أن تنجح، ويريدون أن يطمئنوا على حال البلد، وأن (يروا) ما حولهم جيداً.

(10) الخلاء والتكنولوجيا
من أغرب ما قرأتُ، في ملخص لرسالة دكتوراه في علم الاجتماع، أن قريةً في الفيوم لا تزالُ تسير على سنن الأولين، فلا تشتمل بيوتها على دورات مياه لقضاء الحاجة، وإنما يقضي أهلها حاجتهم في الخلاء، في المساء، بتراتب اجتماعي ثابت، إذ يخرج الرجال أولاً، بصفتهم القوامون على النساء، حتى في الإخراء، يليهم النساء مع أطفالهن.

لا أعرف ماذا يحدث في (خلاء) تلك القرية، ولكن المؤكد أنه (نظام بيئي) فريد من نوعه. والمؤكد أيضاً أن له (آلياته) في التعامل مع (المخرجات).

لماذا لا يتمسك كافة الناس (الأشد تديناً) بسنن الأولين، وينهجوا نهج تلك القرية الفيومية؟ لماذا يستخدمون أدوات الصرف الصحي الحديثة التي تنتجها تكنولوجيات ما كان الأولون ليقبلونها، فقد أتت بها الفرنجة؟!

إن التكنولوجيا لا تتجزأ، فهي ليست مجرد (أدوات) تستخدمها، ولكنها أسلوب فكر وحياة، إن اكتفيت بالمادي منه (الأدوات) أسأت استخدامها، لأنك غير متساوق مع الروح العامة للتكنولوجيا. فيا أيها الناس، إما أن تقبلوا التكنولوجيا جسداً وروحاً وفكراً، وإما أن تخرجوا إلى خلاء قرية الفيوم!

(11) شكراً فلافي ...
أريد أن أكتب عن صديقي الحبيب (فلافي)، ولكني لا أستطيع بسبب انبهاري الدائم بسلوكياته الأرقى والأنبل، وازدياد اقترابه مني، ومن الأسرة كلها، حتى أنه ارتضى أن يتخذنا أهلاً له، ولم يغادر بيتنا، إلا لزيارات البيطري القليلة، أبداً. رضى بالسجن بين أحضاننا، وهو أشد ما يحزنني، فقد كنتُ أتمنى له حياة طبيعية، ولكنه عجز عن التوافق مع (الخارج) - وله حق طبعاً - واكتفى بنا رفاقاً.

وقد صار أعلم بنا من أنفسنا. تظهر عليه ردود أفعال تعكس إحساسه الرهيف بالتغيرات في أحوالنا الصحية والنفسية. وهو يوزع اهتماماته بنا، وفرض علينا، بنعومة فائقة، أدواراً نؤديها له ، بنظام: Lab. Division؛ فماما، مثلاً، أخصائية التغذية. لا يأكل الطعام الطري إلا من كفها، وعندما ينتهي من الأكل يلثم الكفَّ شاكراً. وهي أيضاً المسئولة عن تنظيف دورة مياهه ذات الرمال الماصة للرائحة. وعندما تخرج وتعود، فإن أول شيء عليها أن تفعله هو أن ترفعه، وتحتضنه، ليمد رأسه ويلثم خدها، معبراً عن فرحته بعودتها للبيت.
ورشا هي أمه الروحية. علاقة نادرة من التفاهم الكامل. وهي التي تتعاون مع ماما في استحمام فلافي، وهي التي أتت به إلى بيتنا، إذ اشترته من دكان في مقابل 400 جنيه. ولا تزال تنفق راتبها تقريباً على فلافي. كما أنها مدربة الأكروبات له.
أما أنا، فلم يخطر ببالي يوماً أن أصادق قطاً، حتى حدث ذلك، والحمد لله، مع فلافي.

بالأمس، تقارب فلافي وحفيدي مالك كثيراً. لم يعد مالك يصرخ منبهراً عند رؤية فلافي، فيجفل الأخير. وحدث تفاهم بينهما بالإشارة والصوت الخفيض. وعندما وقع مالك وبكى، اهتز فلافي، واقترب مني وأنا أحمل مالك، فلما أنزلته إليه، بقي جالساً، وسمح له، لأول مرة، أن يمسح على فرائه اللامع النظيف.

سيسعد مالك بصحبة فلافي، وسينمو وهو مدرك أن دائرة الحياة من حوله فيها مخلوقات (أخرى)، أنقى وأرقى وأنبل.

شكراً فلافي ...

(12) لم نستحم!
لماذا لم يوقِّع هذا (الولد الثورجي)، في تحرير يناير، على هذه المقولة الجدارية الحكيمة:
(التغيير على وساخه يجيب تسلُّخات)!
.
كانت الوساخة في كل مكان. ولم نستحم .. غيَّرنا ملابسنا، بغير أن نستحم، فتحولت الأوساخ والقشف إلى تسلخات، لا تصلح معها (مراهم) .. محتاجين (شــــاور) من حمض النيتريك لإزالة الأوساخ المتراكمة في طبقات تحت ملابسنا التي نغيرها، مرة بعد مرة، على وساخة
.

يقول المثل البحراوي: من برَّه ها اللا .. ها اللا .. ومن جوَّه يعلم الله!. ويقول الحكيم الصعيدي: من برَّه (طج/ طج)، ومن جوَّه (فاش) و(بج)!

يا أيها الولد التحريراوي الثورجي الينايري: قد تكون بين الشهداء المعروفين، أو المجهولين. قد تكون فقدت ساقاً أو ساعداً أو عيناً. قد تكون رهين الحبس أو الاعتقال.
في أي حال كنتَ، لك التحية، والاعتذار، فقد نبهتنا، ولم نستحم!

(13) اعتراف يؤكد (جنابة) جوائز الدولة!
فوزي بجائزة الدولة التشجيعية في الترجمة للعام 2011 دليل مادي على (عدم نظافة) لجان تحكيم هذه الجوائز، بصفة عامة!

طبعاً، الحمد لله أن فزت بالجائزة. وأنا فخور بكتابي الفائز (تبعات المستقبل - إقتصاديات عالم يجترُّ)، الصادر عن المركز القومي للترجمة. لكن فوزي بالجائزة كان (حدثاً عارضاً)، ترتب على وجود إنسان له ضمير حي، بين عصابة من (الفتَّجيّة) الأكاديميين المتخصصين في دراسات الترجمة. جاءوا، كالعادة، إلى الاجتماع النهائي لإعلان الجائزة وهم (متفقون) على (واحد منهم) ستذهب إليه (قصعة الفتة) هذه السنة. ومن مناقشاتهم، تبين لصاحب الضمير الحي أنهم لم يقرأوا كتابي، ربما باعتبار أنني قروي عبيط، كامن في خندقي البعيد، في تلك القرية الساحلية المسماة (راقودة). ثار الرجل في وجوههم، وعنفهم. وألقى بأوراقه في وجوههم بعد أن دافع (هو وحده) عن كتابي بشدة. وغادر اجتماع قصعة الفتة التشجيعية للترجمة.

ولأن اللصوص - والفتجية لصوص - هم بطبعهم جبناء، خافوا من ضمير الإنسان الحي، فتراجعوا عن تمرير الفتة لزميلهم، وأعطوها لي!.

أيها السادة .. بلا أدنى مبالغة: كثير من المثقفين والأكاديميين هم من أكبر الفتجية في بلادنا!

هذه شهادتي، وأعتذر بشدة لمصدر معلوماتي - ذلك الضمير الحي - ولكن كان عليَّ أن أداوم أذاني في مالطا .. في هذه (المخروبة) اللي اسمها مصر!

(14) ما ألـذّ فطيــرتنــا ....!!!
افترض طومسون عام 1911 نموذجا للذرة يصورها كفطيرة موجبة الشحنة، والإلكترونات سالبة الشحنة مغروسة فيها هنا وهناك!

تخيلوا (لو) أن العقل البشري (توقف) عند فطيرة الإمام طومسون رضي الله عنه - وأنا هنا أدعو له فعلاً لأنه بدأ واجتهد وأعطى لنا تصوراً -  ولم (يرفضها)؛ ولم يسع إلى تطويرها، ليصل بالنظرية الذرية إلى آفاق أرحب، جعلت الحضارة البشرية تقفز قفزات هائلة غير مسبوقة خلال قرن واحد من الزمان.

تخيلوا (لو) أن من جاء بعد طومسون من أتباع ومريدين (نقلوا) عنه، ولم يفتحوا نوافذ عقولهم لتفترشها شمس الإبداع!

لا أبالغ إن قلت أننا نحن المتخلفون لا زلنا نحرص أشد الحرص على ألاَّ نأكل إلا فطيرة طومسون، ونتخاصم حول حصصنا من الزبيب المغروس فيها، ونهدر دم من يقول بأن زمن طومسون قد ولَّى!!!

(15) «حدوتة قبل النوم» أدِّيــــك في الحُـقِّ سُــجُق!!
قال لي: المهمة ليست صعبة؛ ومعك سيارة مثل الوحش؛ والمسارُ مُحدَّدٌ على خريطة بعلاماتٍ ثابتة واضحة، إن اتَّبَعتَها لا تعرفُ المشاكلُ إليك سبيلاً. وراح يراجع معي بنودَ المَهَمَّةِ، والرسائلَ العينية والشفاهية المطلوب توصيلها. ثم توقف عند صندوقٍ معزولٍ حرارياً، وقال: طعامٌ طيبٌ، وماءٌ قُراحٌ .. زادٌ يكفي ضِعفَ زمن المهمة .. هنيئاً مريئاً!

ولم يفُتْه أن يُذكِّرني: لقد سعيتَ لها، ونلتَها، فأرنا جدارتك بها...

وأستطيعُ القولَ بأنني كنتُ مُقبِلاً في استبشارٍ، وقلتُ لنفسي: مهما كانت العراقيل، سأصيب عين الهدف!، حتى أنني قبِلتُ أن أواصل الاستماع إلى شريط من الأغاني الهابطة، كان هو الوحيد الموضوع في جهاز تشغيل شرائط الصوت. قلتُ لنفسي، لا مجالَ لأن أدع الضيق يتسربُّ إليَّ، في بداية الطريق، من شريطٍ تافه، يثيرُ بعضاً من الضجيج، قد يمكنني تحمله والاستئناس به، فالطريقُ طويلٌ، ولا رفيق .. ليكن هو الرفيق، لم لا؟!

وكانت معالمُ العَمَار تتلاشى شيئاً فشيئاً، وحاولت استخدام الهاتف الخليوي فوجدت الاتصال منعدماً، فداخلني شيئ من التقلقل، وبدأتُ أضيق بالأصوات الشائهة التي يتقيؤها الشريط، فأوقفتُ إذاعته.

ومع انسحاب آخر شعاع نهاري تبينتُ خلوَّ المسار من أي إضاءة، فاعتمدتُ كلياً على أضواء السيارة التي كانت تكشف لي نطاقاً قصيراً من أرض رملية منبسطة، خالية من أي ملامح لطريق.

لم أنتبه إلى أنني لم أتناول طعاماً منذ ساعات طويلة، فقد كانت شهيتي غائبة. توقفتُ قليلاً لأفتح صندوق الطعام وأزدرد منه شيئاً، فوجدته عصيَّاً، لم تفلح معالجتي له. وبينما أنا منشغل به، وجدت أشباحاً تحيط بالسيارة.

خمسة ملثمين. أخرجوني إلى العراء. قال أحدهم: لن نؤذيك ما لم تقاوم. وأحكموا وثاق يديّ وقدميّ، وكوموني في الصندوق الخلفي للسيارة، التي تحركت متمهلة، وكانت تأتيني في محبسي أصوات لهم متداخلة ومقهقهة.  ولما اكتشفوا جهاز إذاعة الشرائط الصوتية، راحوا يستمعون في نشوة واضحة، وبأعلى درجة صوت، إلى كلمات أغاني الشريط الوحيد:

أديك ف الحق سجق أديك ف الخمسة تنق
أديك كشـاف ع العين هتـشوف الحاجة 2
أديك في السقف تمحر أديك فى الارض تفحر
أديك في الضلمة تولَّع!

كانت كلمات الشريط صلتي الوحيدة، لوقت طويل، بالعالم، حتى أنني كنت أتململ إن توقفت إذاعتها، بل إنني حفظت اللحن، وكنت أردده لأسرِّي عن نفسي .. أديك .. أديك .. أديك ....

(16) أنظر حولك .. كم "مزجنجياً" ترى؟!
لا يمكن لأي إنسان، مهما كانت كمية (النشا) التي نُقِع فيها، إلا أن يتفاعل إيجابياً مع شخصية (مزجنجي) التي أبدعها الممثل القدير، بلدياتي السكندري محمود عبد العزيز.

الشخصية غاية في السوء من الناحية الأخلاقية، فهو مروج مخدرات، بل أسوأ، فهو يغش حتى المخدرات التي يروجها، وأسوأ أيضاً، فهو يروج (غناء) فاسداً، لتكتمل منظومته الفاسدة. ومع ذلك، فإن مزجنجي يحتفظ لنفسه بشخصية جذابة تلقى غطاءً على الأعين فلا ترى الفساد الضارب حوله وبداخله.

من أسباب تمكن الفساد في حياتنا وجود مئات الآلاف من المزجنجية في مختلف قطاعات الدولة.

(17) مِخلتي ..!«صورة قصصية»

تظل (المِخلَة) – المخلاة - عالقة بالمُجنَّد منذ أن يستلمها بمحتوياتها في مركز التجنيد (منذ أن يأمرُك الرقيب قائد طابور المستجَدِّين، كما أمر إسماعيل ياسين ورفاقه: مخالي شِــل)، حتى يُسلَّمها بمحتوياتها عند انتهاء زمن تجنيده. لا ترضى بغير ظهره مستقراً لها، فكأنه جُنِّدَ ليحملها أينما تحركت الوحدة التابع لها، وليحمل معها همَّ صونها حتى لا يعبث بها الجنود اللصوص.

أحياناً تكون المخلة مقعداً له. وقد يستخدمها وسادةً، ليس لأنها تصلح كمقعد أو كوسادة، ولكن طلباً للاطمئنان عليها وعلى محتوياتها. فالتفريط في المخلاة جناية عسكرية، وسُبَّة في جبين الجندي المفرِّط. رأيتُ بعينيَّ جندياً مُستجَدَّاً يحيط قدمه، أثناء نومه، بالرباط الحاكم لفتحة المخلة، فينتبه لأي محاولة فتحها والعبث بها وهو نائم!.

وتورِدُ المعاجمُ معنى المِخْلاَة - أولاً، وفي الأصل - ككيس يعلَّق على رقبة الدَّابّة يُوضع فيه عَلَفُها!. ثم تضيف المعنى الآخر: كيسٌ يحوِي لوازم ومُهمَّات الجنديّ!

ولم أكن أهتم كثيراً بمخلتي ومحتوياتها. كنت أطمئن إلى أنها (موجودة)، وإلى أنني عندما أحتاج منها إلى قطعة ملابس، أجدها. ولعل مرد ذلك عندي كان اطمئناني إلى أن علاقتي بمعظم إن لم يكن كل من خالطُّهم من جنود كانت قائمة على المودة والاحترام.

غير أن مخلتي لم تكن، فقط، للملابس العسكرية والمهمات، ولكنها كانت (رف) كتبي ومجلاتي، و(درجاً) لأوراق الكتابة والأقلام. وكان ذلك الجندي القنائي الطيب الرائع، رفيق (الدشمة) يعرف طريقه إلى مخلتي لينتقي منها مجلة أو مجلتين كان بقية الجنود في السرية يتداولونها معه (خلسةً)، من أجل صور نساء عاريات.

وقبل يوم أو يومين من انتهاء فترة تجنيدي التي امتدت لأربع سنوات، وهي في الأصل سنة واحدة، قال لي الرقيب المسئول عن (المهمات): سأتسلمها منك، شرط أن تكون بكل ما فيها من كتب ومجلات. وقد كان.

الغريب هو الشعور بعد (التخلص) من (صحبة) المخلة لأربع سنوات. شعور بالراحة بعد انزياح عبء، يخالطه قدر من الإحساس بالفقدان!

(18) طلَّــع سِــــلاحـك مُتكامِــل ..!!
إنتصف الليل، وفي الشارع، تحت حجرتي مباشرةً (جوقة) من الأطفال، تردد، بدون أي خطأ، كلمات:
ما فيش صاحب بيتصاحب

ما فيش راجل بقى راجل
هنتعامل ويتعامل
طلع سلاحك متكامل
هتعورني هعورك
ونبوظ لك منظرك ...

سيكون من بين هؤلاء:  بلطجية المستقبل - لصوص المستقبل - مدمنو المستقبل - نزلاء سجون المستقبل.

لم نكن مخطئين حين طالبنا بقاطرتين (تجُـرَّان) مجتمعنا:

1 - الثقافة .. وثقافة الجماهير البائسة على نحو خاص، والأطفال والناشئة على نحو أخصّ.

2 -  البحث العلمي (أعد دراسة الآن عن تاريخ بداية ارتباط البحث العلمي بالتنمية R&D في الولايات المتحدة الأمريكية .. الارتباط الذي جعل أمريكا على ما هي عليه الآن)....

 نحن الآن نقترب من الفجر، في مالطا!!

(19) سليم أنطون مرقس .. الذي هو قنـــاة السويــس!
اجتذبني لدراسة العلوم، وللتخصص في علوم البحار العملاقان: حسين فوزي، وأنور عبد العليم (مع حفظ الألقاب والعرفان والتقدير). ولم أكن أدري أن كل من سيكون لي حظ التتلمذ عليهم في هذا القسم هم من العمالقة، أيضاً: جورج أتناسي بطرس، ويوسف حليم، وسعد الوكيل، وألطاف عزت .. وسليم أنطون مرقس.
كانت الدراسة في هذا القسم بمثابة المجال الحيوي المشبَّع بالطاقة الإيجابية. علاقة مودة غير اعتيادية. لا أعتقد أن السبب وراءها كان - فقط - عدد الطلاب المحدود (11 طالباً وطالبة)!، وإنما كان - بالدرجة الأولى - ما توفَّرَ في أساتذتنا من رقي وإنسانية وعلم غزير.
في الثامنة تماماً، كان سليم أنطون مرقص يدخل، كأن موجة أثيرية فتحت الباب، ولا يهتم بأن يغلقه خلفه. ويقف لحظات يستطلعنا بوجهه الذي تفترشه في كل الأحوال ابتسامة هادئة، كأنه يطمئن على أحوالنا. ثم يمسك قطعة الطباشير، ويبدأ في رسم قطاعات ومنحنيات لكتل مائية تتحرك متفاعلة مع درجتي الملوحة والحرارة، وتيارات بحرية تجري بحذاء الشواطئ، ترسم ملامح استقرار البيئة البحرية.
كان لا يتوقف إلا بانتهاء ما حدده من نقاط تغطي الموضوع، وهو واثق من أننا نتابعه، حتى أولئك الذين (يسقطون) منه في السياق، بسبب قصور في الفهم، فإنهم يستمرون في الإنصات، فأسلوب الرجل يمسك بتلابيبنا جميعاً.
فإن تحدث سليم أنطون عن قناة السويس وهيدروجرافيتها، أي العلاقات البينية بين كتل المياه فيها وعلاقتها بتغير تدريجي في درجة الملوحة، من ملوحة البحر الأحمر العالية، إلى البحر المتوسط الأقل ملوحة، فإنه يبدو وكأنه يتحدث عن شارع يمشي فيه كل يوم، يعرف كل شبر فيه.
وربما كان سليم أنطون يستعين بمدونات له عند ما يحاضر في موضوعات أخرى عامة، أما عندما يكون في (حضرة) قناة السويس، فلا ورق، ولا توقف - حتى - لالتقاط الأنفاس، ولكن تدفقاً سلساً من معلومات، كما لو كان مريداً بين يدي شيخه، أو عاشقاً يدبج قصيدة عن معشوقته.
ومنذ ذلك الوقت - أواخر الستينيات - لا تذكر قناةُ السويس أمامي إلا وأتذكر اثنين: جمال عبد الناصر، وسليم أنطون مرقص، فالأول استعاد القناة، والثاني انقطع لدراستها، بعد حصوله على درجة الدكتوراة من جامعة (كيل) الألمانية، ونشر عشرات الأوراق البحثية عن كيمياء وهيدروجرافيا القناة. وكانت تلك الأبحاث الأساس الذي قامت عليه جهود جيل تالٍ عكف على دراسات موسعة للقناة.
وقد واكب ذلك ظهور اهتمامات بالآثار الغارقة، أسهم فيها سليم أنطون بكتاب ممتع، نشرته دار المعارف بالعام 1965، وعنوانه (حضارات غارقة – قصة الكشوف الأثرية تحت البحر)، كان لي حظ أن حصلت على آخر نسخة كانت متوفرة في (مخازن) دار المعارف، وسوف أسعى، بعد مراجعة المؤلف، لإعادة نشر هذا الكتاب المفيد المهم.
وفجأة، غاب سليم أنطون. وجد أن ثوابت هيدروجرافيا المجتمع تختل، وقد أتت قوانين جديدة تحكم عملية (الطفو)، فنجا بقامته السامقة، وخسرته مصر، لتكسبه المجتمعات العلمية العالمية، حيث عمل باليونسكو حتى صار رئيساً لقسم علوم البحار بها.
وبرغم بعده عن مصر، فقد كان متواصلاً مع تلاميذه وأصدقائه فيها، وكان يزورها من حين لآخر، حتى تقاعده، وهو يقيم الآن بالولايات المتحدة الأمريكية. وكان يمد يد العون لكل من يطلب مساعدته من المبتعثين المصريين.
أستاذي العزيز .. لن ينساك أحباؤك وتلاميذك .. لن ينساك تاريخ علوم البحار .. لن تنســـاك مصر .. لن تنساك قناة السويس!

(20) الحَشَــــــفُ
إهتممت في سنوات عملي بمعهد علوم البحار، بدراسة ظاهرة مخربه هي (الحشف البحري) Marine Fouling. إنها لا تظهر إلاَّ إن واتاها ظرف مناسب، لا تفلته أبداً. هذا الظرف يكون إما (نتوء) جزء من اليابس فوق سطح الماء، أو مجيئ جسم طافٍ، أو إقامة منشأة بحرية أساسها وعمادها في الماء.
تحتشد قدرات الحشف، فكائناته من (الكوادر) فائقة التدريب على القيام بأدوار محددة لا تخطئها، فتتوالي الأدوار في (تتابع) شديد الإحكام.

تبدأ (البكتريا) البحرية بالالتصاق بالمناطق التي تتموج حولها المياه جيئة وذهاباً، مكونةً سطحاً لزجاً، مناسباً تماماً لأن يلتصق به (فصيل) آخر من مكونات الحشف البحري، هي العوالق النباتية، وهي نباتات مجهرية، يأكلها أفراد (الفصيل) التالي، من الهائمات الحيوانية، وهي كائنات دقيقة، توفر مع ما قبلها الغذاء لمجموعات أخرى من كائنات الحشف، ما إن تشعر بتوفرهما عند تلك البقعة المغمورة أو شبه المغمورة بالماء حتى تسرع إليها.
يفضل بعض المجموعات القادمة من أجل الغذاء أن (يستقر) .. فما دامت فرص الغذاء متوفرة، والأحوال عال العال، فلم لا نفترش المنطقة ونفرض سطوتنا عليها؟!
من هذه الكائنات المحتلة التوسعية نهازة الفرص السهلة: مجموعة من الديدان البحرية لها أشواك أو أرجل عديدة، تبني لأنفسها في التجمع الحشفي مساكن كلسية قوية، تلوذ بها في الملمات؛ وأنواع من القشريات ذات الهياكل الصلدة، تغرسها في أسطح الأجسام المحتلة، هي (الأطومات).

وبمرور الوقت، يتزايد حجم ومساحة الموقع المعطوب بالحشف، وتتراكم مستعمرات أنابيب الديدان وهياكل الأطومات، بل إن الأجيال القديمة منها تهلك تحت هياكل الجديدة.

وهكذا.. نجدنا أمام تجمع لم يكن يجد المأكل، فلما وجده، احتل المطعم!

فإن كان السطح المصاب بالحشف قاع سفينة، ازداد وزنها، وقلت سرعتها، وارتفعت كلفة وقودها. وتزيد الخسائر في السفن الحربية التي تفقد أهم ميزاتها: السرعة.

يحتاج الحشف إلى خطة للتخلص منه. ويا قوم:  إن الحشف قـد تفشى، وأثقل سفينتنا، ويكاد ينزل بها إلى القاع ..وأي محاولة للـ (تعويم) بغير التخلص من أثقال الحشف، لا قيمة لها، وإهدار للوقت والجهد والمال.

تخلصوا من الحشف أولاً .. قبل أن تغرق السفينة!

(21) «القحبــةُ سِـــــتُّ جيرانها!»

تلقيت مكالمة منذ دقائق، علمتُ منها أن مناقشة حادة جرت في اجتماع لمجلس إدارة اتحاد الكتاب المصريين، بين عضو ورئيس المجلس.
تحدى العضو رئيس المجلس أن يثبت بالوثائق أنه حاصل على:

= بكالوريوس الهندسة.
=
ليسانس الآداب.
=
دكتوراه الآداب.

وأن السيد (الأستاذ الدكتور) رئيس الاتحاد المعظَّم وعد بإحضار الوثائق في الجلسة التالية، ولم يفعل حتى الآن.

لستُ مندهشاً، فخبرتي بالانتحال والمنتحلين طويلة طويلة .. مريرة مريرة. حتى أنني صرت لا أستبعد، مثلاً، أن يكون (أحمد زويل) قد حصل على الدكتوراه ونوبل، انتحالاً، أما الماجستير فأنا واثق منه، لأنه حصل على الدرجة وأنا في السنة الثالثة من الدراسة في علوم الإسكندرية!

لستُ مندهشاً، لأن في مصر (موضة) أكاديمية، هي الباب الخلفي لتسلل لصوص العلم والمنتحلين والمتاجرين بالدرجات العلمية والوظيفية الأكاديمية، وأقصد بها (اللجان الموازية) .. لجان تعطي لنفسها الحق في أن تحل محل لجان المجلس الأعلى للجامعات، في مجال واحد فقط، هو الترقية إلى درجتي الأستاذ المساعد والأستاذ.

أعرف أستاذ فلسفة تمت ترقيته ترقيةً (موازية) من مدرس إلى أستاذ، في قفزة واحدة جبارة، تشبه ألعاب القفز بالزانة!. أترك لكم تخيل (معاملات) و(تعاطيات) و(أسعار) هذه السوق الموازية!

ونحن لسنا في هذه (الخيبة) وحدنا، فالمؤكد أن (التدليس) صفة (كامنة) في الجينوم البشري، تنشط من وقت لآخر.

في منتصف الثمانينيات، جرب فريق من العلماء أن يراجعوا المقالات العلمية المنشورة في ست مجلات علمية ذائعة الصيت، فوجدوا أن بعض المؤلفين وقع في أخطاء الاقتباس والنقل من المراجع بنسبة 15%، كما ضبطوا 16 حالة تزوير علمي، معظمها في مجالي علوم الحياة والطب. ووجد أحد علماء جامعة أديلايد أن 2% من المقالات المنشورة في المجلات المتخصصة بعلوم الحياة، الصادرة في سنة واحدة، تمت إجازتها للنشر بعد إجراء تصحيحات جوهرية أوصى بها المحكمون، وأن بعض هذه التصحيحات جاءت بنتائج مناقضة تماما لتلك التي تضمنتها المقالات في صورتها الأولى!

وفي عام 1986، نشرت مجلة "Nature" تفاصيل أكبر حملة لمطاردة الغش العلمي، قادها عالمان من معهد الصحة القومي الأمريكي، قضيا أربعة أعوام في مراجعة وتدقيق 129 بحثا علميا منشورا باسم الدكتور جون دارسي الذي كان يعمل أستاذا بجامعتي أموري وهارفارد، والذي اتضح أنه وصل إلى موقعه الوظيفي والعلمي المتميز اعتمادا على بيانات ومواد علمية ملفقة، في تخصص حيوي خطير، هو علم أمراض القلب!.

إن اللصوص والمدلسين، أيها السادة، جبناء بطبعهم؛ لكنهم إن باركتهم مجتمعاتهم بالغفلة والصمت، أصبحوا (وقحاء). ويقول المثل العامي البليغ: (القحبة سِـــتُّ جيرانها(!. فإن وجدتم (قحباء) في أي مكان، فلا تهادنوها، لأنكم إن فعلتم أصبحتْ (سِتَّ جيرانها) .. (سِتُّكُم)، وإنما اخلعوا أحذيتكم، تفر من أمامكم!

(22) التشاؤم واليأس
ظلمنا كلمة تشاؤم كثيراً، وألبسناها ثوباً منفراً، خالطين بينها وبين روح اليأس أو انقطاع الرجاء.
فالتشاؤم فكرٌ إيجابي، لا يهمه - بالدرجة الأولى - الأداء الطيب (الذي هو واجب)، وإنما يفتش عن أوجه القصور في هذا الأداء، ليكتمل. والتشاؤم أقرب إلى التوجه النقدي الذي يحتاجه العقل العربي الذي صُكَّتْ جيناته من (نقليات).

إذا كُسِرتْ ساقٌ، هل نكتفي بالتفاؤل، ونحاول إقامة الجسم مكسور الساق، مرددين بـ (طيبة) بالغة، كالعادة: (مافيش حاجه .. الحمد لله ..)؟.
التشاؤم هو (المسح الإشعاعي) للساق المكسورة، تأكيداً لوجود الكسر، وحجمه، ونوعه، تمهيداً لدور طبيب العظام. واليأس هو الإسراع بالعمل على بتر الساق المعطوبة.

أحسنوا الظن بالتشاؤم والمتشائمين، إن لم يصلوا إلى طور اليأس.

(23) لازلنـــا ننتظــر ..!
في أحيان كثيرة تهديني ذاكرتي المتهالكة أشياءً اختزنتها سنوات طويلة، تلتمع فجأة من تحت أتربة الزمن وطيَّات النسيان؛ وأحدث هذه الهدايا النادرة فكرة (الخطوة المحددة لسرعة التفاعل)، أو  rate-determining step، التي يعرفها دارسو فرع من الكيمياء، هو الكيمياء الطبيعية، وهي تحاول تفسير مجريات أحداث تفاعلات مركّبة.

فقد كنت غارقا – كحال الغالبية العظمى من المصريين – في حيرة شديدة إزاء ما يجري في الوطن من أحداث بعد يناير 2011، فانتشلتني هذه الفكرة من حيرتي؛ فالخطوة المحددة لسرعة التفاعل الكيميائي ترتبط بتفاعلات معقدة، يشترك بها ويتداخل فيها عدد كبير من جزيئات المركبات الكيميائية. وهنا وجه شبه بتفاعلات مجتمعنا المعقدة، التي يتفاعل، أو (يتناحر) فيها عدد كبير من المركبات، آخذ في التنامي؛ ولاحظ، مثلاً، أن عدد ائتلافات شباب الثورة تجاوز المائة والعشرين ائتلافاً!؛ وتختلف جزيئات المركبات الكيميائية فيما بينها من حيث (ميولها) للارتباط أو التفاعل، بعضها ببعض، فإن اجتمع في وسط التفاعل أكثر من مركب، تدخلت الميول الشخصية للمركبات في تحديد (من) من المركبات يبدأ بالتفاعل مع (من). ويصعب شرح طبيعة هذه الميول، ولكنها ترتبط بتوزيع الإلكترونات في المدارات الخارجية لذرات المركبات المختلفة، وبالتالي بقوة وطبيعة الشحنة الكهربية التي تحملها، وهو ما يمكن أن يقابله في عالم التفاعلات، أو الصراعات، المجتمعية البشرية اختلافات النزعات والتوجهات.

فإن كان لدينا في وسط التفاعل خمسة مركبات، مثلاً، وافترضنا أن تلك الميول حددت أن يبدأ المركب رقم (1) بالتفاعل مع المركب رقم (5)، فإن التفاعل يحدث، ويتخلف عنه: مركب جديد، أو أكثر، كما ينتج عنه كمية من الطاقة تقدح زناد تفاعل تالٍ، بين المركب (2) و (4)، مثلاً، بنواتج مماثلة، وقد يزيد فيعطي – إضافة إلى الطاقة – أصوات فرقعة، أو فوراناً، أو دخاناً خانقاً، أو لساناً من لهب. ولا يجد المركب رقم (3) نفسه إلا متفاعلا مع ناتج تفاعل (2) و(4)؛ وهكذا .. تستمر السلسلة إلى أن ينتهي التفاعل، ويخمد كل ما تولد عنه من ظواهر استثنائية، ويتبدى، بين الرماد، الناتج المرتجى، ينتظر يداً تمتد إليه لتزيح عنه رماد التفاعلات، لتتجلى حقيقته للناظرين. لكن ذلك قد يطول زمناً أكثر من الزمن الذي تستغرقه التفاعلات الاعتيادية، ويعتمد هذا الزمن على طول خطوة، هي كلمة السر .. إنها الخطوة المحددة لسرعة التفاعل.

فإن آمنَّـــا بما تقوله الكيمياء الطبيعية، فإن تفاعلنا المتسلسل المعقد تدور رحاه الآن؛ وإن الخطوة المحددة لسرعته قادمة، لا محالة؛ فقط .. علينا أن ننتظرها، صابرين آملين.

(من كتابي: "كيمياء الثورة" - إقرأ - دار المعارف(.