عن الحرقة إلى براءة الحب في الأيام الأولى وعصف الظروف القاهرة، عوز وفاقه ومجتمع صارم لا رحمة فيه يحول المرأة من محبة عاشقة إلى راقصة في علبة ليل، وتحول الرجل من عاشق حالم إلى عاهر يبيع جسده لعجوز أوربية، هنا نشيد المرأة الممزقة ترويه لنا القاصة التونسية.

قوس قزح وأراجيح معلّقة

بسـمة الشـوالي

يهبط ملَك اللّيل في تُؤدة. يرخي على السّفل غزْل السّواد مخملا من نوْل بين أصابعه. ترفع العلبة اللّيليّة غطاءها تستقبل روّادها. يتدثّر الكون بالسّكون المرتجف. ينثال "الصَّبا" حزنا رفيعا كالعَبَر الخجول. تنسل إليها ذكراه من ثنيّات السّنين المنطوية ضحكة خجلى، همسة مرتبكة، بضع أنفاس حرّى تتلوّى بخارا نحو السّماء تتشكّل غيمةَ بيضاء، تكبر الغيمة، تمتدّ، تتّشح بحمرة الشّفق، تسودّ تنسكب برَدا محبّبا ينقر بلوّر نافذة القلب المغلقة.. القلب متردّد بعْد، يراوح مكانه من القرار منذ أسبوع: يفتح له شبّاك الغرام..لا يفتح.. تهِن، تتداعى وخيالها يتهالك إلى حضنه ويجهش بالعتاب.. لمَ عاد فأسا تحتفر في قبوري وتنشر دود حزني ملء عيني بعد أن أوشكت ربوع الذّاكرة تنسى اسمه..؟

تسدّ فم السّؤال بحبّة منشّطة. ينبق لها من ثقب آخر على جدار الذّاكرة الصّدِع سؤال أشدّ، فتغمغم : لا بأس، يعرف الحبّ دائما كيف يخلد، ونجهل كثيرا من أيّ ضعف يأخذنا ليجهز علينا فلا ننتهي منه إلاّ إليه.. لا تقسي عليه يا حليمة،  قد يكون كَلَّ من التّرحال بين المنازل فارتدّ إلى ما خلفه يلتمس القرار في مسقط القلب القديم.. إنها عدوى الارتداد تستفحل في الفاشلين، أجل. وإلاّ، ما كان كلّ منّا تراجع بعد عمر مرير يتعبّد ماضيه لو دان لنا قدْر من النّجاح واقع أيّامنا.. أجل.. ربّما.. ماذا؟ تثور على أعذارها الواهنة: اُغرب عن وجهتي، تصرخ في وجهها المنعكس على المرآة، لاشيء فيك اليوم يغريني. عالم الطّابق الأرضيّ متضرّم، مُغو، يُرعش حتى قلامة الظّفر.. غزير، متنوّع، متهالك، والكلّ طوع الرّمش، ورمّانةَ الكتف.. الكلّ عبد لرجفة الرّدف.. تُغيّر فستانها مرّة أخرى. هذا أفضل عليّ، أحبّ النّطاق اللاّزورديّ يعانق خصري.. نوري.. أما تزال  مرمى الشّرفة تتحرّش بأذني..؟ لمْ تذهب بكلّك حين ذهبت.. تركت ظلاّ من صوتك مسنودا إلى جدار السّمع يطول ويقصر مدى ساعات النّهار، يختفي كلّما غابت الشّمس مفسحا بهو الأذن لغزل المعجبين، ويينع كلّ شروق..

يضجّ روّاد السّمر سرورا على تقاسيم الوجع. يصخب قلبها بضجيج الموج المتداعي على حوافّ الصّخر. يضيق صدر المرقص بالسّمّار. يتّسع صدرها لحضوره الفارِه تراه يمدّ إليها يدا راجية فترخي إليه عنان الشوق، تتبعه حتى أوّل العشق هناك، إلى منزل الحنين الملقى على جانب من محطّة العمر المهجورة، أين يحتفظ القلب الذي لم يعِش من بعده إلاّ قليلا، بنفائس الأيّام وقطع العمر الأثريّة، ويتعتّق فيه الماضي كالنبيذ..

وجهه دمعة العنب الأخيرة. أخشى لو أنيّ حفنته يوما بين يديّ أن تنكسر القنينة الوحيدة التي تحفظه..

في منزل الأمس الرّطب، يتقدّس كلّ شيء، حتى الألم يغدو بين جدرانه قطعة عتيقة ساحرة ، وندبةُ الجرح الغائرة أريكة مريحة للقلب الذي كبر وصار بإمكانه أن يهزأ من دمعه بدايات الهوى، ويُعرّف حبّه الأوّل الجارف ببساطة ووضوح: كان الشّخص الخطأ، وكنتُ غِرّا عديم التّجربة..

- أجل. بيْد أنّه حين يُطبق ألبوم الذّكريات يروح هذا القلب الدّعيّ يتقصّى أخبار حبيبه ذاك، وقد يفسد حياته بكثرة السّؤال عن حاله متخفّيا تحت تقيّة الإنسانيّ، كشأنك معي. لقد أفسدت حياتي فعلا يا حليمة فمتى ترمّمينها..؟

قال لمّا عاد منذ أسبوع يتوسّل ودّها القديم بعد عقْد من السنين مكتظّ.

- فات أوان الحب يا نوري. كلانا اليوم بغيّ، تعلم ذلك. وتعلم أنّك البادئ ببيع نفسك لمن تدفع أكثر، ومنذ تلك الليلة التي ضبطتك فيها تواعد مدبّرة المنزل لدى "رينيه" على السّفر معها إلى فرنسا بصفة زوج مؤقّت. كم عجوزا أجنبيّة تزوّجت من بعدها..؟ اليوم، قد يجمعنا رصيف مجهول، لكنّا سنفترق حتما تحت سقف قارّ.

- أنا قد تبتُ.

- وأنا.. !؟ قد أتوب.. لكن حتما ليس على يديك.

- اِغفري لي حليمة أرجوك، وتعاليْ نترافق على سكّة الحياة من جديد.

- أنا لم أعد حليمة يا نوري. أنا اليوم عربيّه. حتى أنت لم تعد أنت. تبيّن أنّك مروان العابدي. نوري كان أضغاث كذب، مزحة سخيفة..

- لا. حبّي لك لم يكن قطعا كذبة. قتلت مغتصب أخي الذي برّأه نظام دولة تحتاج إلى الوشاة أكثر من العدالة. برّؤوه فأعدمته واستجرت بـ "ألين". تولّت حينها تزوير بطاقة هويّتي  الشّخصيّة ومكّنتني من  العمل جنائنيّا في حديقة "رينيه". وهناك تعرّفت عليك دون أن أكشف لك سريّ.

- ثمّ استعذبت الكذب فتحرّشت بعجوز وخلّفتني إثرك أنحر شبابي على عتبة اليأس. 

- كان أمري يوشك ينكشف للشّرطة. كان لابدّ من قربان للنّجاة. حملت هويّتي المشروخة وفررت. لم أهجرك، هربّتك معي عطرا على هدب الشّعيرات في أنفي، رفّةَ في الجلد تستحيل رجفة حمّى كلّما ذكرتك، شفة تداعب جفني حين أغفو عن التلفّت جنبيّ فلعلّ أحد ما يتعرّف عليّ هناك فيشي بي، صوتا يهدهدني لمّا الخوف يهدّني.. عودي إليّ.. هويّتي بلا سقف فرأسي غير آمن، ظهري بلا متكإ، وقدماي على أرض متحرّكة.. حليمة..

يا الله ! هذا الجميل ينتحل قامة الصّنوبر تفتّحت أكوازه في عتمة الجوف يترجّل الآن من علياء النّسيان إليّ.. ما يزال فارعا كاللّيل الأرق، مشرقا كحقل من ذرة لحاف عينيه أخضر وشعره صفرة مصهّدة ولونه التّربة المبلّلة.. رائحة الملح الجسديّ القديمة تنثّ من رعشة شفتيه وطعم قُبلِه بنكهتها الأولى.. كلامه المستهلك يجدّد معانيه، ينزاح بي إلى بدائيّة التّجربة ووحشيّة الشّعور الطّفلِ.. ما يزال يعرف من أيّ مجاز يتسلّل إليّ وأيّ استعارات يُلبسني، وما يزال تحت قميص الجسد الكهل طفلة حياة تهفو لحضنه الضّارع.. يا أنا من أنتِ..؟

أنا..؟ مجرّد ذكرى جميلة عن نفسي، وصورة بالكاد تحتفظ بملامحي الأولى.

أنا؟ ناي حزين ما انفكّ يحنّ إلى قامة القصب الغضّ، خضراء تميس لهفهفة الغزل ورفرفة النّسيم الحييّ على خدّها الطّحلبيّ.. تتأوّد على ذراعي الرّيح توشوش لها فتميل يمنة، تميل نشوة ويحفف السرّ الإلهيّ بصدرها حزنا مخمليّا يهبّ على شرفات الكون العارية.. كبرتُ.. لم أشأ أن أكبر إلى هذا الحدّ، لكنّ الجسد فار والعمر طار وقدمي ضلّت سواء الأرض تحطّ بي هنا تحطّ بي هناك ولا قرار لي في أي منبسط أو وهد..

أنثى من تمرّد قلق صرتُ، مدلَّلَةَ نفسي بما يكفي لأمتلك العالم وهْما، واثقة، أنظر إلى ما وراء العرش فأحسب أنّي قيد جناح من نيله.. ثمّ تلقّفني تجّار الحرّيّة. كانوا يقولون أكثر بكثير ممّا يفعلون أو خلاف ما يأتون، فيما أفعل أنا ومن شابهني اندفاعا وتحت نظرهم المتواطئ أسوأ ما يقولون. ولمّا سقطت الأقنعة عن الأفكار والوجوه، مسحوا الدّماء عن أعقابهم، وغيّروا أقوالهم وراياتهم. صاروا أصدقاء النّظام، وصرت صديقة الضّياع.. أبيع النشّوة أجر اللاّشيء. فلا أنا معدمة أبحث عن رزق ولا أنا جائعة أروم الشّبع.. أنا فقط فارّة منّي إلى ما لا يؤدّي بي ثانية إليّ.. أبعثرني في العيون وعلى الشّفاه والأحضان حتى لا أتعثّر بي مجتمعة فأنهار أسى عليّ..

وأنتِ المسمّاة عربيّه..؟ إلى ما صرتِ..؟

مرّة أخرى تصعد إليها مساعدتها لتستعجلها النّزول. "مادام ألين" غاضبة منك، تزمّ شفتيها متبرّمة فيما تلوك علكة بفجاجة وتهزّ ذراعيها وأسفل جذعها متراقصة. تنهرها عربيّه فتنصرف عنها مغمغمة في احتجاج تهزّ ردفا تحطّ آخر. يتجشّأ البحر أحذية غرقاه وبعضا من متاع اللاّجئين إلى رحمته العميقة ثمّ يعود إلى عرائسه جذلان خفيفا كأيل فتيّ يتدرّب على العشق. يفيض وجهه على آثار المدّ المتراجع.. يصير كلّ حَبّ الرّمل المبلّل لمْع عينيه، وهمسُ الموج حشرجةَ التّبغ في حلقه، واصطفاقُ الماء على حدّ الصّخر سعلةَ جوفه المختنق هروبا من سؤال يحاصره، وارتدادُ المدّ حمحمةَ الكذب في اعتراف غير مكتمل.. يصير كلَّ هذا الليل سماء وماء وصخرا ونارا تتوقّد في الأحشاء..

يحتدم في الطّابق الأرضيّ النّداء على الشّيطان السّاكن خصرها. لكنّ طقسها المسائيّ يلحد عن البهجة العارمة أسفل، ويجنح مأخوذا بشهوة التمرّد..

قبالة المرآة، تعيد شعرها إلى هيئة التوّحش القديمة، تمسح المساحيق عن وجهها، تُحفي قدميها من الكعب الأنيق، وتُخرج من أدراجها فستانا صيفيّا قديما طويلا عاري الكتفين، تتشمّمه، تضمّه، تقبّل موضع رأسه آخر غفوة له على صدرها، ثمّ تلبسه. لم يكن من العسير أن ترتدّ سنينا عشرا كاملة..

اُنظري عربيّه ها أنت ثانية: حليمة التي كنتِ، ببراءة أقلّ وقلب ناقص ألقا، نعم.. لكن بالتّوق نفسه إلى حضنه، وحاجة ألحّ إلى ظلّ عينيه الوريف وبسمته المخاتلة تغمر روحك بالقبل فتغضّين الطّرف عن كلّ اللائي سكبن عطورهنّ في ثيابه قبل مجيئه إليك..

ليس غيره يسع كلّ انتشارك الفوضويّ في هذه الحياة الضيّقة.. هو الحقيقة الوحيدة رغم اسمه المزوّر. صدره الكذبة الأصدق، يمدّ لقامتك المتطاولة باستمرار سريرا وثيرا للحلم.. معه فقط تجدينَكِ، تعرفينَكِ.. تتتصالحين مع حليمة، أنتِ الأولى، وتتعرّفين عليك من جديد شبرا فمنعطفا دون أن تتلصّص عليك أيّة عين سارقة..

تعجبها نفسها العابثة بمن تحتُ في انتظارها وتنسى أنّها آلت محض قطعة غيار مستعملة تعوّض النّسوة المعطوبات في حياة أزواجهنّ أو تنجّد مكانهنّ الشاغر لفترات.. تنسى.. وتذكر..

      كانت ليلة قمرا كهذه، صيفيّة أشهى. وكانا يفترشان الرّمل النّديّ عند الصّخرة من الشّاطئ المحاذي للفيللاّ. كانت حينها ممرّضة "مسيو رينيه" فيما يعمل هو جنائنيّ حديقته.

ندف البحر الزّبدَ قطنا وألقى به على قدميه فيما يريح رأسه الكثّ إلى حجرها المتسربل بالغموض المثير. زحفت شفتاه حتى الرّقبة. غمغم بأحلام قديمة تقصّفت أطرافها كورق جفيف، وجنّ في ضمّها حتى تمازجا كحرف مضاعف خرج عن قواعد اللّغة..

    جزر البحر فجرا قطنه، ومدّ ظهره للباخرة. شمخ هو بجذعه يرنو لغيمات بيض يزردن القطن قمصانا لمواليد الأحلام الجدد، مخاصرا عجوزا أجنبيّة، بينما جلست هي على طرف الباخرة الثاني ورأسها إلى صدر أجنبيّ عجوز.

إلى ما صرتُ..؟

لا أحد بعينه صرتُ. تَتَوْنَس العجوز "رينيه" بي. شرب دمي العشرينيّ مصلا لتجديد الشّباب وهرمت قبل رذيل العمر بين ذراعيه. لم يمنحني متّسعا من الغربة لأتفرنس به، أو حتى لأختلف وإن توهّما عمّا كنت عليه. بعد شهر من العسل الشّهيّ، عدت على نفس الباخرة إلى نفس الفيللاّ شمعة تضيء طريق النّحل إلى حيث يتكاثر الزّعتر البرّيّ لرغباته. وبعد سنتين، قضى بين ذراعيْ نحلة ريفيّة متوحّشة، وخلّفني أرملة للوهم. ههههه الكلّ مزوِّر أو مزوَّر. فـ"رينيه" بدوره لم يكن "رينيه"، كان رجلا آخر يدعى "عيّاش"، أو هكذا قالت ابنته التي تبيّن أنّها "ألين"، وربّما هي ليست "ألين"، من يدري؟ وأنا لم أكن زوجة "عيّاش". كنت زوجة لـلا أحد. "ألين" كانت سيّدة كريمة وهذه حقيقة في لذعة الحنظل، كانت قد حوّلت الطّابق الأرضيّ للفيلاّ إلى مطعم وملهى ليليّ.. وأنا تحوّلت من صاحبته الافتراضيّة إلى راقصة مأجورة فيه..

هيّا سيّدتي. "مادام ألين" لم تنقطع تصبّ لعناتها عليّ. ما دخلي أنا..؟ هل أنا الرّاقصة..؟

الصبّر يئنّ في الصّدور بالسّفل والغزل يستفحل لعنات ماجنة. اِلتهب حموّ الإيقاع. استشاط النّمَل على كفوف تهوى ظهور الدّفوف المتحفّرة، وأصابع تتحرّش نقرا بوجنات الدّرابيك المتوهّجة....دمدمدمدمدم... تررررتك .. لفّي حول مركزك الرّخو يا أنتِ لفّي.. تلفّ عربيّه حول نفسها.. حضن الحبّ يمين شرفتها، رغد المرقص تحتها. نوري لا ينفكّ يرسل إليها تصفيرة موعدهما، والسّمّار يلجّون في طلبها. تستعيد هيأة الفاتنة. تصلح زينة وجهها. تلبس الكعب العالي فتترنّح كأنّما للمرّة الأولى تنتعله. الحنين يفقدها توازنها، والحاضر العتيّ يعْدله.

- لم تجيبي حليمة بعْد؟ هل ستعودين إليّ..؟

- دعني أفكّر. بعد أسبوع أوافيك بالردّ.

لِفّي.. يا هذه، لفّي.. حولك أو حولهم سيّان..لا تقفي.. لا مكان لك للوقوف أو عدّ الخطى المنسحبة منك.. تلوّيْ والْوي النّدامى حولك ليّ الغسيل المبلّل.. نُطّي على أعناق ذلّت لرجفة اللّحم الصّقيل تحت الجلد الشّافّ، وحُطّي على أرضيّة سجّادها مال ووعود ورجال طوع البنان الرَّخْص.. لكنّ الأسبوع انتهى وهذه ليلة القرار.. تعودين إليه.. !؟ لا تعودين.. !؟ تتعالى الأيادي في فضاء الأدخنة، تتلافّ، تتعانق الأعين، تتغامز الشّفاه، تتماسّ الشّهوات.. يتقاطر على نخبك الشّراب على الذّقون، واللّحى، والجيود العارية.. تنفرط حبّات المسابح ودفاتر الصّكوك البنكيّة وألسنة انفكّت عقدها.. تسقط النُقُب عن الوجوه والحجُب عن الشّعور و تسفر من تحت الملاءات السّود الأجساد منضغطة متبرّجة في أرباع فساتين ضيّقة توشك تتفتّق فتتزحلق إلى أعلى أكثر.. تنفكّ ربطات العنق عن الأعناق، والعُقٌل عن الرّؤوس، والألحفة.. تنشرح صدور الكُسى الباذخة وجُبب الحرير المطرّزة والقمصان البيض المهفهفة فتلتمع بسريرة النّوايا المخبّأة..

بعض يبكي، بعض يسرف في الشّكاة، وكلّ في شأن يغنيه.. يترجّون، يحمدلون، يتلوّون، يعولون، يهلّلون، يتأوّدون بين الأقدام، يتغنّجون، يبيعون أوطانا، يشترون ذمما، يعقدون صفقات، يبرمون تصفيات جسديّة وعاطفيّة، يسترقّون بالأموال رجالا ونساء وأطفالا جدُدا وينبذون آخرين قُدامى.. تستفحل الهشاشة في العقول، والأبدان.. يتفشّى الوهن وتصيرين الأقوى، وصفر خصرك المستدقّ سَمُّ الخياط الذي يمرّ منه الجميع إلى غير ما كانوا عليه..

هيّا سيّدتي..

الآن أنزل. قالت. الآن تنزل ردّدت مساعدتها.. تنشف كؤوس الصّبر من شراب الصّبر فتتيقّظ في النّفوس شهوات التّملّك، ويستحيل الانتظار الحليم رغبات متوحّشة في تحقّق الرّغبات، وإلاّ يُستنزل الذّمّ براقصة فاتنة تغدو لحظة الغضب مجرّد تاء مزركشة في قائمة البضائع الرّائجة بسوق المتعة.. العُلب المجاورة تتناقل نبأ اعتزالها الرّقص، وتستبشر بانسحاب منافسة بغيضة. قيل إنّها تجدّ في فتح علبة خاصّة، وقد أسّست نقابة للعُلب، وحزبا معارضا سيحصد بلا ريب مقاعد عديدة في البرلمان القادم، وسيعدّل في الدّستور بما يكفل حريّة العُلب في استثمار اللّيل الوطنيّ وحفظه من التّهريب أو الغزو الخارجيّ.. بل هي محض غانية لولا الشّيطان الذي يتخبّط بخصرها، مجنونة.. تجود للمعدم بليلة لهو مجانا وتدع له عند الفجر علاوة ماليّة ليحسّن من مظهره ويشتري شيئا من العطر الرّخيص لصاحبة ترتدي عطرها الأرخص.. تقول إنّ لكلّ الحقّ في متع الحياة ويقولون معتوهة لولا.. تعرف ما يقولون، وتدرك أنّ أمكنتها آلت تنفق من زينة الدّنيا، وأزمنتها أخذت تشيب على حواشي التّجاعيد المكفّنة في ألق المساحيق..

تتماثل للدّمع، ترتدّ عن الضّعف. تنزل درجة. يُعلي نوري في التّصفير متقاربا من الشّرفة أكثر. تقفل دونه الصّمت وتنزل أخرى.. فثالثة. ينادي حليمة. تبتر الخطوة فتتركها معلّقة.. تغمض. تتحسّس خيال ذراعيه على محيط الظّهر العاري، شفَته على ربوة العاج عند الكتف، حفيف النّفَس خلف الأذن.. سأركض إليه.. أركض مسافة عشر سنين كاملة فيضمّني ضمّةَ قدر عشرين ويزيد.. يصخب أهل اللّيل مهتاجين يتقارعون اسمها كما الكؤوس والكراسي.. عربيّه.. تُفيق. تغوي الموسيقى المرحة مفاصلها بالانفلات عن قيد الجسد، يرجف لحمها، يختبل دمها، تنسكب فيها الألوان آلاف قوس قزح وأراجيح معلقّة إلى أطرافها.. تتقدّم.. يصيب حجرٌ بلوّر نافذة الشّرفة المواربة.. تتكسّر كؤوس بين أيدي السُّمّار.. تتسمّر عند منتصف الدّرج.. حليمة.. ينادي.. عربيّه.. ينادون..