يكتب الناقد المصري ان الروائية تبدأ الرحلة مع شخوصها من بدايات العام 2010. أي قبل اندلاع أحداث الثورة المصرية بنحو عام، لتسير بهم متتبعة تلقيهم وانفعالاتهم، كشريحة من المجتمع من حولها، حتى بدايات الثورة. وقد تجاوزت مرحلة التسجيل، واستطاعت التعبير عن نبض الشارع المصري قبيل وأثناء تلك الثورة.

الثورة تُلبس الأنثي ... «ثوب فرح»

شوقي عبدالحميد يحيى

لأن "رباب كساب" تنسج خيوط كتابتها من نسيج المجتمع من حولها، فلا أعتقد أنها واجهت صعوبة في استكمال مسيرة شخوص روايتها "فستان فرح"(1) والتي بدأت معهم الرحلة من بدايات العام 2010. أي قبل اندلاع أحداث الثورة المصرية بنحو عام، ولتسير بهم متتبعة تلقيهم وانفعالاتهم، كشريحة من المجتمع من حولها، لبدايات الثورة التي كسرت ذلك الحائط الحاجب لنور الشمس، كي تسطع، فانطلق الجميع مبتهجا بالضوء. غير أنه، وكمال قال زعيم الرواية العربية نجيب محفوظ، أن آفة حارتنا النسيان، فكانت آفة مصرنا النسيان، أو الانصراف سريعا، وكأن شيئا لم يكن. وهو ما أتصور أن رباب كساب قد صنعته بشخوصها.

تأخذ الرواية قطاعا عرضيا للمجتمع في بدايات العام 2010، حيث كان الشارع المصري قد بدأ في الفوران، وبدأت مظاهر القلق تبدو علي السطح. خاصة حادث كنيسة القديسين بالأسكندرية مع الدقائق الأولي من العام، وما استدعته من حوادث سابقة في الكشح، ونجع حمادي، والعمرانية. فبدأت نعرات الطائفية في الظهور، وما استتبعها من علاقات (حقيقة أو مصنوعة) بين مسلم ومسيحية أو العكس، أو أن مسيحية أسلمت، حتي { بات التظاهر من أجل مسيحية أسلمت أسهل من النزول لشراء الخبز.. بات القتل علي الجميع أسهل من وخز الإبر...}. وعلي أثرها أنشأت رباب كساب شخصيتيها "منير" المدرس المسيحي، المسيح في زمن لم يعد فيه أنبياء، كما كانت تقول عنه ابنته، والذي احبه كل من عرفه، حتي أن زميله الملتحي بكاه يوم وفاته. وابنته "شيري" التي أحبت "شريف" –المسلم- وأصرت علي الزواج منه، رغم استهجان الموقف من الكثيرين، واضطرا للهجرة إلي الخارج كي يستطيعا تحقيق حلمهما.

ارتكزت الرواية علي العناصر النسائية، ربما لرؤية لدي الكاتبة، غير أنها العناصر اللصيقة بالكاتبة، والتي استطاعت بالفعل أن تعبر عنه بأدق التعبيرات، لتعيد للأذهان من جديد قضية وجود الكتابة النسوية، وإن كانت قناعتنا الشخصية بوجودها، حيث كانت "فستان فرح" أحد الأدلة التي يمكن الاستشهاد بها.

فإذا ما تأملنا شخصية "مي" في الرواية، لنتعرف علي أن أهم ما يشغل حياتها، هو إشباعها الجسدي، ذلك الجسد الجائع في نهم، حتي أنها (تسرق) "وجدي" زوج صديقتها الحميمة "رضوي" ، وعندما تسافر إلي الخليج، تقع بسهولة في حبائلل "فاطمة" المصرية أيضا والتي تعمل مديرة منزل إحدي الأسر الخليجية، والتي اتخذت من مخدومتها عشيقة، فتتحدث "رضوي عن التغيير في حياة "مي" وما أحدثته الثورة فيها من تغيير، فتقول:

{كان إحساسها طبيعيا، لم تكن ثورية ذات يوم، لم تعشق شيئا سوي جسدها، لم ترضِ أحدا قدر إرضائه، لم يكن لها موقف من شئ، أو اهتمام خاص بالسياسة وأمورها، حتي حين أرادت الثورة علي ما وضعتها فيه الظروف، ثارت نحو الخطيئة في محاولة متمردة علي المجتمع، لكن أن تتعاطف مع هؤلاء المنادين بالحرية والعدالة الاجتماعية، كان هذا غريباً وغير مفهوم.}ص220.

وتصف الساردة (الأنثي) "مي" وعن جوعها، في لحظة شديدة الخصوصية، والتي أعتقد أن الرجل مهما أُتي من قدرة علي التعبير، لا يمكنه إدراك تلك اللحظة الفوارة في حياة الأنثي:

{لم تعد تتحمل ذلك الجسد الذي يئن بشدة تلك اللعنة التي تطاردها. لم يعد وجدي بحسبانها كرجل تحن إليه وإنما باتت تبحث عمن يطفئ ذلك اللهيب وتلك الأوجاع. نيران تسري في كل أوصالها، لا تفكر إلا برجل يجتاحها بإعصاره ويطفئ ماؤه نارها المشتعلة}.

{الحريق الذي يأكلها منذ أيام. عظامها التي تئن دون سبب، صدرها الذي يؤلمها ولا تعرف لماَ؟..}ص144.

وأيضا عندما يحدث الهجران الأول بين "هند" وزوجها "المعلم حسين". يتحرق كل منهما شوقا للآخر، إلا أنه يريد أن يفرض شروطه، وهي يمنعها كبرياؤها. فتصف الساردة تصرف "هند" حين أرادت تحطيم الثلج بينهما، رغم ما كانت عليه سابقا من شراسة وعنف، تحت قهر الحياة وذل (العيال) تسللت إليه في حجرته:

  { جلست إلي جواره كالأرنب الصغير الذي يتلمس دفء أمه بعد ولادته. لم يكن أقل رغبة منها، ولا إحساسا بها لكنه أراد أن يفرض قوانينه، مع أول لمسة من يدها اندحر العتاب، هبت أعاصير الشوق تعصف بكل جدران النكران والمكابرة، ارتج المكان بشهقات الحب. خرج الفجر الفتي ممتطيا صهوة الأمل وهي بين يديه. هلت ضحكتها في المكان فعاد النور يغمر المنزل الأسود الأركان منذ بعادهما}ص173

ويرتقي الإحساس في التعبير عن اللقاء المادي، ليتحول إلي إحساس رومانسي خالص:

{ لم يكن للكلام معني في تلك اللحظة، كل الكلام لغط حين يتحدث الجسد حديثه الخاص}ص109.

تستعرض لنا الكاتبة شخوص روايتها- فيما قبيل الثورة - في إيقاع بطيئ رتيب، وكأنها تعكس الحياة العامة في فترة ما قبل الثورة، وإن كانت قد حاولت الإمساك بقارئها بالتلاعب بالزمن، فتبدأ بالنهاية في كثير من الوحدات السردية، وتسير بنا في الاتجاه العكسي، أو أن تأتي بالحاضر قبل الماضي. وهو ما يثير حفيظة القارئ ويشعل بداخله التساؤلات المحفزة. فنتعرف علي الثنائيات وكيف تسير بهم العلاقة. رضوي وهشام، مي ووجدي، رضوي ووجدي(بعد أن تم الطلاق بينهما)، عايدة وزجها الذي ظل غير مقتنع بالثورة طوال أيام المظاهرات، حتي تحول عند التنحي. هند وحسين، الذي ظل لغزا حتي قبيل النهاية، حتي كشفت الثورة عن حقيقته، كما كشفت الثورة عن معادن الشخصية المصرية، وتحولاتها. ثم تبدأ التشابكات بين الشخوص. وتتوزع في ربوع مختلفة من العالم. لتتوحد كلها في مسافات العالم متشابكة مع توحد الجميع في بقاع مصر من شمالها لجنوبها، حين اجتاحت الثورة كل مدن مصر، إن لم يكن وقراها أيضا.

مقدمات الثورة 

لم يكن خروج الجماهير في الخامس والعشرين من يناير إلا انفجار بركان كان يغلي من قبلها.. تصاعدت المحفزات له علي مدار سنوات قبلها، وكأنها الدخان المعلن عن وجود بركان يبحث عن نقطة ضعف ينفجر من خلالها. تنوعت بين إسكات الأصوات المعارضة. فنري "هشام" الذي لم يكن له أي اهتمامات بالسياسة وهمومها، وقد انضم إلي الجمعية الوطنية للتغيير، التي أسسها البرادعي والمطالبة بالتغيير وقد {شغله أمر صدور حكم بحبس إبراهيم عيسي وتغريمه عشرة آلاف جنيه لتعرضه لنشر خبر عن صحة الرئيس متهمين إياه بالكذب.

وهل لا تكذب علينا الحكومة؟

سؤال كان يؤرقه ويؤرق الجميع}. إذ لم يكن السؤال يؤرقه وحده، وإنما هو إحساس عام بدأ يسري وشعور ينتشر بين الجمع.

وبين تجاوزات الشرطة، وأمن الدولة. حيث تردد بين الناس أن حادث القديسين في الأسكندرية، كان من تدبير الأمن. إضافة إلي قتل "خالد سعيد" بالأسكندرية أيضا علي يد أفراد الأمن، والذي يعتبر مفجر ثورة الغضب في الخامس والعشرين من يناير، يوم عيد الشرطة. ونكتشف، علي مستوي شخوص الرواية، أن وليم زوج "شيري" والذي إدعوا أنه انتحر أنه {لم يمت  منتحرا هو الآخر، مات في حادث سيارة ، لملموا أشلاءه من بين أجزاء السيارة، مات في طريقه إلي عمله}. فكم من حوادث مشابهة، يعلم الجميع من دبرها ومن وراءها. غير أن الغل يقبع في الصدور، خوفا من القمع والقهر والذل داخل السجون.

 وتبدأ أحداث الثورة، ونلحظ تصاعد الإيقاع، وكأن النبض قد ارتفع لتسارع الأحداث. ويحدث تغيير ملحوظ في الشخوص التي كانت مستكينة. فيتوحد الجميع مع مظاهرات تونس التي انطلقت 17 ديسمبر (عشرين عشرة).

وتبدأ الدعوة إلي الثورة في مصر .. يدعو هشام "عايدة لللاشتراك معهم في مظاهرات الخامس والعشرين من يناير ، إلا أنها ترفض ف{اي أمل هذا الذي يتحدثون عنه في بلد مات أهله من زمن ؟!! أقصي أحلامهم أربع جدران تضم أوصالهم المتعبة، وسرير وامرأة ينفثون بداخلها غلهم وذل الحاجة}. معبرة عن شريحة كبيرة من المجتمع، قد أطبق اليأس علي صدورها، وباتت لا تأمل في تغيير يأتي بعد العديد من مظاهر البطش، وحكم استمر نحو ثلاثين عاما.

 وتأخذ الكاتبة في وصف الكثير من مشاهد الثمانية عشر يوما التي اسقطت رمز الظلم والقهر. حتي نصل إلي اليوم التاريخي لتنحي مبارك. حيث نجد الفرحة تعم، والزغاريد تتعالي، ويتدافع الإيقاع في سرعة لاهثة. وكأنها تعبر عن تلك الهرولة بين الجميع، والأحضان، فتتسارع الجمل وتقصر الوحدات السردية في لُهَاثِ. وكأن السرد قد تحول إلي عزف إيقاعي معبر عن نبض الحياة في المجتمع.

وسريعا، تعود الحياة إلي سيرتها. وكأن عقد المجتمع فد انفرط، حيث يعود كل إلي همه الشخصي. فتتعرف "مي" علي شخص جديد بوعد أن تبدأ حياة جديدة مختلفة، وسط شك الجميع، وأمنياتهم بالصدق هذه المرة.

و"رضوي" بالخليج، وقد تباعدت بينها المسافات وبين "هشام" بعد قصة عشق تأجج أوارها قبل السفر، غير ان الثورة أنست كلا همومه وحياته الشخصية، ولم يعد من هَمٍ  إلا ما يحدث من حراك في مصر، حتي ظنت "رضوي" أنها قد نسيت "هشام". إلا أن أحداث الميدان قربت كل من "هشام" الطبيب، و"هند" التي راحت تساعده، وكأنها قد تمرست في التمريض، ليزداد التقارب بينهما. وتصل أخبار هذا التواصل ل"رضوي" فتوقظ فيها إحساس الأنثي. تتغير طريقة حديثها مع "هشام، فيتعجب ولا يعرف السبب الذي تكشف له عنه (الأنثي) ... "هند". بعد أن{لمست هند بحس المرأة،  الغيرة التي ملآت قلبها(رضوي)...}. وهو الطبيب النفسي أو (طبيب المجانين) كما تقول له "هند". حيث لايفهم الأنثي قدر فهما، إلا انثي مثلها. غير أن "هشام"  يصرخ لها في المحمول بكلمة الحب، علي وعد،  فور عودتها أن يشتري لها أجمل فستان فرح  فتبادله الكلمة.

وتنفصل "هند" ممثلة الفطرة والأصالة، النابعة من معاناة طبقة كادحة، عن "حسين" ممثل الاستغلال والمساعد للطبقة العليا في امتصاص دم الطبقة الكادحة، وليظلا رمزين في مسيرة الرواية، ارتبطا قبل الثورة، دون أن تعلم حقيقته المخبوءة، والتي كشفت الثورة عنها، كما كشفت عن كثير من شخوص الحياة التي انخدع فيها كثيرون، دون أن يعلوا بحقيقتهم. فكانت الثورة نارا انصهرت فيها المعادن، فبان الخبيث منهان وبان الطيب.

ونظرة إلي شخوص الرواية وتعاملاتهم مع الثورة، نتبين أن الكل رحب بها، حيثا تحمل لهم انتقاما وثأرا طال انتظارهم له من حكم لم يحمل لهم سوي الكبت والتهميش، وفقدان الإنسان لحقوقه وكرامته. وأدي إلي ضياع "الشحات"، الإبن الوحيد بعد ثمانية أولاد ل"أم الشحات" في واحدة من سقطاتذلك الحكم .. في العبارة السلام، التي لم يبأه لها رأس الحكم وذهب مرحبا بفريق كرة القدم، وكأن اكثر من ألف ومائتي إنسان قد أكلتهم حيتان البحر في واحدة من أفعال المقربين من السلطة، وفسادها.  فكانت الثورة انتقاما شخصيا، لأم الشحات وغيرها من ضحايا هذا الحكم.

وتبقي شخصية كان المتصور أن تكون شخصية رئيسية في الرواية، حيث احتلت مساحة كبيرة من مسيرتها، هي شخصية "أحمد" أو الأهبل. غير أنه رغم وجودها من البداية إلي النهاية، وتداخلها مع كثير من شخصياتها، وكونها كانت السبب في تعرف "رضوي" علي "هشام"، إلا أنها ظلت دون أن تكون فاعلة فيها، أو رامزة  لشئ محدد. اللهم أن الكاتبة كانت قد خلقتها قبل الثورة، لتضفي الواقعية علي الشارع بناسه، أو أن تصنع منها فاعلة في محيطها بشكل ما، فجاءت الثورة ولم تجد له فيها دور، فظلت حِملا علي الرواية دون أي تحديد لوجودها.

كما لم تسلم الرواية من حماس الإنسان المصري، وقد عاشت الكاتبة بالضرورة تلك الأحداث عن قرب ومعايشة، إنفعلت معها كإنسانة مصرية، فانعكس ذلك، لقرب المسافة الزمنية بين الفعل والكتابة، فجاءت بعض الفقراتن تشعرنا بأن الكاتبة هي التي تتحدث مباشرة ، لا الشخصية. فنجد علي سبيل المثال الساردة تتحدث عن أوجه الاختلاف بين "هند" التي انخرطت في الثورة بكليتها، ضاربة بالعلاقة بينها وبين زوجها عرض الحائط(حيث وجدت فيه أيضا ثأر خاص بها)، وزوجها "حسين" الذي ظل يقاوم الثوار ويبثهم رسائل الإحباط والتخويف. نراها تكتب عنهم:

{لم تعطه الفرصة كانت وسط الشارع تدافع عما يعمل هو المستحيل ليقمعه، هو يد في العنف، هي يد في السلم، هو يد تبطش، هي يد في الاستبسال. اختارت أن تكون في صف العدل والحق، وهو منذ زمن بعيد طويل يعيش في قلب الباطل.}ص246. 

وبصفة عامة، نستطيع القول أن "فستان فرح" تعد علامة في مسيرة تناول الرواية المصرية لأحدا ثورة الخامس والعشرين، تجاوز مرحلة التسجيل التي خرجت في الكثير من تلك المحاولات. إلي التعبير عن نبض الشارع المصري قبيل وأثناء تلك الثورة. قائمة علي حسي نسائي صادق، يعيد للكتابة النسائية، ولدورها في الثورة، إعتبارها وحقها المستحق.

Em: shyehia48@yahoo.com

 

(1) فستان فرح – رباب كساب – دار الكتاب العربي – بيروت – لبنان.