يرى الناقد المصري أن الكاتبة استطاعت أن تنسج وقائع ثورة يناير 2011 في أحداث روايتها لتأتي في نسيج واحد، دون انفصال، ودون انفعال أيضا، وكأن الأحداث – رغم سخونتها- قد اختمرت في ذهن كاتبتها. فتجاوزت التسجيل المباشر للأحداث، وصولا إلي ما يقترب من روح الثورة، أو إن شئنا الدقة، من التعبير عن فعل الثورة ذاته في مسيرة الشعب المصري عموما.

شمس «زينب عفيفي» تشرق مرتين

شوقي عبدالحميد يحيى

رغم مرور خمسة أعوام فقط علي أحداث ثورة يناير 2011 ، إلا أن ما كتب عنها في مجال الرواية، يفوق ما كتب عن أي حدث غيره في مصر، إذا ما اتخذت المدة الزمنية في الاعتبار. خاصة وأن الرواية – دون غيرها من الأنواع الأدبية- تتطلب مساحة زمنية كافية لاستيعاب الحدث والكتابة عنه. ويمكن إرجاع ذلك لعدة اعتبارات يأتي في مقدمتها، معايشة المبدعين لأحداثها، وتفاعلهم معها، من كافة اتجاهاتهم الفكرية أو الأيدولوجية أو الجغرافية، حيث اتسعت مساحتها (الثورة) بطول البلاد وعرضها، وحيث تمثل رغبة ملحة ظلت حبيسة الصدور سنوات طويلة، فكانت أملا انتظره الجميع،. وبالتالي كان يوم الحادي عشر من فبراير2011، يوم انزياح الرئيس الماكث علي الصدور، يوم فرح عارم، بعد طول معاناة وصراعات، طوال ثمانية عشر يوما، هي عمر الجماهير في ميدان التحرير بالقاهرة، وكل ميادين التحرير في مدن مصر.

وقد انعكس هذا بالطبع علي معظم ما كتب من محاولات روائية، حيث تشكلت منها جميعا ما أسميه " المرحلة التسجيلية" اعتمدت في أغلبها علي تسجيل لأحداث الثمانية عشر يوما إلي جانب خط درامي ظل في معظمها كخط منفصل، لم ينصهر في أحداث تلك الأيام. حتي كانت (رواية) "يوميات الثورة في عيون فتاة مصرية" للسيناريست "وفية خيري" والتي جاءت عبارة عن يوميات حقيقية لما دار في الثمانية عشر يوما ، بأسماء حقيقية ووقائع بتواريخها. سعت الكاتبة في جزء ثان بعنوان "يوميات ما بعد الثورة في عيون فتاة مصري" إلي خلق خط درامي واه.. فكانت استكمالا لجزئها الأول، وعلي نفس نمطها.

ولم ينجو من ذلك إلا رواية واحدة، لم يذكر فيها كاتبها أي إشارة للخامس والعشرين من يناير، إلا أنها كانت أصدق تعبير عن روح الثورة ومضمونها، وترجمة لشعاراتها، دون أن تتحدث عنها مباشرة. تلك هي رواية "الحريم" للروائي حمدي الجزار. يأتي بعدها مباشرة رواية "شمس تشرق مرتين"[1] للمبدعة "زينب عفيفي"، والمدهش أن تصدر الرواية في نفس عام الثورة، أي أنها تأت علي مسافة جد قصيرة من أحداثها، إلا أن الكاتبة استطاعت أن تنسج وقائع الثورة في أحداث روايتها لتأتي في نسيج واحد، دون انفصال، ودون انفعال أيضا، وكأن الأحداث – رغم سخونتها- قد اختمرت في ذهن كاتبتها. فتجاوزت التسجيل المباشر للأحداث، وصولا إلي ما يقترب من روح الثورة، أو إن شئنا الدقة، من التعبير عن فعل الثورة ذاته في مسيرة الشعب المصري عموما. فأغرقتنا في واقع مصري معاش، وأقنعتنا أنها ما تتحدث إلا عن حياة مصرية عادية، تعيش واقع حقيقي، وربما كان أقرب للتقليدي، ثم يأتي الحديث عن الثورة، وكأنه فعل استكمالي لمسيرة تلك الحياة، ثم تعبر الثورة بعد قيام دورها، بينما نستكمل نحن معها بقية مسيرة تلك الحياة.

تبدأ الرواية بالتعرف علي السيدة "شمس" التي تزوجت من ابن صاحب المصنع، أو من ابن "الرأسمالي" ، والذي ورثه الإبن "محمود" . زواج عقلي خال من العاطفة، رحبت به "شمس" ابنة الطبقة المحدودة الدخل، والتي استطاعت أسرتها رغم محدودية الدخل علي أن تخرج أبناءها جميعا من كليات القمة(كما يقال عنها) ومن بينهم السيدة "شمس" خريجة كلية الهندسة قسم عمارة، ذلك القسم الذي لا تقبل عليه الطالبات كثيرا. الأمر الذي قد يشير إلي أن السيدة "شمس" ليست سيدة عادية، وربما تكون رمزا لما هو أبعد من كونها سيدة عادية، وقد لا نكون قد شططنا بعيدا إن تصورنا مصرنا العزيزة، وما اشتهرت به من فنون العمارة في أزمنتها الغابرة.

تعيش السيدة " شمس" مع زوجها "محمود"، حياة خالية من المتاعب، المادية علي الأقل، وتنجب "أحمد" الذي سافر إلي كندا، لاستكمال دراسته هناك، و "نسرين" التي تستعد وتجهز للزواج بعد سبعة أيام.

وإمعانا من الكاتبة في إقناعنا بالدور الإنساني للشخصة، حيث الإنسان هو جوهر أي عمل إبداعي. فرغم حياة هذه الزوجة من الأنيس، بعد أحوال الأبناء كما ذكرنا، وغياب الزوج المتكرر، لسفرياته المتعددة، بطبيعة عمله، نتعرف علي عمر المرأة التي تجاوزت الخمسين، وما يمكن أن تغرسه تلك السنين في أعماق المرأة، وتخوفها من مرور الزمن، ورغبتها الملحة في أن تظل محبوبة ومرغوبة، والزوج لا يمنحها ذلك الشعور الغريزي في المرأة، الإنسانة. لتخلق لتلك السيدة ثغرة تنفذ من خلالها للتعطش للأنيس، أو للعاطفة الغائبة في تلك العلاقة الاسرية. حيث يظهر "صلاح" . ذلك الجار القديم، والفنان التشكيلي الحالي. ذلك الذي كان قد وقع في حب شمس أيام الطفولة، ولم يزل، دون علم "شمس" بذلك الحب. حيث يتم اللقاء مصادفة، فتنفجر عواطف صلاح المكبوتة طوال تلك السنين. فتتسرب تلك العواطف عبر الثغرة التي صنعتها الكاتبةفي أعماق الشخصية. إلا انها بطبيعة الأنثي، تتمنع عن الاندفاع فيها، بينما أعماقها تتأود لهفة إلي تلك العلاقة، وكأنه القدر يسوقها سوقا نحوها. وقد برعت الكاتبة في تصوير الشخصية النسائية في ذلك التمنع الراغب، أو الرغبة المتمنعة، حيث اقنعتنا بالوجود الإنساني للشخصية، دون تجريدها نحو الرمز، فتعبر "شمس" عن ذلك القلق الإنساني ل"صلاح" فتقول:

{اسمع يا صلاح.. أنا في حالة لا تسمح لي باتخاذ أي وعود أو قرارات، قد أصبح ملزمة بها تجاهك أو حتي تجاه نفسي.. أنا في هذه الأيام غير قادرة علي رفضك أو وجودك في حياتي.. إنني أفكر فيك طول الوقت، ولا أستطيع أن أبوح بهذا الإحساس حتي لنفسي..}. فلم تنس "شمس أنها سيدة متزوجة، حتي ولو غابت العاطفة بينها وبين زوجها، خالقة بذلك الصراع الجواني المحرك للشخصية، والدال علي الوجود. وفي لحظة شوق لم تستطع "شمس" مقاومتها، تذهب إليه في مرسمه، لتكتشف صورتها علي عديد اللوحات بالمرسم، بل ويشرع الفنان في عمل صورة جديدة لها، في إشارة ذكية و موحية لما ستؤول إليه الأمور فيما بعد.

وتندلع شرارة الثورة، والسيدة "شمس" مستغرقة في دوامتها بين قبول العلاقة ورفضها، ومحاولات البحث عن تفسير لما يحدث لها وبها، حتي تستقبل تليفونا من "صلاح" يخبرها فيها أن ميدان التحرير قد تحول إلي مركز تجمع لكل الشعب المصري. وتعدو الكاتبة فوق الأحداث، وتمر عليها سريعا، دون أن تنخرط في سردها وتفاصيلها، إلا بما يوحي بالتغيير الذي يحدث، بمصر، وبها. فتندفع إلي ميدان التحرير، وتلتقي هناك ب"صلاح" فيتعانق الحبيبان، ويقبلها قبلة طويلة، وسط الجموع، دون رقيب، ودون خوف، في إشارة إلي أهم ما أنجزته ثورة الخامس والعشرين من يناير، وهو غياب الرقيب، وانكسار حاجز الخوف. ويتنحي مبارك. لتعلو الزغاريد وتنطلق الأفراح. ويعود كل إلي بيته.

غير أن "صلاح" يمر عليه يومان ولم يتصل ب"شمس" التي تقلق عليه. تتصل به لتفاجأ بمعاناته من مرض بالقلب، كان له فترة معه، ويرد علي مكالمتها بإنسانية وشوق وحب. دون جزع. فنقرأ تلك الكلمات المتناسية للمرض وآلامه، وكأنه قد أنجز مهمة يهون معها المرض:

{ أنت مريض يا صلاح؟!!

  • أبدا.. يبدو أن قلبي يداعبني!
  • سلامتك وسلامة قلبك..

حاول صلاح أن يخفف عني القلق بسخرية:

  • إقنعيه و....

ثم صمت .. فسألته:

  • أقنع من ؟ وبماذا؟
  • إقنعي قلبي بأن يهدأ قليلا عن حبك..
  • قل لي حقيقي.. هل أنت مريض يا صلاح؟
  • لست مريضا بمعني المرض
  • يعني إيه يا صلاح؟
  • الشريان الأورطي شكله كده لا يكتفي بضخ اسمك في عروقي .....}.

وعلي إثر مرضه، يتوفي "صلاح"، ولنكتشف أن له زوجة وأبناء. حيث تريد لنا الكاتبة أن نقول بأن "صلاح" الإنسان قد مات. حيث أرادت الكاتبة أن تنهي الدور الإنساني ل"صلاح" دون أن تنزلق في نهايات تقليدية. أما دوره كرمز.. فقد بدأت تكشف لنا عنه، وعنها... فنجد "شمس" تقترب من الإفصاح عن نفسها، عندما انزاحت الغمة بانسحاب مبارك تقول:

{ أشرقت شمس الحب لأول مرة منذ سنوات طويلة، تؤكد بأن عهدا جديدا يدخل حياتي مثل كل المصريين} رابطة بين الفرحة الخاصة والفرحة العامة. ثم تصرح:{أنتِ الآن في الميدان يا شمس، ودورك أصبح مثل اسمك كالشمس..}.لينكشف السر عن شمس، التي هي مصر، التي وجدت الفرحة بعد طول غياب. وأن "صلاح" هو الفنان، هو المصري المحب، الذي ظل طوال عمرها يحبها، وأن الصورة التي كان قد شرع في رسمها لها في مرسمه بحضورها، هي الصورة الجديدة التي يريدها لبلاده. وأن "محمود" الزوج ليس إلا راس المال الذي استولي علي جسدها بينما لم يستطع الاستيلاء علي قلبها.كما لا يخفي علي القارئ دلالة الإسم لكل منهما. ( فمصر عادت شمسك الذهب).

استطاعت الكاتبة أن تجتذب القارئ بإسلوبها الناعم السلس المشحون بالصور التي تضفي روحا رومانسية، مستخدمة ضمير المتكلم الأقرب للبوح، فساعدها علي استبطان الشخصية، واضفي عليها الحميمية الجاذبة، والمركزة، تقر الواقع، وتكشف عن المخبوء، مثل:

{كانت الرياح تحمل هواء لا هو بارد ولا هو ساخن، ولكنه محمل برياح ضبابية، تشبه سنوات عمرنا الضائعة بين الحب والبحث عن الذات، وحياة زوجية تقليدية فٌرضت علينا، ولم نجد مخرجا منها..}. حيث تنسحب مثل تلك الكلمات المركزة علي الجانبين، الشخصي والعام.

لنستطيع القول إجمالا بأن "شمس تشرق مرتين" استطاعت أن تحجز موقعها المتقدم بين الإبداع الحقيقي فيما كُتب عن أول ثورة حقيقية في مصر، فكانت شمس جديدة تشرق علي مصر، وكانت شمس حقيقية وسط عالم الرواية، نجحت في مزج العام بالخاص في نسيج واحد.

 

Em: shyehia@gmail.com

 

 

[1] - زينب عفيفي – شمس تشرق مرتين – مكتبة الدار العربية للكتاب – ط 1 – 2011 .