تتداعى قلعة باشطابيا (الموصل) العراقية وأضحت مهددة بالانهيار والانمحاء الكلي، هي هنا تتحول استعارة كبرى عند الشاعر العراقي عبد الله سرمد الجميل، لتصبح كل قلعة على حدى رمزا لرؤية الوطن اليوم في انجراحاته المتواصلة ليتحول انهيار القلعة الى انهيار لوطن بأكمله في ظل ما يعيشه من تناحرات وأطماع.

قلعةُ باشطابيا

عبد الله سرمد الجميل

القلعةُ الأولى:

ما الذي يجعلُ الليلَ أبيضَ ؟

-         قمرٌ تافهٌ بحجمِ عُشْرِ مأساتِنا ؟

-         لا ...

-         سفينةٌ بلونِ الفضّةِ ؟

-         لا ...

-         قلعةٌ بطعمِ الحصارِ؟

-         - لا ...

-         قبلةُ البرتقالِ وفانوسُ الحكواتيِّ ؟

-         لا ...

ما يجعلُ الليلَ أبيضَ ،

فتاةٌ تتأمّلُ القمرَ ،

أو سفينةٌ للنازحينَ تبزُغُ من فوّهةِ الوقتِ ،

أو جثّةٌ  بخاصرةِ القلعةِ ،

أو دخانُ قصفٍ يلتحفُ الدمعةً ،

*      

القلعةُ الثانيةُ:

في برجٍ غربيٍّ من أبراجِ قلعةِ باشطابيا ،

استقرَّت الرصاصةُ في قلبِ الجنديِّ الخافرِ ،

وعلى شِعَابِ الجبالِ لمعتْ خُوَذُ الأعداءِ ،

ودوّى الصهيلُ في هياكلِ البناءِ غيرِ المكتملِ ،

كانت آخرُ كلماتِ الجنديِّ الخافرِ:

من يغسِلُ مطرَ العراقِ مما عَلِقَ بهِ من بارودِ الغدرِ ؟

الآنَ أطلبُ كاميرا العرضِ البطيءِ ،

لأرجِعَ الزمنَ بِضْعَ ثوانٍ وأُوْقِفَ هذهِ المهزلةَ ،

*

القلعةُ الثالثةُ:

إنَّ قلعتَكِ التي تتوضَّاُ بالنارِ عندما أقتربُ ،

سيُشرِعُ حرّاسُ أنوثتِها الأبوابَ لخيولي القادمةِ من البحرِ ،

خيولي التي ستملِّحُ الصدوعَ في الأسوارِ ،

خيولي التي ستتوضَّأُ بالجلّنارِ ،

*

القلعةُ الرابعةُ:

يا حارسَ القلعةِ نَمْ مطمئنّاً ،

فالحجارةُ التي مسَّدَتْها يداكَ عينٌ لا تخونُ ولا تنطفئُ ،

والجدرانُ التي يمسُّها غيرُ أهليها ستنتحِرُ ،

وهواءُ القلعةِ الرائقُ سيمسي خانقاً إذا تسلّلَ أحدُهم ،

والرمالُ ستبتلعُ من يجرؤُ على الخطوةِ الخائنةِ ،

*

القلعةُ الخامسةُ:

لن أكونَ قلعةَ رملٍ ساذَجَةً على الشاطئِ تُحطِّمُها الأمواجُ ،

لن أكونَ قلعةً للسائحينَ يزعجونَها أنّى يشاؤُونَ ،

لن أكونَ قلعةً مهجورةً تُمارَسُ الخلواتُ في أقبائِها ،

لن أكونَ قلعةً مشوَّهَةً تدلُّ على الضَّعْفِ ،

سأكونُ قلعةً عصماءَ لا طريقَ منها ولا طريقَ إليها ،

قلعةً مزخرَفَةً أسوارُها بالنجومِ ،

قلعةً يشيرُ الجميعُ إليها ولا يصلونَها ،

*

القلعةُ السادسةُ:

قلعةُ الرئيسِ ثقيلةٌ ،

 لكنّها سهلٌ حملُها في فقاعةِ الصابونِ التي يلهو بها الأطفالُ ،

قلعةُ جسدِكِ من حجرِ الماءِ ،

قلعةُ الصقرِ من حجرِ الهواءِ ،

وقلعةُ الحصارِ من حجرِ السهرِ ،

*

القلعةُ السابعةُ:

القلاعُ التي تلوِّحُ لي بالغربانِ لن أدخلَها ،

القلاعُ التي يدّعي أقزامُها الشِّعْرَ سأنزلُ علمي عنها ،

والقلاعُ التي يعجِنُ الرصاصُ مساماتِها لن أستنشقَها ،

*

القلعةُ الثامنةُ:

في اليومِ الثامنِ من أيّامِ الأسبوعِ ،

كانت الحيتانُ تتقافزُ فرحاً ،

والشاعرُ قالَ: ماذا لو امتدَّ بي بصري بعيداً بعيداً حتّى ألمحَ قلبي ،

في اليومِ الثامنِ من أيّامِ الأسبوعِ ،

تقرُبُ غيمةٌ غامقةُ الظلِّ لتُرضِعَ قلعةَ الشاعرِ ،

حيثُ القصائدُ تسطَّرُ بدمعِ الطرائدِ ،

*

القلعةُ التاسعةُ:

قبلَ أن تشيِّدَ قلعتَكَ في العراقِ ،

قلْ للمهندسِ: خطِّطْ لي ممرّاتٍ سريّةً للهروبِ فالغدرُ وراثةٌ ،

قبلَ أن تشيِّدَ قلعتَكَ في الصحراءِ ،

قلْ للمهندسِ: خطِّطْ لي نافورةً أندلسيّةً فالعزلةُ ذئبٌ ،

قبلَ أن تشيِّدَ قلعتَكَ في جسدِها ،

تأكّدْ أن تربةَ جلدِها طريّةٌ نديّةٌ مشبعةٌ بالقُبَلِ ،

وقبلَ أن تشيِّدَ قلعتَكَ سوراً خلفَ سورٍ خلفَ سورٍ ،

تأكَّدْ أن تتركَ نافذةً في الجدارِ ،

علَّكَ تحافظُ على شيءٍ من ذلكَ الإنسانيِّ فيكَ !

*

القلعةُ العاشرةُ:

أينَ ذاكَ الحاكمُ العادلُ الذي إن أصابَ الرعيِّةَ داءٌ ،

قالَ: لا تخرجوا من قلعتِكم كي لا تنشروهُ ،

أينَ تلكَ القلعةُ التي عدلَتْ فأمِنَتْ فنامَتْ ؟