قدم المسرحي العراقي في عدد أغسطس من (الكلمة) تحليلا لنص شكسبير الفريد (رتشارد الثالث) وها هو يكشف في تناوله لعرضين دانماركيين لها عن مدى معاصرة هذه المسرحية العميقة وراهنيتها.

شكسبير والوجه القبيح للطاغية

فاضل سوداني

 

 

حصان.. حصان مملكتي مقابل حصان

تحرص أغلب مسارح العالم في ربرتوارها على تقديم ريتشارد الثالث بشكل متواصل، لان معالجة التاريخ المعقد للعنف وهستيريا الروح المعاصرة على خشبة المسرح كعرض مسرحي تحتاج عقلا شموليا كالعقل الشكسبيري، وشخصية متكاملة العنف التراجيدي والبناء الفكري والسايكولوجي ـ المرضي مثل ريتشارد الثالث أو ماكبث، من اجل الوصول الى الجوهر الحقيقي للبطل للمعاصر، حيث يتميز زماننا بوجود الكثير من الطغاة المتماهين مع هذا البطل الشكسبيري. وقد قدم ريتشارد الثالث في كوبنهاغن في مسرحين مختلفين، ومن قبل مخرجين معروفين، احدهما كان في المسرح الملكي باخراج Jan MAGAARD، والمخرج الاخر هو Peter Langdal في مسرح Betty Nansen. وهذان العرضان طرحا رؤيتين اخراجيتين مختلفتين لتحقيق معاصرة ريتشارد. إذن ماهو السؤال الجوهري الذي حاول كل منهما أن يقلقنا به من خلال عرضيهما؟

 

إختزال التاريخ سايكولوجيا

تركز الهاجس الاخراجي للمخرج Langdalعلى ان يتماشى النص مع اقصى درجات المعاصرة من خلال مناقشة المشكل او المرض الوجودي الذي أقلق ريتشارد الشكسبيري، والذي مازال يقلقنا حتى اللحظة، مما تتطلب الامر اعدادا جديدا للنص. فالبطل منذ البداية يتكثف لدية الشعور العدمي ليؤمن بان الممالك هي خواء ورماد كلها. إضافة الى التأكيد على التاريخ البشع للحرب كخلفية لوحدة البطل وعزلته المرضية، لانه البطل المهزوم الذي يعيش حياة تشبه تلك المرآة المرائية المشروخة من اليأس والضجر واكتشاف هشاشة الوجود. ان مثل هذا الوعي أدى إلى اختزال فضاء العرض المسرحي في مسرح Betty Nansen الى غرفة مظلمة تثير الوحشة كأنها مشفى للامراض النفسية، محاولا ان يدفعنا الى ملامسة التاريخ المرضي والسايكولوجي لملك كان مشوها روحيا بتاثير قبحه وحدبته التي تحني ظهره وتشوه جسده. وقد فسر المخرج هذا التشويه، بكونه تشويها في داخل ذاته أدى الى شرخ روحه أساسا، لهذا لايمكنه ان يحب، وهذا ماافترضه ممثل ريتشارد Jesper Christensen مؤكدا على عزلة البطل لكونه (إنسان مملوء بالكره والقرف الذاتي او الشعور بالكآبة لسبب او لآخر. وبهذا فانه يكثف مكونات الصورة للذات المعزولة). والإعداد الجديد اختزل شخصيات المسرحية الخمسين تقريبا الى ممثل واحد وحيد معزول متوحد مع جثة فتاة، وبهذا اصبح ريتشارد الثالث كائنا محكوما بالوحدة القاتلة، منخورا باستلابه المعاصر لدرجة ان وحدته تمتد الى عزلة وغربة العالم المحيط أي إلى عزلة الآخرين المحكومين باليأس كمرض حتى الموت.

ويعتقد المخرج Langdal بان النص يسمح بمثل هكذا إعداد لدرجة وأنه المفروض ان يكتب كهذا الاعداد (في النص الشكسبيري، هنالك تركيز مكثف على شخصية ريتشارد كبطل، كما هو الحال بالنسبة الى هاملت او بييرجنت بطل إبسن. اما الشخصيات الاخرى، فتبدو وكأنها ظلال او فيكورات في المجرى التاريخي. وبالرغم من هذا فان البطل ريتشارد معزول ووحيد بكامل وحدته، وهذا ماأثار اهتمامي. وعندما أخرجت مسرحية روميو وجوليت في ستوكهولم، كنت أشعر مرارا عديدة بالارهاق من وجود شخصيات كثيرة في المسرحية تبدو وكانها محشورة في السياق العام. وهذا ماحفزني لاخراج المسرحية بروميو وجوليت لوحدهما).

 لهذا السبب بنيت الرؤيا الاخراجية واعداد النص على منولوج ريتشارد الاخير الذي يعبر عن عزلته الذاتية القاتلة : ريتشارد : (بعد ان يستيقظ من كابوس الاشباح) ولكن من أخاف؟ نفسي؟ ليس هنا أحد غيري، ان ريتشارد يحب ريتشارد، اني أنا.. هو، أنا، أهنا من يريد ان يغتالني؟ كــلا.. أجل أنه أنا.. اذن لأهرب.. ولكن أأهرب من نفسي؟ ياله من سبب، ولماذا؟ …..الخ)( ترجمة عبد القادر القط) انطلاقا من هذا الحوار حاول المخرج والممثل الوحيد في العرض المسرحي التأكيد على تضخيم الذات الريتشاردية، فكل الاشياء تنطلق منه، كذات مريضة بقلقها الوجودي، لذلك فان التاريخ الذي جعله شكسبير مهيمنا على الاحداث لايلعب دورا أساسيا في هذا العرض، على خلاف العرض في المسرح الملكي.

 

وما الممالك إلا رماد كلها

يعتمد عرض ريتشارد الثالث في مسرح Betty Nansen على عزلة البطل المنقطع تماما عن كل شئ ماعدا ماضيه الذي يشكل كينونة حاضره وهذا يحتم عليه ان يلعب الان جميع ادوار الشخصيات التي شكلت ماضيه والتي تعامل معها وسبب جحيمها او سقوطها أو فنائها، لذلك فان العرض هو منولوج ديناميكي طويل يتداخل فيه الماضي بالحاضر. فالعرض لايناقش الحرب الاهلية (حرب الوردتين) في انجلترا التي استمرت 40 عاما، ولا حتى امتداد دلالاتها للتعبير عن الحرب الاهلية المعاصرة، فهذا تفسير يسهل تأويله لوجود الكثير من الاشارات ـ في النص الاصلي والاعداد الاخراجي ـ. لكن المهم في جوهر العرض كان تراجيدية ريتشارد وذاتيته، من خلال مايرغب ان يضيفه المخرج والمعد والممثل المعاصر، مع حذف كل التفصيلات الاخرى التي اعتبرت فائضة عن النص والعرض.

اذن كان فضاء الاحداث في العرض يركز على ريتشارد كذات معاصرة، تحمل مفهومها الخاص لكل أمراض الانسان وبالذات قلق الموت الذي جسده المخرج بفتاة جميلة وصغيرة كطفلة تائهة في ضباب الاحلام، تستلقي طول العرض على سرير ريتشارد في غرفته الفارغة المظلمة والمريعة كأنها هوة شيطان (حيز العرض)، والتفسير السينغرافي ـ الفضائي ـ علقها بأعمدة نصبت في فضاء قاعة المسرح، مما جعلها تكون بمستوى ارتفاع البالكون الذي احتله الجمهور المحيط بغرفة ريتشارد (عالمه الذاتي) من ثلاث جوانب، واصبح الجزء الاعلى من الستارة الرئسية وكذلك جوانب خشبة المسرح الرئيسية ( لتي إلغيت) الموشاة بالزخارف ذات الطابع التاريخي، بحيث دللت على تاريخية ريتشارد الممارس لوجوده الذاتي المعاصر هو و أشياءه التي تعبر عن عزلته القاتلة، كالسرير بشرشفه الاحمر، وقطعة القماش الملقاة على الارض ومنضدة وكرسي وتلفزيون أبيض صغير ومغسلة يستخدمها ريتشارد للقئ و التبول. وكل هذا كون وجود ريتشارد الغارق في هوة مظلمة من فضاء كأنه الجحيم، غرفة واحدة مملوءة بأسرارها وألوانها الرمادية الثقيلة المعبرة عن دواخل ريتشارد المدمن و المشتت والغارق في خوفه وهوسه وفي ظلام الفضاء المحيط الذي يتقاسمه مع جثة فتاة لا تستيقظ إلا لتراقب جسد الملك المنتهك أثناء تعفنه في لحظة موته.

 وقد برر المخرج Langdal رؤيته الكابوسية هذه في احدى المقابلات بانه عزل ريتشارد في غرفته المغلقة، كإيحاء يعكس دواخله وخصوصياته، أي عزلته الداخلية بالرغم من عنفه المطلق وسيطرته على البلاد، ومما ساعد على تعميق هذا هو أن كلمة الغرفة بالدنماركية تعني أيضا (يصبح او يكون، أو يوجد في غرفة ما،أو في مكان وزمان ما. ويوجد ايضا في غرفته الخاصة، في وجوده وكيانه، انه تأويل واضح. اذن كيف يمكن ان نتصوره وهو في داخل عزلته او وجوده؟) بالتاكيد ان وجود غرفته (الفضاء السينوغراف) بهذا الشكل هو تأويل ودلالة فلسفية عن كينونته، ويؤكد على ان مثل هذا الوجود لريتشارد التاريخي والمعاصر، لابد ان يكون معلقا في مكان وزمان ما. وهو في هذه الغرفة بالذات يتحتم عليه ان يلتهم باستمرار كميات كبيرة من الخمر و الحبوب المخدرة لكي يتقيأ وجوده يقينا. أنه وحيد يخور وهو يدور منعزلا في صيرورته، هائجا، يضع في جيب سترته قنينة خمر كمشرد، مدمن مهوس كالذي نصادفه في زوايا الشوارع الاوربية المظلمة الباردة، تعبث الريح بهيئته وهو ملتف على نفسه لكي يتماسك.

ان المخرج حاول خلق علاقة غروتسكية ساخرة من الحياة والوجود، فحول ريتشارد الى ثرثار كبير مخدر ومضطرب. لان إحساسه بالقلق الوجودي يدفعه الى البكاء بسخرية على جسد المرأة الذي يوحي بالموت. وبالرغم من رغبته ومحاولته ممارسة الجنس مع الجثة ألا ان طراوة بشرتها ورخاوته ينسيه الامر، فيبدا حوارا طويلا مع جسدها، ولكن الاحساس المتجذر بوحدته يدفعه الى الخوف حتى من جسده هو، فيضطر الى التحدث مباشرة مع الجمهور. وان كان لجوءه هذا انقاذا وقتيا له، إلا ان الجمهور يعد غريبا عنه، فما زال الخوف ينخر بداخله، مما يضطره لتمثيل أدوار عدة بما فيها دور الملكة إليزابيث. ومما زاد من عبثية ريتشارد اضافة الى ثرثرته الطويلة، هي سخريته السوداء.وقد عكست الانارة على الجدران الخلفية ظلال ريتشارد الضخمة، وبهذا تحول النص الى كوميديا سوداء ساخرة.

ان شعور الملك بالعزلة يدفعه الى ان يضرب نفسه للتأكد من جوده ومن كونه مازال حيا أيضا، ان يخلق حوارا ديناميكيا مع جسده وأشياءه الاخرى. ان يتحاور مع نظّارته، يتغزل بها، يقبلها، او أن يخلق علاقة حياتية بينه وبين التفاحة الملقاة على المائدة (وهو تأويل مثيولوجي يذكرنا بآدم)، او انه يتحدث مع الكرسي وكأنه إحدى شخصيات العرض، انه يبكي ثم يعتذر الى الجمهور. خلق هذا العرض بطلا معاصرا بملامح شكسبيرية … بطل حمل قلقنا جميعا، وفي ذات الوقت كان قادرا على السخرية منا ومن نفسه والجمهور وخاصة عندما يمثل الموت او عندما ينتحر في لحظة ما، حتى ان الجمهور يعتقد بان العرض قد انتهى، لكن سرعان ما يستيقظ بحيوية وديناميكية اكبر. لذلك فان ريتشارد هنا يمثل تلك الحياة التي لا تعني أي شئ بالنسبة له سوى كونها ماضٍ يقلقه ويخاف من كوابيسه، لكنه يحرص أبدا على استحضاره بسخرية هائلة.

من كل هذا استطاع المخرج ان يخلق من ريتشارد شخصية معاصرة حية، تشبه الى حد كبير المتشردين العظام من معاصرينا. أو على الأقل تعيد إلى ذاكرتنا شخصيات صموئيل بيكيت بتوهانها وضجرها الوجودي. انه ذات متفردة تتمحور مشكلتها في انها تشعر بقرف الوجود وترغب ان تتقيأ وجودها الذاتي. لذلك فان عالم ريتشارد الداخلي المحصور في هذه الغرفة الحمراء الصغيرة تشكل وجوده الصلف والمكثف في الماضي والحاضر.أما الخارج (ألآخر) بالنسبة له، فهو لايعني شيئا، لانه شاشة مشوشة مملوءة بالخطوط البيضاء كما جهد المخرج في تفسيره عندما فتح ريتشارد جهاز التلفزيون، فالبطل هنا يخاف أي تأثير خارجي يربطه بالعالم الآخر، مثل هذا كما الوجود كله يشكل غثيانا بالنسبة له. ولهذا فانه يشعر بالرعب عندما يرن التلفون، ويظل خائفا متلفلفا على نفسه حتى يكف الرنين. ان أي علاقة او ارتباط خارجي يعني خروج ريتشارد من ماضيه الذي هو وجوده كله،اما الحاضر فهو انتهاك للماضي في جميع الاحوال.

 في ختام العرض تقوم الفتاة التي كانت ميتة على السرير وتجلس على كرسي الملك ريتشارد الثالث، فيحتل هو مكانها في السرير (حتمية تبادل الادوار واقنعة الوجود قبل لحظة النهاية الابدية). وعندما تجس وريد الحياة في رقبته وهو نائم، ميت، او مهزوم أمام اعداءه، يصرخ جملته الشهيرة (حصان … مملكتي مقابل حصان). لكن يبدو بان كل هذا بعد فوات الاوان، حيث كان الموت يعبث بروحه. وفي الشهقة الأخيرة القاتلة، يفتح عينيه ليراها، يرى منقذته، حبيبته، حلمه،، أوهامه أو ميتته المأساوية. وبهدوء يموت هذا الديناصور القديم والجديد ليعود الرعد كما في البداية والمطر الرصاصي يهطل في كون مظلم لايعني شيئا ألان بالنسبة له. فتقذف روح ريتشارد في الجحيم، اوتظل ملعونة تتلهى بالطيران الأبدي في سماء الوجود تضغط بكابوسها على أرواحنا.

ان الممثل Jesper Christensen إذ جعل من ريتشارد الملك أحد متشردي عصرنا الماخوذين القساة على ذواتهم ولكن بملامح الشخصيات التاريخية الشكسبيرية العظيمة، ضافيا عليها تلك الروح الشعبية التي يمكن ان نصادفها في الشارع الاوربي ا ليوم.لذلك فان جميع الصفات والإيماءات الفيزيكية كانت مناسبة لخلق شخصية الملك ريتشارد المعاصر. وفي الوقت الذي نكرهه لنرجسيته او ساديته او دكتاتوريته او كونه خائن نذل، في ذات الوقت نحب الممثل، فقدرته الفنية في خلق التنوع الحركي في الفضاء والطبقات الصوتية وايقاعها المختلف والغني، تؤهله على خلق الشخصيات الحية التي يمثلها من جديد. ان الممثل Christensen كان مقتدرا على خلق الإيهام عندما أعاد خلق الشخصيات الاخرى، وبهذا فانه خلق وهم العصر وقلقه ـ الذي يملأ حياتنا ـ على خشبة المسرح.

 

عزلة الطاغية في حروبه المجانية

كانت القررات الاخراجية للمخرج Jan MAGAARD في المسرح الملكي مختلفة جذريا عما قدم في مسرح Betty Nansen، لان العرض هنا ارتبط بكل تفصيلات الاحداث في المسرحية الشكسبيرية بكامل شخصياتها، مع التاكيد على الخلفية التاريخية التي افترضها شكسبير، مما دفع بالمخرج ان يبدأ العرض بشجرة العائلتين الملكيتين يورك ـ لانكستر اللتان تناوبتا على حكم انكلترا،. ان التركيز على شجرة العائلة جعل فكرة البداية تتسم بتعليمية وتقريرية مباشرة، ولايخفي على المشاهد الحاذق والعضوي ان المخرج اراد بهذا ان يؤكد على تكامل ريتشارد تاريخيا وشكسبيريا ومعاصرة ً، وهذا يفترض ضرورة البحث عن لعنة القلق الداخلي لشخصية مثل ريتشارد وأزمته مع تلك التي يصاب بها طغاتنا الملعونين بشراهة الاستيلاء على السلطة. فالظروف والمقدمات التاريخية التي تساعد ريتشارد الثالث في محاولة بناء دولته بهذا العنف، وذاته بهذا التكامل الدكتاتوري العبثي، هي ذات الظروف المعاصرة التي تخلق طاغية معاصر ـ مع الفارق الزمني ـ. ويصبح الامر أكثر قسوة بالنسبة لنا، عندما يتم الصمت على الجريمة المعاصرة بتحويل الانسان الى آلة او لعبة بيد الدكتاتور المعاصر، ويدل هذا في حقيقة الامر على بؤس إنساننا عاصرنا.

وضمن هذا المنطق فان مخرج المسرح الملكي Jan MAGAARD أكد من خلال الكثير من الوسائل التعبيرية المرتبطة بفكره الاخراجي والسينغرافي او بواسطة البعد التاويلي للحركة، على تعطش ريتشارد للسلطة وفرض القوة، واستخدم المخرج وسيلة بصرية عندما قرر ان يبقي التاج الصغير المعلق في فضاء المسرح مضاءاً طوال العرض، وكذلك استخدام الملابس العسكرية التاريخية و المعاصرة. ولتأكيد هذه الفكرة الاخراجية عرض المخرج التاج الملكي ـ دال السلطة والعرش ـ في تسعة شاشات تلفزيونية كانت معلقة في واجهة المسرح، وهذه الوسيلة هي جزء مهم من تحقيقات الرؤيا الاخراجية البصرية. وفي ذات الوقت فهي حلول مهمة للكثير من المشاكل، حيث ساعدت أيضا على عرض جميع ضحايا ريتشارد. فعندما يتم قتل ضحية ما، تظهر على شاشة التلفزيون، وهذه طريقة ووسيلة فنية للتخلص من عرض القتل والدماء والجرائم المتكررة والكثيرة في النص الشكسبيري على خشبة المسرح. وبهذا فان المخرج قد حقق فكرة معاصرة بوسيلة عرض معاصر أيضا، وكأن الضحايا يظهرون على الشاشة للتحقيق معهم او للإدلاء باعترافاتهم ولإعلان إدانتهم على الملأ. وكانت الضحية تمثل الموت على شاشة التلفزيون بطريقة ايحائيا بها يتجه راسها الى الاسفل مع اغلاق العينين ومن ثم جمود في الحركة والصورة STOP KADER، وبهذا فان جهاز التلفزيون فقد وظيفته الاعلامية الواقعية وتحول الى وسيلة للموت ( كما ستخدم التلفزيون والسينما والفديو الان في أقبية التعذيب المعاصرة لخلق التأثير النفسي المطلوب الذي يسرع بانهيار الضحية).

وفي احد المشاهد الممتعة تجتمع العائلة الملكية لإلتقاط صورة ملكية تذكارية (وكانت هذه احدى الوسائل المباشرة لخلق معاصرة العرض) وفي ذات الوقت تعرض العائلة المالكة في شاشات التلفزيون، ولابد ان يتبادر الى المتفرج تأويل هذا التكنيك الاخراجي بان جميع شخصيات الصورة لابد ان تقطع رؤسهم او ان ينفوا من البلاد مستقبلا، وبهذا تحولت اجهزة التلفزيون تأويليا وإيحائيا الى الاعلام والموت، وهذه الوسيلة الفنية أوحت باشاعة الجريمة والموت بين الناس وتأكيد مجانيتهما كما تؤسس الكثير من السلطات الاستثنائية في الوقت الحاضر.

ان استخدام شاشات التلفزيون أدى الى خلق نوع من حلمية والايهام بالواقع، فالحدث المسرحي في عرض ريتشارد الثالث بكل عنفه وقسوته وجحيميته، يصل درجة اللامعقولية حد تمني الجمهور والممثلين ان يكون كل هذا حلما ثقيلا أو كابوسا، وقد عمقت شاشات التلفزيون طابع الحلم الكابوسي الذي يعرض أمامنا في شاشة منفصلة عن الواقع، تعطي الايهام به. وقد استخدمت هذه الوسيلة الحلمية بتأثير كبير في مشهد أشباح ضحايا ريتشارد الذين يغزون كوابيسه. فقد قسم المسرح الى قسمين حيث تظهر الاشباح في ذات الوقت الى ريتشارد والى معارضه ريتشموند الذي يقود حرب ضده لاسترجاع السلطة الشرعية منه. فالاشباح في الوقت الذي تلعن فيه الاول، تمتدح الثاني وتتمنى النصر له. وتستخدم أقنعة متشابهة عند الحديث مع ريتشموند، ففي الوقت الذي نقرأ حوارها معه على شاشة التلفزيون نرى صورهم. ويصاحب كابوس ريتشارد حوافر الخيل وأصوات مطارديه من ضحاياه في الغابات والبراري، انه حلم غريب وحل اخراجي ببعد فكري وتاويلي.

لقد لعب الديكور وسينوغرافيا الفضاء دورا تأويليا ساعد كثيرا في صياغة الفكرة الرئيسية للعرض بمفردات تعبيرية وبصرية، وكذلك عبر دلاليا عن المكان باعتباره فضاء يؤشر عن الزمكان. ومن اجل ان يكون للالوان دورها في فكرة العرض ورؤيا المخرج، يأخذ تأويل الالوان ودلالاتها وايحاءآتها الاشاراتية حيزا في الفضاء. فاللون الأحمر للعرش يفرض وجوده في الفضاء والبصر، ونستنتج بان مثل هذا العرش لم يجلس علية ريتشارد إلا لكونه عرشا ملتهبا بالدماء والأسرار والدسائس والمؤامرات والقتل، إضافة الى ان اللون الاسود هو الذي كان مهيمنا، بحركته في كل اتجاهات المسرح المختلفة، والتي تخلق لنا منذ البداية هوة عميقة في خلفية المسرح. وعندما ينفتح بابا صغيرا يتحول المكان الى سجن، لذلك فان امكانية تحريك قطع الديكور وتداخلها في بعضها خلقت اشكالا ومتاهات ضرورية لفكرة العرض المؤسسة على تأكيد الرعب والاسرار، وقد منح الديكور والالوان والانارة جوا تراجيديا ملغزا للعرض. ولهذا فان الفكر الاخراجي والسينغرافيا خلقتا جوا من العنف الذي افترضه شكسبير، الا انه في ذات الوقت يذكرنا باجواء روايات كافكا او العنف الذي يتراءى لنا أيضا من لوحات بروجل الساخرة.

 

حصان.. حصان مملكتي مقابل حصان

اعتمد المخرج منذ البداية التأويل بالصورة لتأكيد فكرة معاصرة البطل المطلق في عنفه وشروره، لذا فان بداية الفصل الثاني تمنحنا تأويلا تعبيريا في الكيفبية التي اغتصب بها ريتشارد الثالث العرش، حيث يبدأ المشهد بغناء أوبرالي حزين لفرض جوا موحيا يصاحب تتويج ملك مثل بطلنا، وفي ذروة اللحظة المنتظرة بلهفة من قبل ريتشارد يعرض التاج في جميع شاشات التلفزيون، وفي ذات الوقت يهبط التاج المعلق والمضاء في فضاء المسرح من أجل ان يضعه راعي الكنيسة على راس الملك بمصاحبة كورال كنائسي. لكن طاغية مثل ريتشارد ليس لديه الوقت ولا يحترم هذه الشكليات، فيعمد الى اخذ التاج بعجالة ولهفة ويضعه على رأسه، ويجلس على العرش بابتسامة ساخرة استفزازية وبطريقة العارف بما يخبأ المستقبل، وبحلول عهد جديد لإعادة تأسيس الدولة. ومن هذه اللحظة يتم تغير كل شئ في المشهد بدأ من الديكور بألوانه الى ملابس الممثلين التي تتغير من الملابس التاريخية الى ملابس الفراك المعاصرة، وحاشية الملك يتحولون الى رجال صاعقة ( بالبيرية العسكرية)والحرس الى رجال مخابرات بصمتهم يثيرون الشك والريبة، فيصبح التتويح مايشبه انقلابا عسكريا.ويفتتح الملك ريتشارد عهده الجديد بان يفرض على الجميع تقبيل يده ركوعا، بما فيهم اصدقاءه والمقربين منه من الذين ساعدوه على الاستيلاء على العرش. ومما زاده سعادة في حفلة التتويح هو خبر تنفيذ ماأمر به قبل التتويج وهو قتل الطفل ابن اخيه الملك المتوفي ومرشح العرش، فتظهر راسه في شاشات التلفزيون، ويعلق بعد ذلك بدلا من جثته ثور مقطوع الراس.

ان التأويل الفكري والابداعي لهذه الصورة التعبيرية يتقارب مع التاويل الاخير في المعركة، عندما كثف المخرج تمني الملك ريتشارد وأمله في ان يقايض مملكته بحصان لينقذ راسه، حيث ظهرت صورة كبيرة الحجم لحصان في خلفية الديكور في اللحظة التي يصرخ ريتشارد فيها يائسا جملته الشهيرة (حصان.. مملكتي مقابل حصان) فيتحرك الديكور باكمله دائريا، وتتداخل قطعه الواحدة في الاخرى للتعبير عن حركية وانتقال المعركة من مكان الى آخر، وتتداخل بينها صورة الحصان الذي ينأى عن ريتشارد وهو يبحث يائسا. وبهذا فان المخرج خلق نوعا من البرادوكس والغروتسك عندما سخر من ريتشارد ذاته، حيث لايمكن لاحد ان يبادله المملكة في هذ ا الغضب الجماعي،. وها هو الان وحيد، معزول، وحصان الإنقاذ هذا ما هو إلا صورة رمزية ملتصقة بقطع الديكور، لاحياة فيها ولن نسمع صهيله أبدا، فيقتل ريتشارد الثالث وهو يبحث عمن ينقذه، يقتل وهو يصرخ بحصانه الذي يتراى جامدا في مكانه وكأنه يسخر من كبوة سيده الطاغية القبيح، الذي يعد أعتى طاغية في التاريخ خلدتها عبقرية شكسبير.

أما التمثيل فقد تميز بانفعالية الممثل Soren Pilmark الذي مثل ريتشارد في المسرح الملكي، وبالرغم من قدراته الفنية العالية،إلا انه اكد فقط على الصفات والملامح الخارجية للشخصية، وهو ذات المازق الذي وقع فيه عند أداءه لدور هاملت قبل سنوان وفي ذات المسرح. بعكس الممثل Christensen فقد كان يحفر وينحت الشخصية داخليا، مؤكدا على الجانب السايكولوجي، موحيا باستخدامه لحركة الجسد عن تلك الانفعالات اللامرئية مما يمنح تأويلا فكريا ابداعيا يرتبط عميقا بسخريته السوداء من كل شئ، بما فيها ذاته الذي تبدى لنا ككائن ملتبس ضمن إشكالية الوجود الاكثر التباسا.

وجوهر النتيجة هو ان مسرحية ريتشارد الثالث قدمت في المسرح الملكي كعرض شكسبيري كلاسيكي يلعب التاريخ فيه دورا في تكوين ملامح الاشخاص والاحداث والتنبؤات، لكن بوعي وفكر اخراجي معاصر. اما مسرح Betty Nansen فقد عالج مشكلة الذات المعاصرة من خلال العرض مع نفي دور التاريخ الشكسبيري كمسبب حاسم في تحريك مصائر الشخصيات والاحداث، وتم التأكيد على المعاصرة من خلال وعي الذات وقلقها الوجودي.

كوبنهاكن