لاشك أن الطيب الصديقي الذي نخصص لها باب علامات وشهادات هذا الشهر كان علامة فارقة في تاريخ المسرح المغربي والمسرح العربي عامة، ولولا استسلامه لإغراءات التطبيع وزيارته لدولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين المحتلة وما صدر عنه بشأن هذه الزيارة من خطاب لا يتسق مع ابداعه لخصصنا له ملفا كاملا.

الطيب الصديقي: وكيل عطاء المسرح المغربي

سالم اكويندي

منذ أن عرفت الطيب الصديقي، وأنا أعرفه بما أعرف المسرح ذاته، فنان يتلبس ما يعشقه، ويتلبس به، وكأنهما شخص واحد، رجل يمسرح ذاته ليجعلها في مستوى هذا العشق الصوفي، عشق ابدي لا ينتهي إلا بما ينتهي إليه عشاق الفن وعزابه، لم يكن ليراوح، لأن سمات العشق هذا والبوح به، كانت هي علاماته المميزة له بين كل فناني المسرح الذين تعرفت عليهم طيلة مدة هذه المعرفة التي زادت عن خمسة عقود خلت، زمن جعلني اكتشف أن الرجل يملك سرا يستعصي الافصاح عنه لذاته أولا، لأن هذه الذات عنده كانت هي  المسرح نفسه، فأي مسرح أبلغ مما تراه في حياة الطيب الصديقي، حياته هي المسرح الذي نراه أو بالأحرى نكتشفه، لأننا كلما ازددنا اقترابا من الصديقي، إلا وكان هذا القرب مدعاة لنا لتأكيد هذا الاكتشاف، علما بأننا لا نكتشف إلا المدهش، والمدهش هو نظير الصدفة، أي أننا لا نندهش بقدر ما نصادف بها، حيث كانت الصدفة هي مفتاح سر حياته، بل إن كل انبناء هذه الحياة عنده هو وليد الصدفة، الاندهاش والصدفة أمران متلازمان في حياته، ونحن في كل هذا نعلم أن الدهشة هي العتبة الأولى في الابداع. والدهشة ومعرفة الصدفة مدعاة للفن والابتكار، لأنه في الحقيقة لم يبدع إلا ذاته التي هي هذا الحضور والتجلي في هذا الجميل، والجميل صيغة مبالغة في الجمال الذي هو أصل الفن، لكن الفن لا يتولد إلا من نقيضه. فكيف لهذه الذات أن تبدع ذاتها بعد إبداعها هذا؟ وما نعتبره نحن فنا؟ هو هذا الابداع، الذي هو مكمن السر في أن الطيب الصديقي قد أدركه بحسه الانساني، وهو لا محالة حس انساني مشترك، لا يقوى على إدراك مراحله إلا من كانت له هذه القدرة على التأويل، تأويل ينبني أولا على الفهم وثانيا على التفسير، وكل ما كان يعيشه الصديقي هي مدارج هذا المنعرج المؤدي به إلى تأويل ما أراد أن يكونه، كينونة تتولد من صلب المسرح الذي مسرحه في ذاته قبل أن يمسرحه في ذوات الآخرين، ليخلق ذلك الجسر الواصل بيننا نحن معشر المشاهدين، أن لم نقل شهود الحياة، إنه هكذا يفكر من أجل أن نخلق لنتفاهم، إنها العبارة الأثيرة لديه، حيث وجد هذا الخلق للتفاهم، فكيف لا وقد بدأ التفاهم عنده من ذاته عندما مسرحها فجعلها حسا مشتركا، فحوله هذا التفاهم هو نفسه إلى مسرح، مسرحه هو قبل أن يكون مسرحا لغيره.

في هذه العلاقة القائمة بين الطيب الصديقي والمسرح يأتي معنى من معاني عطاء وكيل، وسياق هذا المعنى نفهمه من خلال تاريخ المسرح المغربي الذي أصبح وكيلا له بقوة المعايشة لموقعي عطاء وكيل، أو ما عرف في هذا التاريخ بمرحلة المسرح المغربي الحديث، نعم حديث وذلك من شروط التاريخ نفسه الذي يفترض مثل هذا التحقيب، أي أن الحقبة التي وسمت بحداثة المسرح المغربي، هي التي فرضت معنى نعت عطاء وكيل الذي نعتبره في هذه الشهادة بالجود والعطاء غير المنقطع، وكأنه سخاء موكول بوكيل، إذ يرحل العطاء ويبقى هذا الوكيل وبشكل دائم قائما بيننا وكأنه محروس برعاية وكيل المسرح المغربي الحديث: الطيب الصديقي، أو على الأقل مرعيا والحراسة والرعاية فيهما ما يحتمل الصيانة من أي منحى من مناحي الزوغان عن خط الحداثة، لأن القصد في هذا العطاء ووفق هذه الوكالة هو ترصيص هذا البناء أو بمعنى أدق استئناف ما كان قد بدأ سابقا، لأن معنى الحديث أو الحداثة يعطيان ما قبلهما وهذا الما قبل هو الذي أتاح العطاء،  العطاء العابق بروح هويته المغربية،لأنه ليس عطاء سائبا، بل إنه محروس بهذه الوكالة التي هي وكيله في سياق هذا المركب الاسنادي في نحت تسمية عطاء وكيل نقول هذا في شهادتنا الاحالية هاته مع علمنا بأن التسمية ذاتها هي تركيب من حروف (فونيم) ومقاطع كاملة لثلاث رواد (عبد الصمد الكنفاوي، أحمد الطيب لعلج، الطاهر واعزيز)، هذه الأسماءهي نفسها التي أوكلت هذه الحراسة في وكالة عطائها للطيب الصديقي الذي كان مؤسس عروض عطائها المسرحي، وهي أسماء لشخصيات وازنة في تاريخ إعادة بناء المسرح المغربي وفق صيغته الحديثة وهندسته من جديد في مشهدية ما يقوم عليه العرض المسرحي بهذه الصيغة الحديثة. حيث كان الطيب الصديقي في هذه المرحلة التأسيسية حاضرا وبقوة ككمثل ودراماتورج وسينوغراف وكمخرج له مسؤولية تنظيم فسيفساء العرض المسرحي المغربي الجديد بكل ما يمكن أن تسعفه به معطياته التقنية والفنية، وهنا ستظهر في تاريخ المسرح المغربي كل الأساليب والصيغ المسرحية المعروفة في تجارب المسرح العالمي، خاصة مفهوم الدراماتورجية والسينوغرافيا لضبط ايقاع العرض المسرحي في تناغم وتظافر الفنون التي يشتغل وينبني عليها هذا الايقاع، مع التركيز أكثر في تجربته الاخراجية والتصور القائم عليه على دور الممثل أو بالأحرى جسده وكيفية أدائه الفني باعتباره أداء قبل أن يكون تمثيلا، وهنا سنتعرف كذلك على معنى الكروتيسك والذي كثيرا ما نعته بعض النقاد بالكاريكاتور، وأول ما ظهر هذا المعنى في أعمال الصديقي ظهر في مجال اللغة وتلاعبه باحالاته في نقائضها وكأن يمارس عنفها، ثم في رسم ملامح شخصيات أعماله المسرحية اعتمادا على الأقنعة والملابس وأعمال البوستير ذات المرجعية الخاصة بالمتخيل الديني الشعبي، وهي رسوم تعكس هذا المتخيل في حكاية سيدنا علي ورأس الغول، وسيدي رحال البودالي والسبع، وسفينة  نوح، زيادة على ما توحي به في هذا المتخيل حكاية آدم وحواء وتفاحة الإغراء... وجلاليب المجاديب وأهل الحال، وكمثال على ذلك نذكر: القوق في الصندوق مومو بوخرصة الفيل والسراويل، والسفود ولو كانت فولة، اجنان الشيبة، قدور نور الغندور،...إنه ميراث كامل في استعادة الذاكرة، وكأن مسرحه هو البيت المسكون بهواجس مسكوناته، وهي مسكونات اللاوعي الجمعي او اللغة المنسية، والمسرح عنده هو موقع من مواقع هذا الاسترجاع للذاكرة وكأنه يريد إعادة الماضي للحاضر وهو ما يعنيه معنى العرض المسرحي، وقد تجلى واضحا أسلوب الغروتيسك عنده في المقامات وألف حكاية وحكاية، وفي أعماله المنعوتة بالبساط خاصة قفطان الحب المرصع بالهوى.

رحم الله الطيب الصديقي الذي أعطانا مسرحا مغربيا بكل ما تحمل معنى مغربي من دلالات ثقافية، إنه رحمه الله ظل يمارس دور العطاء المتواصل وهنا نذكر أحد الصوفية المغاربة (واصل بن عطاء) ثم دور الوكيل الذي أوكل لنفسه الحرص على هوية هذا المسرح الذي ينعته البعض فيه بأنه هو أبوه، أو سيده، ونحن نقول إنه صانعه وأحد مؤسسي توجهاته، والتي ستظهر في ما بعد عند المسرحيين المغاربة بل وحتى العرب،   أ ذ يمثل مسرح الصديقي معطفا للمسرح العربي مثل ما مثل معطف غوغول سلالة القصة.

إن الصديقي فعلا وكيل للمسرح المغربي، بل والعربي واحد سدنة معبده الذي لا يغشاه إلا من كانت له مثل هذه الرؤية الثاقبة في تأثيث فضاءاته، فضاءات مسرحية أعطاها الصديقي من حياته ما أضاءها وأشع أنوارها لنهتدي بها نحن أولا، ومن سيأتي بعدنا، فلتنم يا أبانا الذي مثواه المسرح في مسرح أنت هو قرير عين، فأبناؤك ومريدوك هؤلاء الورثة لا محالة قادمون على نفس النهج الذي كنت عطاؤه ووكيله، فنعم العطاء ونعم الوكيل، وليرتع لاعبو المسرح المغربي في فسحات ما  أضاءه لهم الطيب الصديقي بجهد قل نظيره، وحس فني صرنا الآن في أمس الحاجة إليه، إننا في كل هذا نفتقدك ولنا في ما تركته لنا من ميراث ما يمنحنا بعض العزاء، نعم عزاؤنا فيك هو هذا الأصل الذي صبغت به المسرح المغربي، مسرحنا الذي أنت حقا من كان مبدع أصالته ووكيلها بكل عزة ومفخرة. فطوبى لك أيها الصديق بما طيبت به مسرحنا وما صادقتنا به من نفحات فنك الذي هو عنوان مسرحنا الذي أنت وكيله.

رحمك الله أيها الطيب الصديقي.

شهادة إضافية: صيغة هذا العنوان هي صيغة مقلوبة بشكل ضدي لما تعنيه عبارة عطاء وكيل، مادام العطاء واضحا في المنهج لكن بعد العطاء يجب الحرص على عدم ضياعه، وهنا يأتي معنى الوكيل.