تتناول الباحثة والجامعية الأردنية هنا تحليلا ضافيا لرواية الكاتب الفلسطيني المرموق الأخيرة، يكشف عن أوجاع الجيل الجديد الفلسطيني، وصموده المقاوم لعسف الاحتلال، وبربرية دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وقدرته على التغلب على التشوهات الجسدية التي تركتها وحشية المحتل في جسد فلسطين الغض.

الصعود نحو القمة وظلال الأرواح الحالمة بالحرية

في رواية «أرواح كليمنجارو»

هدى قزع

«أرواح كليمنجارو» هي رواية صدرت حديثًا عن دار بلومزبري "مؤسسة قطر للنشر"، للأديب إبراهيم نصر الله، استلهم أحداثها من الواقع، بعدما نجح في تسلق جبل "كليمنجارو"، والوصول إلى قمته بصحبة عدد من المتطوعين والأطفال الفلسطينيين الذين فقدوا أطرافهم في الهجمات الإسرائيلية عليهم.

العنوان:
يعد العنوان أحد المفاتيح التأويلية كما يقول إمبرتو أيكو، والبدء بتحليله واستجلاء دلالاته سينير الطريق أمامنا لاستكناه أسرار هذا النص، وحين نرجع إلى عنوان الرواية "أرواح كليمنجارو" نجد لفظة أرواح توحي لأول مرة بالغياب والسر والخفاء، لكننا حين نواصل تحليل المتن سنكتشف إن الظاهرة المهيمنة على العنوان هي الحذف، ونجد صورًا كثيرة لهذا الحذف: من بينها بتر الاحتلال الإسرائيلي لسيقان الأطفال الفلسطينيين، ولأحلامهم ... وموضوعة البتر تشكل جانبا مهما من وجهة نظر المؤلف، حيث تصير القضية بأكملها سلسلة متواصلة من البتر، والبتر يولد بترًا.

أما الموضوعة الثانية التي يومئ لها العنوان فهي أعلى قمة في إفريقيا، وهي "كليمنجارو" منطلق الرحلة ومنتهاها المادي، فالصعود لهذه القمة لم يكن بالأجساد، ولم يكن هدفه الوصول لقمة جبل بقدر ما أراد محققوه أن يقولوا للبشرية "نحن أبناء هذه الحياة، أبناء شعب يقاتل من أجل حريته منذ أكثر من مائة عام، وإننا لن نهزم".

الأحداث:
بالنظر لرواية "أرواح كليمنجارو" نجد أن متنها الحكائي يتشكل من عشر قصص، انبنت على عدد من الشخصيات: هي: ريما، ونورة، ويوسف، وغسان، وإميل، وصول، وسوسن، وسهام، ونجاة، وجبريل، وهاري، وقد انفردت كل شخصية بقصة ودور واجتمعت في قصة الأمل في الحرية وتخطي كل مراحل الانهزام.

الزمن:
بدت الجملة التي قالها " صول" أحد الأدلاء في الرحلة: "كل شخص جاء إلى هنا وهو يريد شيئًا ما من الجبل، قلة هم أولئك الذين يدركون ما الذي يريده الجبل منهم" نقطة فاصلة بين زمنين: الزمن الماضي الذي تركه المشاركون في الرحلة خلفهم، وزمن المستقبل الذي ينتظرهم بعد أن قاموا بتسجيل أسمائهم لدى موظفي بوابة كليمنجارو.

وجريًا وراء ميشال بوتور ورولان بونوروف وأونوليه الذين قسموا الزمن الروائي على زمن المغامرة وزمن الكتابة وزمن القراءة، فإن زمن المغامرة هو زمن صعود جبل كليمنجارو، ـوزمن كتابة الرواية هو عام (2015) وزمن القراءة هو الذي نتمثل من خلاله الأحداث الإجمالية التي امتدت على فترات زمانية وضحت ما تسبب فيه الاحتلال الإسرائيلي الغاشم من جرائم بحق الأرض والإنسان. إن ما أسماه جينيت بالحكاية الرئيسية أو الحكاية الأولى لم يستغرق في الرواية من الزمن سوى أيام، فقد كان الترتيب الزماني متوزعًا على زمنين: زمن الحكاية الأولى: حين أصر أطفال فلسطين - الذين فقدوا أطرافهم نتيجة العدوان المتطرف عليهم - على صعود واحدة من أعلى قمم العالم، برفقة متطوعين ينتمون إلى جنسيات وديانات مختلفة؛ ليثبتوا للعالم قدرتهم على تخطي الاحتلال بالإرادة والأمل. وزمن الاسترجاعات التي تتحقق بمديات وسعات مختلفة إذ إن رواية "أرواح كليمنجارو" تنتمي إلى ما يسمى بروايات تيار الوعي، وهو تيار كان تأثير برغسون واضحًا فيه "بتركيزه بشكل خاص على الحياة النفسية التي تتوالى في الصورة المكانية للزمان، والتي تتضخم كلما تقدم الزمن، وذلك بإضافتها للحظات زمنية تضمها إليها". فالطفلة الفلسطينية نورة لم يثنها فقدها لأطرافها، ومعارضة أهلها عن فكرة صعود الجبل وقالت مخاطبة والدتها:

"حين كنت صغيرةـ  كنت أسألك دائمًا، يمّه؟ أين رجلي؟ ماذا كنت تقولين لي؟ كنت تقولين إن رجلك على رأس الجبل، وحين تكبرين قليلًا سأصعد بنفسي وأحضرها لك من هناك. لكنك لم تقولي لي مرة واحدة، هل تقصدين عيبال أم جرزيم؟ يمّه لقد كبرت كثيرًا، لم تأت رجلي، ولا أنت أحضرتها. يمّه، لن أنتظر أكثر مما انتظرت؛ أنا ذاهبة لكي أحضرها بنفسي".

ويوسف الذي فقد ساقه كان يستعيد شريط الذكريات في مدينته غزة وكل لحظات المعاناة فهو: لم يشعل ... نارًا كانت النار هي التي التهمته، وبدا وحيدًا وحزينًا كما لو أنه نادم على جريمة ارتكبها سواه". ولم يكن له صديق أفضل من بحر غزة ... لكنه قرر الصعود وقال: "حان الوقت ليكون لي صديق آخر غير البحر".

أما غسان فقد التهمت الحروق جزءا كبيرًا من وجهه وأفقدته عينه اليمنى، وفقد يده. وبقي كابوس ما حل به يلازمه، ومع ذلك لم يعنه كثيرًا أن يقارن حاله بما حدث للآخرين حين أدرك "أن كل إصابة، أيًا كانت خلفت جرحًا عميقًا في روح من أصيب بها".

لقد بدت هذه الرواية علامة على وعي الكاتب وخبرته في الحياة ومن ثم على وعيه بالزمن فرولان بارت يرى أن الزمن السردي دوره: "تكثيف الواقع في نقطة واحدة، ومن ثم تجريد الأزمنة المعيشة والمرصوفة بعضها فوق بعض، وربط مجرى الأحداث ربطًا منطقيًا". وعندها يغدو الماضي واسترجاع الذكريات أشبه بآلة نسبر من خلالها غور الشخصيات". ففي الرواية وأثناء رحلة الصعود لأعلى قمة في إفريقيا تتذكر نورة كيف حاصر الجيش قريتهم حينما علم بأن هنالك مهرجانًا للطائرات الورقية سيقام فيها ... وتتذكر كذلك طرق العدو لباب بيتهم ... وإصرار أخيها نعمان بعد أن كان قد استيقظ في اليوم التالي على معرفة أولئك الجنود لمعاقبتهم ويقول: "أظن أنهم خافوا منّا، أو ربما نقلوهم إلى مكان آخر !آخ لو أمسكهم".

أما يوسف فتذكر حين انحنى لالتقاط لعبة نحاسية "فانبثق برق شديد أمامه بحيث لم يمنحه فرصة سماع صوت الانفجار". وأما غسان فبمجرد أن اندس في كيس النوم وجد نفسه في البلدة القديمة في الخليل، أمام بيته في سوق القصبة ... يتذكر "كيف فتح المستوطنون أنابيب المياه المضغوطة على البيت، عبر الشباك الصغير ... وفجأة اندفعت المياه، مياه ملوثة أغرقت البيت وثوب العروس وتركت البيت غارقًا في رائحة لا تحتمل لأكثر من أسبوعين". وبعدها يتذكر قول الجنود الإسرائيليين لهم:"عرب حيوانات!هل تشتمون رائحتهم؟!".

نمط السرد:
حين قدم إبراهيم نصر الله هذه الرواية هل أراد أن يريها لقرائه أم يقولها لهم؟! يرى تودوروف "إن الروائي يقوم بدور المقدم لا المحلل، فهو يختار "المشهد" الذي سوف "يستحوذ" على القارئ ويخرجه ويقدمه كالطعام ... إنه يقدم للمتفرجين الصور التي يتمنون رؤيتها". كما يقسم جينيت الحكاية إلى: حكاية أحداث، وأقوال. ففي حكاية الأحداث: يقوم العرض على قول أكثر ما يمكن بأقل مايمكن، أما حكاية الأقوال: فالأمر يجري على الضد، وهي محكوم عليها بالتقليد المطلق وهي نسخ ثان لما يجري في الواقع. وحكاية الأحداث بتعبير جينيت هي المهيمنة على رواية "أرواح كليمنجارو" .بل إن الرواية تقترب كثيرًا من بعض خصائص التمثيل المسرحي، مع أن الرواية واقعة لغوية و"فن زماني بحت يبدأ وينتهي على المستوى اللغوي" لكن هذا العمل يسعى في كثير من مواضعه إلى أن يشعرنا أننا أمام مشهد مسرحي بعناصره البصرية والسمعية وأدائه المحكي.

"أحست بساقها الاصطناعية تسقط مثل ورقة صفراء في الخريف، وهبت ريح فرأت ساقها تحلق مبتعدة، وكذلك ساق يوسف. وما هي إلا لحظات حتى رأت السماء ممتلئة بالسيقان الاصطناعية التي تجرفها الريح بعيدًا! راقبت نورة المشهد، ونشرت ابتسامتها. التفتت إلى يوسف فرأته يحدق حيث تحدق ويبتسم أيضًا. عادا يسيران ... وراح الزمان يتقدم ببطء، ببطء شديد، والقلوب تخفق بقوة، بعد ستة أيام طويلة كعمر، واليافطة التي تتوسط القمة، تعلن ترحيبها بهما".

ولعل طبيعة الحوار الواردة من أبرز العناصر التي يترسخ بوساطتها الإيهام بالمحاكاة في الرواية. "كانوا يسألونني دائمًا: أنت يوسف، ما الذي فعلته في حياتك أكثر من أنك أصبت؟! الآن سأقول لهم: لم أكن أنا الذي أصبت نفسي، كان هنالك من أصابني، وقتل أصدقائي أيضًا، أما ما فعلته أنا فقد استطعت أن أتسلق كليمنجارو ... لقد صعدت إلى حلمي برجل واحدة".

ومما يواجهنا في هذا المجال التعليقات السردية التي ترافق الحوار، فما الوظيفة التي تؤديها تلك التعليقات؟! إن الإجابة عن هذا السؤال تتطلب الوقوف أمام نموذج حواري في الرواية. لنتأمل الحوار الآتي بين نورة التي أصرت على التحدي وجون الذي لاحظ "ارتباكًا ما في خطاها، وتأرجحًا خفيًا في قامتها، مثل يد مصابة بارتعاش بسيط ... سألها: هل تعبت؟ وما كان لنورة أن تجيب عن سؤال كهذا دون أن تكابر: الطرف الاصطناعي هو الذي تعب! ولأنها أحبت ما قالته أطلقت ضحكة عالية أعادت الأمل للجميع".

جاءت تلك التعليقات السردية، لتكشف عن عدد من المعاني المصاحبة:
1_ اعتماد الفعل "تعب" للطرف الاصطناعي ليمنح الشخصية نوعًا من القوة.
2_ إطلاق الضحكة العالية لتحديد طبيعة ذلك الصخب فهو كان تعبيرًا عن الفرح والأمل.

إن حصر فكرة الخطاب داخل النطاق اللفظي كما يرى نورمان فيركلو هو أمر أبعد ما يكون عن الواقع، وحتى لو كانت النصوص نصوصًا لفظية أساسًا، فإن الكلام متضافر مع الصورة البصرية أساسًا وتعابير الوجه والحركة والوقفة، فللجسد لغة يقولها لا تقل تعبيرية عن الكلام. وفي الرواية تلتحق الطبيبة أروى ببعثة طبية ذاهبة لعلاج الأطفال في الخليل، وترى في وجه الطفل الفلسطيني غسان معاناة الآلاف من الفلسطينيين "وجدت نفسها وجهًا لوجه مع زمن آخر وسماء أخرى؛ وكيف يمكن لخمسمائة مستوطن يحرسهم ثلاثة آلاف جندي أن يحيلوا حياة مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى جحيم، وما إن وقع نظرها على وجه غسان حتى أدركت أنها في قعر ذلك الجحيم".

وفي بعض المقاطع الاسترجاعية قد يتغير نمط السرد فيحل العرض البانورامي (باصطلاح لوبوك) محل العرض المشهدي إلى درجة ملحوظة، فنجده يبدأ بتقديم مجمل يستغرق سطرًا ونصف السطر لزمن يستغرق أكثر من سنوات ثم يتسع المجمل: "مرر إيميل راحة يده اليمنى مرتين على رأسه الحليق، كأنه يمسح غبارًا عالقًا منذ سنوات طويلة، وأخذ نفسًا عميقًا. منذ مغادرته لسنين طفولته، لم يجد إيميل نفسه في موقف كهذا، لقد رأى نفسه في يوسف، استعاد ذلك الولد الصغير الذي كان يقلد المحاربين في الحرب الأهلية اللبنانية في قريته الجنوبية البعيدة، قبل أن يهرب من قريته، ومن الحرب مجرد أن فهم معنى الحرب إلى قبرص، رافضًا أن يكون جزءا من لهيبها".

كما استثمر إبراهيم نصر الله تقنيات السينما، ومن مظاهر هذا تسجيل الإيماءات، والحركات والالتفات للأصوات والألوان وهو يصور لحظات صعود أبطال روايته إلى الجبل: "تقدمت الغيوم المنخفضة أكثر بحيث بدا لهم أنهم قادرون على سماع اللحظات التي تصطدم فيها غيمة بأخرى وبسرعة استثنائية أطبقت عليهم الغيوم تماما، فلم يعد لهم أي أثر، كما لو أن ممحاة عملاقة مرّت فوق أجسادهم في ذلك الوادي العظيم الذي ترتفع على جانبيه جبال عملاقة. أصبحت الرؤية شبه معدومة، وأصبح لظلالهم لون وحيد هو الأبيض ... أبرقت السماء، وهزّ الوادي، رعد شديد تردد صداه عشرات المرات كما هيّء لهم، وأبرقت ثانية كما لو أن ضوء البرق امتص حلكة الغيم، والغيم نفسه فعادوا يرون أنفسهم".

ومن التقنيات السينمائية الموظفة اللقطة المزدوجة، حيث تصير الأشياء المتباعدة متقاربة في الذاكرة رغم المسافة الحقيقية الفاصلة والتباين القائم بينها بالواقع. فغسان حينما تنقل إليه الطبيبة أروى قول رئيس فرقة المساعدة يرى جبل كليمنجارو سطح بيته} ويأمل أن يصله ليقاوم جنود الاحتلال: "في كل إنسان قمة عليه ان يصعدها، وإلا بقي في القاع ... مهما صعد من قمم". صمت غسان طويلًا، ثم رفع عينيه ونظر في عينها مباشرة، وقال: ربما يكون هذا البيت، الذي يحتل الجنود سطحه الآن، هو الجبل، ولذلك لا أحلم بشيء منذ مدة طويلة مثلما أحلم بالصعود إلى ذلك السطح".

وجهة نظر: ماذا قالت الرواية؟ وماذا أراد المؤلف أن يقول؟
ذلك هو السؤال المهم الذي يطرح نفسه بعد الانتهاء من قراءة كل عمل روائي، ويكتسب السؤال أهمية أكبر مع إبراهيم نصر الله لأن نصه متعدد المعاني. ولنتذكر أن جولدمان قد دعا إلى اعتماد مستويين في دراسة النص، هما مستوى التأويل، ومستوى التفسير، يأخذ الأول شكل دراسة محايثة للنص، ويتولى الثاني ربط علاقة النص بحقيقة خارجة عنه. إن رواية " أرواح كليمنجارو "تنتمي إلى النمط المتعدد الأصوات، أو الديالوجي بحسب باختين، فهيمنة العرض المشهدي على النص، ووصول الأحداث إلى المتلقي عبر عين الراوي مباشرة، مقدمتان تمهدان إلى الإقرار بهذه الحقيقة. لقد تعددت مستويات الرؤية، وقد رسم الراوي صورة للمظاهر الخارجية للشخصية وحركاتها والفضاء المحيط بها وأحاسيسها الداخلية وانفعالاتها، حتى أن السرد ليوحي إلى القارئ أنه أمام راو من الصنف الأول _ على وفق بويون_ عليم بكل شيء، لكن هذا الوهم سرعان ما يتبدد، حين نحس أن الراوي ينظر لما يحيط به بعيني الشخصية، ثم سرعان ما ينتقل إلى شخصية أخرى فيتماهى بها، راصدًا الأحداث والمرئيات بعينيها.

"لسبب ما أحس كل واحد من الفريق بأنه سيتحول برغبته أو رغمًا عنه إلى شخصية في كتاب لكاتب لم يقرؤوا له سطرًا واحدًا، لاحظ هاري ذلك فطمأنهم: لم أجيء هنا ككاتب بل لأكون شخصية حقيقية"

وحين نستغرق في مواصلة القراءة سنجده راويًا من النمط الثاني راويًا مصاحبًا (راوٍ = شخصية)، وهو على وجه الدقة الراوي الذي أطلق عليه فريدمان (الشخص الثالث الذاتي) والذي حدد خصائصه بأنه "بعيد عن أن يكون كلي العلم ... فهو يرى ويحس بعيني وحواس شخصية واحدة يحبس نفسه على منظور منفرد، باتساق كثير أو قليل، وهو يضبط عمليات التحول إلى الداخل في شخصية أو أكثر من الشخصيات المركزية "لقد استطاع راوي أرواح كليمنجارو بفضل تنقله من موقع شخصية إلى مواقع أخرى أن يعرض علينا رؤى جميع الشخصيات الرئيسة في الرواية وأحلامهم.

من هنا كثر استعمال ضمير الغائب، ورؤية الشخصيات بعيون بعضها دون تدخل الراوي. فيوسف بنظر إميل هو المسيح المعذب: "فكر إميل، واكتشف أن هذه هي المرة الأولى التي يغسل فيها قدم إنسان، أي إنسان ... وليس يدري من أين بزغت له تلك الفكرة: إنه يغسل قدم مسيح صغير، مسيح عذب كثيرًا، وها هو يصعد درب الجلجلة غير آبه بجراحه وآلامه، غير آبه بساقه المبتورة وأصابع يده التي تبخرت في الهواء". وهاري بنظر جيسيكا هو غريغوري: "أهلًا هاري هل أخبروك بأنك تشبه غريغوري؟ لكنك أكبر منه عمرًا/ من تعنين؟/ غريغوري بطل فيلم (ثلوج كليمنجارو)". والمتسلقون للجبل يذكرون صوول: "بهمنغواي".

المستوى الأيديولوجي:
تظهر بدايات الأيديولوجيا عند كارل ماركس في كتابه "الأيديولوجيا الألمانية" حيث يشير إلى التصورات الخاطئة التي اصطنعها البشر عن أنفسهم وماهيتهم، وعما يجب أن يكونوه، فتكون أداة لتضليل الوعي وتزييفه. ولعل أبرز ما يميز الأيديولوجيا التي تحملها شخصيات الرواية هو الارتباط بالأرض والمكان ارتباطًا يحيلنا إلى مفهوم الهوية الفلسطينية باعتبار أن الأرض تشكل مصدرها الأساسي.

"جون لماذا لا تأخذ ابنتيك وتعود إلى أمريكا فقد قدمت لنا ما لا يستطيع كثيرون تقديمه؟ قال له أحد أصدقائه الفلسطينيين. كيف يمكن أن أذهب بهما إلى أمريكا؟ هاتان البنتان فلسطينيتان، وهذا وطنهما". أما غسان عندما عرف من طبيبته أروى أنه سيغيب عن بيته أسبوعين، قال لها منتفضًا: "مستحيل ...لا أستطيع أنت تعرفين أننا نتناوب على حراسة البيت كي لا يستولوا عليه". أما يوسف فقد ظل بحر غزة صديقه الأقرب لنفسه.

ولعل إيمان الراوي بضرورة الوحدة والنسيج الإنساني، هو ما جعله يشحن جبل كليمنجارو بدلالة أيديولوجية، إذ صار علامة على وحدة الأجناس والأديان. "فكر إميل في جيسيكا البوذية، جون المسيحي، وسهام المسلمة المتحجبة، هاري اللا ديني، فكر في ريما الرقيقة القوية المغامرة، صوول المأخوذ بحب الجبل، أروى المتفانية، سوسن المتجملة ذات القلب الأبيض. تأمل كيف يجتمع هؤلاء كلهم؛ ليوصلوا أولئك الفتيان إلى القمة ... تأمل إميل هذا النسيج الإنساني القادم من ثلاث قارات واكتشف فجأة أن هذا ما كان يحلم به طوال حياته، وها هو يتحقق ... "كان يرى الأمريكي واللبناني والفلسطيني والفلبيني والتنزاني والسعودي والأردني، كأنهم نموذج هائل لبشرية يحلم بها".

ولعل الحديث عن الأيديولوجيا يتطلب حديثًا عن اليوتوبيا، فكلاهما من عمليات المخيلة، بحسب بول ريكور، إذ تؤدي الأولى وظيفة المحافظة على نظام معين، بينما تؤدي الثانية وظيفة تدميرية بتخيلها الوجود في مكان آخر هكذا تكون الأيديولوجيا تبريرية في دفاعها عن السلطة الراسخة، وعلى عكسها يظل خطاب اليوتوبيا ناقدًا للسلطة بطرحه "أينًا آخر أو مجتمعًا لم يوجد بعد" وهذا المجتمع تصنعه الأحلام والأساطير، ومن خلاله كشف الراوي عمّا تعرض له الشعب الفلسطيني من محاولات بشعة  لمسخ الهوية، وتغييب مظاهر الحياة ومحوها، والحضور الطافح للموت .

وقد بنى الرواي موقفه من الموت داعيًا إليه كاختيار باسل مدينًا أي حتف خلافًا لذلك، وهكذا حمل الوعي الجماعي الفلسطيني في نصه نحو المقاومة كفعل يستوجب الموت، ويجعل منه طريقًا للحياة في خضم حياتهم البائسة. فـ"الطفل الفلسطيني يستطيع تسلق أعلى جبال العالم وإن كان برجل واحدة، ليرفع علم بلاده فوق القمة". ورحلة صعود الجبل بالنسبة ليوسف كانت فرصة أخيرة له ليرى العالم: "أمنيتي الوحيدة الأخيرة كانت الخروج من الحصار، وأن أتنقل في أماكن لا حواجز عسكرية فيها"... وحين سئل أثناء صعود هل تعبت؟!  قال: "لا، لا أبدًا، أي مجنون ذلك الذي يمكن أن يقول: تعبت من الحرية!".

أما نورة فقد "لمحت ذلك الطائر الذي تعرفه جيدا، نسيت ألمها، وأشارت إليهم أن يصمتوا .. أوه طائر الشمس الفلسطيني ... هذا هو اسمه في كل قواميس العالم: طائر الشمس الفلسطيني". إنها تمثل إحساسها الداخلي بأن خطواتها هي وأطفال فلسطين هي نحو الحرية، وهم بإرادتهم سيخرجون من الواقع البائس ويرون شمس الحرية والأمل.

أما جون في أثناء صعوده رأى أن أطفال فلسطين الجرحى هم الصخرة التي حاول أن يحملها سيزيف مرارًا على ظهره، وهو بذلك يوظف الأسطورة ليشير إلى كثرة الجرائم الإسرائيلية، والألم الذي ذاقه الشعب الفلسطيني: "في تلك الليلة حلم بسيزيف يصعد الجبل ـ كان يحمل ولدًا جريحًا على ظهره، وكلما سار عدة خطوات إلى الأعلى كانوا يضعون ولدًا آخر مصابا، أو فتاة أخرى ... كانت أرجل سيزيف تهتز كلما تضاعف العدد، وكانت أنفاس جون تتقطع غير قادر على التنفس وهو نائم على فراشه".

المستوى النفسي:
يقصد أوسبنسكي بالمستوى النفسي طبيعة الإدراك الذي يبنى من خلاله السرد، أهو وعي فردي محدد أم موضوعي، ففي الحالة الأولى يبنى السرد على وفق الحالة الذهنية للشخصيات المعنية بالحدث والدوافع المتحكمة بهم، أما الحالة الثانية فتقدم السرد كما يعرفه المؤلف أو الراوي. وما ورد من صور تعبيرًا عن الأجواء النفسية للأبطال وحالة القلق والخوف التي تعانيها الشخصيات يعبر عن الحالة الثانية فيوسف الذي "كان يخيفه النظر إلى الوراء، فقد كان يعرف أنه لن يرى سوى شيء واحد: ذلك الوميض القوي الذي لم يمهله حتى لسماع صوت الانفجار". وقد" صافح الأيدي الممتدة إليه بخجل، وداهمه حس ثقيل بالغربة وغدا أكثر ارتباكًا وشحوبًا، تلفت حوله باحثًا عن معجزة تنتشله من ضياعه، مثل ذلك اليوم الذي وجد فيه نفسه وحيدًا ملقى في بحر غزة على بعد خمسة كيلومترات من الشاطئ". وهذه الظواهر هي وجهة نظر الراوي من زاوية التحليل النفسي فعلم النفس يرى أن كل الحيوانات تستجيب للخطر بالهرب أو القتال أو التجمد، أما بالنسبة للإنسان فإن الحالة الثالثة يقابلها الاكتئاب أو اللامبالاة أو إظهار قبول قدري أو قلق مزمن، وهذا الذي رافق يوسف وغيره من شخصيات الرواية جراء جرائم الاحتلال.

المستوى التعبيري:
ويعني به أوسبنسكي مستوى الخصائص الكلامية، وتحيلنا هذه الخصائص إلى موضوع اللهجات كما ورد عند باختين الذي وجد أن لغات التنوع الكلامي جميعًا وجهات نظر خاصة إلى العالم وأشكال لوعيه. فمثلًا يوسف الذي سافر لتلقي العلاج في فرنسا كان يتحدث بالعربية، وصديقه بيير بالفرنسية، ومع ذلك كانا يكملان حديثهما باللغة المشتركة الوحيدة التي يتقنانها جيدا وهي: كرة السلة".

وكذلك فإن يوسف الفلسطيني يتحدث بلهجة إميل اللبناني، مؤكدا على شيء مشترك بينهما ألا وهو الأخوة.  "تعرف خيي إميل، نصحت نفسي ألا أنظر إلى أعلى باتجاه قمة الجبل، حتى لا أظل أفكر في المسافة الطويلة المتبقية لكنني أعتقد أن هذا غير صحيح . لماذا، خيي يوسف؟ إنني أعتقد أن الجبل لا يحب أولئك الذين يصعدونه برؤوس منكسة. الجبل يحب الجباه العالية". أما أخت غسان ابنة السنوات الخمس التي فارقت الحياة جراء الاحتراق بنيران العدو الإسرائيلي كانت آخر جملها باللهجة المحكية" إنتو بتفكرو إنه الله مش شايف إللي بتعملوه فينا" ثم عادت إلى غيبوتها وفارقت الحياة.

 

ناقدة وأكاديمية من الأردن.