تكشف هذه الدراسة لعدد من أعمال فرانز فانون عن أن كشوف هذا المفكر الكبير لاتزال قادرة على إضاءة حقيقة ما يدور في واقعنا الراهن، وخاصة بعد كارثة احتلال العراق.

أشباح فانون

ودة لأعمال المنظر الثوري الكبير

ثائر دوري

وجدت أن خير ما أبدأ به كلماتي عن فرانز فانون هي كلماته نفسه في خاتمة كتابه معذبو الأرض. إذ يقول:
"إن العالم الثالث يقف الآن أمام اوروبا كتلة عظيمة تريد أن تحاول حل المشكلات التي لم تستطع اوروبا أن تأتي لها بحلول. ولكن يجب علينا أن لا نتحدث عن وفرة الإنتاج، وأن لا نتحدث عن الجهد العنيف، أن لا نتحدث عن السرعة الكبيرة. ليس معني هذا أن نعود إلي الطبيعة وإنما معناه أن لا نشد البشر إلي اتجاهات تشوههم، أن لا نفرض علي الدماغ إيقاعا سرعان ما يفسده ويفقده سلامته. يجب علينا أن لا نتذرع بحجة اللحاق فنزعزع الإنسان وننتزعه من ذاته، من صميمه، ونحطمه، ونقتله. لا. نحن لا نريد اللحاق بأحد، ولكننا نريد أن نمشي طوال الوقت ليلاً ونهاراً، في صحبة الإنسان، في صحبة جميع البشر. وعلينا أن نجعل القافلة متراصة غير متباعدة، وإلا لم يستطع كل صف من الصفوف أن يري الصف الذي تقدمه، ولم يستطع البشر أن يعرف بعضهم بعضاً، وأصبحوا لا يلتقون إلا لماماً ولا يتحدث بعضهم إلي بعض كثيراً. إن علي العالم الثالث أن يستأنف تاريخاً للإنسان يحسب حساب النظرات التي جاءت بها اوروبا وكانت في بعض الأحيان رائعة. ولكنه يحسب حساب الجرائم التي قامت بها أوروبا في الوقت نفسه، وأبشع هذه الجرائم أنها شتتت وظائف الإنسان تشتيتاً مرضياً، وفتتت وحدته، كما أوجدت في المجتمع تحطماً وتكسراً وتوترات دامية تغذيها طبقات، وكما أوجدت علي مستوي الإنسانية أحقاداً عرقية واستعباداً واستغلالاً بل ومجزرة نازفة تمثلت في نبذ مليار ونصف مليار من البشر.

فيا أيها الرفاق، يجب علينا أن لا ندفع جزية لاوروبا بخلق دول ونظم ومجتمعات تستوحي اوروبا. إن الإنسانية تنتظر منا شيئاً غير هذا التقليد الكاريكاتوري، الفاجر علي وجه الإجمال. إذا أردنا أن نحول أفريقيا إلي اوروبا جديدة، وأن نحول أمريكا إلي اوروبا جديدة كان علينا أن نعهد بمصائر بلادنا إلي اوروبيين، لأنهم سيحسنون التصرف أكثر من أعظمنا موهبة."

في عام 2004 احتفلت الجزائر بذكري مرور خمسين سنة علي اندلاع الثورة الجزائرية عام 1954. نصف قرن بين اندلاع ثورة شكلت مع الثورة الفييتنامية عنواناً لأحلام عريضة بالتحرر والتقدم لكل شعوب العالم الثالث في آسيا، وافريقيا، وأمريكا اللاتينية، وفي القلب من هذا أمتنا العربية الموزعة بين القارتين المضطهدتين آسيا، وأفريقيا. لقد حلمت الشعوب يومها أن هاتين الثورتين المظفرتين، الجزائرية والفييتنامية ستشكلان عنواناً لنهوض العالم الثالث وتحرره من السيطرة الغربية وتصفية صفحة بغيضة من التاريخ البشري، هي صفحة الاستعمار. لكن وكأن الزمان قد دار دورة كاملة خلال نصف القرن هذا، فبدل التقدم والتحرر وبناء نظام علاقات دولية متكافئة كما رغبت دول باندونغ، إذ بنا نعود مع بداية الألفية الثالثة إلي عصر الاستعمار المباشر ببروفته الأفغانية، ثم باحتلال العراق من قبل أمريكا عام 2003. وهذه العودة للاستعمار العسكري المباشر، وللعلاقات الكولونيالية لم تأت من سماء صافية، بل من سماء ملبدة بالغيوم التي تجمعت خلال نصف قرن، فقد فشل فكر اللحاق بالغرب الذي ساد في العالم، والذي حذر منه فانون في المقدمة التي ذكرتها. لقد فشل هذا الفكر سواء بطبعته السوفييتية أم بنموذج باندونغ، فوقعت دول العالم الثالث فريسة لاستعمار اقتصادي إذ اصطادها المرابون بشبكة الديون. فانهارت أحلام الجزائر، التي بدت في يوم انتصار ثورتها وكأنها قاطرة للثورة الافريقية المنشودة، وغرقت بالحرب الأهلية. أما هانوي حلم الثوريين في العالم والنموذج الذي حاولنا استنساخه في كل مكان، فقد انتهي بها المطاف أن تفرش السجاد الأحمر لجورج بوش الابن وتستجديه أن يقبل انضمامها إلي منظمة التجارة العالمية. وعلي الصعيد الثقافي والفكري عاد الغرب إلي تمجيد تاريخه الاستعماري بعد أن انزوي خجلاً لبعض الوقت، فصرح غوردن براون، وزير المالية في بريطانيا سابقا وخليفة توني بلير حاليا في رئاسة وزرائها، قائلاً:
ولّي الزمن الذي كانت بريطانيا فيه مضطرّة للاعتذار عن تاريخها الكولونيالي. كما طلب من البريطانيين أن يعتزوا بتاريخهم الامبرطوري. ثم تلا ذلك قانون تمجيد الاستعمار في فرنسا. وكأننا عدنا إلي نقطة الصفر إلي العالم الكولونيالي الذي وصفه فرانز فانون. فكأن ما كتبه عن حرب التحرير الجزائرية مخصص لوصف حرب التحرير التي تدور رحاها اليوم علي أرض العراق.

خصصت الجزائر جانباً من احتفاليتها باليوبيل الذهبي للثورة لإعادة التذكير بمفكر الثورة ومنظرها وعنوانها المفكر المارتينيكي ـ الجزائري فرانز فانون فأعادت طباعة أعماله كاملة، وهذه الأعمال كانت قد طبعت من قبل بطبعات عربية كثيرة أغلبها في الستينيات، حيث كان المد الثوري يملأ الفضاء العربي قبل أن يتراجع الاهتمام بفانون منذ السبعينيات مع انكسار القوي الثورية التدريجي. لذلك كان طبيعياً أن لا أتعرف أنا علي فانون إلا عندما رأيت الدبابات الأمريكية في بغداد في نيسان (ابريل) 2003، فإذ بهاجس غامض يدفعني لأنفض الغبار عن مكتبة أبي البعثي القديم فاستل منها كتابين لفانون مطبوعين علي ورق أصفر ودون عناية بالغلاف علي عادة الكتب الثورية التي طبعت في الستينيات والتي كانت تهتم بالمضمون دون الشكل، وعلي عكس ما حدث لاحقاً حين تراجع المضمون لصالح الشكل في كل مجالات الحياة.

أول الكتابين كتابه الأشهر (المعذبون في الارض) ، والثاني، وهو أقل شهرة، وقد غيّر المترجم عنوانه فنشره بالعربية تحت اسم (سوسيولوجيا الثورة) ، في حين أن اسمه الأصلي هو خمس سنوات علي الثورة الجزائرية. وبعد عام ونيف اكتشفت حكاية احتفالية الجزائر بفانون عبر اصدار دار الفارابي في بيروت بالاشتراك مع منشورات آنيب ANEP في الجزائر أعمال هذا المفكر كاملة بغلاف أنيق وعلي ورق أبيض وقد تضمنت الكتابين سالفي الذكر وكتاب بشرة سوداء أقنعة بيضاء، وكتاب من أجل الثورة الأفريقية.

وهكذا أعيدت طباعة أعمال فرانز فانون واكتسبت أفكاره حياة جديدة بعد أن ظن الكثيرون أنها قد انتهت بانتهاء العالم الذي تتحدث عنه، عالم الاستعمار العسكري المباشر. لكن الغرب أعاد إحياء العالم الكولونيالي فأعاد المقاومون إحياء فانون لتعود كتاباته معاصرة وكأنها تكتب اليوم. فحين يتحدث عن حرب التحرير الجزائرية تظن أنه يتحدث عن حرب التحرير العراقية، كما قلنا.

المعذبون في الارض
يقف علي رأس أعمال فانون كتابه الشهير معذبو الأرض الذي كتبه وهو علي فراش الموت يصارع مرض ابيضاض الدم وصدر عام 1961 والثورة الجزائرية، التي ارتبط اسمه بها إلي الأبد، علي وشك الانتصار، وقد ترجم هذا الكتاب إلي العربية المناضل العربي الراحل الدكتور جمال الأتاسي وسامي الدروبي وصدر عن دار الطليعة في بيروت مع مقدمة هامة للمفكر الفرنسي سارتر، لا أدري لماذا تم حذفها في الطبعة الجديدة من الكتاب الصادرة عن دار الفارابي. ولد فرانز فانون المفكر المارتينيكي ـ الجزائري عام 1925 في المارتينيك المستعمرة الفرنسية، التي صارت مقاطعة فرنسية فيما بعد، لكن دون أن يعني هذا أن سكانها السود قد صاروا فرنسيين، فأول أمر صدم فرانز فانون أثناء خدمته في الجيش الفرنسي بعد أن تطوع في الجيش الديغولي هو العنصرية مع أنهم كانوا افتراضياً يخوضون حرباً ضد العنصرية النازية فقد عزلت كتائب الفرنسيين البيض عن كتائب الهنود الغربيين السود، المفترض أنهم مواطنون فرنسيون. عزل الجنود الافارقة السود عن القوات الفرنسية، كما عزل الافارقة العرب، الذين كان يسخر منهم الفرنسيون ويعاملونهم كما لو كانوا مواطني درجة ثانية علي تراب أرضهم نفسه. عاش فانون هذه التجربة في نفس اللحظة التي بدأ فيها الجيش الفرنسي مواجهة الفاشية الألمانية، بأفكارها عن النقاء العرقي. لم تضع منه المفارقة الساخرة لهذه الحالة (تشخيص فرانز فانون). ومنذ تلك اللحظة تأكد فرانز فانون أن العالم الكولونيالي أبعد ما يكون عن قيم المساواة فهو عالم مقسوم إلي بيض وسود، إلي مستغلين (بكسر الغين) ومستغلين (بفتح الغين)، إلي مستعمرين (بكسر الميم) ومستعمرين (بفتحها).  وبحكم تخصصه اللاحق بالطب النفسي أدرك أن العالم الكولونيالي معقد ويعتمد دوامه علي تسليم الطرفين به، فلو لم يوافق المستعمر (بفتح الميم) علي استمرار هذا العالم لانهار علي الفور. لذلك ألف فرانز فانون كتاب بشرة سوداء أقنعة بيضاء خصصه لدراسة الاستلاب الذي يتعرض له المستعمر (بفتح الميم) حين يتبني قيم المستعمر (بالكسر).  يقول فانون: "تنشأ داخل الشعوب المستعمرة عقد دونية تجاه المستعمر فيحاول أفرادها اعتناق قيم المتروبول الثقافية" وبالنسبة للأسود، كما يحلل فانون، سيكون أبيض بقدر ما يرفض سواده (دغله). يتابع فانون: (حين وصل مارتينيكي إلي الهافر، دخل إلي مقهي. وصاح بثقة تامة: أيها النادل!

وهكذا نشهد تسمما حقيقاً. فهو مهووس بعدم التماهي مع صورة الزنجي الذي يأكل حروف الراء. فتزود منها بالزاد الوفير. لكنه لم يعرف كيف سيوزع مجهوده، ويتابع: "الذي يدخل فرنسا يتغير، لأن المتروبول يمثل بنظره المستقر والملاذ، إنه يتغير ليس فقط لأن من هذه الأرض جاءه مونتسيكو، روسو، وفولتير، بل لأن من هناك جاءه الأطباء ورؤساء الخدمة، وأيضا صغار المتسلطين الذين لا يحصون... فذلك الذي يسافر لمدة أسبوع في اتجاه المتروبول يخلق حوله دائرة سحرية حيث تمثل الكلمات، مارسيليا، لا سوربون، بيغال، مفاتيح العقد" وعندما يعود إلي وطنه،.لنمض للقاء واحد ممن عادوا.  العائد يؤكد نفسه منذ اتصاله الأول، فهو لا يرد إلا بالفرنسية وغالباً لا يعود يفهم لغة الكريول ـ لغة شعبية في المارتينيك. حول هذا الموضوع، يقدم لنا الفولكلور أمثلة. بعد عدة أشهر في فرنسا عاد فلاح إلي أهله. وعندما رأي آلة حراثية، سأل أباه، وهو مزارع عتيق لا يفوته شيء: كيف تسمي هذه الأداة؟ ، وكان رد أبيه الوحيد أن رماها، وعندها زال فقدان الذاكرة. إنه علاج فريد من نوعه.  ويوجه فانون أنظارنا بشكل خاص إلي هؤلاء الذين يقفون في المنتصف. يقول:
"وفي ألوية القناصة السنغاليين كان الضباط المحليون مترجمين، في المقام الأول. فهم يقومون بنقل أوامر السيد إلي أبناء جلدتهم، ويتمتعون هم أيضاً ببعض التكريم".

في عام 1953 عين في مشفي الأمراض العصبية في مدينة بليدا الجزائرية وهناك بدأت رحلته مع الثورة الجزائرية التي شاهد اندلاعها عام 1954، وفي عام 1956 وجه رسالة إلي المفوض العام الفرنسي روبير لا كوست يعلن فيها استقالته من عمله ويدين السياسة التي حولت عدم المساواة والقتل، إلي مباديء قانونية، موجهة ضد المواطنين الأصليين في الجزائر. هذه السياسة التي تطمس شخصيتهم وتذلهم في قلب وطنهم.

بعد هذه الرسالة طُرد فانون من الجزائر. لكن ارتباطه بالثورة الجزائرية صار أمراً لا رجعة عنه فبعد أن فشل بتحريض الرأي العام الفرنسي ضد استعمار الجزائر انتقل إلي تونس، وأنشأ هناك المنظمة الخارجية لجبهة التحرير الوطني. ثم أصبح عضواً في هيئة تحرير صحيفة المجاهد الناطقة باسم الجبهة. وفي عام 1959 عينته جبهة التحرير سفيراً متجولاً لها في افريقيا السوداء وهناك شاهد الدول المستقلة حديثاً وعاين قادتها، فحذر من المصير السيء الذي تمشي إليه هذه الدول المستقلة إذا لم تتدارك الأمر. ففي فصل من كتاب معذبو الأرض تحت عنوان مغامرات الوعي القومي البائسة نجده يحذر من البرجوازية الوطنية التي تستلم السلطة من الاستعمار، لأنه لا قوة اقتصادية لها، ولا خبرة لها بإدارة شؤون البلاد، فهي ليست برجوازية منتجة. يقول فانون:

"إن البرجوازية الوطنية في البلدان المتخلفة ليست متجهة نحو الإنتاج، والابتكار والبناء، والعمل، وإنما هي تنفق نشاطها كله في أعمال من نوع الوساطة. إن نفسية البرجوازية الوطنية هي نفسية رجال أعمال، لا رواد صناعة. ويجب أن نعترف أن جشع المستوطنين ونظام الحجر الذي أوجده الاستعمار لم يدعا للبرجوازية حرية الاختيار كثيراً".

إنه ليستحيل علي برجوازية أن تراكم رأسمالاً في ظل النظام الاستعماري. والرسالة التاريخية التي يبدو أن البرجوازية الوطنية الحقيقية في البلد المتخلف قد خلقت للنهوض بها هي أن تنكر نفسها كبرجوازية، هي أن تنكر نفسها كأداة لرأس المال، وأن تضع نفسها وضعاً كاملاً في خدمة رأس المال الثوري الذي هو الشعب.

إن علي البرجوازية الوطنية الحقيقية في البلد المتخلف أن تفرض علي نفسها خيانة المهمة التي كانت ميسرة لها، أن تدخل مدرسة الشعب، أي أن تضع تحت تصرف الشعب الرأسمال الثقافي والتقني الذي استطاعت أن تنتزعه حين مرورها بجامعات الاستعمار.

لا تستمع لنصائح فانون
لكن البرجوازية الوطنية لا تستمع لنصائح فانون التي طبقها علي نفسه عندما التحق هو ورفاقه المثقفون بثورة الشعب حين يقول: "وإذا كنا نريد لأنفسنا أن نكون جزائريين فقد بدا لنا جميعاً أن واجبنا هو إما الالتحاق بالمقاومة وإما إعداد أنفسنا لنكون الكوادر المقبلة للدولة". تندفع البرجوازية في طريق مناقض لمصالح الأمة فتندمج برأس المال العالمي وتعجز عن التصنيع لذلك تمجد الحرف اليدوية، فتظل البلاد مصدرة للمواد الأولية وملتحقة بالسوق العالمية كتابع. وعندما تمارس هذه الطبقة عملية التأميم لا تفعل ذلك من أجل وضع مجموع الاقتصاد في خدمة الأمة لتحقيق حاجات الأمة إنما لنقل الامتيازات الموروثة من عهد الاستعمار إليها كطبقة فيصير الوكلاء وممثلو الشركات الأجنبية من أبناء البلد. يقول فانون:
"إن البرجوازية الوطنية تكتشف لنفسها هذه المهمة التاريخية وهي أن تكون وسيطاً. وهكذا لا تكون رسالتها تغيير أحوال الأمة، بل جعل نفسها وسيطاً بين البلاد وبين رأسمالية مضطرة للتخفي، رأسمالية تضع علي وجهها اليوم قناع الاستعمار الجديد فتتجه هذه البرجوازية الوليدة إلي التشبه بالبرجوازية الأوروبية الهرمة من ناحية البذخ والاستمتاع بالملذات، دون أن تمر بأطوار المغامرة والاستكشاف والبناء التي مرت بها الأوروبية. وهكذا تشبه البرجوازية الوطنية في أول عهدها البرجوازية الغربية في آخر عهدها".  وأمام عجز هذه البرجوازية عن تلبية مطالب الجماهير، التي لم تشعر أن وضعها قد تحسن مع زوال الاستعمار، تلجأ إلي حيل مختلفة منها تأجيج الشعور القومي ضد قوميات مجاورة بأية حجة كانت. أو نري نفخاً في الدعوات الإقليمية والانفصالية بسبب تفاوت التطور بين الأقاليم لأن اقتصاد الدول المستقلة حديثاً ليس متكاملاً علي المستوي الوطني بل هو مرتبط باقتصاد المستعمر السابق. فالمناطق الغنية بالمواد الأولية تجد أن من مصلحتها الاستئثار بثرواتها وبيعها للمستعمر السابق مباشرة. وهذا يُظهر عجز البرجوازية الوطنية عن بناء الأمة. يقول فانون: "وهذا الصراع القومي الذي يقوم بين القبائل، وهذا الحرص العنيف علي احتلال المراكز التي أصبحت شاغرة برحيل الأجنبي سيولدان تنافسات دينية. ففي الأرياف والبراري نجد الطوائف الدينية الصغيرة، وجماعات الطرق الصوفية، تستعيد نشاطها وحيويتها، وتستأنف لجوءها إلي تكفير غيرها، وفي المدن الكبري، علي مستوي الوظائف الإدارية، نجد صراعاً يقوم بين الديانتين المنزلتين الكبيرتين: الإسلام والكاثوليكية".

وهكذا يصبح إفلاس البرجوازية الوطنية شاملاً علي كل المستويات الاقتصادية، والأخلاقية، والسياسية، والدستورية، فالنظام البرلماني الذي أشادته فاسد فساداً عميقاً. وهنا تختار هذه البرجوازية الحل الأسهل وهو اللجوء إلي نظام الحزب الواحد. يقول فانون: "إنها لا تملك راحة البال والطمأنينة التي يمكن أن تؤمنه لها القوة الاقتصادية والهيمنة علي نظام الدولة. إنها لا تخلق دولة تطمئن المواطن بل تقيم دولة تبث القلق في نفس المواطن".  إن الدولة التي تؤهلها متانتها ويؤهلها تخفيها في الوقت نفسه، لأن تهب للناس الثقة، وأن تفل سلاحهم وأن تنومهم، تصبح دولة تفرض نفسها فرضاً صارخاً، وتعرض قواها، وتضرب وتقسو، وتفهم المواطن بذلك أنه في خطر دائم. إن نظام الحزب الواحد هو الشكل الحديث للدكتاتورية البرجوازية التي لا تتقنع ولا تتزين ولا يوزعها وازع ولا يردعها حياء. ومن هذه النقطة يصبح الطريق مفتوحاً لبروز ظاهرة الزعيم الأوحد لضمان استقرار العهد وضمان استمرار سيطرتها كطبقة. يقول فانون:
"فالدكتاتورية والبرجوازية في البلاد المتخلفة إنما تستمد متانتها من وجود زعيم. إن البرجوازية الدكتاتورية في البلاد المتطورة هي، كما تعلمون، نتاج القوة الاقتصادية التي تتمتع بها البرجوازية. أما في البلاد المتخلفة فإن الزعيم هو القوة المعنوية التي تريد البرجوازية، الهزيلة الفقيرة، أن تغتني في ظلها وتحت حمايتها. والشعب الذي ظل سنين طويلة يري الزعيم ويسمع خطبه، ويتابع من بعيد، وهو فيما يشبه الحلم، ما يقوم بين الزعيم وبين السلطات الاستعمارية من مشاجرات، يمحض هذا الزعيم ثقة من تلقاء ذاته. لقد كان الزعيم قبل الاستقلال يجسد آمال الشعب بوجه عام: الاستقلال، الحريات السياسية، العزة القومية، ولكنه بعد الاستقلال تراه يكشف عن وظيفته الصميمية ألا وهي أن يكون الرئيس العام لشركة المنتفعين المسرعين إلي التمتع، أعني البرجوازية الوطنية ". وتصبح وظيفة الزعيم لجم وعي الشعب وتضليل الجماهير عبر تذكير الشعب بالمعارك التي خاضها باسمهم، والانتصارات التي حققها. لقد صارت وظيفته تخدير الشعب عبر تذكيره بالماضي. ويتحول الحزب إلي نقابة تضامن لأصحاب المصالح، ولا عمل له سوي توصيل الأوامر من القمة إلي القاعدة فيصبح حاجزاً بين الجماهير وبين القيادة بعد أن ينقطع طريق التوصيل من القاعدة إلي القمة. يقول فانون:

"إن الحزب الذي جذب إليه أثناء معركة الكفاح مجموع الأمة يتحلل الآن. والمثقفون الذين انضموا إلي الحزب عشية الاستقلال يؤكدون بسلوكهم أن انضمامهم ذاك لم يكن له من هدف إلا الاشتراك في المائدة التي جاء بها الاستقلال. لقد أصبح الاستقلال وسيلة نجاح فردي". وقد شاهدنا بأم أعيننا كيف حدث هذا في أماكن كثيرة من العالم الثالث. ويتابع فانون: "إن سلوك البرجوازية الوطنية في بعض البلدان المتخلفة يذكر بسلوك أفراد عصابة من اللصوص الذين ما ان يفرغوا من القيام بعملية من العمليات حتي يخفوا حصصهم عن شركائهم، ويستعدوا للانسحاب بحكمة وتعقل ". ويخلص فانون إلي أن البرجوازية في البلاد المتخلفة لا يمكن أن تحقق تقدماً ولا تصنيعاً لذلك يجب القفز فوقها إلا إذا كانت تمتلك قوة اقتصادية وتكتيكاً يكفيان لبناء مجتمع برجوازي، وهذا أمر غير موجود في أغلب الحالات لذلك يجب تجاوزها فهي لا يمكن أن تنتج أفكاراً بل تتذكر ما درسته في الكتب المدرسية الغربية. يقول: "فإذ هي تستحيل شيئاً فشيئاً لا إلي نسخة عن اوروبا، بل إلي كاريكاتور لاوروبا".  ويؤكد فانون مراراً وتكراراً أن هذه البرجوازية تافهة لا تفيد بشيء. فيقول:

"إن هذه البرجوازية التافهة في أرباحها وفي أعمالها وفي فكرها تحاول أن تحجب هذه التفاهة بأقنعة شتي: بأبنية فخمة علي المستوي الفردي، بسيارات أمريكية لماعة، بإجازات تقضيها علي شواطئ الريفيرا، بعطل أسبوعية في الكباريهات المتوهجة بأضواء النيون. ذلك كل شأنها".

فانون والعنف
لا يبدأ العالم الكولونيالي بالانهيار حسب فانون إلا عندما يتحرر المستعمر (بفتح الميم) نفسياً وثقافياً من قيم المستعمر (بكسر الميم) وهنا يلاحظ فانون أن العنف يلعب دوراً بالغ الأهمية في تحرر المستعمر (بفتح الميم)، لأن العالم الكولونيالي بني أساساً علي العنف وليس ثمرة تفاهم ودي. يقول فانون: "محو الاستعمار إنما هو حدث عنيف دائماً لأن ذلك يبدل الكون تبديلاً تاماً. لذلك لا يمكن أن يكون ثمرة تفاهم ودي". ويقول: "تغيير المستعمر (بفتح الميم) للعالم الاستعماري ليس معركة عقلية بين وجهتي نظر، ليس خطاباً في المساواة بين البشر، وإنما هو تأكيد عنيف للأصالة تفرض مطلقة". المستعمر (بالكسر) هو سبب العنف، وهو خالقه، وكل عنف يصدر عن أهل البلاد ومن حركتهم الثورية مهما بلغت شدته هو رد فعل علي العنف الأصلي. يقول فانون: "في المستعمرات وسيلة التواصل بين المستعمر والسكان الأصليين هو الشرطي والدركي وبالتالي هي لغة عنف صرف". ويلاحظ فانون إن الاستعمار ليس آلة مفكرة، ليس جسماً مزوداً بعقل، إنما هو عنف هائج لا يمكن أن يخضع إلا لعنف أقوي. وقد رأينا بأم أعيننا كيف يتم بناء العالم الكولونيالي في العراق عبر الغزو، وشاهدنا كيف تعمل أمريكا علي إدامته بواسطة المارينز والمرتزقة، أي بالقوة العارية، بعد أن تحولت أمريكا إلي مجرد آلة لإنتاج العنف، فماذا ينفع مع هذا العنف سوي عنف مواز له بالقوة ومعاكس له بالاتجاه، أي عنف المستضعفين الساعين إلي حريتهم. ويلاحظ فانون أنه عندما يبلغ المستعمر (بالفتح) نقطة اللاعودة يكون قد اقترب من الانتصار، يقول فانون: "إن في الكفاح المسلح شيئا يصح أن نسميه النقطة التي لا عودة بعدها. وهذا تحققه أعمال القمع الواسعة. إن الإنسان يتحرر في العنف وبالعنف. ففي الجزائر جميع الرجال، تقريباً، الذين دعوا الشعب إلي الكفاح الوطني محكومون بالإعدام. وهنا نلاحظ أن الثقة تتناسب مع مقدار ما في كل حالة من يأس".

ولا يكتفي فانون بالعرض النظري للعنف إنما يعرض حالات سريرية تشير إلي أن العنف المكبوت في نفس الإنسان المستعمر (بالفتح) نتيجة العنف الممارس عليه منذ قرون يطيح بشخصيته أو يخرب مجتمعه إن لم يستطع أن يخرجه عبر الكفاح المسلح ضد المستعمر، لذلك يضع فصلاً كاملاً في كتاب (معذبو الأرض) بعنوان من الاندفاع إلي الإجرام لدي أهل شمال أفريقيا إلي حرب التحرير الوطني، ويستنتج أن الكفاح المسلح نظم العنف الذي كان ينفلت عشوائياً.

فانون والمثقف
أما المثقفون من أبناء المستعمرات فقد صب فانون جام غضبه عليهم منذ البداية وحتي النهاية، فالمستعمر (بكسر الميم) قد خرب عقولهم عبر حشوهم بالثقافة الغربية والروح الفردية. يقول فانون: "وتأتي الفردية في طليعة هذه القيم. لقد أخذ المثقف المستعمر (بالفتح) عن أساتذته أن علي الفرد أن يؤكد ذاته. لقد غرزت البرجوازية الاستعمارية في ذهن المستعمر (بالفتح) فكرة مجتمع الأفراد حيث ينزوي كل فرد في ذاتيته وحيث الغني هو غني الفكر. ولا منجي للمثقف المستعمر من هذا العالم الغربي الذي استلبه إلا بالتحاقه بشعبه." يتابع فانون: "إن كلمات الأخ والأخت والرفيق كلمات نبذتها البرجوازية، فالأخ عندنا هو محفظة النقود، والرفيق عندنا هو الصفقة الرابحة. وهكذا يشهد المثقف المستعمر (بالفتح) فناء جميع أصنافه احتراقاً بالنار: الأنانية، والانتقاد المتكبر، والغباء الغر الذي يحمل صاحبه علي أن يريد أن يكون له القول الفصل. وسيكتشف هذا المثقف المستعمر (بالفتح) الذي خربته الثقافة الغربية، سيكتشف أيضاً أن للمجالس التي تشكل في القري قوة كبيرة، وأن للجان التي تتألف من أفراد الشعب متانة هائلة، وأن للاجتماعات التي تمتد للحي او للخلية خصوبة ما بعدها خصوبة... إن نجاة الفرد بنفسه وهو شكل كافر من أشكال السلامة، هي في الميدان أمر مرفوض.

و يحدث أن لا يتوفر الوقت الكافي للمثقف كي يتطهر بنار الشعب لأن الاستعمار زال بسرعة في مناطق لم يهزها الكفاح المسلح هزاً كافياً، وهنا تحدث الكارثة. يقول فانون في وصف ما يفعله المثقفون في تلك الأوضاع: لقد كانوا للمستعمرين أبناءه المدللين، وهم للسلطة أبناؤها المدللون أيضاً، ينهبون الموارد الوطنية نهباً، ويندفعون إلي الإثراء بالصفقات المشبوهة والسرقات (القانونية) اندفاعا لا يعرف الرحمة، عن طريق الاستيراد والتصدير، والشركات المغفلة. كما أنهم فاقدو الثقة بنتيجة العنف الذي تمارسه الجماهير. يقول فانون: "قبل المفاوضات تكتفي أكثر الأحزاب، في أحسن الأحوال بأن تلتمس المعاذير لهذه (الوحشية) انها لا تطالب بالكفاح الشعبي. وليس نادراً أن نراها تنتقد، في حلقات مغلقة، تلك الأعمال التي تصفها صحافة البلد المستعمر ويصفها رأيه العام بأنها منكرة كريهة وإرهابية. وهذه السياسة التجميدية تعلل بالحرص علي رواية الأمور رواية موضوعية. وهذا الموقف ليس موضوعياً. إنما هؤلاء الناس ليسوا علي ثقة بأن هذا العنف الجامح الذي تعمد إليه الجماهير هو السبيل الأجدي للدفاع عن مصالحهم الخاصة. ثم إنهم غير مقتنعين بجدوي الأساليب العنيفة. وعندهم أن كل محاولة لتحطيم الاضطهاد الاستعماري بالقوة إنما هو سلوك يأس، سلوك انتحار. ذلك أن دبابات المعمرين والطائرات المقاتلة تحتل في أدمغتهم مكاناً كبيراً، فمتي قلت لهم يجب أن نعمل رأوا القنابل تتساقط فوق رؤوسهم ورأوا الدبابات تزحف علي طول الطريق ورأوا الرشاشات والشرطة فظلوا قاعدين لا يتحركون. إن عجزهم عن الانتصار بالعنف أمر لا حاجة للرهان عليه. إنهم يبرهنون علي هذا العجز في حياتهم اليومية وفي مناوراتهم. هؤلاء يتصورون أن للعنف شروطه التحضيرية والواقعية وأن له أدوات يجب إنتاجها. وزبدة القول هم يعتقدون أن انتصار العنف يقوم علي إنتاج الأسلحة وهذا يستند علي القوة الاقتصادية، علي الدولة الاقتصادية وعلي الوسائل المادية التي توضع تحت تصرف العنف، الواقع إن الإصلاحيين لا يقولون شيئاً آخر:

بأي شيء تريدون أن تحاربوا المستعمرين؟ بسكاكينكم؟ ببنادق الصيد التي عندكم؟
اما الشعب فله رأي آخر في العنف: إن حيازة بندقية أو عضوية جبهة التحرير الوطني، هي الفرصة الوحيدة المتبقية أمام الشخص الجزائري، لكي يعطي معني لموته. ذلك أن الحياة في ظل السيطرة قد غدت منذ زمن طويل خالية من المعني.

نتغير ونحن نغيّر العالم
هذه الفكرة الفلسفية البسيطة كرس لها فانون كتاباً كاملاً هو كتاب خمس سنوات علي الثورة الجزائرية، وقد ترجمه إلي العربية ذوقان قرقوط، وصدر عن دار الطليعة عام 1970 تحت اسم غير موفق علي الإطلاق هو سوسيولوجيا الثورة. لكن الطبعة الجديدة الصادرة عن دار الفارابي وهي لنفس المترجم السابق أعادت للكتاب اسمه الأصلي. اعتمد هذا الكتاب علي منهجية وصفية للمجتمع الجزائري ليتبصر المرء ماذا حل بالمجتمع الجزائري خلال خمس سنوات من الثورة بين عامي 1954 و1959، وما هي التغيرات التي طرأت علي بنيته بفعل الثورة. لقد رصد الكاتب أغلب جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية في هذا المجتمع قبل وبعد اندلاع الثورة وبيّن حجم التغيرات داخل الأسرة والقرية، كما درس تبدل الموقف من الحجاب، ومن المرأة، ومن التكنولوجيا الحديثة، ومن اللغة الفرنسية... الخ.

قسم المؤلف الكتاب إلي قسمين غير متساويين حجماً، القسم الأول وهو الأكبر خصصه لعالم المستعمر (بفتح الميم)، والثاني الأصغر خصصه لعالم المستعمر (بكسرها). إن عدم التساوي بالحجم هو منطقي تماماً فالفعل الثوري غيّر جذرياً عالم المستعمرين (بفتح الميم) في حين أنه فقط نزع الطمأنينة من عالم المستعمرين (بالكسر)، فكتب أربعة فصول تعالج التبدلات التي طرأت علي المجتمع الجزائري بفعل الثورة التي أعادت إنتاجه من جديد وضخت به حيوية ودماء جديدة، وأما الفصل الخامس فخص به الأقلية الأوروبية في الجزائر. ويعالج الكتاب فكرة شهيرة تقول: إن البشر ليسوا كتل حجارة صلبة ينهون مشوارهم كما بدأوه، بل هم كائنات حية تتفاعل مع الكون، لذلك تراهم وهم يقومون بفعل تغيير الكون يتغيرون هم أيضاً. فالثورة هي ولادة إنسان جديد ومجتمع جديد. يقول فانون: "إن الثورة من حيث أنها ثورة في الأعماق، الثورة الحقيقية، تكون متقدمة جداً لأنها تبدل الإنسان وتجدد المجتمع، فهذا الأكسجين الذي يبدع إنسانية جديدة ويعدها، إنه هو كذلك الثورة الجزائرية"، ويقول: "إإن الفكرة التي تتطلب من الناس أن يتبدلوا في ذات الوقت الذي يبدلون فيه العالم، لم تكن أبداً ظاهرة علي هذا النحو الواضح إلا في الجزائر.

في الفصل الأول من الكتاب وعنوانه الجزائر تلقي الحجاب يسرد فانون قصة الحجاب في الجزائر، فقصة الحجاب في الجزائر بدأت عام 1930 ـ 1935 وذلك لتحطيم أصالة الشعب الجزائري. يقول: "ذلك أن المسؤولين عن الإدارة الفرنسية في الجزائر، وقد أوكل إليهم تحطيم أصالة الشعب مهما كان الثمن، وزودوا بالسلطات لممارسة تفتيت أشكال الوجود المؤهلة لإبراز حقيقة وطنية من قريب أو من بعيد، سوف يعملون علي بذل أقصي مجهوداتهم ضد ارتداء الحجاب علي اعتباره في الحالة الراهنة، رمزا لتمثال المرأة الجزائرية. ولم يكن موقف كهذا نتيجة لحدس طارئ. إلا أن الأخصائيين في المسائل التي تدعي مسائل السكان الأصليين والمسؤولين في الدوائر المختصة بالعرب قد نسقوا أعمالهم بالاستناد علي تحليلات علماء الاجتماع... إلي الصيغة المشهورة: لنعمل علي أن تكون النساء معنا وسائر الشعب سوف يتبع.

ضرب المجتمع الجزائري
واستطاعت الإدارة الاستعمارية تعريف نظرية سياسية محددة، قائلة: إذا أردنا أن نضرب المجتمع الجزائري في صميم تلاحم أجزائه، وفي خواص مقاومته، فيجب علينا قبل كل شيء اكتساب النساء، ويجب علينا السعي للبحث عنهن خلف الحجاب حيث يتوارين، وفي المنازل حيث يخفيهم الرجل. ويشرح فانون كيف بدأت الحملة علي الرجل الجزائري لإشعاره بالمهانة لأنه يسجن النساء ويضطهدهن ويبدأ الحصار الفرنسي للنساء بالنساء الفقيرات الجائعات، فالجمعيات النسائية توزع الدقيق والسخط علي الحريم والحجاب، وبعدها يأتي دور النصائح العملية ويصار إلي حث النساء علي التمرد، ورفض التبعية للرجل وعلي نزع الحجاب. ويحاصر الرجل أيضا في العمل فيصبح موضع انتقاد زملائه الأوروبيين وموضع انتقاد رؤسائه في العمل ويصبح توجيه أسئلة من نوع: هل زوجتك سافرة؟ لم لا تصطحب زوجتك إلي السينما وألعاب الكرة والمقهي؟ ويتابع فانون أن الأوروبيين يتبعون أساليب عديدة في محاصرة الرجل الجزائري، وهكذا فإن المدير يدعو الموظف الجزائري وزوجته بمناسبة أحد الأعياد كعيد الميلاد أو رأس السنة، أو ببساطة في مناسبة خاصة بأعضاء الدائرة، ولا تكون الدعوة جماعية، وإنما يُطلب كل جزائري إلي مكتب الإدارة ويدعي بالاسم للمجيء بصحبة عائلته الصغيرة. وباعتبار أن الدائرة هي أسرة كبيرة فلسوف ينظر نظرة سيئة إلي الذين يحضرون بدون زوجاتهم، إنكم تفهمون اليس كذلك؟

ويعاني الجزائري أمام هذا الإنذار الرسمي للقيام بالواجب لحظات صعبة في بعض الأحيان. فإن المجيء بصحبة زوجته معناه الاعتراف باندحاره وهذا معناه تعريض زوجته للمهانة، والعمل علي عرضها للأنظار والتخلي عن كيفية المقاومة ويكون الحضور لوحده،علي العكس امتناعاً عن إرضاء رب العمل، وهذا ما يجعل البطالة ممكنة. إن دراسة أية حالة تؤخذ بالصدفة ودراسة نمو الكمائن التي ينصبها الأوروبي بقصد حصر الجزائري لكي يتميز ويعلن: زوجتي محجبة ولن تخرج! أو لكي يتخاذل ولسان حاله يقول: بما أنكم تريدون رؤيتها، فها هي ذي، وما في الروابط والعلاقات من طابع سادي وفاسد سوف توضح باختصار، علي المستوي النفسي، مأساة الوضع الاستعماري والتصدي الذي يجري خطوة، خطوة بين نظامين، أي ملحمة المجتمع المستعمر (بالفتح) بخصائصه في الوجود، في مواجهة الأخطبوط الاستعماري.

الحجاب
لقد أصبحت المرأة محورية في برنامج التدمير الثقافي الذي سنه المستعمر (بكسر الميم) فهي التي ستحول الرجل بعد أن يتمكن من كسبها إلي جانب القيم الغربية، وهي التي ستكون المعول الذي سيفتت الثقافة الجزائرية. يقول فانون عام 1959، أي بعد أربع سنوات من بداية الثورة الجزائرية: "إن الحلم بعملية ترويض شاملة للمجتمع الجزائري تجري بمعونة النساء السافرات المعاونات لرجل الاحتلال، لم ينفك حتي يومنا هذا يراود عقول المسؤولين السياسيين عن عملية الاستعمار. وقد وصلت جدية البرنامج الاستعماري حول موضوع الحجاب أن تدخل الجنرال ديغول شخصياً بالأمر وذلك عام 1958 في قسنطينة، كما يتدخل ساركوزي اليوم في باريس. ففي تجمع في قسنطينة لاستقبال الجنرال ديغول في تشرين الاول (أكتوبر) 1958 طلبت السلطات الفرنسية من بنت أحد الموظفين في إدارتها أن ترتدي الحجاب، وتقف في صفوف المشاهدين الجزائريين، حتي إذا صدر أمر التخلص من الحجاب من قبل ديغول ترمي هي بحجابها علي انه استجابة للطلب الفرنسي، وهذه البنت معروفة في قسنطينة، ولم تكن قد ارتدت الحجاب في حياتها أصلاً قبل ذلك اليوم. وتجدر الإشارة إلي أن عدداً كبيرا من الفتيات الجزائريات كن سافرات آنئذ،  وأن عددهن كان في تزايد. لكن طريقة نزع الحجاب هذه جعلت عددا من السافرات يرجعن الي الحجاب، حتي لا يتصور الناس أن سفورهن استجابة لطلب الزعيم الفرنسي (الجزائر في سنوات التسعينيات ـ بنيامين سنورا ـ (وجهات نظر العدد 36 كانون الثاني/ يناير 2002).

يقول فانون: "كل حجاب منزوع يكشف للمستعمرين آفاقا كانت ممنوعة حتي ذلك الحين، يبرز لهم قطعة فقطعة الجسد الجزائري المعري وبعد سفور كل وجه تظهر روح المحتل العدائية وبالتالي آماله، مضاعفة عشرات المرات، وتعلن كل امرأة جزائرية جديدة سافرة، إلي المحتل عن مجتمع جزائري، تأذن نظمه الدفاعية بالتفسخ، وانه مجتمع مفتوح وممهد. وكل حجاب يسقط وكل جسم يتحرر من وثاق الحايك التقليدي وكل وجه يبرز لنظر المحتل الوقح، الجزع يكشف علي نحو سلبي بأن الجزائر قد بدأت بالتنكر لنفسها، وتقبل بهتك سترها من قبل المستعمر (بالكسر). ويبدو المجتمع الجزائري مع كل حجاب مهجور، انه يرضي بوضع نفسه في مدرسة السيد، وأنه يقرر تغيير عاداته، تحت إدارة وإشراف الاستعمار. فإذا كان المستعمر ينظر إلي نزع حجاب المرأة الجزائرية علي أنه وسيلة لهتك القيم الحضارية والثقافية للمجتمع الجزائري ويبني استراتيجية الغزو والهيمنة والإلحاق علي هذا الأمر فمن المنطقي أن ينظر الشعب الجزائري إلي التمسك بالحجاب علي أنه وسيلة من وسائل المقاومة للحفاظ علي الشخصية الحضارية ولمقاومة التذويب في الثقافة الفرنسية، وبالتالي مقاومة التلاشي حضاريا وسياسيا كما يريد له المستعمر (بكسر الميم).

وهنا نصل إلي الملاحظة النافذة لفرانس فانون، وهنا نعثر علي قوانين علم النفس الخاص بالاستعمار وهي أن الفعل ومشاريع المحتل هي التي تحدد في المرحلة الأولي مراكز المقاومة التي تنتظم حولها إرادة البقاء في شعب ما. إن الأبيض هوالذي يخلق الزنجي، لكن الزنجي هو الذي يخلق صفات الزنجية. وهكذا يصبح مفهوماً أن تكون رموز المقاومة العربية ـ الإسلامية رموزاً دينية في هذه المرحلة، طالما أن الغازي الأمريكي يعلنها حرباً صليبية، وتشن أجهزة إعلامه ومراكز أبحاثه ومثقفوه وجيوشه حرباً علي مدار الساعة علي الإسلام... ويتابع فرانز فانون: "وردا علي الروح العدائية الاستعمارية من حول الحجاب فإن المستعمر ينمي التعلق بالحجاب وما كان عنصرا لا نصيب له من الاكتراث في مجموع متجانس، اكتسب صفة التابو لذلك فإن موقف تلك الجزائرية من الحجاب سوف يقارن باستمرار بموقفها الكلي من الاحتلال الأجنبي

ونتيجة لمجمل السياسة الاستعمارية نمت عادة التعلق بالحجاب وصار من المحرمات التي لا يجوز المساس بها. بل ازداد عدد المحجبات. لكن مع اندلاع الثورة الجزائرية تبدل الموقف من الحجاب جذرياً فلم يعد له طابع التابو، بل حلت نظرة لها طابع براغماتي خاصة بعد انخراط المرأة في جبهة التحرير وقيامها بمهام نضالية كالرجل، وبعد أن أصبحت تسير سافرة في المدينة الأوروبية كي لا تلفت الانتباه بحجابها وهي تنقل الرسائل الشفهية للمناضلين، أو عندما تكون كشافة للطريق، أوعندما تكون حقيبتها محشوة بالقنابل والمسدسات التي ستسلمها لمناضل عند الزاوية. وعندما انتبه المستعمر الفرنسي لدور النساء هذا وصار حذراً من النساء السافرات، عادت المرأة لاستخدام الحجاب كي تخفي السلاح تحته.

أما الفصل الثاني من الكتاب والمعنون هنا صوت الجزائر فيدرس به فانون موقف الشعب الجزائري من التكنولوجيا الحديثة التي حملها الاستعمار، والتغيير الذي طرأ علي هذا الموقف بفعل اندلاع الثورة الجزائرية، فيختار لذلك دراسة الموقف من المذياع. كان البث قبل اندلاع الثورة يقتصر علي محطة فرنسية تعبر عن المجتمع الاستعماري وقيمه. وكان ما نسبته 95 % من أجهزة الراديو بأيدي الأوروبيين. أما لدي الجزائريين فقد اقتصر اقتناء هذا الجهاز علي البرجوازية المتطورة. كان المجتمع الجزائري يتقبل بصعوبة أجهزة الراديو، بل إنه يرفض هذا الجهاز الذي كانت برامجه منقولة حرفياً عن برامج فرنسية لا تناسب مجتمع الجزائر أوتقاليده. ويحلل فرانز فانون موقف كل من المستوطن ورجل البلد الأصلي الجزائري من الراديو، فيقول: "إن الراديو يذكر المعمر، وهو في المزارع، بواقع السلطة، ويعلله، بوجوده ذاته، وبالأمن وراحة البال، فراديو الجزائر يؤسس حق المعمر، ويعزز يقينه بالاتصال التاريخي بواقعة الفتح وبالتالي لاستثماره الزراعي، وموسيقي باريس ومقتطفات صحف العاصمة الأم والأزمات الحكومية الفرنسية تشكل لوحة متلاحمة تظهر فيها آخر أنواع الزخرف في البلاد... إن راديوالجزائر يتعهد غرس ثقافة رجل الاحتلال، وسوء التوزيع اللا ثقافي ـ بالنسبة لطبيعة المحتل. إن راديوالجزائر أي صوت فرنسا في الجزائر يشكل مركز المعلومات الوحيد علي مستوي الإعلام... وهو دعوة يومية للمعمر لعدم التمازج مع السكان الأصليين وعدم نسيان لاحق لثقافته. إن جماعات المعمرين المنتشرين في أواسط البلاد،المغامرين وراء استصلاح الأراضي البور يعرفون ذلك جيداً ولا ينفكون يرددون أن لولا الخمر والراديو لاستعربنا.

لقد وضع فانون الراديو كتفصيل في لوحة الاستعمار الشاملة، فقد ركز في أكثر من مكان علي أنه لا يوجد شيء حيادي في العلاقة بين المستعمر(بالكسر) والمستعمر (بالفتح)، لأن كل الأشياء في الوضعية الاستعمارية تكتسب سياقاً خاصاً بها. فالراديو هو وسيلة للضغط الثقافي علي المجتمع الخاضع وشبه وسيلة صمود لدي المزارعين الأوروبيين أما عند الأسرة الجزائرية فالأوضاع معكوسة فهي لا تقتني الراديو كنوع من عدم الاكتراث الكئيب بهذه القطعة من الوجود الفرنسي. وينبه فانون إلي أن الباحث الذي يسعي إلي جواب حول عدم اقتناء الراديو سيحصل علي أجوبة مختلفة بعضها له طابع تحريمي ديني ولا يُتوقع أن يحصل علي تفسير معقول. إن العالم الاستعماري المغلق لا يترك فرصة للجزائري أن يجد نفسه في هذا الراديو، الذي يمجد المستعمرين،مما دعا بعض الجزائريين للقول عنه بأنه: فرنسيون يتحدثون إلي فرنسيين. لكن هذه الوضعية تبدأ بالانقلاب مع اندلاع الثورة المسلحة، فالجزائري يطور أجهزة استعلامه ليعرف ما يجري في الجبل ويسمع عن الهزائم التي يتلقاها جندي الاحتلال. وهنا برز الراديو بوظيفة جديدة مختلفة كلياً عن وظيفته الاستعمارية السابقة بعد أن أنشأت جبهة التحرير الجزائرية محطة إذاعة.

يقول فانون: "كان الحصول علي جهاز للراديو، يمثل في الجزائر عام 1955 الوسيلة الوحيدة لحيازة مصدر، غير فرنسي للأخبار، عن الثورة. وتتخذ هذه الضرورة صفة الأمر الملح عندما يعلم الشعب أن هناك كل يوم جزائريين يقدمون من القاهرة، سجلاً بكفاح التحرير وهكذا تعود أمواج الصفحات الكبري المكتوبة في الجبال من قبل الأخوة والأهل والأصدقاء، متدفقة من القاهرة وسورية ومن البلاد العربية جميعها تقريباً. وحدث التحول الكبير عام 1956 عندما وزعت منشورات تتنبأ بوجود صوت الجزائر الحرة، حددت فيها ساعات البث وأطوال موجات البث. ففي أقل من عشرين يوما نفذ جميع ما في المستودعات من أجهزة الراديو وظهرت تجارة الأجهزة المستعملة. ونلاحظ هنا انقلاب الآية فالسلطات الاستعمارية التي كانت تتهم الجزائريين بالتخلف لرفضهم شراء الراديو، بل وتحريمه في بعض المناطق، فإذ بها تقوم بين ليلة وضحاها بمنع بيع الراديو لأنه صار جزءاً من الشخصية الوطنية، فهو يصل مالكه مع جبهة التحرير الوطني الجزائرية. يقول فانون: "فالجزائري الذي يأمل أن يحيا في مستوي الثورة، يملك أخيراً إمكانية الاستماع إلي صوت رسمي، هو أصوات المقاتلين، تشرح له المعركة، وتفسر له تاريخ التحرير في مسيرته وأخيراً تعمل علي اندماجه مع تنفس الأمة الجديد".

العلاقات العائلية
وفي الفصل الثالث درس فانون التغيرات التي طرأت علي الأسرة الجزائرية بعد اندلاع الثورة، فدرس علاقة الأب بالابن، وعلاقة الأخ الأكبر بأخيه، وتغير وضعية المرأة الجزائرية، وما طرأ علي علاقات الزواج من تغير. فقبل الثورة كان المجتمع الجزائري مجتمعاً بطرياركياً،المقام الأعلي فيه للأب الذي لا يناقش ولا يجوز الضحك بحضرته أو النظر إلي وجهه. كما أن وضع المرأة فيه شديد التعقيد فما إن تصبح البنت امرأة توجب أن تتزوج. ولم تكن الفتاة تسأل في أمر زواجها، كما أنها لا تجلس بحضرة أبيها أبداً. لكن اندلاع الثورة دفع هذا العالم نحو الانهيار فتغيرت وضعية الأفراد داخل الأسرة. إذ بات الابن الذي التحق بجبهة التحرير هو الذي يتكلم والأب هو الذي يصغي. وإذا كان الأب لا يشعر بالراحة تماماً لالتحاق ابنه بهذا المركب الخطر إلا أنه لا يستطيع أن يعبر عن ذلك سوي بشكل موارب فالثورة اقتحمت كل الميادين وباتت لها الأولوية علي كل ما عداها من المشاعر. وما حدث في الجزائر ليس استثناء بل هو أمر يحدث في كل الثورات، فقد حدث أمر مماثل في الثورة الفلسطينية حين ترك الابن صفة لاجيء لأبيه ليتحول إلي فدائي، يقول فانون: "...فإن الأب يمحي أمام العالم الجديد ويسلس القياد لابنه. والفتي الجزائري هو الذي يدفع بالأسرة نحو الحركة الواسعة للتحرر الوطني".

وبنفس الطريقة لكن بألم أكبر تتغير علاقة الابنة بأبيها. فالذكر في المجتمعات الزراعية له القيمة الأولي لأنه يد عاملة تضاف للأسرة. والرجل وصي علي المرأة ولا يوجد امرأة بدون وصي، زوج أو أب أو أخ..الخ. لكن الثورة تعصف عصفاً بهذا العالم فالجزائرية التي تشارك في الثورة بنقل السلاح أو بتنظيم الخلايا النسائية تكتسب تقاليد ثورية وتنخرط في لجة عمل خطير لم تعد بحاجة إلي موافقة الأب أو لذكر يكون وصياً عليها. فهي تذهب بدون موافقة أحد وبدون علم أحد أو تذهب إلي الجبل وتبقي هناك مع الثوار. كما أن طرق الزواج تتغير فتشترط بعض الفتيات أن يكون زوج المستقبل عضواً في جبهة التحرير أو تقع بعلاقة حب مع رفيق لها بالجبل فتتزوج تحت إشراف مسؤوليها من جبهة التحرير، ولا يعمل الأب سوي أن يبارك هذا الزواج وتقوم الأسرة بتربية الأطفال بينما يكون الأبوان في الجبال.. ويغدو سؤال المرأة عما إذا كانت جدية وهي تواجه الموت يومياً، سخرية وهزءا لاذعاً. فالفتاة المناضلة إذ تتبني مواقف سلوكية جديدة، تخلت عن السلوكيات القديمة،وتختفي القيم والمخاوف الجنونية المجدبة التي تبقي علي الإنسان في هالة الطفولة. ونفس الأمر يحدث في العلاقة الزوجية فغياب الزوج في المعتقل أو في الجبل أو بسبب استشهاده يدفع المرأة إلي لجة الحياة للحصول علي رزقها وتربية أطفالها. كما أن الرجل الذي شاركته زوجته عضوية جبهة التحرير علي استعداد ليتحمل تبعات ذلك. لكن العالم القديم لا يزول بسهولة. ينقل فانون عن أحد الرجال. فليس هناك ما يستثيرك كمثل سماعك شخصاً يطلب زوجتك علي الهاتف. فتناديها وتناولها السماعة، ثم تري نفسك منصاعاً لدعوتها إياك لمغادرة الغرفة... ثم تنصرف زوجتك لتعود بعد أربع ساعات أو بعد أربعة أيام. ولم تكن لتقدم لك أي تفسير، لكنك لا تستطيع أن تجهل العمل الذي انخرطت فيه، ما دمت أنت نفسك قد جندتها فيه وأنت نفسك قد لقنتها قواعد السرية. لقد اكتسبت العلاقة الزوجية أبعاداً جديدة فالاختلاط ما بين التجربة المقاتلة والحياة الزوجية يعمق العلاقات بين الأزواج ويوثق روابط الزواج. فثمة انبجاس في ذلك وتفتح يحدثان في آن واحد للمواطن وللوطني وللزوج العصري. وينتزع الزوجان الجزائريان من نفسيهما نقاط الضعف التقليدية في الوقت الذي يكتب فيه تلاحم الشعب في التاريخ.

الطب الاستعماري ووضعية الطبيب في المستعمرات
دائماً تخلق التجربة الاستعمارية سياقاً خاصاً بها. إن كل حالة من الحالات في هذا السياق تكتسب وضعية خاصة توجب تحليلها قبل إبداء رأي قاطع حولها، نضرب مثالاً علي ذلك موضوع الصحافيين في العراق. فقد اعتاد الإعلام العالمي علي تصوير الصحافي كقديس أو كمسيح لا هم له سوي الوصول إلي الحقيقة، ونقل أفكار وآمال وعذابات الناس والأحداث الجسام التي تلم بهم، لذلك اعتبر مقتلهم كارثة كبيرة، وتصدر المنظمات الدولية تقارير سنوية تبين أعداد الصحافيين القتلي في كل عام، ويعتبر ذلك مشعراً من المشعرات الهامة لأوضاع الحريات في العالم. لكن كما قلنا من قبل فإنه في إطار التجربة الاستعمارية تبرز سياقات جديدة غير معهودة للأمور، ففي العدوان الأمريكي علي العراق اخترع الأمريكان بدعة الصحافي المدمج مع القوات وهو صحافي يأكل ويشرب وينام في فراش واحد مع الجندي الأمريكي وبالتالي فإن كاميرته وقلمه ينقلان وجهة نظر هذا الجندي، ويصير هذا الصحافي أشبه بناطق عسكري أمريكي ويمكن اعتباره براحة ضمير جزءاً من الإعلام الحربي. فهل يمكن اعتبار هذا الصحافي مسيحاً أو رسولاً للحقيقة ؟ هل يمكن إعطاء مقتله، عندما تتعرض القوات الأمريكية إلي كمين أو عملية تفجير، قيمة مساوية لمقتل صحافي مستقل ؟ أبداً فهذا الصحافي وضع نفسه في أحد جانبي الصراع وتحول إلي صحافي مقاتل.

نسوق هذا المثال بغية التدقيق في كل الحالات التي تحدث في أثناء التجربة الاستعمارية التي تخلق سياقاتها الخاصة. ونفس الأمر السابق يقال عن المنظمات الدولية، التي لم تستطع أن تمنع العدوان الأمريكي علي العراق، ثم وقفت موقف المتفرج علي حدوثه، وبعدها شرعنته، ولنا في موقف الأمم المتحدة من العدوان الصهيوني الأخير علي لبنان خير مثال. فالأمم المتحدة التي سارعت إلي إدانة أسر الجنديين لم تنبس ببنت شفة أمام ما يجري من مجازر. هل هناك من يمنع أباً مكلوماً او أماً مفجوعة من توجيه اللوم إلي هذه المؤسسات التي تحولت بنظر الناس إلي شريكة في العدوان؟ يحلل فانون وضعية مشابهة هي وضعية الطبيب في المستعمرات، فالتجربة الاستعمارية تخرج كل الأمور عن سياقها الإنساني. 

الطب والاستعمار
يعتبر الطب مفخرة التجربة الاستعمارية، كما يقول منظروها لأنه أنقذ حياة المستعمرين (بالفتح) وخفض وفيات الأطفال وأدخل طرقا علاجية حديثة كانت هذه الشعوب لا تعرفها، وهذه أكذوبة أخري من أكاذيب ممتدحي الدور التقدمي للكولونيالية سنتعرض لها في المستقبل بتفصيل أدق. يلاحظ فانون أن الطب في الجزائر لا يمارس كما يمارس في فرنسا. فشخصية الطبيب في باريس الذي حصل علي وضع اقتصادي نتيجة وضعه العلمي هي غير شخصية الطبيب في الجزائر الذي تقترب شخصيته من شخصية المغامر أو المستكشف، ونادراً ما نجد هذا الطبيب الذي يعيش من دخله من الطب إنما هو مزارع أو مالك كروم أو يمارس التجارة. يقول فانون: "وعندما لا يكون الطبيب رهين زبائنه فحسب، من حيث الكسب، وإنما تأتيه دخول هائلة من موارد أخري فإنه يكون لنفسه مفهوماً معيناً عن الأخلاق المهنية والممارسة الطبية. إن الغطرسة الاستعمارية واحتقار الزبون والجلافة الحاقدة في تصرفه مع المريض من الأهالي وفقدان الضمير، نجدها كلها في قليل أو كثير في ثنايا الجملة التالية إنني لا أعيش من وراء الزبائن ، وفي المركز الاستعماري يكون الأطباء ذوي انتماء يساري أو ديمقراطي غالباً بسبب احتكاكهم بالألم البشري، أما في المستعمرات فالأطباء جزء من الهيئة المستعمرة ومن الاستغلال. لذلك تجدهم أكثر يمينية لأن هاجسهم ينحصر في بقاء الاستعمار، لذلك كانوا في دائرة الاستهداف من قبل مناضلي جبهة التحرير في الجزائر، وهذا أمر شوش أذهان حتي المتعاطفين مع الجبهة في الغرب فهم لا يفهمون هذه الحقائق ولا يستوعبون كيف يمكن أن يكون الطبيب مجرم حرب. لأنهم لم يسمعوا عن طبيب يساهم بتعذيب الثوار ويعطي للمناضل حقنة الحقيقة بالوريد (وهو أمر محرم في فرنسا) كي يدلي بما يعرفه. كما أن هناك أطباء تابعين لمراكز التعذيب كي يضمنوا أن لا يموت المريض من التعذيب قبل الحصول علي المعلومات منه.

لذلك من الطبيعي أن يتخذ الجزائري موقفاً من الطب الحديث ومن الطبيب ويجده امتداداً للمستعمر ويبقي يعالج نفسه بالطب البدائي المتوارث فلا يلجأ للمستشفي الاستعماري إلا مضطراً. لكن كل ذلك يتغير مع اندلاع الثورة وانضمام الأطباء إلي جبهة التحرير، فجميع سكان الأرياف حتي المتخلفة منها يطبقون تعليمات الطبيب بحذافيرها ويبحثون عن حقنة الكزاز للجريح ويعقمون الجروح بالكحول، لكن المفارقة أن المستعمر الآن هو من يمنع هذه الأشياء عن المواطن كي لا تتسرب لمقاتلي جبهة التحرير، ومن جديد نري أن المستعمر هو من يحجز تطور المجتمع. وتتغير أيضاً وضعية الطبيب الأهلي، الذي كان ينظر له من قبل علي أنه سفير رجل الاحتلال، أما بعد التحاقه بالثورة فيندمج مع الجماعة، يصبح قطعة من لحم الجسد الجزائري فلم يعد الـ طبيب ، أي طبيب وإنما أصبح طبيب نا نحن وخبير نا نحن. وتنهار الأوهام القديمة المتعلقة بالسحر وقدرة بعض الرجال علي شفاء الأمراض دفعة واحدة. إن العالم القديم ينهار دفعة واحدة بفعل اندلاع الثورة وتتطهر الأرواح بنار الثورة وتستعد لاستقبال عالم جديد. وهذا ما دعا ديغول لمخاطبة المتطرفين قائلاً إن جزائر بابا قد ماتت.

الاوربيون في الجزائر
ويبقي الفصل الأخير من هذا الكتاب ليتحدث عن التغيرات التي طرأت علي وضع الأقلية الأوروبية في الجزائر. لقد هزت الثورة جميع المجتمعات التي بدا أنها راسخة ومنها مجتمع مستوطني الجزائر.

اتخذت جبهة التحرير قراراً ذكرت فيه مناضليها بضرورة عدم دفع هذه الأقلية إلي أحضان المستعمر وذلك عبر فتح حوار مع ممثلي هذه الأقلية. وقد حققت سياسة الجبهة هذه نجاحات بجذب أفراد وقطاعات من الديمقراطيين الأوروبـيين إلي جانبها بل وتجند بعض الأفراد في جبهة التحرير أو قدموا الدعم اللوجستي لها، وقد أورد فرانز فانون في ملاحق الكتاب شهادات لبعض الفرنسيين يشرحون فيها أسباب انحيازهم لجبهة التحـرير وكيفية حدوث ذلك. وبالطبع فهناك مجرمو الحرب من المستوطنين الذين لا ينفع معهم سوي العنف. وبالنتيجة خلص فانون إلي أن الأقلية الأوروبية قد تفتت تحت تأثير الثورة الجزائرية والسياسة الواعـية لجبهة التحرير.

في الثقافة الوطنية
امتاز فانون بنظرته العميقة للأمور وقدرته علي النفاذ إلي عمق الظواهر الاجتماعية، وساعده علي ذلك اختصاصه في الطب النفسي فطبق بعض مناهج التحليل النفسي التي تخص الأفراد علي المجتمعات. لذلك لم يقع في النظرة التبسيطية ولم يتوقف عند سطح الظواهر، كما يفعل كثير من كتاب ومثقفي هذه الأيام وهم يدرسون أسباب تأخر مجتمعاتهم ومشكلاتها.  فاعتماداً علي القانون الأساسي الذي يحكم العالم الكولونيالي، وهوالانقسام العميق إلي مستعمرين ومستعمرين، استنتج فانون أنه لا يمكن قط أن يتفق طرفا هذا العالم علي احترام قيمة ما في الوقت نفسه. كما أنه أدرك أن كل الظـواهر والعادات والتقاليد ما إن تدخل في سياق العالم الاستعماري حتي تكتسب سياقاً ومعاني ودلالات جديدة. لأن العلاقة بين المستعمر( بالكسر) والمستعمر ( بالفتح ) هي علاقة تناحرية علي الدوام. علاقة قائمة علي العنف: عنف المستعمر ( بالكسر)، وعنف المستعمر (بالفتح)..

أثناء توصيف فرانز فانون لحال الثقافة الوطنية تحت الاستعمار توصل إلي نتائج بالغة الأهمية قد تكون مفاجئة للبعض، فقد وجد أن للتخلف الذي يصيب الثقافة الوطنية بسبب قيام المستعمر (بالكسر) بحجز تطورها، وجد أن له بعض الفائدة. يقول بهذا المجال: "نري البلدان المستعمرة تحيط مجالها الثقافي بأسيجة وأوتاد. وهذا النوع البدائي من الدفاع عن النفس يشبه منعكسات غريزة البقاء في كثير من الوجوه.

وهي نفس النتيجة التي خلص إليها الشيخ البشير الإبراهيمي نائب رئيس جمعية علماء الجزائر، حيث ينقل عنه أنه حمد ربه ذات مرة لأن أمه كانت أمية لذلك علمته اللغة العربية، فلو كانت متعلمة لكان يرطن بالفرنسية. إن ردة فعل الجماهير تجاه الهجوم الضاري الذي تتعرض له ثقافتها القومية من قبل المحتل،يكون تمسكاً مبالغاً به بالعادات والتقاليد وهذا يثير حنق المستعمر، يقول فانون: "فالمستعمر يري في الاستمرار علي الأشكال الثقافية التي يستنكرها مظهراً قومياً عليه أن يحاربه. ونتيجة هذا الهجوم الضاري من المستعمر لا يحصل تجديد للثقافة القومية أو للعلاقات داخلها، وإنما مجرد انكماش للحفاظ علي النواة. لكن هذا الموات الظاهري، الذي يشبه ما تفعله في الطبيعة بعض الكائنات الحية،حيث تتكيس، أو تدخل في سبات في الظروف الطبيعية الصعبة، فتبدو وكأنها فاقدة للحياة. هذا الموات الظاهري لا يلبث أن يضج بالحياة مع أول طلقة مقاومة، فمع اندلاع شرارة الثورة علي الأوضاع التي جمد المحتل البلد فيها تنشأ آداب جديدة من رواية وشعر ومسرح،وحتي الثقافة الشفوية تصيبها رياح التجديد فنري أن الرواة التقليديين قد أضافوا علي السير والملامح التي يتلونها منذ عشرات السنين بدون تغيير، أضافوا أحداثا وسيراً جديدة تتناسب مع أحداث الثورة، كما أن النساجين يغيرون من زخارفهم ومن ألوانهم. لقد عادت الحياة تدب في الجسد، فإذا بالثورة وقد أحيت الأرض بعد مواتها. وكما حدث في قصة الراديو بعد اندلاع الثورة يعمد المحتل إلي تمجيد التراث الجامد ويحاول ان يثبت فكر المجتمع عنده".

إن فانون يربط بين التجديد في المجال الثقافي والفكري وبين امتلاك المجتمع لناصية مصيره، أي باندلاع الثورة، بل هو يعتبر ان محاولة التجديد والشعب قابع تحت السيطرة الاستعمارية خطأ فادح. يقول: إن أحد الأخطاء الفادحة، التي يصعب الدفاع عنها أن نحاول تحقيق تجديدات ثقافية، وأن نحاول رد الاعتبار والقيمة إلي الثقافة الوطنية ونحن ما نزال في ظل السيطرة الاستعمارية. وإني لأنتهي من هذا إلي تقدير نتيجة قد تبدو غريبة مفارقة هي: أن أقوي دفاع وأجدي دفاع عن الثقافة القومية إنما يكون بالأخذ بالعقيدة القومية ولو في أبسط أشكالها وفي أكثر أشكالها بدائية وفجاجة. ويخلص فانون أخيراً إلي قانون هام يقول، إن التحرير القومي وانبعاث الدولة شرط لوجود الثقافة الوطنية. فيقول: "ليست الأمة فقط الشرط اللازم لقيام الثقافة وازدهارها وتجددها المتصل وعمقها، فهي أيضا حاجة وضرورة. إن الكفاح الذي تخوضه الأمة هو الذي يطلق الثقافة من عقالها ويفتح لها أبواب الإبداع، كما أن الأمة في مرحلة ثانية، هي التي توفر للثقافة ظروف نمائها وإطار تعبيرها. إن الشعوب تولد ثقافيا وحضاريا أثناء صراعها مع عدوها. يقول: إننا نعتقد أن الكفاح المنظم الواعي الذي يخوضه شعب من الشعوب لاسترداد سيادة الأمة هو أكمل مظهر ثقافي ممكن. ليس نجاح الكفاح وحده هو الذي يهب للثقافة قيمة وصدقاً وقوة، بل إن معارك الكفاح نفسها تنمي، في أثناء انطلاقتها، مختلف الاتجاهات الثقافية وتخلق اتجاهات ثقافية جديدة، فالكفاح لا ينيم الثقافة أثناء اندفاعه. وكفاح التحرير لا يرد إلي الثقافة الوطنية قيمها القديمة وأطرها القديمة، ولا يملك ما دام يهدف إلي إعادة تنظيم العلاقات بين البشر إلا أن يبدل الأشكال والمضامين الثقافية للشعب. إن التحرير لا يزيل الاستعمار فحسب، بل يزيل المستعمر ( بالفتح) أيضاً.

إن هذا القانون الفانوني لا زال يعمل حتي اليوم، حيث نشاهد أن المقاومة تكون في الأوساط الأكثر خشونة وتستخدم العناصر الأكثر خشونة من الثقافة الوطنية لأن الثقافة الوطنية تبقي حية داخل هذه الأوساط بأشكال خشنة وبدائية. وكثير من مفكري وكتاب هذه الأيام لا يدركون هذا الأمر بل إنهم يخافون منه، وقد وصل الأمر ببعضهم إلي اعتبار هذه الأشكال الخشنة من المقاومة أشد خطورة من المحتل نفسه! لقد سمعنا وقرأنا كثيراً من الكتابات تدور حول الخوف أو يحركها هذا الخوف،وهذا أمر ينم علي عدم فهم لآليات الصراع ولا للوقائع علي الأرض في ظل السيطرة والاجتياح الغربيين، فالغزو الغربي الماحق جعل البشر يحتمون بنويات ثقافتهم، فيقيمون الأسيجة ويمنعون الغرباء من الاقتراب، لأنهم يريدون الحفظ علي الرشيم من الضياع بعد أن سلبهم الغازي الغربي كل شيء وتركهم عراة لا يملكون سوي هذه النويات التي تحتوي أبسط أشكال الهوية التي باتت مهددة بالضياع.

وإن هذه النويات مهما بدت بدائية، متخلفة، خشنة، عنيفة، هي الوحيدة التي تفتح أفق المستقبل، لأنها تحافظ علي هوية وثقافة الأمة، ومن هذه الرشيمات البسيطة البدائية ستنتش نبتة الثقافة القومية عندما يمتلك المجتمع لحظته التاريخية ويبدأ عملية التحرر وإزالة التبعية بكافة أشكالها: سياسية، اقتصادية، وعسكرية. إن افكار فانون تتحاشي الموت بعناد، مثل الجرح النازف الذي يرفض الالتئام، فالمظالم التي يدينها ويرفضها فانون بقوة وحيوية ما زالت معنا حتي اليوم، إن شبح فانون ما زال يحوم حولنا، ليس علي شكل رؤية شيطانية ولكن كشبح ما زال يتحدانا حتي نضع صورة لعالم أفضل، وأن ننذر أنفسنا لنأتي بهذا العالم الي الدنيا الحقيقية.