رسالة القاهرة

كافكا والصحافة

منتصر القفاش


في رواية المحاكمة لكافكا يذكر الرسام ـ الذي يقابله جوزيف ك ليساعده على فهم محاكمته ـ أن هناك أنواع من البراءة التي يمكن أن تمنحها المحكمة، منها البراءة الحقيقية ولم يسمع الرسام  أن المحكمة أعطتها أبدا وبراءة ظاهرية وهذه هي التي يمكن أن يساعد فيها الرسام  جوزيف ك وتتمثل تلك البراءة في أن يكون " ك " حرا لكن دون إسقاط الدعوى المقامة ضده والتي سيتم حفظها، لكن ممكن أن تثار في أي وقت خاصة لو وقع ملفه في يد قاض لا يعترف بالبراءة، ويعيد فتح القضية مرة أخرى. تذكرت هذه البراءة الظاهرية أثناء متابعة الأحكام بالحبس لمدة سنة والغرامة والكفالة في قضية سب رموز الحزب الوطني التي صدرت ضد أربعة من رؤساء تحرير الصحف  غير الحكومية والتي كانت صدمة لكل المتابعين.

لكن ما لبثثت الصدمة أن تفاقمت مع صدور حكم ضد رئيس تحرير الوفد واثنين من الصحفيين بحيث أنه خلال أسبوعين صدرت أحكام بالحبس ضد ثمانية من الصحفيين. وسيستأنف الصحفيون الحكم بعد دفع الكفالة وقد تسقط المحكمة الأحكام في الاستئناف وتصدر حكما بالبراءة، لكنها براءة ظاهرية كما أشار الرسام لـ " ك " لكن لسبب آخر وهو أن القانون المصري مليء بالقوانين المقيدة لحرية الرأي إلى درجة أن هناك جرائم من نوع جرائم العيب، والإخلال بالمقام، وجرائم التحريض على كراهية، بالإضافة إلى المادة الخاصة بإهانة رئيس الجمهورية التي تصل عقوبتها إلي الحبس لمدة ثلاث سنوات، وتتيح تلك  القوانين رفع قضايا أخرى ضد الصحفيين، فالبراءة ظاهرية ومؤقتة سرعان ما ستقسط مع رفع قضية أخرى، فمادمت تريد أن تعبر عن رأيك فبراءتك مرهونة بحسابات النظام الحاكم. وأنت في وضع الاتهام ولا تبحث عن البراءة الحقيقية.

والملفت للنظر أن من رفع القضية ضد رؤساء التحرير الأربع محامي ينتمي للحزب الحاكم، واستند هذا المحامي في دعواه على أن  تلك الصحف الأربعة تعرضت لرموز الحزب، مما يعني أن أي عضو في الحزب الوطني له الحق في رفع قضية ضد كل من يمس الرئيس أو رمزا من رموز الحزب، أي أن اللعبة التي تتم الآن هي أن هذه الرموز التي تم "المساس" بها لم تتقدم بأي بلاغ ضد الصحفيين بل تطوع بالنيابة عنهم أحد المحبين التابعين بحيث تظل تلك الرموز في عليائها، وتتم مناشدتها للتدخل وإيقاف تلك القضايا.  وفي فترات سابقة عندما كان النظام يتظاهر برحابة الصدر إزاء الصحافة كانت مثل هذه القضايا ترفض لكن الآن ومع الأزمة الطاحنة التي يعيشها النظام تم قبول هذه القضية. مما يجعل هذا المحامي وأقرانه  ينضمون إلى المحتسبين الجدد الذي يرفعون الدعاوي القانونية ضد كل من يرونه يمس الذات الإلهية والدين، بحيث صار هناك حراس مسئولون عن الرموز السياسية وآخرون مسئولون عن الرموز الدينية، والفريقان يستنزفان المثقفين المصريين ويدفعونهم إلى ساحات القضاء.

وصارت الأحداث الأساسية في الواقع الثقافي المصري في الشهور الأخيرة مرتبطة بالقضاء وساحات المحاكم، وصارت النصوص يتم تقييمها قانونيا وحساب مدى خروجها عن القانون. وإذا كان الكثيرون يرون أن القضاء هو الحصن الأخير للدفاع عن حرية الرأي، فان تلك الأحكام التي صدرت ضد رؤساء التحرير تكشف أن هناك في القضاء من يؤيد الحراس والمحتسبين الجدد ويعطيهم الحق في رقابة المجتمع وتقنينه كما يريدون. وفي اعتراضه على الحكم الصادر ضد رؤساء التحرير قال الدكتور محمد نور فرحات، أستاذ فلسفة القانون أن الحكم "محاولة إصباغ صفة علي من لا صفة لهم، وهم المدعون في هذه الدعوي، ومحاولة تصوير أن ما قامت به الصحف يمثل مساساً بالمصلحة العامة، وهذا القاضي عمل تطابقاً غير صحيح بين المصلحة العامة ومصلحة الحزب الوطني.

هناك الكثير من أوجه العوار الذي لحق بهذا الحكم، منها مثلاً أنه افترض كذب الأخبار وألقي عبء إثبات صدق الأخبار علي الصحفي، في حين أن هناك قرينة دستورية وهي «قرينة البراءة»، أي علي من يدعي عكس قرينة البراءة عليه أن يثبت ذلك، وبالتالي فإن علي من يدعي أن يثبت كذب الأخبار التي نشرت في الصحف الأربع، وهذا ما لم يقم به المدعون، بل قالت المحكمة في حيثياتها إن المتهمين لم يثبتوا أن هذه الأخبار صادقة ". والنقطة الأخيرة تعيدنا إلى عالم كافكا فالصحفي مدان مادام لم يثبت صدق أخباره في حين من يرفع الدعوى ضده غير مطالب بإثبات كذب تلك الأخبار. وقد أشار كونديرا إلى أن "هناك اتجاهات في التاريخ المعاصر تنتج الكافكاوية في بعدها الاجتماعي الواسع : تركيز القوة المتنامي مع الميل إلى تأليهها وتسييد البيروقراطية في النشاط الاجتماعي الذي يحول كل المؤسسات إلى تيه لا نهائي والنتيجة سلب شخصية الإنسان". أن من الممتع قراءة روايات وقصص كافكا لكن ليس ممتعا على الإطلاق أن نجد الواقع الذي نعيشه يشبه عالم كافكا.