بلغة سلسة يحكي لنا القاص العراقي قصته التهكمية الساخرة عن طرائف يوميات عيشه كلاجئ عاطل عن العمل في أمريكا وكيف تتقاذفه التفاصيل التي ينساق معها فيقع في إشكالات تفصح عن محنة العيش في بيئة غريبة.

عراقي يا حلوتي

رياض كاظم

أعتدت على الخروج من البيت في ساعة محددة، وقت العصر حيث تقف تحت الأشجار جارتي الجميلة مع كلبها الضئيل الحجم، أحييها وأحيي الكلب والأشجار والطبيعة، يهز الكلب ذيله ويعوي حينما يراني، تبتسم بوجهي الجارة وتنحني على كلبها لتهدأ من حماسته، فتكشف عن ثديين (سبحان الخلاق، سبحان مسير الأفلاك).

الحياة جميلة، هكذا كنت أردد رغم شحة المال وقلة الأصحاب والأعمال ووفرة الفواتير وغلاء الأسعار، الحياة جميلة، فجارتي الجميلة تظن أني من أصل هندي وأني أعمل طبيباً ( كل الهنود في أمريكا أطباء)، وحينما أخبرتها بأني لست طبيباً ارتسمت على وجهها علامات الخيبة والإشفاق، وعندما أخبرتها بأني بدون عمل كادت تبكي، لكنها استدركت وقالت: .

- أنت هندي أليس كذلك ؟

لم أرد أن أخيبها أكثر فقلت:

- نعم، هندي من بلاد البوتان واسمي شاروخان.

صفقت بيديها من شدة الفرح وقالت:

 - في بلدكم أفيال كثيرة؟

- نحن نرعى الأفيال وندجنها كما تفعلون هنا مع الكلاب

- أنت مدرب أفيال إذن؟

- نوعاً ما

قالت وهي ترقص:

 - وجدت لك عملا، تعال غداً إلى حديقة الحيوان، نحتاج إلى مدرب أفيال يعتني بالفيل الصغير الذي اشتريناه مؤخراً.

أردت أن أبرر كذبتي وأشرح لها ظروفي، لكنها أكملت:

- أنت تحب الأفيال!.

لم أستطع أن أقول لها بأني لم أر فيلاً بحياتي خوفاً عليها من الصدمة، فقلت:

- بالطبع أحب الأفيال!.

- إذاً .. حصلت على وظيفة.

في الصباح اتجهت إلى حديقة الحيوان وأنا مهموم مغموم، خجل وخائف وحيران، ما علاقتي أنا بالأفيال والحيوانات، من أين أتيت لروحي بهذه البلوى؟ رفعت رأسي للسماء ووعدت الله بأن لا أكذب ثانية إذا ساعدني بالتخلص من هذه الورطة.

وجدتها تنتظرني بوجه مشرق وابتسامة ملائكية:

 - تعال، تعال

أخذتني إلى قفص الفيل، كان القفص واسعاً فيه شجرتان كبيرتان ليستظل تحتهما الفيل، وهناك بركة مملوءة بالماء والطين من أجل استحمامه، إضافة إلى خرطوم ماء وفرش خشنة لتدليك جسده وتمشيط ذيله وتسريحته. قدمتني للفيل الهائل الحجم: - هاي ( گليگنت ) هذا مدربك الجديد شاروخان . شاروخان هذا گليگنت

قلت وأنا مصفر الوجه:

- هاي گليگنت

ثم شرحت لي أوقات استحمامه وعلفه وراحته، ثم جولته المسائية المعتادة، إذ إنهم يعمدون على منحه ساعة رياضة، ليتمشى في الحديقة خوفاً عليه من السمنة

قالت:

 - سأعود بعد ساعة أو ساعتين للاطمئنان عليكما، ولمعرفة سير العلاقة بينكما

قلت:

 - نعم، نعم

جلست بالقفص قبالة الفيل، أنه هائل الحجم كعمارة من طابقين، تمدد في البركة الطينية وأخذ يتمرغل ويقذف الطين من خرطومه كالنافورة، سقط الطين عليّ وتيبس على وجهي وملابسي.

قلت:

- ولك گليگنت، كافي لعب.

لكنه لم يكف عن عبثه، فتمنيت لو أني أعرف بضعة كلمات هندية لكلمته بلسانه وأنهيت المشكلة.

انتهى الفيل من حمامه الطيني ووقف قبالتي كأنه ينتظر مني فعل شيء ما.

قلت:

- شكو ماكو رفيق؟.

وقف قبالتي صامتاً وحزيناً.

أكملت:

 - سندخن الآن ثم نتفاهم.

رفع گليگنت أذناه كأنه فهم ما أقول، تلفت من حولي فلم أر أحداً يراقبني، أخرجت سيجارة وأخذت أدخن وانفخ الدخان بوجهه، فبانت ابتسامة جميلة على فمه وأقترب مني أكثر وأخذ يشمم وجهي بخرطومه.

في تلك الأثناء مرت السيدة وحينما رأتني وگليگنت بتلك الوضعية الحميمة، قفزت من الفرح، أخفيت عقب السيجارة بجيبي وأخذت أتحدث بالهندي مع الفيل

قالت:

- هذا عظيم، ما أسرع ما أصبحتما صديقين، أنا فخورة بك وبنجاحك بعملك، لم يبق عليك شيء سوي أن تأخذه في نزهته العادية.

قلت:

- هيا يا گليگنت، تعال لنتمشى يا صديقي.

مشيت قدام الفيل الجبار وهو يتهادى خلفي بسكونه وهدوءه المعتاد.

الغربة الطويلة والوحدة منحتني حالات شرود ذهني، أنسى سريعاً، أتيه سريعاً، نسيت نفسي، نسيت گليگنت، خرجت من حديقة الحيوان باتجاه شقتي، لم يكن هناك أحد في الشارع، اليوم هو مساء الأحد والناس يهجعون إلي غرفهم مبكراً، الجو جميل وصاف، أمشي وأدخن وأفكر ماذا سأطبخ للعشاء.

وصلت إلى شقتي، أدرت المفتاح بالقفل فشعرت بخرطوم گليگنت يداعب شعري

صرخت:

 - گليگنت!.

ماذا سأفعل الآن بهذا المخلوق الكبير، كيف لي أن أعيده إلى مكانه ثانية في هذا الوقت المتأخر، لابد أن الحديقة أغلقت أبوابها ؟

بقيت أفكر لدقائق ثم قررت أن أبقيه معي في الشقة إلى الصباح، لحسن الحظ أن غرفة المعيشة كبيرة نوعاً ما، تكفي لجسده، أدخلته بصعوبة وطلبت منه أن لا يتحرك كثيرا.

وقف الفيل وسط الغرفة كطفل مطيع، وكنت حينما أتجه للمطبخ أو الحمام أخرج من بين رجليه، وحينما أعود أدخل من بين رجليه، تعشيت وأنا أشاهد برنامجي المفضل في التلفاز من بين خرطومه وأذنيه.

سمعت طرقاً على الباب، لم يطرق أحد بابي منذ زمن طويل، فتحت الباب، أنها جارتي العزيزة مع كلبها، تسمرت السيدة بمكانها حينما رأت المنظر، ألجمتها الدهشة فتمتمت:

- كيف حدث هذا يا الهي ؟

قلت:

 - لا تقلقي يا عزيزتي، سأعيده لمكانه في الصباح.

اهتاج الكلب كالعادة فأفلت من حضنها وقفز على الفيل ليلاعبهُ، عض ذنبه وبقي معلق به، جن جنون الفيل فحطم التلفاز والمقاعد وجهاز الكمبيوتر وخرج يركض في الشارع والكلب عالق بذنبه

صرخت السيدة:

 - كلبي المسكين، سيقتل كلبي الصغير

ركضت وراء الفيل والكلب العالق، أمسكت بذيل الكلب وبدأت أجر وأجر دون جدوى، ركضت السيدة خلفي وأمسكت بقميصي وأخذت تجرني وأنا أجر الكلب، والفيل يجرنا جميعاً.

قالت السيدة - قل له شيئاً بالهندي حتى يتوقف ؟

قلت:

 - لكنني لست هندياً.

- ماذا أنت أذن؟

- أنا عراقي.