بسردٍ ممتع محكم تروي لنا القاصة التونسية تجربة حب أولى زمن البراءة وذلك اللقاء القديم الذي أثاره مرأى أطفال المدارس وهم يمزحون في الشارع، لقاء شجن شاعري يحوم هاجس القبلة الاحتكاك الجسدي لأول مرة في روحيّ العاشقين الصغيرين البريئين

يحط الحمام

سهى بخـتة

الأولاد العائدون إلى بيوتهم من المعهد، نسمة المساء تجربهم، تتحدى صوتهم المتعرق، فيرمون حمامات جارنا بالحجر كي تطير. و يراقبونها وهم يضحكون. لا أدري ما المضحك جدا في رؤية الحمام يطير، أراهن أنهم لا يعرفون قصيدة درويش هؤلاء العفاريت. يعبثون بالوردة المتدلية من حديقتنا. الأمر مربك فقد كانوا في البداية يريدون فقط قطف الورد فوجدتهم رقيقين للغاية، لابد أنهم يريدون إهداءه لشخص ما لكن ما إن نهرتهم أمي عن ذلك صاروا يمطرون الحديقة هي الأخرى بالحجارة ويضحكون، وهم يراقبون عصافير الأصيل تغادرها مذعورة. لا أدري حقيقة ما المضحك في ذلك لكنني أستمتع بفعلتهم تلك حتى أني أصعد إلى الشرفة لأراقبهم يفعلون. لا شيء يتعبهم أبدا، يفعلون ذلك كأنه أمر يجب القيام به، أحيانا تخرج جارتنا وتصرخ بأحدهم، "أنا أعرف والدك" فيتمتم "أنا أيضا أعرف والدك"، فيضحك أصدقاؤه.

عندما كنت في سنّهم، كنت أحب أن أراك، والوقت الذي أمضيه كي أعد خطة محكمة لرؤيتك أحبه أيضا، أفكر الآن أنني لو طلبت الإذن للخروج ورؤيتك لكان ذلك أسهل وربما ما كنت أحببت رؤيتك بذاك القدر. كم؟ حسنا، إلى درجة أني لا أستطيع تصور ذاك الشعور الآن. أذكر عندما أردتَ أن تتحدث معي لأول مرة وأنا كنت اعتقدت أنك لا تعرف أني موجودة في هذا الكون، فاتصلتَ ببيتنا وكنتُ على طاولة الطعام مع عائلتي وأجاب والدي الذي ناولني الهاتف. صار قلبي يخفق و ظننت أني سأموت. ارتبكت و لم أعرف ماذا أقول لك. وضعت السماعة وفكرت أنك ستكرهني، لكنك كنت طائرا مرتعشا مثلي وظننتَ أني أكرهك وأنا كرهت الطعام وأبي وأمي لأيام. أتذكر أيضا عندما نظرت في عيني مباشرة لأول مرة، كانت تلك بداية العالم و نهايته و كل شيء، و أتذكر جيّدا ذلك المكان الوحيد الذي تأخذني إليه، و لا أعرف لماذا؟ في البداية ظننت أنك تريد تقبيلي دون أن يرانا أحد، لكن يبدو أنك كنت أصعب من أن أفهم كل ما تفكر فيه. كنت أحب تلك الرحلة الطويلة إلى ذلك المكان، كنتَ تسير قربي و لا تتكلم، فلا أتكلم، ثم يخطر ببالك قول شيء وسط حكايتي، فأتوقف عن الحديث كي أتأملك... لتقول: "انظري إلى مدينتنا من هنا كم هي صغيرة". ثم نسير مجددا إلى أن نبلغ البناء المهجور فتمسك بيدي لأصعد على الحجرات   و نبلغ سطحه وأفكر أنك ربما ستنحني في أي لحظة و تقبلني، ثم ترعبني فكرة أني لم أجرب ذلك يوما و قد تتركني لأني لا أجيد التقبيل، نقف في الصمت الممتد كسهل فسيح، السماء تصبح برتقالية، و النسيم يهب علينا و نحن متعرقان من طول المسير و يخيّل إليّ أني سأمرض، لكن وهجا داخليا يتصاعد فيّ لأنك تتكلم مجددا و تقول: "انظري إلى مدينتنا كم تبدو صامتة من هنا"، ثمّ تأخذ حجرا بيدك و تلقيه بعيدا بمهارة عالية و قوة و سرعة حتى أنها تصدر صوتا كالريح وهي تخترق الطريق الذي سرناه إلى هنا، فتنتفض العصافير من بين النباتات و تملأ المكان بغنائها المزعج وتشرع أنت في الضحك.